الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، سيد الأولين والآخرين سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد:
فيقول المصنف رحمه الله: [ وعن أنس : أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه كتب له: (هذه فريضة الصدقة التي فرضها رسول الله صلى الله عليه وسلم على المسلمين، والتي أمر الله بها رسوله: في كل أربع وعشرين من الإبل فما دونها الغنم، في كل خمس شاة، فإذا بلغت خمساً وعشرين إلى خمس وثلاثين ففيها بنت مخاض أنثى، فإن لم تكن فابن لبون ذكر، فإذا بلغت ستاً وثلاثين إلى خمس وأربعين ففيها بنت لبون أنثى، فإذا بلغت ست وأربعين إلى ستين ففيها حقة طروقة الجمل، فإذا بلغت واحدة وستين إلى خمس وسبعين ففيها جذعة، فإذا بلغت ستاً وسبعين إلى تسعين ففيها بنتا لبون، فإذا بلغت إحدى وتسعين إلى عشرين ومائة ففيها حقتان طروقتا الجمل، فإذا زادت على عشرين ومائة ففي كل أربعين بنت لبون، وفي كل خمسين حقة، ومن لم يكن معه إلا أربع من الإبل فليس فيها صدقة إلا أن يشاء ربها. وفي صدقة الغنم في سائمتها إذا كانت أربعين إلى عشرين ومائة شاةٍ شاةٌ، فإذا زادت على عشرين ومائة إلى مائتين ففيها شاتان، فإذا زادت على مائتين إلى ثلاثمائة ففيها ثلاث شياه، فإذا زادت على ثلاثمائة ففي كل مائة شاة، فإذا كانت سائمة الرجل ناقصة من أربعين شاةً شاةٌ واحدةٌ فليس فيها صدقة إلا أن يشاء ربها، ولا يجمع بين متفرق، ولا يفرق بين مجتمع خشية الصدقة، وما كان من خليطين فإنهما يتراجعان بينهما بالسوية، ولا يخرج في الصدقة هرمة، ولا ذات عوار، ولا تيس إلا أن يشاء المصدق. وفي الرقة في مائتي درهم ربع العشر، فإن لم تكن إلا تسعين ومائة فليس فيها صدقة إلا أن يشاء ربها. ومن بلغت عنده من الإبل صدقة الجذعة، وليست عنده جذعة وعنده حقة فإنها تقبل منه، ويجعل معها شاتين إن استيسرتا له أو عشرين درهماً، ومن بلغت عنده صدقة الحقة وليست عنده الحقة، وعنده الجذعة، فإنها تقبل منه الجذعة، ويعطيه المصدق عشرين درهماً أو شاتين
وفي الجملة يوجد من أموال الزكاة ما هو متفق على أصول فيها، كبهيمة الأنعام: الإبل والبقر والغنم، ومن الزروع: التمر والزبيب والحبوب، وكل قوت مكيل مدخر ألحق بالتمر والزبيب، وكذلك النقدان: الذهب والفضة، ويلحق بالنقدين عروض التجارة؛ لأنها تابعة لها، وتدار بالذهب والفضة وتقوّم بهما.
قسم ظاهر يتولى الإمام أمره، وهي: بهيمة الأنعام، والتمور والزبيب.
وقسم خفي وهو: الذهب والفضة وعروض التجارة، وهذا الخفي وكِل وأسند أمره إلى صاحبه، فهو يتعامل بينه وبين الله في إخراج الزكاة.
فهنا نأخذ خطاب أبي بكر رضي الله تعالى عنه، ومعلوم أن الكتابة لم تكن معهودة، ولكن جاءت في بعض التعليمات العامة، منها ما أملاه الرسول صلى الله عليه وسلم كما نبه أبو بكر رضي الله تعالى عنه في بيان أنصبة الزكاة التي فرضها الله ورسوله، ومنها الكتب التي كتبت فيما يتعلق بالجنايات، كالدية، وأرش الجروح، كما جاء عن علي رضي الله تعالى عنه، أنه سئل: (هل خصكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء من العلم لم يخص به أحد غيركم؟ فقال: لا والله، إلا فهم أوتيه أحد في كتاب الله، وما في هذه الصحيفة -وكانت صحيفة يضعها
ولعل هذا العمل -وهو الكتابة في أمور جزئية- هو مبدأ تدوين وتنظيم النظم الحكومية، فمنها ما يتعلق بالجنايات، ومنها ما يتعلق بالأموال، وهذا من أهمها، ويتفق العلماء على أن تلك الكتب لا زالت يعمل بها في عهد الصحابة رضي الله تعالى عنهم، وكان جميع العمال يأخذون بما فيها ويطبقونها كل في مكانه.
(وعن أنس : أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه كتب له: هذه فريضة الصدقة).
هذه الكتابة كتبها أبو بكر من عنده أو مما سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ لا يمكن لـأبي بكر أن ينظم هذا التنظيم من عنده؛ لأنه يتعلق بأموال الناس، وأموال الناس محترمة، لا يمكن لإنسان أن يتسلط عليها ويأخذ منها، وهي عبادة تتعلق بركن مالي، والعبادة لا يمكن لأحد أن يتحكم فيها.
إذاً: أبو بكر رضي الله تعالى عنه لما كتب لـأنس كتب له ما حفظ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولذا صرح بذلك فقال: (التي فرضها رسول الله صلى الله عليه وسلم على المسلمين).
وهنا يقف العلماء في مسألة أصولية وهي: أن الرسول صلى الله عليه وسلم له حق في الفرضية، ولكن هل ذلك له في بيان ما أجمل من كتاب الله أم له أن يستقل به؟
فمما له صلة بكتاب الله أن الله سبحانه وتعالى فرض الزكاة إجمالاً فقال: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ [البقرة:43]، وقال: الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ [الحج:41] ما هي الزكاة التي آتوها؟ ما هي أنواع الأموال الزكوية؟ ما مقادير أنصبائها، ما مقدار ما يؤخذ منها؟
ولهذا يقول الأصوليون: السنة قاضية على الكتاب، بمعنى: أنها مبينة لما أجمل فيه، ويتعين على كل مسلم أن يأخذ بما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم ابتداءً أو بياناً، وقد بين المولى وجوب ذلك: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ [الحشر:7] وعصمه الله من الخطأ فقال: وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى [النجم:3-4] كما قال السيوطي رحمه الله : الوحي وحيان: وحي أمرنا بكتابته، وتعبدنا بتلاوته الحرف بعشر حسنات، ووحي لم نؤمر بكتابته، ولم نتعبد بتلاوته، وهو السنة.
ولما جاء شخص إلى بعض السلف وقال: ما حاجتنا في السنة والله يقول: مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ [الأنعام:38]؟ قال: نعم، ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم فهو مما جاء في كتاب الله.
وكان والدنا الشيخ الأمين رحمة الله تعالى علينا وعليه يقول: السنة كاملة كقطرة من بحر كتاب الله؛ لأن الله قال لنا في حق رسوله صلى الله عليه وسلم: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [الحشر:7] فهذا متعلق بالسنة بجميع ما فيها.
وجاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا ألفين أحدكم متكئاً على أريكته يقول: عندنا كتاب الله، ما وجدنا في كتاب الله أخذنا به، وما لم نجد لا حاجة لنا فيه! ألا وإنني أوتيت الكتاب ومثلَه معه) والذي أوتيه صلى الله عليه وسلم مع الكتاب هو السنة.
وهنا لما قال هذا الرجل هذا الكلام لبعض السلف، قال: يا ابن أخي! تعال، لا غنى لك عن السنة، هل وجدت في كتاب الله عند قوله: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ [البقرة:43] أن الصبح ركعتان والظهر أربع والمغرب ثلاث؟ قال له: لا. قال: من أين أخذتها؟ قال: من سنة رسول الله. قال: إذاً: نحن ملزمون بالسنة.
وكذلك أرأيت أنصباء الزكاة هل وجدت في الذهب (2.5%) مذكوراً في القرآن؟
هل وجدت في القرآن أن الغنم في كل أربعين شاةً شاةٌ؟ وهل وجدت في القرآن عن الإبل في كل خمس إبل شاة؟
وهل وجدت في الحبوب والثمار في كل خمسة أوسق صدقة؟
الجواب: لا.
إذاً: من أين وجدت ذلك؟
الجواب: من السنة.
وعلى هذا جاءت السنة بتفصيل ما أجمل في كتاب الله، وجاءت السنة بتشريع مستقل لكنه تابع لما جاء في كتاب الله، ولذلك لما جاء تحريم النساء: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ [النساء:23]... الأية، وجاء في القرآن: وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ [النساء:23] جاء صلى الله عليه وسلم وقال: (لا يجمع بين المرأة وخالتها، ولا بين المرأة عمتها) فحرمة الجمع بين المرأة وخالتها ما جاءت في كتاب الله، وإنما جاء الكتاب بتحريم الجمع بين الأختين.
ووقع النزاع عند الأصوليين، وهل هذا يشمل ملك اليمين أم لا لعموم: أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ [النساء:3] وعموم: وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ [النساء:23]؟ الأختان من الحرائر لا شك داخلتان في هذا الحكم، والإماء لهن آية أخرى: أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ [النساء:3].
ولما سئل عثمان رضي الله تعالى عنه: أيجمع بين الأختين بملك اليمين؟ قال: أحلتهما آية وحرمتهما آية، أحلتهما: أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ [النساء:3] فهذا عام، وحرمتهما آية: وَأَنْ تَجْمَعُوا [النساء:23].
ولكن ينظر الأصوليون في أن الآية التي أحلتهما فيها استثناءات، فعمومها قد خرج منه أفراد: فلو امتلك أمه أو ابنته أو أخته لم يجز له التمتع بها، ولذا يقولون في الفقه: من امتلك من تحرم عليه نكاحها عتقت حالاً، فمن اشترى أخته مثلاً، فبمجرد تمام عقد الشراء تصير حرة وتعتق عليه، حتى لا يكون له عليها ملك يمين، وكذلك إذا اشترى أمه، أو اشترى أباه فإنه يعتق حالاً ولا يجري عليه ملك اليمين.
ثم قالوا: الفروج يقدر فيها الاحتياط، والاحتياط المنع حتى لا يقع في محظور.
إذاً: السنة من حيث هي قاضية على الكتاب، بمعنى: إذا وجد إجمال في كتاب الله أو إطلاق أو عموم، ووجد مبين في السنة للمجمل، أو مخصص من السنة للعام في كتاب الله، أو مقيد لمطلق في كتاب الله؛ عمل بذلك.
وهنا يقول أبو بكر رضي الله تعالى عنه: (هذه فريضة الزكاة التي افترضها رسول الله صلى الله عليه وسلم) .
قوله: (والتي أمر الله بها رسوله).
أي: في عموم قوله: وَآتُوا الزَّكَاةَ [البقرة:43] أو أنه أمره أمراً غير ما في القرآن، وقد يكون هناك وحي سوى القرآن.
قضية الوفد الذين مروا على قوم من المشركين واستضافوهم، قالوا: اذهبوا عنا، فقد جئتم من عند هذا الصابئ، ليس لكم عندنا شيء. فتنحوا عنهم جانباً ونزلوا، فسلط الله عقرباً على سيد الحي فلدغته، فقالوا: اذهبوا إلى هؤلاء لعل فيهم راقياً، فجاءوا وقالوا: هل فيكم من راقٍ؟ فقال رجل: نعم، أنا أرقي، ولكني لا أرقيه لكم حتى تجعلوا لنا جعلاً، لقد طرقناكم مروءة القِرى -الضيافة- فامتنعتم، فجعلوا له جعلاً من الغنم، فقرأ عليه فاتحة الكتاب، فقام كأنه نشط من عقال، وجاء يسوق الغنم، فلما جاءهم بها قالوا: ما هذا؟! قال: رقيت الرجل بالفاتحة. قالوا: كيف تأخذ على قراءة القرآن هذا الأجر؟ ثم قالوا: لا نقتسم. وأبقوه معهم حتى رجعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: (اقتسموه واجعلوا لي معكم سهماً، ثم قال له: وما يدريك أنها رقية؟ -هنا محل الشاهد- قال: شيء نُفث في روعي) أي: أحسست في نفسي ببصيرة وبإلهام من الله، وبحالة إحساس لا شعوري بأن الفاتحة تشفيه، فقرأت فشفاه الله.
ويقولون: إن سورة: إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ [الكوثر:1] (اتكأ صلى الله عليه وسلم في المسجد ذات مرة، ثم تنبه يتبسم، قالوا: ما الذي أضحكك يا رسول الله؟ قال: أنزلت علي آنفاً سورة هي أحب إلي من كذا وكذا إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ [الكوثر:1]) فبعض علماء التفسير يقولون: أعطيها نفثاً في روعه، والآخرون يقولون: لم ينزل من القرآن شيء إلا بالوحي المعتاد: وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ [الشورى:51] فقالوا: إن الإغفاءة التي أغفاها صلى الله عليه وسلم ثم انتبه منها ليست نومة، إنما هي من برحاء الوحي، وكان إذا نزل عليه الوحي غشي عليه.
إذاً: قوله: (والتي أمر الله بها رسوله) من أي أنواع الوحي؟ الله تعالى أعلم.
هذا أول تقدير أنصباء الإبل، الأصل في الإبل أن زكاتها منها، والغنم زكاتها منها، وكل مال زكوي زكاته من جنسه إلا عروض التجارة، فزكاتها من قيمتها وليس من أعيانها، وزكاة الإبل التي تخرج منها ما زاد عن أربعة وعشرين رأساً، أي: خمس وعشرون، فالخمس والعشرون فيها بنت مخاض، وما قبل الخمسة والعشرين تقسم إلى خمسات، ثم في كل خمس شاة، ففي الخمس شاة واحدة، وفي العشر فيها شاتان، وفي الخمس عشرة ثلاث شياه، والعشرون فيها أربع خمسات فتكون عليها أربع شياه، فإذا جاءت الخمس الخامسة خرجت الزكاة عن الشياه إلى الإبل فكان فيها بنت مخاض.
ثم من خمس وعشرين فيها بنت مخاض إلى ست وثلاثين، وما بين النصاب والنصاب لا يكون فيه شيء من الزكاة بنسبته، وهذا يسمى وقص، والوقص لا زكاة فيه، فإذا كان عنده -مثلاً- أربع من الإبل فهذا دون النصاب، فإذا كملت خمس من الإبل فهذا نصاب، فعليه فيها شاة واحدة، فإذا صارت ستة أو سبعة أو ثمانية أو تسعة فعليه فيها شاة.
إذاً: الشاة في الأربع التي فوق الخمس هذه وقص لا شيء فيها، فإذا كملت الخمس الثانية صارت عشر إبل ففيها شاتان، فإذا صارت إحدى عشرة، أو اثنتي عشرة، أو ثلاث عشرة، أو أربع عشرة ففيها الشاتان، لأن ما زاد عن العشر وقص يسقط فيه حقه إلى أربع عشرة، وهكذا ما بين خمس وخمس من الأعداد لا شيء فيها.
من خمس وعشرين تبدأ فريضة بنت المخاض، وبنت المخاض عندهم هي: التي أمها ماخض بأختها بعدها، أي: حامل وظاهر حملها، وهي ما كان عمرها سنة ودخلت في الثانية.
فمن خمس وعشرين وجبت بنت المخاض إلى ست وعشرين، سبع وعشرين، ثماني وعشرين.. ثلاثين، كل هذا العدد فيه بنت المخاض، فلا يزاد على ما زاد عن خمس وعشرين.. إلى ست وثلاثين، يعني: أنها إذا زادت عشر من الإبل، فلا شيء في هذه العشر، فإن زادت واحدة فصارت ستاً وثلاثين وجب النصاب الثاني.
قوله: (فإن لم تكن فابن لبون ذكر).
أي: إذا لم توجد بنت المخاض الأنثى يكون بدلاً عنها ابن لبون ذكر، وابن اللبون أكبر من بنت المخاض؛ لأن أمه قد وضعت ما كانت ماخضاً به وصار عندها لبن يحلب، وهنا أيهما أغلى في الإبل: الناقة الأنثى بنت المخاض أم ابن اللبون الذكر؟ الأنثى دائماً أغلى، لأن الأنثى تأتي بالإناث والذكور، ولكن الذكر لا يأتي بشيء.
فهنا تيسير على صاحب المال إذا لم يكن عنده بنت مخاض فنقول له: يجزئ عنك ابن لبون ذكر.
أي: من ستة وثلاثين إلى خمس وأربعين فيها بنت لبون، فابن اللبون الذي هو أخوها وجب في الخمس والعشرين، وبنت اللبون التي هي أنثى وجبت هنا من ستة وثلاثين إلى خمس وأربعين، فإن زادت واحدة وصارت ستة وأربعين انتقلنا أيضاً خطوة أخرى.
زادت هنا أربع عشرة عن النصاب الأول ففيها حقة، وسميت حقة لأنها استحقت أن يطرقها الفحل فتنتج.
إذاً: كلما زاد العدد كبر السن الذي يؤخذ في هذا العدد، ولاحظنا بأن من خمس إلى خمس وقص لا شيء فيه، ومن خمس وعشرين إلى خمس وثلاثين عشرة لا شيء فيها، ومن خمس وثلاثين إلى خمس وأربعين كان الزائد أيضاً عشرة ولا شيء فيها، وهنا من ست وأربعين إلى ستين زادت أربع عشرة رأساً ولا شيء فيها.
وهذه أيضاً زادت أربع عشرة، ففيها جذعة، وهي أكبر من الحقة، وهي التي جذعت أسنانها، وهي الأسنان البيض المقدمة، جذعتها لينبت لها سنان بدلها.
فهو يتدرج، في كل عدد فيه كذا.. كل عدد فيه كذا.. إلى أن تصل إلى مائة وعشرين فيتضاعف العدد إلى آخر أنصباء الإبل، ولا حاجة إلى الاسترسال في هذا الموضوع؛ لأن هذا من اختصاص ذوي الإبل، ويكفينا القاعدة الأساسية:
فبداية الأنصبة في الإبل خمس، ففي كل خمس شاة إلى خمس وعشرين، فحينئذ يكون فيها الإبل، وبين النصابين يعتبر وقصاً لا شيء فيه، وهكذا تتدرج.
ثم يختلف الفقهاء فيما بعد على ما ترسو الفريضة وعلى ما يكون فيها، والتفصيل والتدقيق في ذلك إنما يرجع إلى ذوي الإبل، والعمال يذهبون إلى أهل الأموال على مياههم، ويحصون عليهم ما عندهم، ويأخذون الفريضة منهم على مقتضى ما في هذا الخطاب من أبي بكر رضي الله تعالى عنه.
من تسعين إلى مائة وعشرين، فإذاً: زادت ثلاثين، ففيها حقتان طروقتا الجمل.
قوله: (فإذا زادت على عشرين ومائة ففي كل أربعين بنت لبون).
النظر في أنصباء بهيمة الأنعام هل هو على سبيل النسبة التصاعدية أو النسبة التنازلية؟ لنقل: الحقة تجب في ستة وأربعين إلى ستين، وهذا مبدؤها وتمشي إلى ستين، ومائة وعشرون فيها حقتان.
مبدأ الحقة في ستة وأربعين، وهنا من الواحد والتسعين إلى المائة والعشرين فيها حقتان، يعني: كأن المسألة تفسحت نوعاً ما، وكلما زادت الإبل كلما خففت النسبة التي تؤخذ منها فليست زكاتها تصاعدية.
قوله: (وفي كل خمسين حقة).
إذا انتهت إلى مائة وعشرين وقفت الأنصباء والمقادير، ثم ينظر بعد ذلك فيجعل في كل خمسين حقة، وهذا ما يسمى بمتوسط النسبة، فخمسون متوسطة ما بين ستة وأربعين وبين ستين، فيكون في كل خمسين حقة.
(ومن لم يكن معه إلا أربع من الإبل فليس فيها صدقة إلا أن يشاء ربها).
أي: ليس عنده خمس بل عنده أربع.. فنقول: ليس عليك فيها زكاة.
انتهينا من أنصبة الإبل على نزاع فيها -يمكن أن يتعرض له المؤلف أو يتركه- بين الإمام أبي حنيفة رحمه الله هل تنتهي الفريضة عند مائة وعشرين أو تمشي إلى أكثر من ذلك، ثم تعود مرة أخرى بنسب ثابتة؟
ثم دخل في نصاب الغنم، ففي كل أربعين شاةً شاةٌ.
إذاً: الإبل بدأت من خمس، والغنم بدأت من أربعين، بنت المخاض مشت في الإبل من خمس وعشرين إلى خمس وثلاثين، والشاة في الأربعين تمشي معها إلى مائة وعشرين، فمائة وعشرون فيها شاة، وأربعون فيها شاة، وكذلك ما بينهما، فهذه ثلاث أربعينات أيضاً فيها شاة، فلينتبه لهذا، فإننا نحتاج أن نرجع إليه فيما بعد.
إذاً: في أول أنصباء الغنم أربعون شاة، بصرف النظر عن الشروط التي ستأتي من كونها سائمة وغيرها، وهذا شرط عام في الإبل والغنم والبقر، وأن المعلوفة لا زكاة فيها؛ لأنه يتكلف لها، ويهمنا الآن في بيان أنصباء الغنم أن أول نصاب للغنم أربعون شاة، والأربعون فيها واحدة، والواحدة تمضي مع الأربعين إلى المائة والعشرين، فإن زادت عن المائة والعشرين شاة واحدة، كأن ولدت تلك الليلة، وجاء العامل ووجد عنده مائة وعشرين شاة، ومعها زيادة عليها تلك السخلة التي ولدت بالأمس، فزادت عن العشرين والمائة واحدة ففيها شاتان.
أي: إذا زادت الغنم عن العشرين والمائة شاة واحدة كان فيها شاتان، والشاتان تمشي من مائة وعشرين، وثلاثين، إلى مائة وخمسين.. مائة وستين.. إلى مائة وتسعين.. فيكون فيها الشاتان، وإذا كملت مائتين ففيها الشاتان، فإذا زادت الغنم عن المائتين شاة واحدة فتكون قد دخلت في المائة الثالثة، فإذاً فيها ثلاث شياه.
أي: حتى تصل إلى الثلاثمائة ففيها ثلاث شياه، ثم تستقر الفريضة في كل مائة شاةٍ شاةٌ.
ونحن نجمل الجميع لنرى أن تلك الأنصباء في الأموال ليست عفوية، وإنما وضعت بدقة وحكمة، وإذا عرضت على شخص يعتبر من كبار المحاسبين فهنا تتضح الحكمة والرحمة: فالشاة فرضت أولاً في أربعين، فلما كثرت الأغنام فوق الثلاثمائة وصارت أربعمائة أو خمسمائة فالشاة التي كانت تفرض في أربعين تجزئ عن مائة، إذاً: نسبة الزكاة في الغنم تنزل ولا تتصاعد؛ لأن التي كانت تجزئ في الأربعين أصبحت تجزئ في المائة.
وقد يتساءل الإنسان هنا: لماذا هذا التنازل؟ مع أننا أشرنا في السابق أن نظام الضرائب يتصاعد، فالمائة الأولى متروكة لصاحبها لأنها قليل، المائة الثانية مثلاً عليها (5%)، وفي المائة الثالثة (10%)، وهكذا حتى تصل نسبة الضريبة إلى (100%) من الربح، أي: أنها تتصاعد، فكلما زاد الربح زادت الضريبة، وهنا كلما زادت الغنم نقصت نسبة ما يؤخذ منها، وهذا إرفاق من الشارع بصاحب المال.
هنا قد يقول الإنسان: ما موجب هذا التنازل؟
والجواب: لأن صاحب الأربعين شاة يحاجي عليها ويحافظ بقدر المستطاع، لكن صاحب المائتين والثلاثمائة أصبح في الحي رفيع العماد، وطويل النجاد، وأصبح سيد الحي، وسيد الحي مطروق، وكلما طرقه طارق ذبح له شاة إذاً: صارت عليه تبعات أكثر من صاحب الأربعين، فكلما زاد المال كثرت التبعات عليه، فخفف من جانب الزكاة، وهذا لا يوجد في نظام الضرائب.
إذا جئنا إلى الإبل وإلى الغنم نجد أول نصاب في الإبل؟ خمس، وأول نصاب في الغنم أربعون، ما نسبة الأربعين شاة إلى الخمس من الإبل؟
نأتي إلى تقييم الإبل بالغنم، كم تقوم الإبل بالنسبة إلى الغنم شرعاً؟
نحن عندنا في الحج ما استيسر من الهدي فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ [البقرة:196] أقل الهدي شاة أو سبع بدنة، أي أن: البدنة تنوب عن سبع شياه، هذا هو التقدير الشرعي.
تأمل هنا: (5×7=35)، أي أن الخمس من الإبل تعادل خمسة وثلاثين من الغنم، فلو أننا جعلناها ستاً من الإبل فستزيد لأن (6×7=42) ولو جعلناها أربعة فستنقص لأن (4×7=28)، فأقرب عدد في المعادلة بين الإبل والغنم هو الخمس من الإبل حيث تعادل الخمسة والثلاثين، وهي قريب من الأربعين، ولو غيرنا عدد الإبل إلى ست أو أربع لحصل ظلم على المالك بزيادة شاتين، أو حصل ظلم على المساكين بتنقيص كذا شاة.
إذاً: أنصباء الإبل مع أنصباء الغنم متوازية.
سنأتي إلى نصاب الذهب مع الغنم ومع الإبل عندما نأتي إلى الذهب والفضة إن شاء الله.
قوله: (فإذا كانت سائمة الرجل ناقصة من أربعين شاةً شاةٌ واحدةٌ فليس فيها صدقة إلا أن يشاء ربها).
أي أن أقل من الأربعين ليس فيها شيء.
قوله: (ولا يجمع بين متفرق ..).
المبحث الآتي مترتب على ما تقدم مراعاة لحالات الرعاة، فهم عندما يخرجون إلى البر والمرعى في الصحراء، لا يستطيع الراعي فصل غنمه عن غنم الثاني، ولا إبله عن إبل الثاني، وكلها ترعى في مرعى واحد، وهناك قد يرجع كل راع بما يرعاه لصاحبه، وليست هناك خلطة، أو يكون الرعاة اتفقوا على الخلطة وخلطوا المالين معاً، ولا فرق بين فحل هذه الإبل وفحل تلك: ففحل هذه يطرق نياق تلك، والعكس، ولا في الحلب: فهذا الراعي يحلب هذه، وراعي ذاك يحلب هذه، ويخلطون الحليب سوية، ويرجعون إلى مراح واحد على ما يأتي في شروط الخلطة وأحكامها، وهي من أدق أبواب الفقه في باب الزكاة.
والله سبحانه وتعالى أعلم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر