فيقول المصنف رحمه الله: [عن عائشة رضي الله عنها قالت: (أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ببناء المساجد في الدور، وأن تنظف وتطيب) رواه أحمد وأبو داود والترمذي ، وصحح إرساله].
والمساجد: جمع مسجد، والمسجد لغة: هو موضع السجود، بوزن (مفعِل) بكسر العين، أي: الجيم من الكلمة، واصطلح العلماء على تقسيم المساجد إلى قسمين: مسجد، وجامع، فالجامع ما تقام فيه الجمعة لتجمع المسلمين، والمسجد ما تقام فيه الصلوات الخمس، لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: (وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً)، وهذا لغة وشرعاً.
والمساجد عند الفقهاء إنما يقصد بها ما أقيم بناؤها للصلوات الخمس، وللمساجد تاريخ طويل عريق يجب على المسلمين العناية به، وهذا الحديث الأول منطلق للتحدث عن المسجد، ثم عن رسالة المسجد.
تقول أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها: (أمر -والأمر للوجوب- رسول الله صلى الله عليه وسلم ببناء المساجد في الدور).
الدور: جمع دار والدار قد تطلق على محل سكنى الإنسان بأهله، وتطلق على الضواحي والناحية، فتقول: هذه ديار بني فلان. أي: محل سكناهم، ويقول العلماء: إن المراد ببناء المساجد في الدور يحتمل الأمرين، فيحتمل أن الإنسان يجعل له مسجداً في بيته في داره يصلي فيه النافلة، ويصلي أهله فيه الفرائض ويستدلون بما جاء عن أم ورقة وغيرها: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أتاها، ثم قال: أين تريدين أن أصلي لكم؟)، وكذلك عتبان بن مالك حين اعتذر إلى النبي صلى الله عليه وسلم لأن بينه وبين المسجد وادياً، وقد يتعذر عليه المشي ليلاً، فطلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يأتيه ويصلي له في بيته ليتخذ ذلك المكان مسجداً.
وفي هذين الأثرين دلالات واسعة، ومنها اتخاذ المسجد لأهل البيت، وقد يقال: لماذا هذا مع أن البيت كله يكون صالحاً للصلاة، ما عدا الأماكن الممنوعة الصلاة فيها؟
يقول العلماء: إن وجود الإنسان في المسجد العام يجعل عنده إحساساً بأنه يقوم في مكان مخصص للعبادة، فيكون أجمع لحسه وشعوره في أداء صلاته، ونحن نحس من أنفسنا ذلك حينما نكون في البيت ونصلي -مثلاً- النافلة، وحينما نأتي إلى المسجد ونصلي فيه، فإن إحساسنا بصلاتنا في المسجد غير إحساسنا بصلاتنا في بيوتنا، وهكذا لو دخلت غرفة النوم للصلاة فليس الحال كما لو صليت في فناء البيت، بخلاف ما لو صليت في المجلس العام لاستقبال الضيوف؛ لأن لكل مكان إيحاءاته، ومن هنا قالوا: ينبغي أن يخصص الإنسان في بيته مكاناً لصلاته حتى يجد شعوراً بأداء الواجب وإحساساً بوقوفه بين يدي ربه.
ويحتمل أن المراد أن تبنى المساجد في الدور -أي: في الضواحي والناحية من البلد-، لكي يتجمع أهل كل ضاحية في مسجدهم للصلوات الخمس، بخلاف الجمعة، وقد جاء عن أمير المؤمنين عمر رضي الله تعالى عنه أنه لما مُصِّرتْ الأمصار كتب إلى أبي موسى الأشعري في البصرة، وكتب إلى عمرو بن العاص في مصر، وكتب إلى عماله أن: ابن مساجد للقبائل. أي: ابن لكل قبيلة في منزلها مسجداً يصلون فيه الصلوات الخمس، وابن مسجداً في المدينة، فإذا كان يوم الجمعة اجتمع الجميع في هذا المسجد -أي: مسجد المدينة-، ولا تتفرقوا.
قولها: (وأن تطيب) التطييب: هو تفعيل من الطيب، سواءٌ أكان دهناً، أم كان دخاناً من الأخشاب ذات الروائح العطرية، كالعود ونحو ذلك.
وقد كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم رجل اسمه: نعيم المجمر، كما ساق ذلك مالك رحمه الله في الموطأ، وكانت مهمة هذا الرجل أن يأتي بالمجمرة وبالطيب ليطيب المسجد، وكانت هذه سنة وعادة في المسجد النبوي إلى عهد قريب، بل وإلى الآن أحياناً، وكانت هناك مخصصات من العود للمسجد في السنة، ففي يوم الجمعة وليلة الإثنين يؤتى بالمجامر وبالعود، وتطيب نواحي وأروقة المسجد، وكان هذا في عهد قريب في أوائل قيام الدولة السعودية، فكان يأتي الأمير في رمضان، ويصلي التراويح مع الناس، ويأتي معه بالمجامر وبالعود، وبالقهوة للمصلين، وكانوا يطيلون الجلوس بين كل أربع ترويحات.
وتقدم لنا أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى نخامة في جدار القبلة فحتها بحجر، أو بيده صلى الله عليه وسلم، وعزل إمامهم أن يصلي بهم مرة ثانية لأنه لم يحترم طهارة المسجد ونظافته وتطييبه.
فمن حقوق المساجد أن تنظف وتطيب، وجاءت الآثار بأنه منع أن يبول إنسان على جدار المسجد من الخارج تكريماً لجدار المسجد، مع أنه لن يصل أثر البول إلى الداخل.
وينبغي أن يعتنى بإقامة دورات المياه على أبواب المساجد ليكون ذلك أيسر على المصلين، خاصة الغرباء، ويمكن أن يستدل لذلك -أيضاً- بما جاء عنه صلى الله عليه وسلم حين حانت صلاة العصر فطلب الناس ماءً فلم يجدوا، فطلب النبي صلى الله عليه وسلم ماء فأتي بشن -وقيل: بقدح وقيل: بغير ذلك- فيه ماء قليل، فوضع كفه صلى الله عليه وسلم فيه ودعا الله، يقول أنس : فرأيت الماء ينبع من بين أصابعه، فتوضأوا عن آخرهم.
وقد تكررت -أي: في ذلك اليوم- هذه الحادثة -أي: الوضوء عند المسجد- بتكرار العدد الذي كان موجوداً، فبعض الروايات أن العدد: سبعون، وبعضها ثمانون، وبعضها ثلاثمائة، وبعضهم يقول: ولو كنا ألفاً لكفانا.
فطلب الماء عند المسجد ييسر للمصلين مهمة الطهارة، ومهمة أداء الصلاة في المساجد.
ولا يبعد إذا قلنا: إن من التهيئة أن يوفر لرواد المساجد كل ما يمكن أن يوفر لهم الراحة، وييسر لهم الطمأنينة -كما هو الحال الآن بحمد الله- من التبريد، أو التدفئة إذا أمكن ذلك، وكذلك الفرش الميسرة، والمصاحف، والماء الذي يشرب منه العطشان، ولو أمكن أيضاً أن يكون في جوانب المسجد المكتبات أو الكتب، فلو أراد طالب العلم كتاباً أو مصحفاً يكون كل ذلك ممكناً ميسراً.
الجانب الأول: في تاريخها، والجانب الثاني: في مهمتها ورسالتها وآثارها، والجانب الثالث: في فضل بنائها والعناية بها.
أما العناية بها فقد كانت امرأة تقم المسجد في زمن النبي صلى الله عليه وسلم فمرضت، فانقطعت عن عملها، فسأل عنها صلى الله عليه وسلم فقيل: إنها مريضة أو: محتضرة. قال: إذا ماتت فآذنوني. فتوفيت ليلاً، فكرهوا أن يشقوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالليل، فجهزوها ودفنوها، فلما أصبح سأل عنها: ما شأنها؟ قالوا: توفيت البارحة ودفناها. قال: ألم آمركم أن تؤاذنوني؟ قالوا: يا رسول الله! توفيت بالليل، وكرهنا أن نشق عليك. قال: دلوني على قبرها فذهب إلى البقيع ووقف على قبرها وصلى عليها، فلماذا كانت تلك الصلاة؟! ولماذا كانت تلك العناية؟! إنها لعنايتها بالمسجد بنظافته، فإنها كانت تقمه، أي: تجمع القمامة منه.
والمتأمل في تاريخ المساجد -كما أشرت- يجد أن المسجد هو أول حركة عمرانية على وجه الأرض، وبعض الناس يقول: أول مسجد. ونقول: أول عمران؛ لقوله سبحانه: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ [آل عمران:96]، وهو البيت الحرام كما نعلم، وأما الذي وضعه فقيل: الملائكة وضعته لآدم، وقيل غير ذلك، والذي بأيدينا من كتاب الله هو التاريخ الإبراهيمي -إن صحت هذه التسمية-، كما بين سبحانه بقوله: وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ [البقرة:127]، فإبراهيم وإسماعيل رفعا قواعد البيت، فهي موجودة قبل أن يرفعاها، ومهمتهما تجديد البناء ورفعه، كما جاء في قوله تعالى: رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ [إبراهيم:37]، فكان وادياً غير ذي زرع، وغير ذي ماء، وليس فيه ساكن، ولم يكن البيت موجوداً في ذلك الوقت، ولكنه كان أكمة، ثم تولى الله سبحانه وتعالى تعيين مكانه لإبراهيم، كما قال تعالى: وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ [الحج:26].
وكذلك في الإسلام كان المسجد هو أول ما يكون في المدن، وإذا أريد إنشاء مدينة جديدة كان المسجد هو قصبتها، وهو نقطة مركزها، كما هو الحال في المسجد النبوي الشريف، وفي غيره في التاريخ الإسلامي.
وامتازت المساجد الثلاثة بأن الله سبحانه هو الذي اختار أماكنها، وكذلك بالذين قاموا ببنائها ابتداءً؛ فإنهم رسل الله، ومن أجل ذلك كانت الصلاة فيها مضاعفة، ما بين خمسمائة وألف ومائة ألف، باختلاف المساجد الثلاثة.
وهنا لمحة قرآنية فيما يتعلق بإقامة المسجد وبنائه، وما يتعلق بتنظيفه وتطييبه، وأن العناية بالصيانة أشد من العناية بالبناية، فنجد في البناية قوله سبحانه: وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنْ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلَُ [البقرة:127]، فأسند رفع القواعد إلى إبراهيم، وجاء ذكر إسماعيل كالمساعد لإبراهيم، وأما في العناية والصيانة فنجد قوله تعالى: وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ [البقرة:125]، فإسناد البناية ابتداءً كان إلى إبراهيم، فكأن إبراهيم مكلفاً بها، وتكليف إسماعيل يأتي بعد تكليف إبراهيم، أما في الصيانة والتطهير والعناية فتسند ابتداءً لإبراهيم وإسماعيل، فقال تعالى: أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ [البقرة:125].
وهكذا قام إبراهيم عليه السلام بما أمره الله ومعه إسماعيل، ونعلم جميعاً المعجزة الأبدية فيما كان من شأن إبراهيم وإسماعيل، فهما رجلان -فقط- يقومان ببناء بيت ارتفاعه نحو عشرين ذراعاً، فيأتي الحجر ويكون بمثابة المصعد الذي يضع عليه إسماعيل الحجر، ويرتفع الحجر بحجر البناء إلى أن تم هذا البناء، ويبقى في مقام إبراهيم آية.
يقول الفخر الرازي: إن الآية في مقام إبراهيم الذي كان يقوم عليه في البناء معجزة أبدية؛ لأن قدماه عليه الصلاة والسلام -حينما كان يقوم عليه- غاصتا في الحجر فيا للعجب! حجر أصم صلب تغوص فيه قدمان من دم ولحم فسمى ذلك آية؛ لأن الحجر فيه آيات، وليست آية واحدة، كما قال تعالى: فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ [آل عمران:97]، فما هي الآيات؟ قال: الحجر الأصم؛ لأن منه جزءاً -وهو موضع القدمين- غاصت القدمان فيه، وبقية أجزاء الحجر ما زالت على صلابتها وقوتها، فليونة الجزء الذي تحت قدمه آية، وبقاء الجزء الآخر على صلابته آية، وفي عمله في رفع حجارة البناء آية.
فبناه إبراهيم وأسماعيل وعناية الله معهما بما أوحى إلى هذا الحجر، وبما سخر وأعطى من قوة حركة لا يعلمها إلا الله، ولا يهبها إلا هو سبحانه، وهكذا كان بناء البيت وأول تاريخه، فهو أول عمران في الأرض، ثم جدده إبراهيم عليه السلام.
فكان تحديد بيت المقدس من الله، وكان بناؤه على يد نبي من أنبياء الله.
وكانت كل قبيلة تقف هذا الموقف الشريف الكريم، ويجيبها بهذا الجواب اللين الرحيم، إلى أن وصلت إلى ما وصلت إليه في مكان المسجد أو بجواره، وبركت، فلم ينزل عنها أول الأمر، ثم قامت -وهو عليها- فدارت واستدارت والتفتت، ثم رجعت إلى المكان الأول وأناخت فيه، ومدت عنقها وحركت صدرها بمعنى أنها لن تقوم، وأن هذا هو المكان المعين، فقال صلى الله عليه وسلم: (هو المنزل إن شاء الله)، ونزل عنها، وكان هناك بيت أبي أيوب فنزل فيه.
والكلام عن هذا الذي فعله صلى الله عليه وسلم في طريقة نزوله، حيث أخبر أن الناقة مأمورة، فإنه نبي يوحى إليه، وجاء بدين إلى وطن جديد، وإلى أمة كانت مختلفة فيما بينها، فترك أمره إلى ناقة عجماء وقال: إنها مأمورة، فكيف يفعل هذا؟ والجواب: أن هذا هو الحكمة النبوية؛ فإنه قدم المدينة وكان الأوس والخزرج في المدينة كفرسي رهان، وقد استمرت الحرب بينهما مائة سنة، وما وضعت أوزارها إلا قبل مجيئه صلى الله عليه وسلم بخمس سنوات فقط، كما تقول أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها: كان الحيان متنافسين على الخير، وكانا متنافسين -قبل ذلك- على الشر في القتال.
فهداهم الله إلى الإسلام، واتحدوا على دين واحد، فجاء صلى الله عليه وسلم إليهم بناء على بيعتهم وعلى ما تعاهدوا عليه، فلو أن الأمر كان له والاختيار من عنده وجاء ونزل عليهم فإما أن يكون نزوله على الأوس فهو على حساب الخزرج، أو أن يكون نزوله على الخزرج فيكون على حساب الأوس، ومن نزل عندهم سيعتزون بذلك ويفتخرون به على غيرهم، وتكون الحزازة في نفوس الآخرين والحسرة على ما فاتهم، وناله غيرهم، وهم في المنافسة سواء، وحينئذ تكون النفوس غير راضية أو غير طيبة، فيجد الشيطان مدخلاً لمنافسات أخرى، فإذا ما ترك أمره لغيره، لاسيما لناقة عجماء، وقال: إنها مأمورة فقد سد على الشيطان باب شر؛ لأن الذي يأمر الحيوان هو الخالق سبحانه، فمضت حيث أراد الله، ونزلت حيث أمرها الله.
فإذا نزلت عند هذا الحي من العرب أو ذاك، سواءٌ أكانوا أوساً أم خزرجاً فهل يعترض أحد أو يجد في نفسه من رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً؟! والجواب: لأنه لم يختر طريقاً على طريق، وإنما الناقة المأمورة، والآمر لها هو الله.
فبهذه الطريقة قضي على المنافسة، وقضي على المشاحة، وخرج صلى الله عليه وسلم من ذلك الموقف بحكمة.
وأما الحي الذي نزل فيه، فقد اجتمعوا عليه، وكل أهل بيت يقولون: عندنا يا رسول الله! وكل يقول: هذا بيتي، هذا بيتي. فعند من ينزل؟ وعلى حساب من؟
والواقع أنه هنا أيضاً لم يكن له اختيار، فقد نظر إلى ناقته فوجد الناقة عارية عن الرحل، فسأل: أين رحلي؟ قالوا: احتمله أبو أيوب إلى بيته. فقال: المرء مع رحله فانتهت أيضاً مشكلة البيوت في الحي الواحد.
ونزل صلى الله عليه وسلم في بيت أبي أيوب ، وكانت أمام البيت ساحة ونخيل وماء، فقال: لمن هذا النخيل؟ قالوا: لـسعد وسهيل يتيمان عند أبي عتبان أو عند غيره، فاستدعاه فقال: ثامنيِّ على هذه الأرض. قال: يا رسول الله! إنها لأيتام في حجري، وهي لك بلا ثمن، وأنا أعوضهم عنها أرضاً خيراً منها ثمناً. قال: لابد أن تثامنني عليها. وتمت المثامنة بعشرين ديناراً، ودفعها أبو بكر الصديق رضي الله عنه، فشرع صلى الله عليه وسلم -حالاً في قطع- النخيل، وتسوية الأرض، وإقامة المسجد، فأقيم لأول مرة على جذوع من نخل، ويمكن أن يُعرف حد المسجد الأول بالحد الموجود الآن، فسعى خلف الروضة أعمدة فيها خطوط مستطيلة مذهبة، وفي وسطها مثل الورد أو الزهرة، وتمتد بعد المنبر إلى الغرب سارية واحدة إلى الحجرة الشريفة، فهذا هو حد المسجد النبوي الأول.
ثم بعد ذلك -بعد العودة من خيبر، في السنة السابعة- جدد النبي صلى الله عليه وسلم المسجد بزيادة أخرى، ثم في عهد عمر رضي الله تعالى عنه، ثم عثمان، وهكذا إلى أن وصل المسجد إلى ما هو عليه الآن.
وأردنا بهذه المقدمة أن نبين أن الله سبحانه وتعالى أولى المساجد عناية، وأن أول بيت وضع للناس هو البيت الحرام أو الكعبة المشرفة، وبتحديد وبيان من الله لإبراهيم، وبناه الخليل عليه السلام مع ابنه إسماعيل، ثم بيت المقدس أيضاً بعناية من الله، وبناه نبي الله داود، ثم المسجد النبوي الشريف، وبناه وشارك في بنائه صلى الله عليه وسلم، ثم تسابق الملوك والسلاطين في أن ينال الواحد منهم شرف عمارة أو تجهيز أو إصلاح أو غير ذلك في المسجد النبوي.
أما مهمة المساجد في الإسلام فهي عظيمة، ويتضح لنا ذلك من مهمة أهم المساجد في الإسلام، أو أول مسجد بناه الرسول صلى الله عليه وسلم، والأولية هنا هي الأحقية، أما الأولوية الزمنية فقطعاً كانت لمسجد قباء، والأولية الأحقية لهذا المسجد النبوي الشريف، وقد ورد في فضل مسجد قباء: (من تطهر في بيته، وأتى مسجد قباء وصلى صلاة -أو: وصلى ركعتين- كانت له كأجر عمرة)، وخص المسجد النبوي بحديث: (صلاة في مسجدي هذا تعدل ألف صلاة -أو خير من ألف صلاة- إلا في المسجد الحرام)، فهو المعبد الذي تتضاعف فيه الصلاة إلى ألف صلاة، والألف صلاة تعدل صلاة عدة شهور، وإن شئت فاقسم الألف على خمسة، ثم اقسمها على ثلاثين، لتعرف كم تعدل الصلاة الواحدة من شهور.
والذي يهمنا أن المضاعفة ذاتية وليست عددية، بمعنى أنه لو أن إنساناً عليه صلاتان فائتتان، وصلى صلاة الفريضة في المسجد النبوي لصلاة يومه، وكانت تعدل ألف صلاة فإنها لا تسقط الفريضتين اللتين في ذمته لله؛ لأن الصلاة التي وصلت إلى الألف إنما هو في ذاتها، وفي ثوابها، وفي نورها، وفي بركتها، أما إجزاؤها عن صلوات أخرى فلا.
فإنه لما أراد عمر أن يزيد في المسجد ندب الناس، وقال: لقد ضاق المسجد بالمصلين، ونريد أن نوسع في المسجد للناس، فجاء إلى العباس ، وكانت بيوت العباس في جهة الغرب، وكذلك خالد بن الوليد ، وكانت ديار آل عمر في القبلة، وبقايا حجرة حفصة رضي الله تعالى عنها مقابلة لحجرة عائشة ، وكانتا تتبادلان الحديث من كوة -أي: من طاقة- في الجدار، وتتناولان الحاجة بأيديهما لقرب ما بينهما.
ولما توفي عمر رضي الله عنه اشترى أمير المدينة الأول لبني أمية دار عمر ، وجعلها سكناً له، ثم رأى المؤذن ينظر إلى بيته فترك السكنى، وجعلها دار الإمارة، ثم جعلها دار القضاء، وكانت في محل المحكمة الأولى بجانب مكتبة المدينة، وهي المكتبة التي كانت في القبلة.
فأول من زاد في المسجد عمر رضي الله تعالى عنه، فزاد من القبلة ومن الغرب، ولما أراد الزيادة من الغرب كانت هناك دور للعباس ، فأتاه وقال: نريد بيتك نوسع به المسجد. قال: لا. وقال: لابد؛ لأن المسجد فيه الحجرات، ولا يمكن أن نمسها، ولابد أن نتوسع إلى الغرب. فامتنع عليه، وقال: ألأنك أمير المؤمنين تغصبني؟! قال: لا أغصبك، واختر من نحتكم إليه. فاختار أُبي بن كعب ، فذهبا إليه، فقال: هلم يا أمير المؤمنين. قال: ما جئتك أميراً للمؤمنين، جئتك متقاضياً مع العباس ، فقال: ما أمرك؟ قال: كذا وكذا وكذا. وذكر له أنه قال للعباس: أعطني بيتك، أقطعك أرضاً أو أبني لك بيتاً، أو أعطيك من بيت المال ما يرضيك. فامتنع العباس عن كل ذلك، فقال له أُبي : ألا أخبرك؟ وذكر له قصة داود عليه السلام في بناء بيت المقدس ومساومته للرجل، فقال عمر : والله ما أردته لنفسي، وإنما أردته للمسلمين، ولولا أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر التوسعة ما فكرت في توسعته.
فلما خرجوا قال له العباس : يا عمر ! أنتهيت؟ قال: نعم. قال: ألك عندي شيء؟ قال: ليس لي عندك شيء. قال: البيت لوجه الله، وأدخله عمر ووسع فيه.
وحينما وسع عمر المسجد وأدخل فيه دار العباس، وجزءاً من جهة القبلة في حدود بيت عمر ، رأى عمر بعض الناس يتجنب الصلاة في تلك الزيادة، فوقف خطيباً وقال: إني لأرى كذا وكذا وكذا، ووالله إنه لمسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم -أي: الشامل لتلك الزيادة-، وهي ضمن مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي قال فيه: (صلاة في مسجدي خير من ألف صلاة)، إنه لمسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو امتد إلى ذي الحليفة -وفي بعض الروايات: إلى صنعاء-، وليس بمعقول أن المسجد سيمتد إلى صنعاء، ولكن من باب المبالغة والتأكيد.
ومن هنا علمنا أن كل زيادة أضيفت إلى المسجد النبوي في أي زمان كان فإن المسجد النبوي يتناولها، وفضيلة المسجد من أول ما بني تشملها، وهي الأجر بألف صلاة.
فيقول بعض الكتاب: كان المدرس الأول في الجامعة المحمدية جبريل عليه السلام، وكان صلى الله عليه وسلم يتلقى عن جبريل، وجبريل يتلقى عن رب العالمين، وكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يتلقون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم تلقى عنهم التابعون، وانتشر الصحابة في العالم، فانتشر العلم من المسجد النبوي الشريف، وفي مكة كانت مدرسة ابن عباس ، وبعده تلاميذه كـعطاء وغيره، وكان في الشام الأوزاعي وغيره، وفي مصر الليث بن سعد ، وفي البصرة الحسن البصري ، وفي العالم كله انتشر العلم الإسلامي والديني بما في كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومبدأ انتشاره من هذه الجامعة الأولى.
وكان المسجد -أيضاً- داراً للقضاء، يقضي فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه من بعده، وكان كذلك بيت مال المسلمين، فحينما جاء مال البحرين وضع في المسجد، وقام عليه أبو هريرة حارساً، وحصلت له قصته مع الجني الذي كان يأتي بالليل ليسرق منه، وأخذه مرتين وأمسكه، واعتذر إليه، فأطلقه، وفي المرة الثالثة أقسم ليذهبن به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو لا يعلم أنه جني، فقال: دعني فإني أعلمك كلمات ينفعك الله بها. ثم قال له: إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي؛ فإنه لن يزال عليك من الله حافظ، ولا يقربك شيطان حتى تصبح. فتركه، فلما غدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد المرة الثالثة قال: ( ما فعل أسيرك البارحة؟ فأخبره
ويقول بعض الكتاب أيضاً: لقد تولى المسجد مهمة المستشفى العسكري، وذلك أن سعداً رضي الله عنه لما أصيب بسهم في الخندق نصبت له خيمة في هذا المسجد ليكون قريباً فيعوده رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد سأل ربه: (إن كنت أبقيت حرباً لقريش فأبقني إليها، وإن لم يكن ذلك فاجعل إصابتي شهادة، وأن تقر عيني في بني قريظة)، فلما نقض بنو قريظة العهد في الخندق، وحاصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: ننزل على حكم سعد، فلما جاء سعد حملوه من المسجد إلى محلهم هناك، فقال: حكمي على من كان هاهنا؟ قالوا: نعم، وحكمي على من كان هنا؟ قالوا: نعم. والرسول صلى الله عليه وسلم في إحدى الجهتين، قال: كلكم رضيتم بما أحكم به؟ قال الجميع: نعم. قال: حكمت فيهم. بأن تقتل مقاتلتهم، وتسبى نساؤهم، وذراريهم، فقال صلى الله عليه وسلم: (لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبع طباق، -أي: السماوات السبع-)، ثم رجع فانتقض عليه جرحه فمات رضي الله تعالى عنه.
وكان المسجد -أيضاً- موضعاً للفتوى، وكان فيه عدة مهام يؤديها، وكذلك المساجد التي أنشئت فيما بعد، وأولى تلك المساجد الكبيرة أو الجوامع كانت في مصر، فكان مسجد عمرو بن العاص، جامعة ترتب فيه الدروس والعلوم، وانتشر العلم من تلك الجوامع، وكذلك في قرطبة، وكذلك في تونس، وكانت تبنى المساجد على أنها مدارس، ولطلاب العلم فيها حظ كبير.
إن للمسجد في الإسلام دوراً عظيماً، ورسالته عظيمة، فإمامه يكون صاحب علم، ويكون مفتياً للحي، ويمكن أن ينظم شئون المنطقة، ويمكن أن يصلح بين من تخاصم فيها، ويصلح ذات البين، ويمكن أن يرجعوا إليه فيما نابهم، وكذلك يعلم الجاهل... إلخ.
وكانت المساجد -أيضاً- تشتمل على الكتاتيب لتحفيظ الصغار القرآن الكريم.
ولعل هذا القدر يعطينا أهمية المسجد في الإسلام، وما ينبغي علينا من العناية برسالته، سواءٌ أكان للجمعة، أم كان للقاءات أخرى، أم كان للتعليم، أم كان للإصلاح بين الناس، أم كان لتلاقي أفراد المجتمع، وذلك بتلاقي أفراد كل حي في مسجدهم، فيتعرف بعضهم على أحوال بعض.
ومن هنا نعلم أهمية هذا الحديث: (أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم -وهذا أمر إلزام- أن تبنى المساجد في الدور، وأن تنظف وتطيب)، وذلك لأهميتها ولعظم رسالتها
وقد نص القرآن الكريم على أن طلب العلم قسيم للجهاد في سبيل الله، فقال تعالى: وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ [التوبة:122]، فالذين ينفرون يجب أن ينقسموا قسمين: قسم في سبيل الله للقتال، وقسم لحلق العلم والتعلم لينذروا قومهم، وليعلموا قومهم، ومن هنا أخبر صلى الله عليه وسلم عن مسجده -حيث كان مقراً للقيادة وتوجيه الجيوش وعقد الصلح- بأن طلب العلم فيه كالجهاد في سبيل الله، ولقد جربنا ولمسنا مدى البركة في هذا المسجد، سواءٌ أكان في الطلب أم في غيره، والله أسأل أن يعيد المساجد إلى رسالتها، وأن يعيد المسلمين إلى بيوت ربهم.
وبالله تعالى التوفيق
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر