الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أقال مسلماً بيعته أقال الله عثرته) رواه أبو داود وابن ماجة وصححه ابن حبان والحاكم ].
قبل البدء في شرح هذا الحديث ننبه إلى موضوع التلقيح الاصطناعي؛ لأنه ربما يدخل في الشجر عن طريق التطعيم، كأن تكون شجرتين متجاورتين ومن فصيلة واحدة كالأملاح، فيؤخذ غصن من هذه، ويضبب ويجرح، مع غصن من هذه يضبب ويجرح، ثم تدبس الضبتان معاً ويوضع عليها الطين، وتلف بالخرق، ثم يوالى عليهما صب الماء، ثم هاذان الغصنان سينبت منهما جذور جديدة، ثم تفصل هذه الأغصان وتزرع من جديد كشتلة، فتأتي الثمرة جامعة بين خصائص الشجرتين، فمثلاً: ما يسمى بيوسف أفندي هو من برتقال وليمون، وهذا نوع من تلقيح شجرة بشجرة.
على كل: هذا باب واسع في مجاله، والذي يهمنا النهي عن بيع الملاقيح، ولكن يجوز أن يكارم صاحبه عليه.
انتقل المؤلف رحمه الله إلى حديث خاتمة الباب، وهو نعم الخاتمة، وهو يأتي على جميع صور البيع، وعلى جميع العقود اللازمة، ما عدا ما يدخل فيه المحرمات كالنكاح والطلاق، وذكر هذا الحديث عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أقال مسلماً أقال الله عثرته)، هنا قيد (المسلم)، وفي رواية: (من أقال نادماً أقال الله عثرته يوم القيامة) .
وهذه من أحسن مكارم الأخلاق بين المتبايعين، وتدل على كرم النفس والسماحة، والتماس العذر وقبوله من الأخوة، وهي معروفة قبل الإسلام وفي الأمم الماضية، وقد جاء عن نبي الله داود عليه السلام حينما أوحى الله إليه: أن ابنِ لي بيتاً في بيت المقدس، وأراه المكان الذي يبني فيه البيت -أو المسجد- وكان الموضع ملكاً لرجل من بني إسرائيل فاستدعاه، وقال له: ثامني على هذا الحوش؛ لأبني فيه بيتاً للرب سبحانه. قال: اشتر. فقال: بمائة ألف. قال: بعتك، ثم قال: يا نبي الله! أستنصحك: الأرض أحسن أم الثمن؟ قال: استنصحتني؛ الأرض أحسن. قال: أقلني. قال: أقلتك. قال: اشتر. قال: بمائتي ألف. قال: بعتك، ثم قال: أستنصحك: الأرض أم الثمن. قال: الأرض. قال: أقلني... خمس مرات.
يهمنا في هذا الخبر: أنه طلب من نبي الله أن يقيله فأقاله، وفي الخبر: النصح لله ولعامة المسلمين، وهذا نبي معصوم من الغش، فنصح للرجل بالحق، ولو كان ذلك على نفسه هو؛ حتى ارتفع السعر خمسة أضعاف، وذلك نتيجة النصح والصدق، أخيراً لما تعب داود عليه السلام من الرجل قال له: سم ما شئت أعطه لك. قال: أو تفعل؟ قال: نعم، قال: تملأه علي إبلاً وبقراً وغنماً. قال: قبلت. ودعا بني إسرائيل ليجمعوا في الحوش من تلك الأنعام حتى ملئوه.
يهمنا في هذا وجود عنصر الإقالة، وصورة الإقالة كما أشارت رواية الحديث الأخرى: (من أقال نادماً): رجل اشترى السلعة برغبة منه، ثم بعد ذلك بدا له أمر وندم على شرائها، قد يكون كطلبة العلم، يرى الكتاب في المكتبة فيعجبه، ثم يرجع إلى مكتبه ليضعه ضمن الكتب فيجده موجوداً عنده، وكثيراً ما يقع هذا، فيرجع إلى صاحب المكتبة: أنا أخذت الكتاب فوجدته موجوداً عندي في المكتبة، وندمت على شرائه، تقيلني؟ فهنا إن كان صاحب المكتبة كريم النفس، يحب لأخيه ما يحب لنفسه، يقيل عثرات الإخوان سيقول: لا عليك يا أخي، بكم أخذته مني؟ تفضل هذا ما دفعته، هذه هي الإقالة، وهي لا تتقيد بزمن.
بعد قليل جاء الله بالفرج من جانب آخر؛ فندم على بيع ما كان لا ينبغي أن يبيعه، فجاء إلى المشتري وقال: أنا ندمت، بعتك المصاغ في حالة اضطرار، والآن فرج الله الأمر، وأريد أن أرد المصاغ لأهله.
إذاً: الندم جاء من البائع، كما أنه يأتي من المشتري، وحينئذ المشتري أيضاً يكون كريم النفس، طيب الأصل، ينظر إلى حاله، فيعذره في ندمه، ويقول: لا عليك رد القيمة، فيرد إليه كامل القيمة.
الإقالة: هي رد المبيع واسترجاع الثمن، لكن ما حكمها المترتب عليها، هل هي بيع أم فسخ؟
إن قلنا: فسخ؛ فإن الأمر يرجع إلى ما قبل العقد، ولا يترتب عليها ما يترتب على البيع، فمثلاً: شخص له شقص في بيت فباعه، وكان الشريك غير راغب في الشفعة، وترك الشفعة وسقطت شفعته؛ لأنه لم يبادر إليها، ثم علم أن البائع الذي هو شريكه استقال المشتري واسترجع الشقص لملكه، فرجع شريكاً له مرة أخرى، ولو قلنا: الإقالة بيع، فللشريك أن يأخذها بالشفعة، وإن قلنا: فسخ، فليس له حق أن يقول: أنا آخذ الحصة بالشفعة، فنقول له: هذا فسخ للعقد، ورجعت الحصة إلى ما كانت عليه لصاحبها، فليس بيعاً.
وإن كان طالب الإقالة المشتري، وجاء ليرد السلعة إلى صاحبها: بكم اشتريتها؟ بمائة، كم تسقط من الثمن؟ قال: عشرة في المائة .. أنت تأتي لترد والثاني والثالث يرد، ماذا أستفيد أنا؟ اشتريت بمائة أنا أقبل أن أرد لك السلعة وآخذ عشرة في المائة من قيمتها، إن قلنا: الإقالة فسخ فلا يحق له أخذ شيء، وما دفعه المشتري يأخذه كاملاً، وإن قلنا: بيع، فلا مانع من المساومة من جديد، كما لو كانت الإقالة من البائع: أنا بعتها عليك بمائة، ردها علي وأعطيك عشرة فوق المائة، فإذا قلنا: إن الإقالة بيع، جاز فيها الزيادة والنقص على سبيل المبايعات: مساومة ومزايدة ومناقصة، وإن قلنا: فسخ؛ فلا دخل للزيادة ولا للنقص فيها، وإن قلنا: إنها بيع دخل حق الشفعة للشفيع، وإن قلنا: إنها فسخ لا دخل للشريك بالشفاعة فيها.
إن قلنا: إنها بيع، ووجد عيب لم نطلع عليه من قبل؛ فللمشتري عوض الأرش في العيب على أنه بيع، وإن قلنا: هي فسخ؛ فسلعتك ترجع إليك على ما كانت هي عليه.
ثم قال عليه الصلاة والسلام: (أقال الله عثرته)، الجزاء من جنس العمل، والعثرة: هي ضربة اصطدام في حجر أو نحوه، يعثر قد يسقط ويجرح، ثم عممت في كل زلة وخطأ يرتكبه الرجل، يقال: هذه عثرة من فلان. أي: في هذا التصرف أو العمل أو الممشى، فلو أن إنساناً أخطأ عليك. كانت هذه زلة وعثرة، ثم جاء واعتذر إليك، عندها ينبغي أن تقيل عثرته وزلته وتقبل اعتذاره، وهذا من إقالة أخيك في ما ندم عليه، مما ارتكبه في حقك، وهكذا تدخل في كل العلاقات بين الأصدقاء والإخوان؛ لتبقى أصول المودة، وليست قاصرة على البيع والشراء، ولكن أصل البحث فيها في البيع والشراء لضمان الحقوق واسترجاعها، وقد تعمم بأكثر من ذلك لما بين الناس وبعضهم من الصلات.
ومن أحسن ما ورد في باب إقالة العثرات: ما جاء عن الحسن بن علي رضي الله تعالى عنهما مع محمد ابن الحنفية أخوه لأبيه، محمد ابن الحنفية أمه من بني حنيفة، والحسن بن علي أمه بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول الخبر: كانا معاً في السوق، فحدث بينهما ما يقع بين الإخوة، وذهب كل منهما إلى بيته، فلما استقر محمد ابن الحنفية في بيته أخذ ورقة وكتب فيها: من محمد ابن الحنفية إلى الحسن بن علي ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم. انظروا إلى هذا الأسلوب، هو ابن علي ، فلماذا لم يقل: محمد بن علي ؟ هضم نفسه إلى أقصى حد وانتسب إلى الجارية، ونسب أخاه إلى أعلى حد.. بـعلي ابن عم رسول الله. وابن بنت رسول الله؛ لأنه في معرض التكريم والإصلاح.
أما بعد: تعلم ما كان بيني وبينك في السوق، وقد رجعنا إلى بيوتنا، ولقد هممت بعد العودة أن آتيك وأستسمح منك، وأستقيلك ما كان مني، ولكني تذكرت مكانك من رسول الله - فهو ابن بنت رسول الله، وابن علي ابن عم رسول الله- فكرهت أن أكون بمجيئي صاحب فضل عليك، فإذا أتاك خطابي هذا فخذ ثيابك، وشد نعلك، وائتني أنت في بيتي ليكون لك الفضل علي.
انظروا إلى مكارم الأخلاق! استكثر أن يكون له الفضل على الحسن بن علي ابن بنت رسول الله بأن يأتيه في بيته، هذا يد وفضيلة ومنة، قال: لا، أنا لست كفئاً أن تكون لي عليك يد ومنة وأنت ابن بنت رسول الله، وهذه المكرمة يجب أن تكون من ابن بنت رسول الله علي أنا، لأني أنا ابن الحنفية .
إذاً: إقالة عثرات الإخوان تكون في كل الأمور.
والله سبحانه وتعالى أعلم.
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، سواء سمع من رسول الله أو قال له رسول الله، بأي حالة من الحالات فـابن عمر يسند الخبر إلى رسول الله، يعني: أن هذا الخبر الذي سيأتينا به إنما هو عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ليس من عنده ولا من عند صحابي آخر، بل مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
[ (عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إذا تبايع الرجلان) ].
(تبايعا)، على وزن تفاعلا، من طرفين، مثل تشاجرا، تشاركا، تقاربا، وهي هنا صيغة من صيغ العقود، وفي علم البيان تصلح إنشاء وإخباراً، وكذلك حينما تقول: بعت الكتاب. فهي تصلح أن تكون إخباراً عن البيع الماضي، وتصلح أن تكون إنشاءً في البيع، كما لو جاء إنسان وقال: أريد هذا الكتاب؟ يقول: بعتك. فـ(بعتك) يمكن أن تكون إنشاء كلام وإنشاء حكم نسبي، ويمكن أن يكون إخباراً عن ماض، فإذا قال: (تبايعا) يعني تم البيع بينهما أو أخذا يتبايعان، والفرق بينهما: هو الذي سيأتي عليه مبنى الخلاف بين الأئمة رحمهم الله. فإذا قلنا: إذا تبايعا أخذا في المبايعة، تبايع الرجلان: تفاهما على البيع، وحصل الإيجاب والقبول، وتمت عناصر البيع.
(الرجلان) هل الرجلان مفهوم صفة أم أنه مفهوم لقب؟ بمعنى يدخل فيه المرأتان أو رجل مع امرأة كذلك؟ المعنى: إذا تبايع المتبايعان رجلان، امرأتان، رجل وامرأة.. كل ذلك ما دام أنه في حيز التكليف والعقل والحرية وصحة التصرف والأهلية فهو داخل في: (إذا تبايع الرجلان).
ثم قال: [ (فكل واحد منهما بالخيار) ].
هما: ضمير مثنى، وعندنا اثنان فقط: البائع والمشتري، فكل واحد منهما بالخيار في البيع الذي أوقعاه، أي: من حق كل واحد منهما أن يقول لصاحبه: أنا رجعت عن البيع، والثاني يقول له: أنا رجعت عن الشراء، فكل واحد منهما بالخيار.
هذا يسمى خيار المجلس، فما داما مجتمعين وكانا في مجلس في السوق أو البيت ما عدا المسجد؛ لأن المسجد لا يصح فيه البيع والشراء، فإذا كانا في سيارة، طائرة، أوتوبيس، باخرة... في أي مكان يجمعهما وتبايعا فيه، فهما بالخيار ما لم يتفرقا، سواء كانا في الدكان، أو المعرض فتبايعا وأخذ المشتري سلعته وخرج، فقد افترقا عن مجلس العقد، فهنا لما افترقا فلا خيار، وإن كان المعرض كبيراً، وفيه عدة أصناف من السلع، وعند كل صنف بائع، فوقف عند هذا الصنف وتبايع مع المسئول فيه، وتم البيع، وأخذ سلعته، وذهب -في نفس المعرض- إلى الصنف الثاني؛ فقد افترقا عن محل عقد الصنف الأول.
وهكذا يقول أحمد رحمه الله: الافتراق بين المتعاقدين في كل صورة بحسب العرف، فإن كانا في دكان صغير وخرج أحدهما من الباب فقد افترقا، إذا جاء راجعاً وقال: أنا رجعت. نقول له: ليس لك خيار، ثم ننظر: إن ادعيت موجباً آخر فنعم، أما لمجرد عدم الرغبة فهذا يكون ممتداً ما دمت معه في المجلس، فإذا فارقته وبعدت عنه فحينئذ افترقت، فليس لك حق الخيار في المجلس.
إذا كانا في سفينة -كما يقول أحمد - وكانت صغيرة يكون التفرق بذهاب هذا هنا أو ذهاب هذا هناك، وإن كانت كبيرة وذات أدوار، ونزل هذا إلى السفل وصعد هذا إلى العلو، إن كان وإن كان... بحسب ما يكون العرف، فإن وقع الافتراق فلا خيار للمجلس، قال هنا: ما لم يفترقا وكانا جميعاً، أما إذا تبايعا عن بعد، بالمراسلة، بالهاتف، بالفاكس، بكذا وبكذا، فهم متفرقون أصلاً، فلا يدخل في هذا الباب، إلا إذا قلنا: وهما على السماعة، وتفاهما على البيع، وقبل أن ينهيا المحادثة قال أحدهما: يا فلان! أنا تراجعت، لم نفترق بعد، ما زلنا على السماعة، والحديث لا زال موصولاً، حينها لهما الحق في ذلك.
وهذا الخيار يفسخ العقد دون رضا الطرف الثاني، سواء كان الذي أراد الفسخ هو البائع كأن يكون تأسف على بيعها، أو ادعى غبناً أو لم يدع، أو مجرد رغبة في السلعة، وكذلك المشتري، ولو لم يدع غبناً، يقول: إن سعرها طيب ورخيص، لكن أنا عندي غيرها في البيت، وأنا في غنى عنها، ما دام في المجلس مع البائع فله حق الرد ولو بالقوة، أما إذا افترقا عنه؛ فحينئذ بطل خيار المجلس.
وسيأتي خيار الشرط وهو أوسع ما يكون وأطول وأكثر تفريعاً.
ولكن أجابوا عن ذلك: بأن هذا عام في طريق، وهذا خاص في طريق آخر، ولا يرد هذا على ذاك.
ثم يقولون: لو قلنا بخيار المجلس بعد انعقاد العقد، وهو: إن كان لم يقع العقد فله الحق، وإن كان بعد انعقاد العقد فقد انتهى ما بينه وبين صاحبه، وقالوا: إذا تبايعا بمعنى تساوما، فإذا كانا في حالة المساومة فكل منهما بالخيار، فقال ابن عبد البر وغيره: لو حملناه على المساومة لضاعت فائدة الحديث؛ ومعلوم أنه قبل أن يأتي هذا الحديث أن المتساومين بالخيار، ولا يحتاجان إلى حديث يعطيهما حق الفصل ما داما في المساومة ولم يستقر الأمر، إذاً: كل منهما له حق.
وقالوا أيضاً: البيعان بالخيار، إذا قال البائع: بعت، والمشترى لم يقرر بقوله: اشتريت. فهذا التبايع وجب من طرف واحد -وهو البائع- والمشتري لم يقل: اشتريت. يعني: أن البيع وقع من طرف واحد، وبقي الطرف الثاني لم يعقد العقد، فقد عقد على نفسه -وهو البائع- الخيار قبل أن يعقد المشتري البيع بقوله: اشتريت؛ لأن البيع لم يتم بعد.
وكما قال ابن عبد البر رحمه الله: كل ما ذكروه احتجاجاً برد الحديث لا محل له، وقال أيضاً عن الإمام أبي حنيفة رحمه الله: إنه عادة ما يعرض حديث الآحاد على الأصول في الكتاب والسنة، فإذا وجده مخالفاً ربما تركه. وهذا من أشد ما يؤخذ على أبي حنيفة رحمه الله.
وهنا نحب أن ننبه الإخوة على كلام ربما وقفوا عليه لـابن أبي ذئب في مالك -ليعلموا ما بين الأقران- وإذا كان ابن أبي ذئب يحمل على مالك ، فلماذا لا يحمل على ربيعة شيخه، وعلى أبي حنيفة وأصحابه محمد بن الحسن وأبي يوسف وزفر ، وكلهم يقولون بعدم خيار المجلس؟ فإذا كانت المسألة علمية، وكان الاجتهاد موجوداً وله مجال في القضية فلا ينبغي التحامل على أحد الطرفين فيما فهمه.
ويقول ابن عبد البر اعتذاراً عن مالك : لعله قد بلغه ما ينسخ هذا الحديث، فترك العمل به.
والراجح عند جمهور العلماء: ثبوت خيار المجلس، وعليه مذهب الشافعي وأحمد رحمهما الله، وهو قول ابن عمر ومن وافقه من الصحابة من التابعين، وهذا القدر يهمنا في هذا الحديث: (إذا تبايع الرجلان فكل واحد منهما بالخيار ما لم يتفرقا) .
ولكن يرد هذا التأويل قوله: (وكانا جميعاً) بأبدانهما، فيكون الافتراق بالأبدان وليس باللسان، وهذا القدر يكفي في التنويه على هذا الحديث، ومن أخذ به، ومن رده، وبم رد من تأويلات، والله تعالى أعلم.
إذاً: بالافتراق، أو بتخيير أحدهما الآخر ينتهي خيار المجلس.
وينبغي التنبيه أيضاً على أن هناك أنواعاً من البيوع لا يدخلها خيار المجلس. منها: بيع السلطان؛ فإذا قام السلطان ببيع مال إنسان مدين ليسد دينه، وأعلن عنه، ورسا المال على شخص، فلا يحق للذي رسا عليه البيع وهو في المجلس أن يقول: لي خيار المجلس. ومنها: بيع التركة بين الورثة.. الورثة لهم تركة وأرادوا أن يبيعوها ليتقاسموها، وسواء واحد منهم أو خارج عنهم اشترى شيئاً من التركة فليس له خيار فيما اشتراه.
ومنها إذا كان يشتري من نفسه لنفسه بأن كان ولياً أو وصياً على صبي، وأراد أن يبيع من ماله للصبي أو يشتري من مال الصبي لنفسه، فإذا تم العقد، فلا خيار له؛ لأن الخيار للنظر في المصلحة، وكذلك بين الشركاء، إن كانوا شركاء في شركة، وأرادوا أن يتفاصلوا وعرضوا الموجود للبيع، فاشترى أحد الشركاء أو جاء إنسان من الخارج واشترى من سلع الشركة، فلا خيار مجلس في ذلك. فهذه: بيع السلطان والتركة والشركة، ومن كان متولياً طرفي العقد في صفقة، فلا خيار لواحد من هؤلاء، كما أنه هنا لا خيار بعد التفرق، ولا خيار بعد أن يخير أحدهما الآخر.
قال: [ (فإن خير أحدهما الآخر فتبايعا على ذلك، فقد وجب البيع) ].
هذه صورة ثانية: تبيعني هذه السلعة؟
- لا، أنت لست مشترياً، أنت ستذهب تشاور أمك أو زوجتك أو كذا، أنا أريد بيع وشراء ليس فيه خيار، خيره قبل العقد، قال: لا مشاورة ولا خيار، نتبايع وننهي البيع الآن؛ فتبايعا. ليس له أن يرجع ويقول: لي خيار المجلس، وإن كان بعض الحنابلة يجيز له ذلك، لكن الجمهور على أنه ما دام خيره من قبل وخشي من هذا التطويل، وقال: ما هناك خيار، ونتبايع على ألا خيار بيننا. فقال: قبلت. وتبايعا على ألا خيار بينهما، فقد تم البيع.
قال: [ (وإن تفرقا بعد أن تبايعا، ولم يترك واحد منهما البيع؛ فقد وجب البيع) ].
لم يقل البائع: أنا تركت البيع ورجعت. ولم يقل المشتري: أنا تركت البيع ورجعت.. بعت، اشتريت، في أمان الله، تفرقا، بعد هذا التفرق ما حصل من واحد منهما أنه رجع، أو طلب الفسخ، أو الخيار، أمضيا البيع ومضى كل في سبيله، وحينها لزم البيع.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: (البائع والمبتاع -بصريح العبارة- بالخيار -في عقد البيع- ما لم يتفرقا إلا أن تكون صفقةَ -أو صفقةُ- خيار) على ما تقدم في حديث ابن عمر .
أشتري منك على أن يكون لي الخيار عدة أيام، ونجد أغلبهم على أن مدة الخيار ثلاثة أيام، ومالك يقول: ليس في ذلك حد عندنا ينتهى إليه، وكل سلعة خيارها بحسبها، فإذا اشتريت ثوباً أو بعيراً، فهذه يكفي فيها ثلاثة أيام؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى صاحب المصراة ثلاثة أيام يحلب وينظر، وبعد الثلاثة الأيام ستظهر، قال: وأكثر من ذلك أكرهه.
إذا اشترى عبداً على الخيار: هل تكفي ثلاثة أيام لاكتشاف كل نوايا العبد أو طبائعه أو أخلاقه؟ لا تكفي، اشترى داراً، هل الثلاثة الأيام تكفي لمعرفة الدار وحسن بنائها، ومعاملة جيرانها، وتصريف مرافقها ومنافعها؟ لا، فقالوا: كل سلعة بحسب مكانها تكون مدة اختيارها.
إذاً: (إلا أن تكون صفقة خيار)، أي: مشروط لها خيار، كم يكون؟ الجمهور يقولون: ثلاثة أيام، ومالك يقول: لا حد في ذلك عندنا؛ لاختلاف السلع فيما تحتاجه من مدة يتأملها المشتري، ويعرف محاسنها وعيوبها، والحديث يجيز وجود الخيار بين المتبايعين إلى مدة ما اتفقا عليه؛ ما لم تكن المدة حيلة لاستفادة البائع من المبيع؛ على ما سيأتي بيانه في الخيار في الأجرة على مدة لا تلي العقد.
قال: (إلا أن تكون صفقة خيار) وصفقة الخيار: أن يتفق الطرفان على وجود خيار لأحد المتعاقدين مدة معينة بعد إمضاء العقد، سواء كان الخيار للبائع.. أنا أبيعك لكن أريد أن تعطيني مهلة يومين، المشتري: أما أنا فقد أمضيت البيع من عندي، وأنت لك مهلة ثلاثة أيام. أو كان الخيار للمشتري، البائع قال: بعتك. والمشتري قال: اشتريت؛ ولكن أريد أن أشاور أخي الأكبر، أشاور صديقي، أشاور صاحب خبرة. قال: لك ثلاثة أيام. فوقعت الصفقة صفقة خيار، فهما على شرطهما، إن اختار إمضاء البيع في المدة فالحمد لله، وإن اختار رد المبيع وفسخ العقد فله الحق في ذلك، وإن كان دفع الثمن يسترجعه.
ثم تأتي الأحكام والتفريعات التي نص عليها ابن عبد البر وغيره: إذا كان الخيار مدة عشرة أيام، والسلعة في يد المشتري من أجل أن يختبرها، فضمانها وغرمها على من؟ وغنمها لمن؟
تقدم لنا بأن الغنم بالغرم، فهي في يد المشتري على ملكه، وإن تلفت فعلى حسابه، وإن غنمت فلحسابه، إن رد البيع أو أمضاه، أو كان عبداً يحتاج إلى مئونة، أو فرساً يحتاج إلى علف فعلى المشتري؛ لأنها في ملكه، أما إذا بقيت في يد البائع فهي أمانة عنده للمشتري. وهذه التفريعات التي تكثر في هذا الباب لا تحصيها إلا موسوعات الفقه الموسعة.
إذاً: جاز خيار الشرط، وخيار الشرط أهم ما فيه هو: ألا يتخذ حيلة، وهذه الحيلة كنا نسمع بها في اليمن على مدى واسع في العقارات، يأتيه ويبيعه العقار ويقول له: لك الخيار إلى أن تأتيني بالثمن فأرد العقار عليك.. باعه البيت واستلمه وسلم الثمن، ثم ذهب البائع بالثمن، وانتقل المبيع من بيت أو أرض إلى المشتري على أن البائع له الخيار متى ما جمع الثمن جاء به إلى المشتري استرد البيت أو البستان، المحظور في هذا ما هو؟ كان يأتي ويقول: أقرضني ألفاً. يقول: ما عندي قرض. لكنني لست مستغنياً، أعطني البيت وخذ الألف، ويوم أن تردني الألف خذ بيتك. (خذ بيتك) هذه ما هي؟ ظل يجمع الألف سنة سنتين والبيت بيد المشتري، وحينما يرجع البائع ويقول: لي الخيار، وقد أحضرت الثمن، فيسلم الثمن كاملاً للمشتري ويسترجع البيت. سكنى البيت لمدة سنتين من قبل المشتري حتى جمع البائع الثمن مرة أخرى ورده لحساب المشتري الذي انتفع بها، هل كان الأصل في ذلك بيع وشراء والغرم بالغنم، أم كان البيع مبناه على أن المشتري يقرض البائع ويستفيد مقابل القرض سكنى البيت؟
فحينئذ يكون الشرط في الخيار حيلة، وربما تجدونها في كتب الحنابلة في الإجارة، (ويصح خيار الشرط في الأجرة ما لم تكن على مدة تلي العقد). هذه عبارة زاد المستقنع، وبيان هذا: إذا كان عندك بيت، وتريد أن تؤجره، فأجرته الآن، والمستأجر استلم البيت ودفع الأجرة، وشرط لك الخيار في رد البيت شهراً، البيت عندك شهر، والأجرة عندك، إن هو وقع له اختيار الرد سيرده بعد شهر والأجرة عندك، ترد له الأجرة ويرد لك البيت، حينما أخذ البيت عنده والخيار شهر، فرد البيع واسترد الأجرة كاملة، أجرة الشهر إن كان استفادها مقابل مجرد خيار؛ فلا بأس، لكن إذا كان الشرط والمهلة تلي عقد الإجارة؛ فهي حيلة ليستفيد المستأجر سكنى البيت شهراً، وسيرده بعد مدة الخيار ويسترجع الأجرة كاملة. أما إذا كانت مدة الخيار لا تلي العقد فهذا صحيح.
مثلاً: نحن الآن في شهر جماد الآخر، قال: أؤجرك البيت سنة كاملة تبدأ من واحد رمضان، وبينه وبين رمضان أكثر من شهرين فقال له: لكن أنا أريد أن أشاور؟ قال: لك الخيار شهر ونصف من الآن! هل سيستلم البيت؟ استلام البيت في الأول من رمضان، والخيار يبدأ من الآن؛ لأن عقد الإيجار الآن والتسليم في واحد رمضان، فإذا جعل له خياراً شهراً كاملاً لكنه لا يلي مدة العقد؛ لأن مدة العقد من واحد رمضان، بل هو دون مدة العقد، هل سيحصل هناك حيلة أو غبن في شيء؟ لا، اختر على ما ترى، والبيت عند مالكه، وهناك وقت طويل حتى يأتي رمضان، استلم البيت وسلم الأجرة، والفترة هذه كلها لك الخيار فيها، إذاً: ما ضاع شيء على صاحب البيت.
إذاً: خيار الشرط على ما شرطاه، ولكن يكره مالك وغيره أن يكون على مدة طويلة؛ لأن فيها شبه نزاع، وألا يكون لحيلة يستفيدها أحد المتعاقدين في مدة هذا الشرط.
[ (إلا أن تكون صفقة خيار، ولا يحل له أن يفارقه خشية أن يستقيله) ].
هذا -كما يقال- استطراد وتذييل يؤكد معنى الافتراق: ما لم يفترقا، أي: بالأبدان، ولا يحل له، أي: أحد المتعاقدين أن يفارقه من المجلس خشية أن يندم أو يستقيله، هل معناها التفرق بالأبدان أم التفرق بالأقوال؟ بالأبدان، تعاقدتما وأنتما في المجلس، وتخاف أن يرجع في كلامه فتخرج من المكان قصداً خشية أن يرجع، يعني: فارقه ليضيع عليه خيار المجلس، فلا يحل له؛ لأنه فوت عليه فرصة أعطاه الشرع إياها، وكان ابن عمر رضي الله تعالى عنهما -وهو راوي الحديث الأول- إذا تعاقد مع إنسان على شيء يهمه حينما يتم العقد يفارقه ويخرج، ثم يرجع إليه، قالوا: إذاً كيف يفعل ابن عمر هذا، والرسول يقول: (ولا يحل له أن يفارقه)؟
يذكر العلماء هذا دليلاً على أن التفرق يراد به تفرق الأبدان وليس تفرق اللسان، ويعتذرون عن ابن عمر بأن مفارقته لمن تعاقد معه بائعاً أو مشترياً أنه لم يبلغه هذا النهي، ولا يحل له أن يفارقه خشية كذا، أو أنه يتأول ذلك على سبيل الإرشاد وليس على سبيل اللزوم.. على كل له عذره، والله تعالى أعلم.
قال: [ وفي رواية: (حتى يتفرقا عن مكانهما) ].
هذا هو التفرق بالأبدان عن مكانهما.
معنى هذا الحديث: أن رجلاً كان يبيع ويشتري ولكنه كان يخدع في البيع، وقيل: كان قد أصيب في رأسه، وحصل في عقله شيء في المساومة وفي إدراك قيم الأشياء، فكان يبيع ويشتري ويغبن كثيراً، فاشتكاه أهله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستدعاه وقال: دعك من البيع والشراء الذي خسرت أهلك فيه، فيقول: يا رسول الله! ما لي غنى عن البيع والشراء.. لا أستطيع أن أترك السوق ولا البيع والشراء، لابد لي من البيع والشراء. فقال له صلى الله عليه وسلم: إذا بعت أو اشتريت فقل لمن تتعاقد معه: لا خلابة. هذه الكلمة بمعنى: لا نقص، إن كنت أبيع لا نقص في الثمن، وإن كنت أشتري لا نقص من جانبك تزيده علي في السعر، فكان إذا تعاقد مع أحد يقول له: لا خلابة. وإذا تناكر مع إنسان يأتي واحد من الصحابة يشهد له بأن الرسول صلى الله عليه وسلم أعطاه هذا الحق، والمؤلف يسوق هذا هنا لبيان جميع أنواع الخيار المتبقية، وهي تقوم على خيار الغبن. فهذا الرجل كان يغبن في البيع والشراء، وأعطاه الرسول صلى الله عليه وسلم حق النقض فيما يتعاقده إن ثبتت زيادة عليه في السعر إذا اشترى، أو ثبت عليه نقص في البيع إذا باع، فكان إذا اشترى سلعة ورجع بها إلى أهله وأخبرهم بالثمن إن أقروا ثمنها مضت، وإلا رجعوا على البائع واسترجعوا الثمن.
وهنا المبحث في هذا الحديث: هل لكل إنسان أن يقول: لا خلابة؟
فبعض العلماء يقول: لكل إنسان أن يقول ذلك؛ لأن هذا منع للغبن. والآخرون قالوا: لم يجعل ذلك للعموم، ولكن جعلها لهذا الشخص بذاته فقط، فلا تصح إلا له ولمن كان مثله؛ بأن كان سفيهاً، أو لا يحسن المساومة ... إلخ، فإذا وجد من في مثله وفي تلك الحالة، وقال هذه الكلمة: لا خلابة، فهو على ذلك، أما عامة الناس، والذي يتعاطى البيع والشراء، والذي يتعالم ويجعل نفسه أشطر الناس، ويحصل ويحصل... لو قالها لا يسمع منه.
والمؤلف ساق هذا الحديث هنا مع الحديثين المتقدمين -خيار المجلس وخيار الشرط- ليبين كل نوع من أنواع الخيار والتي يذكرها العلماء إلى سبعة أصناف داخلة تحت هذا الحديث، وهناك نوع يسمى باسمه: خيار الغبن، وخيار الغبن عند الأئمة تقدم بعض أفراده، ويثبت إذا تلقى الركبان، وإذا وقع النجش، وللمسترسل الذي لا يعرف الأسعار، وفيما يتعلق بنوع من البيوع: التولية والمرابحة والمواضعة، والتولية: هو أن تأتي للتجار: بكم هذه السلعة؟ فيقول: أنا لا أريد منك مكسباً، ولا أن تخسرني، أبيعها لك برأس مالها عشرة. قلت: اشتريتُ. فتبين أن رأس مالها ثمانية، فهذا غبن، ودلس عليك في السعر، فيرد حصة الربح.
وكذلك النقص، يقول: أنا لا أريد ربحاً ولا حتى رأس مال، أنا أتنازل لك بعشرة في المائة من رأس المال، كم قيمتها؟ مائتين، ثم تبين أن قيمتها مائة وثمانون، فيكون قد أخذ عشرون زيادة عن رأس مالها، أو قال: أنقص لك ثلاثين، وتبين أنه زاد الثلاثين في سعرها، أي: اختلف قوله في المرابحة، في المواضعة، في التولية؛ فحينئذ يأتي الخيار.
كذلك إذا باعه سلعة فوجد فيها عيباً لم يكن يعلمه؛ دلسه البائع أو أخفاه عليه، ثم اكتشف ذلك فله خيار العيب.
وكذا إن باعه موصوفاً في الذمة، والموصوف على قسمين: موصوف بعينه، مثلاً: كان في سفر على بعير له، فقال له: بعني بعيرك الذي كان معنا في السفر وكنت تركبه، ما صفاته؟ كم عمره؟ كم يحمل؟ كم يستطيع الصبر على العطش؟ وذكر أوصافاً معينة، فلما أخذت البعير المعين وجدت فيه نقصاً، عندها لك الخيار.
أما إذا قلت: أريد بعيراً صفته وصفته وصفته... قال: عندي، ولم يعين لك بعيراً بعينه، فجاءك ببعير فوجدت فيه نقصاً من تلك الصفات، فلا خيار لك، وعليه أن يأتيك بغيره حتى يستوفي لك الصفات التي أردتها في أي بعير من إبله.
وهكذا -أيها الإخوة- أنواع الخيار ستة أو سبعة على ما تقدم، والذي ساقه المؤلف رحمه الله في هذا الباب يعتبر الأصل الذي يدور عليه، وجميع التفريعات عليه توجد في أمهات الكتب.
وبالله تعالى التوفيق.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر