الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً. أما بعد:
قال المؤلف رحمه الله: [ وعن ابن عباس رضي الله عنه قال: (كان
بعدما بين المؤلف رحمه الله تعالى حكم حج الصبي انتقل إلى بيان حكم الحج عن الغير، فجاء بهذا الحديث وهو المعروف عند العلماء بحديث الخثعمية.
أورد المؤلف رحمه الله تعالى حديث ابن عباس وفيه: أن الفضل بن عباس ، أي: ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم كان رديف النبي صلى الله عليه وسلم.
والرديف: هو الذي يركب خلف صاحب الدابة.
(فجاءت امرأة من خثعم) هنا تأتي عدة روايات يسوقها ابن حجر رحمه الله في الجزء الرابع من فتح الباري: تارةً (جاء رجل فسأل عن أمه)، وأخرى: (جاء رجل فسأل عن أبيه) وأخرى: (جاءت امرأة فسألت عن أمها) وكل ذلك وارد بأسانيد صحاح، فقيل: بتعدد السؤال، وتعدد الجواب.
وفي بعض الروايات لهذه القصة: أن هذه الخثعمية معها أبوها، وجاء في بعض روايات الفضل : أن أباها أتى بها يعرضها على رسول الله صلى الله عليه وسلم لعله يتزوجها، أو أمرها بالسؤال ليسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثها، وقد جاء في وصفها أنها حسناء.
وهنا للعلماء مباحث: كيف كان الفضل ينظر إليها، وقد فرض الحجاب من قبل؟
يقول بعض العلماء: إن المرأة في الحج تسفر عن وجهها؛ لأنها نهيت عن لباس البرقع والنقاب، ولكن جاء عن أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: (كنا إذا لقينا الركبان أسدلنا على وجوهنا، وإذا فارقونا كشفنا عن وجوهنا).
ومن هنا تكلموا في تغطية المرأة لوجهها أثناء الإحرام، والذين قالوا: إن المرأة تكشف وجهها دائماً في إحرامها، أخذوا ذلك من هذا الحديث: أن الفضل ينظر إليها، وهي حسناء، وقالوا: لا يتأتى ذلك إلا إذا كانت مسفرة عن وجهها، ولكن فاتهم ما يوجد في الحديث: من أنه صلى الله عليه وسلم قال: (رأيت فتاة وشاباً)، فإن الفتاة ولو كانت مخمرة وجهها، فإنها لقرب الحجاب من عينيها ترى الطريق، وترى من تلقاه من الرجال، فكما يخشى على الشاب من الفتاه، كذلك يخشى على الفتاة من الشاب.
إذاً: صرف النبي صلى الله عليه وسلم وجه الفضل عنها لا يدل قطعاً على أنها كانت مسفرة عن وجهها، بل يدل قطعاً بأنها لشبابها ولشباب الفضل يمكن أن تفتتن به، ويتفق العلماء: على أن بني هاشم بصفة عامة كانوا من أجمل الناس، رجالاً ونساء، وجاء في هذه القصة -بالذات- أن الفضل كان وسيماً.
إذاً: صرف النبي صلى الله عليه وسلم وجه الفضل لا يقتضي أن تكون الفتاة مسفرةً وجهها، ولا دليل فيه لمن يقول ذلك.
وقد قدمنا بأن حجة النبي صلى الله عليه وسلم تأتي على كل شيء في الإسلام، فهذه الحادثة وقف عندها العلماء وبحثوا سفور المرأة في الحج وعدم سفورها.
ثم ذكروا أن من الشفقة ومن الرأفة بالإنسان أن تردفه على دابتك إذا كانت تحتمل اثنين، أما إذا كانت لا تحتمل فلا يجوز، وهذا من باب الرفق بالحيوان.
وقد جاء في شأن الرفق بالحيوان ما هو أبعد من ذلك، جاء: أن امرأة دخلت النار في هرة، وجاء: أن امرأة بغياً دخلت الجنة في كلب سقته، وجاء عنه صلى الله عليه وسلم في قصة البعير الذي ندّ عن صاحبه، أن بيّن له وقال: (بعيرك يشتكي كثرة الكلف وقلة العلف)، فقد بيّن صلى الله عليه وسلم أنه يجب أن يرفق بالحيوان ولا يكلف فوق طاقته.
أي: لا يثبت بنفسه على الراحلة، وجاء في بعض الروايات: (أن امرأة سألت، وقالت: إني أخشى إن أنا شددته على الراحلة بالحبل أن أقتله) وجاء -أيضاً مرةً أخرى- (أن رجلاً سأل عن أبيه وقد عجز، ولا يستطيع أن يربطه ويثبته على الراحلة).
وهذه الصور بمجموعها تعطينا أن هذا العاجز قد بلغ به عجزه إلى حد لا يستطيع أن يثبت بنفسه على الراحلة.
وهنا ينظر العلماء في هذا العجز ما سببه؟ إن كان للشيخوخة فهو لا يرجى عوده إلى الشباب والصبا، فهو ميئوس من ذهاب هذه العلة عنه، أما إذا كان مريضاً مرضاً عارضاً ويظن أو يرجى له البرء فإن حكمه يختلف، ومن هنا قال بعض العلماء: لا يجوز الحج عن الغير في حال الحياة إلا إذا كان عاجزاً بهذه الصفة، أو بسبب لا يرجى برؤه ولا زواله، فحينئذٍ يجوز أن يحج عنه، والكلام في حجة الفرض لا في النوافل؛ لأنهم متفقون على أن الحج نافلة عن الغير يصح، ولو كان الغير سليماً معافى، اللهم إلا قولاً للمالكية يخالف في ذلك.
إذاً: هذا المبحث ونظيره إنما هو في حجة الفرض لا في حجة النفل.
فقالت: (أفأحج عنه؟) (قال: نعم) يعني: نعم حجي عنه، وهنا قد يأتي البعض ويقول: هذا مجرد جواز الحج عنه، ولكن هل يسقط به الفرض أم لا؟ لا حاجة إلى هذا التساؤل؛ لأنه كما يقال: الجواب يتضمن السؤال، فهي سألت عن أبيها، وقد أدركته فريضة الحج على العباد، فهل قوله: حجي عنه، يكون حج فريضة أم حج نافلة؟ لا شك أنه حج فريضة، وسيأتي ما يبين ذلك أكثر، وأن هذا واجب عليها، وكما سيأتي في قصة المرأة التي سألت عن أمها التي نذرت حجاً وماتت ولم تحج، فقال لها: (أرأيت لو كان على أمك دين؟ -إلى أن قال- دين الله أحق).
إذاً: ما دام قد تعلق بذمته وجوب الحج، فسألت: هل تحج عنه أم لا؟ وأجابها: بنعم، فيكون ذلك حج الفريضة.
وقالوا أيضاً: إن العبادات تنقسم إلى قسمين: عبادة بدنية مقصودة من الشخص بعينه. وعبادة مالية ليست مقصودة من الشخص بعينه، ولكنها مقصودة من عين المال، فالعبادة البدنية لا تتأتى من أحد عن أحد؛ لأن الصلاة فيها وقوف بين يدي الله، وفيها الخشوع، وفيها الخضوع، وفيها الذكر والدعاء، وهذا أمر شخصي يرجع إلى المصلي، فإذا صلى غيره عنه، فأين تلك المعاني لمن صلى عنه؟! وكذلك الصوم: لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:183] أي: بالصوم، فإذا صام إنسان عن إنسان، فات على من صيم عنه معاني اكتساب التقوى.
أما العبادات المالية: كالزكاة، والكفارات، ووفاء النذور، فإنها تتعلق بالمال، والمال لا دخل له في الإنسان إلا من ناحية الشح والسخاء ونحو ذلك، ويسقط الواجب بهذا الجزء من المال سواءً كان من صاحبه أو من غيره، كما سيأتي في الحديث: (أرأيت لو كان على أمك دينٌ فقضيته أكان ينفعها؟) أي: هل يسقط عنها الدين، والمطالبة به أم لا؟ قالت: نعم، فأحالها على ما تعلم، لتعرف حكم ما لم تعلم.
فإذا وجد إنسان مدين، وطولب بأداء الدين فلم يستطع الأداء وأخذ إلى السجن، فجاء إنسان آخر ودفع عنه الدين شفقة ورحمة، فهل يقال: لا، بل يبقى في السجن حتى يدفع هو! أو حتى يسقط عنه الدين وتسقط المطالبة؟ حتى يسقط عنه الدين وتسقط المطالبة.
وقالوا: إن الحج يجمع بين القسمين، عبادة البدن: المتمثلة في الحل والترحال، والطواف، والسعي، والوقوف، وعبادة المال: المتمثلة في الزاد، والراحلة، ولذا يقول بعض العلماء: إذا غلب جانب البدن فلا يحج أحد عن أحد في الحياة، وإذا غلب جانب المال فإنه يحج كل إنسان عن أي إنسان في الحياة، وعلى هذا يكون الراجح: صحة نيابة الإنسان في الحج عن غيره، وهذا هو مذهب الجمهور، وخالف في ذلك المالكية، فقالوا: ما دام موجوداً حياً فلا حج عنه ولا نيابة، فغلبوا جانب العبادة البدنية.
ولا تشترط المماثلة فيجوز أن تحج امرأة عن رجل، وكذلك رجل يحج عن امرأة، ولا مانع من ذلك، هذا من النواحي الفقهية.
من النواحي الأخرى: أن هذه امرأة نظرت إلى حال أبيها، وقد بلغ به الكبر إلى هذا الحد، وهي تتطلع إلى بره والإحسان إليه؛ لتخرجه من عهدة الواجب عليه، وهذا هو الواجب على كل ابن تجاه والديه.
إذاً: الحديث يتناول عدة جوانب سواء كان من جانب التشريع: الحلال والحرام، والإجزاء وعدمه، أو كان من جانب الأمور الاجتماعية: من الإحسان، والبر، ونحو ذلك. كذلك مسألة سفور المرأة، وإزالة ما يراه الإنسان سداً للذرائع، كما هو الأصل في مذهب مالك ؛ لأن صرف وجه الفضل عن الفتاة سدٌ لذريعة الفتنة بينهما، وهذا على قدر سلطة الإنسان، إن كانت له سلطة باليد فباليد، وإن لم تكن له سلطة باليد فبالقول، وإن لم يستطع بالقول فيكون بالوسيلة الثالثة، وهي القلب، وذلك أضعف الإيمان.
إذاً: موضوع هذا الحديث هو: بيان نيابة حج الإنسان عن غيره لعذر، ألا وهو: العجز عن السفر إلى الحج لعذر لا يرجى زواله ولا برؤه.
اختلف الأئمة في ذلك، فـمالك لا يرى أن يحج عنه أصلاً مادام حياً، وعلى هذا فيلزمه الحج، وأحمد يقول: لا يطالب بالحج؛ لأنه أُدِّيَ عنه بوجه مشروع، وأبو حنيفة والشافعي رحمهما الله يقولان: عليه أن يحج حجة أخرى، على ما سيأتي في حق الصبي والمملوك. والله تعالى أعلم.
الحديث الأول: امرأة من خثعم، والحديث الثاني: امرأة من جهينة، وكونها من خثعم، أو من جهينة، أو من تميم، أو من مضر، أو من باهلة، أو من أي جنس من الأجناس لا علاقة له بالحكم، ولكن هذا من باب التوثيق في الخبر؛ لأنه متأكد أن المرأة معروفة بعينها وقبيلتها، وهذا مما يعطي السند قوة، والخبر أصالة.
والنذر من حيث هو: إلزام الإنسان نفسه بشيء قربة لله، وقد يكون مطلقاً، وقد يكون مشروطاً، فالمطلق مثاله: رجل كسلان عن الصيام، فأراد أن يلزم نفسه بالصيام فقال: لله علي نذر أن أصوم يوم كذا، ويوم كذا لله، فهذا يسمى: نذراً مطلقاً، والنذر المشروط مثاله: أن يقول طالب: لله علي نذر إن نجحت في الامتحانات أن أذهب وأعتمر، هذا النذر مشروط، ومعلق بما إذا نجح في الامتحانات.
أما النذر المطلق فلا مانع فيه، وبعضهم يكرهه؛ لأنه إلزام لنفسه بما لم يلزمه به الشرع، وما يدريك لعلك تعجز، فهو غير واجب ابتداءً، ولكن عندما ألزم الشخص نفسه به أصبح واجباً في حقه، والأفضل للإنسان أن يترك النذر، وإذا أراد أن يتطوع بعمل ما فليأت به تطوعاً من غير نذر، وهذا هو الأفضل، أما المشروط فكرهه العلماء؛ لأن فيه حديث: (إن النذر لا يأتي بخير وإنما يستخرج به من البخيل) النذر لن يأتي لك بالنجاح وإنما يكون النجاح بالمذاكرة، وبالتوفيقِ من الله، ولو قال قائل: إن شفى الله مريضي حججت وتصدقت، هل الحج أو النذر هو الذي سيشفي المريض؟ لا: وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ [الشعراء:80].
هذه مساومة مع الله ومبايعة، إن أعطيتني أعطيتك! ولكن يستخرج به من البخلاء، لولا مرض الولد، ومجيء الشفاء، والتطلع إليه، ما حج ولا اعتمر؛ لأنه بخيل.
إذاً: (النذر لا يأتي بخير، ولكن يستخرج به من البخيل)، يعني: لا يأتي به لذاته، وإنما الذي يأتي بالخير هو الله سبحانه وتعالى.
فهذه امرأة نذرت، وبسبب نذرها تورطت ابنتها، وجاءت البنت تريد أن تفك أمها مما ألزمت به نفسها ولم تف به، فهي كانت في عافية، ولكن لما نذرت صارت مدينة مسئولة، وهذا أيضاً من شفقة البنت على أمها؛ لأنها علمت أنها مدينة مرتهنة بنذرها، فاغتنمت فرصة وجود رسول الله صلى الله عليه وسلم لتسأله، ولقد كان عصر الصحابة أحسن العصور لتمتعهم بهذه النعمة وهذا الفضل العظيم، (خير القرون قرني) إمامهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلما أشكل عليهم أمر بادروا بالسؤال ويجدون الجواب عند رسول الله صلى الله عليه وسلم (أفأحج عنها؟ قال: نعم، حجي).
ثم لما استشكلت البنت الوفاء عن أمها؛ لأنه عمل للغير، فالغير ألزم نفسه به تبرعاً، ولم يوجبه الله عليه، أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبين لها ليزول هذا الإشكال، وهذا رأفة بالسائل، وحكمة من المسئول، قال: (أرأيت) يعني: أخبريني بما تفهمين أنت: لو أن على أمك ديناً لجارتها، وماتت وهي مطالبة بالدين، فقضيت أنت عنها الدين، أكان ينفعها؟ قالت: نعم ينفعها، قال: دين الله أحق، ما دمت تعلمين بأن سداد الدين عن الغير ينفعه، ويرفع عنه المطالبة والمسئولية، وإذا كنت توفين دين المخلوق، والنذر دين لله، ودين الله أحق بأن توفيه، وبهذا علمنا صحة الحج عن الميت.
والمالكية يقولون: من أوصى بالحج عنه، حججنا عنه، لكن من نذر بالحج أنحج عنه أم لا؟ بعضهم يقول: نعم؛ لأنه أوجبه على نفسه، بخلاف ما أوجبه الله على العبد، ومات العبد قبل تمكنه من أدائه، فالله الذي أوجبه هو الذي أخذ العبد، ولم يمكنه من أن يحج، بخلاف ما لو أوجب العبد على نفسه الحج فيكون هو الذي ورط نفسه، فيكون الإلزام هنا من جانب الوفاء؛ لأن العبد هو الذي حمّل نفسه وألزمها.
ويهمنا في هذا أن الجمهور قالوا: أيما ميت مات وعليه حج، سواء كان عليه بأصل الوجوب: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ [آل عمران:97] أو كان عليه بإيجابه على نفسه بالنذر، فإن وليه يحج عنه، أو ينفعه حج الغير عنه.
إذاً: الحج عن الحي بسبب علة عجزه، والحج عن الميت، بسبب موته، واستقرار الحج دين في ذمته، وبهذا يتم عندنا جواز الحج عن الغير حياً أو ميتاً، إلا أن الحي مشروط فيه أن يكون عاجزاً عن أن يحج بنفسه، وهذا كله في حجة الفريضة.
يقول البعض: القياس لا يجزئ؛ لأن ولد الرجل من عمل أبيه، إذ الولد بضعة من أبيه ويقول صلى الله عليه وسلم: (أو ولد صالحٌ يدعو له) لأن عمل الولد تابع للوالد، فإذا كان أجنبياً عنه فلا توجد بينهما رابطة ولكن سيأتينا حديث شبرمة وفيه: (أخٌ لي، أو صاحب لي) أي: ليس بأبي ولا بأمي، فيدل هذا على صحة حج الإنسان عن غيره، والأولى أن يكون النائب من ولده، وإذا لم يكن من ولده ولا من أقربائه صح ذلك، على ما سيأتي الشرط فيه.
هذا الخبر جاء موقوفاً على صحابي، وجاء مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم ولكن حكمه حكم الرفع؛ لأن حج الصبي، وإجزاؤه وعدم إجزائه تشريع، ولا يتأتى لإنسان بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُشرع ويصدر مثل هذا الحكم، إذن: سواء ثبت في الصناعة الحديثية رفعه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن جاء فيه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو لم يصح أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وثبت أنه موقوف على الصحابي، فالصحابة رضوان الله تعالى عليهم جميعاً لا يملكون أن يقولوا مثل ذلك، والعلماء يقولون: الموقوف على الصحابي إذا لم يكن للرأي فيه مجال فهو مرفوع حكماً؛ لأنه لا يتكلم فيه بالرأي ولا بالعقل، ولكنه يكون قد سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فهذا الصبي قد حجت أمه عنه في صغره قبل أن يُكلف، فإذا بلغ هذا الصبي سن التكليف، فهل يُكلف بالحج أم أن حجه الأول يسقط عنه فريضة الحج؟ فهذا الحديث جواب على هذه المسألة.
(أيما) أي: من صيغ العموم، و(ما) كذلك وهما معاً كلمة واحدة (أيما صبي حج، ثم بلغ الحنث، فعليه أن يحج حجةً أخرى) الصبي هذا كم عمره؟ تقدم أنه رفع في المحف، وكانوا يحجون بالصبيان دون البلوغ، كما جاء في حديث ابن عباس رضي الله عنهما، حيث قال عن نفسه: (كنت مع الضعفة ليلة المزدلفة وكنت غلاماً)، وجاء عنه أيضاً أنه قال: (جئت على أتان وقد ناهزت الاحتلام -يعني: قاربت أن أحتلم ولم أحتلم بعد- والنبي صلى الله عليه وسلم يصلي الظهر بمنى، فمررت بالأتان بين الصفوف، حتى وجدت مكاناً، فنزلت عنها وتركتها) أي: وقمت في الصلاة، فهذا غلام ناهز الاحتلام وكان حاجاً معهم.
إذاً: سواءً كان غلاماً أو صبياً رضيعاً، أو فطيماً، أو ابن سبع سنوات، أو تسع، ما دام أنه حج دون البلوغ، فعليه أن يؤدي حجة الإسلام بعد البلوغ.
فيقولون: لو أن إنساناً أخذ صبياً ليحج به، ولما جاء إلى مكة وهو محرم بالحج بلغ واحتلم، يقولون: متى كان احتلامه؟ هل كان قبل الوقوف بعرفة أم بعده؟ إن صح احتلامه قبل الوقوف بعرفة، أو وهو في أرض عرفات، قبل أن ينصرف منها، أجزأت عنه حجة الإسلام؛ لأنه أداها وهو بالغ، وإن كان احتلامه بعد أن نزل من عرفات، فهو قد حج دون البلوغ؛ لأن الحج عرفة، وما يأتي بعد عرفة فهو من مكملات الحج فعليه حجةٌ مرةً أخرى، (فأيما صبي حج، ثم بلغ) أي: بلغ سن التكليف، واستطاع الحج؛ لأنه في حال صغره قد يحججه وليه، فلما بلغ أصبح كعامة الناس: (من استطاع إليه سبيلا) يعني: أن الحجة الأولى، التي أوقعها له وليه قبل البلوغ لا تجزئ عن حجة الإسلام.
وفي حق المملوك: (أيما مملوك) أيما عبد.. أيما جارية -فالمملوك يصدق على العبد والجارية، وعلى الذكر والأنثى- كان قد حج مع مواليه وهو مملوك، ثم بعد ذلك أعتق أو كاتب على نفسه وصار حراً، كذلك إن استطاع سبيلاً للحج فعليه أن يحج حجة أخرى، وبهذا يستدل على أن العبد المملوك قاصر الأهلية لأنه في حكم سيده، وهناك تفريعات عديدة على هذا، في من سقطت عنه الجمعة، وسقطت عنه الزكاة في ماله، إلا بإذن سيده، إلى أشياء أخرى والله تعالى أعلم.
وأيضاً يضاف إلى هذين الاثنين -كما تقدم- من المريض الذي لا يستطيع الحج، فحج عنه غيره، ثم تعافى، فيكون أيضاً مضافاً إلى الصغير وإلى المملوك، وكذلك من حج عنه لعجزه عن الركوب، ثم استطاع أن يركب بعد ذلك.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر