إسلام ويب

كتاب الصلاة - باب سترة المصليللشيخ : عطية محمد سالم

  •  التفريغ النصي الكامل
  • من سنن الصلاة وآدابها اتخاذ السترة للمصلي إذا كان إماماً أو منفرداً، وهي من أسباب الخشوع في الصلاة، وبها يصون المصلي صلاته من أن تقطع بمرور أحد بين يديه، وفي السترة أحكام كثيرة في صفتها، ومقدار ما يكون بين المصلي وسترته، وحكم من مر بين يديه، وغير ذلك، وقد بين العلماء رحمهم الله ذلك، وشرحوا الأحاديث الواردة فيها، واختلفوا في بعض مسائلها.
    بسم الله الرحمن الرحيم

    الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد:

    قال المصنف رحمه الله: [ عن أبي جهيم بن الحارث رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لو يعلم المار بين يدي المصلي ماذا عليه من الإثم لكان أن يقف أربعين خيراً له من أن يمر بين يديه) متفق عليه، واللفظ للبخاري ، ووقع في البزار من وجه آخر: (أربعين خريفاً) ].

    هذا باب: سترة المصلي، والسترة ما يستر الإنسان أو الشيء ويغيبه عن النظر، والاستتار هو: اتخاذ السترة بينه وبين من يريد أن يختفي عنه، وقد يكون هذا الساتر مستوراً من باب المعجزة كما في قوله سبحانه مخاطباً النبي صلى الله عليه وسلم: وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا [الإسراء:45]، وفي كتاب: البلاغة الواضحة أن هذا مفعول بمعنى فاعل، أي: مستوراً بمعنى ساتر، وهذا خطأ، بل هو على الحقيقة؛ لأن من شأن الحجاب أن يستر، والمعجزة في أن هذا الحجاب الذي يحجب ما وراءه هو بنفسه مستور، فإن أم جميل زوجة أبي لهب لما نزلت السورة الكريمة: تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ [المسد:1]؛ جاءت وفي يدها فهر، وهي تولول غيظاً، وكان صلى الله عليه وسلم جالساً بجوار أبي بكر رضي الله تعالى عنه، فقال: يا رسول الله! لقد جاءت فلانة وفي يدها فهر -يعني: حجر مستطيل- وإني أخشى عليك منها، قال: (لا عليك، سأقرأ قرآناً يحجبني الله عنها)، فقرأ قرآناً فجاءت هذه المرأة ووقفت على أبي بكر وقالت: أين صاحبك؟! وهو جالس بجانبه، لكن حجبه الله بحجاب، وهذا الحجاب مستور عنها، ولو كان الحجاب بائناً لكشفت ما وراء الحجاب وتطلعت، لكنه مستور عنها، فهو ساتر مستور، وهو حجاب مستور على الحقيقة، وهو وجه الإعجاز، فقال: ما شأنك؟! قالت: لقد هجاني؛ لأنها اعتبرت سورة: تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ [المسد:1]، وقوله فيها: وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ [المسد:4] هجاء، أي: مذمة، فقال لها: أما إن صاحبي ليس بهجاء، فقالت: أنت مصدق، ومضت في سبيلها.

    قالوا: وكذلك ليلة الهجرة قرأ قوله تعالى: وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ [يس:9] فحجبه الله عن الفتية.

    وجاء في حديث عائشة رضي الله عنها (أنها اتخذت سترة فيها تصاوير، فلما جاء النبي صلى الله عليه وسلم ورأى التصاوير في تلك السترة لم يدخل بيتها، ورأت في وجهه الغضب، فأماطتها، وقطعتها ذيولاً للوسائد) .

    فأصل السترة في اللغة هو: ما يستر غيره، لكن السترة لا تغطي المصلي هنا، ولكن هي: ما يتخذه المصلي بين يديه في صلاته.

    وبعض العلماء يقول: معنى السترة في اللغة موجود في سترة المصلي؛ لأن الغرض من وضعها ستر النظر أثناء القيام عن التعدي إلى بعيد فينشغل المصلي، فشرعت السترة ليكون نظره وهو قائم عند سترته، وقالوا: إذا ركع كان نظره عند أطراف قدميه، وإذا سجد كان نظره إلى أرنبة أنفه، وإذا جلس في التشهد كان نظره ما بين سترته وركبتيه، ويقولون: حُدَّ النظر من أجل ألا يتطلع يميناً ويساراً؛ لأن هذا مخل بالخشوع والخضوع في الصلاة.

    وقد جاء أن الذي يتخذه المصلي أمامه بين يديه يحتجر به المكان الذي يصلي فيه، ويصبح من حقه هو، وسموا هذه العلامة أو هذا الحد الفاصل سترة؛ لأنها تمنع المار أن يقتحم على المصلي حماه، وهل العلة من اتخاذها هو منع التشويش على المصلي، أو هو فصله عن القبلة مؤقتاً، أو غير ذلك؟ الله تعالى أعلم.

    والمؤلف رحمه الله أورد هذه الأحاديث في هذا الباب، ورتبها ترتيباً حسناً، وهذا يدل على فقه المؤلف رحمه الله، فبعد أن ذكر أحكامها، والأمر بها، والنهي عن المرور بين يدي المصلي، وما يقطع الصلاة، ذكر في الأخير حديث: (لا يقطع الصلاة شيء، وادرءوا ما استطعتم)، فكأنه أورد تلك النصوص ليبين كراهية الصلاة بدون سترة، والمنع من المرور بين يدي المصلي، وبين أخيراً علاقة المرور بصحة الصلاة. والمتأمل في عموم النصوص الواردة في سترة المصلي يجدها تدور على: السترة، وعلى المار بين يدي المصلي، وعلى المصلي، فقوله عليه الصلاة والسلام: (إذا صلى أحدكم إلى شيء يستره من الناس فلا يترك أحداً يمر بين يديه)، فهذا خطاب للمصلي، وقوله عليه الصلاة والسلام: (لو يعلم المار...) خطاب للمار، فجاءت النصوص تارة للمصلي، وتارة للمار، وجاءت أيضاً في صفة السترة، وفي مقدارها، فهي مثل مؤخرة الرحل، وبين الفقهاء رحمهم الله كم يكون بين المصلي وسترته، وإذا لم يجد مثل مؤخرة الرحل فماذا يفعل؟

    قالوا: يخط خطاً، وكيف يكون الخط؟ هل يكون مستقيماً معترضاً، أو مستطيلاً إلى جهة القبلة، أو منثنياً كالمحراب؟

    كل ذلك بينه الفقهاء رحمهم الله على خلاف عندهم في بعض المسائل مثل مشروعية الخط.

    هذه هي جوانب مبحث السترة للمصلي، ولم يقل أحد من العلماء باشتراط السترة لصحة الصلاة، قال ابن عبد البر : اتفقوا أنه ينبغي للمصلي أن يتخذ سترة، ولم يقل أحد ببطلان الصلاة بدون سترة إلا أقوالاً شاذة خارجة وبعيدة عن مذاهب الأئمة الأربعة، وعلماء الحديث قاطبة.

    التشديد في المرور بين يدي المصلي

    مالك رحمه الله عقد في الموطأ باباً بعنوان: التشديد في المرور بين يدي المصلي، فكان عنواناً مطابقاً للحديث فعلاً، ثم جاء بباب: الرخصة في المرور بين يدي المصلي؛ لأنه ما من عزيمة إلا ومعها رخصة غالباً لبعض الظروف، مثل أن يكون المصلي مفرطاً ويكون الإثم عليه، كأن يصلي في ممر المشاة، فيكون عرض نفسه للمرور بين يديه بدون سبب، فهو المتسبب، وقد يكون الإثم من جهة المار، وذلك إذا كانت له سعة للابتعاد عن يدي المصلي، فتعمد المرور فهو آثم، وعلى هذا فكل من المصلي والمار مخاطب ومحذر من أن يفرط في أمر السترة.

    والنصوص المذكورة في الباب تدور على: حكم اتخاذ السترة، وعلاقة ذلك بالمصلي، وعلاقة ذلك بالمار، ونوعية وكيفية السترة.

    نرجع إلى الحديث الأول: (لو يعلم المار)، قوله: (لو يعلم): كأنه لا يعلم قبل ذلك، فهو أمر غيب، والمراد: لو يعلم الإثم، وقوله: (بين يديه): عبارة عن الاقتراب منه، فلو كنا في مكاننا هذا نصلي، وجاء إنسان عند الأروقة الموجودة بعيداً، وبيننا وبينه حوالى خمسين أو ستين متراً، ومر من هناك، فهل نقول: إنه مر بين أيدينا؟! العرف ينفي ذلك، لكن إذا كنت أصلي هنا، ومر إنسان بيني وبين القارئ فنقول: مر بين أيدينا، فنرجع إلى العرف لمعرفة حد بين يديه، وقال البعض: ثلاثة أذرع، وقيل: خمسة أذرع، وبعضهم قال: رمية الحجر، لكن رمية الحجر هذه بعيدة!

    والمار بين يدي المصلي لا يخلو من أحد أمرين: إما أن يكون للمصلي سترة؛ فيتحقق مروره بين يديه إذا مر ما بين السترة والمصلي، أما إذا مر من وراء السترة فلم يمر بين يدي المصلي؛ لأن السترة حددت موقع المصلي وحمى مكانه، وحمى مكانه أصبح من اختصاصه إلى أن يفرغ من صلاته، وعند ذلك يرتفع الاختصاص إلى غيره.

    وقوله: (ماذا عليه)، يقول بعض العلماء: أي: من الإثم، وابن حجر قال متعقباً صاحب عمدة الأحكام: لفظة: (من الإثم) لم تذكر في كل نسخ البخاري ، فهي ليست فيه، ولكن لابد من تقدير الإثم، لكون الحديث زاجراً عن المرور.

    وقوله: (لكان -أي: الحال والشأن- أن يقف -أي: ولا يمشي تلك الخطوة- أربعين...) أربعين ماذا؟ يقولون: لم يأت تمييز العدد هنا في الصحيحين، وجاء في رواية أن الراوي قال: لا أدري أربعين يوماً، أو أربعين شهراً، أو أربعين خريفاً، والخريف هو أحد فصول السنة الأربعة، وهي: صيف وشتاء وخريف وربيع، قالوا: فالخريف كناية عن سنة كاملة، وهل يمكن أن يقف سنة فضلاً عن شهر أو يوم؟! مدة الصلاة لا تتجاوز سبع دقائق أو ست دقائق، وصلاة الجماعة من تكبير الإمام إلى أن ينتهي من الصلاة لا تزيد عن عشر دقائق.

    إذاً: هذا من باب -كما قال مالك -: التشديد والتغليظ في النهي، وكل إنسان حينما يقارن بين وقوفه أربعين يوماً -على أقل تقدير- وبين الإثم الذي يلحقه يستهين بأربعين يوماً حتى لا يلحقه إثم أكبر من ذلك، فما بالك إذا لم يستغرق الوقت أربعين دقيقة؟! فلأن يقف أحسن له بكثير، وهذا يهون عليه الوقوف حتى يفرغ المصلي من صلاته.

    وقوله: (لو يعلم المار بين يدي المصلي ماذا عليه)، وإذا كان لا يعلم هل يعذر بالجهل؟ قالوا: نعم، ولكن على المصلي أن يدفعه كدفع الصائل، يبدأ بالأسهل فالأسهل، قال البعض: حتى لو حرك عينه، ولو حرك رأسه، بأي شيء ينبهه، فإذا لم ينتبه مد يده، وإلى أي مدى؟ قالوا: مقدار ما تصل اليد، لا أن يكون بينه وبين المار متران، أو قدر مكان سجوده عدة مرات، فيخطو إليه ليرده!! فهذا ليس له حق فيه؛ لأنه لم يحتجر تلك المسافة، وإنما احتجر بالسترة لو كانت موجودة نحو ثلاثة أذرع فقط، ولذا قالوا: لو أن المار سبق وغلب وأدركه لا يحق له أن يرده مرة أخرى من حيث أتى؛ لأن هذا سيكون مروراً ثانياً، فإذا مر المرة الأولى ولم يدركه ولم يحجزه عن المرور؛ فيتركه يمضي ولا يرده.

    وجاء عن أم سلمة رضي الله تعالى عنها: أن عمراً مر بين يدي رسول الله وهو يصلي فرده فرجع، فجاءت ابنتها زينب تمر بين يديه فمنعها فلم تمتنع، فمنعها فلم تمتنع، ثم غلبته وتعدته، فلما صلى قال: (هن الأغلب)، ففرق بين الجارية وبين الغلام، فهو استحى ورجع، وهذه تعدته.

    وقد جاء في الحديث: (إذا صلى أحدكم إلى شيء يستره من الناس فأراد أحد أن يمر بين يديه فليمنعه)، وهذا يشمل الإنسان وغيره، فالمصلي يمنع حتى الحيوان من المرور بين يديه كما جاء عنه صلى الله عليه وسلم (أنه كان يصلي فجاءت عنز -أو عناق- وأرادت أن تمر بين يديه، فأخذ يضايقها حتى ألصق منكبه بالجدار ومشت من ورائه، ولم تمر بين يديه) فكان لا يدع أحداً يمر بين يديه.

    وقوله في الحديث: (لو يعلم المار بين يدي المصلي)، هل هذا لكل مصل مطلقاً أم من اتخذ سترة فقط؟

    قالوا: هو للمصلي الذي اتخذ سترة، فلا يمر بين السترة وبين المصلي، أما مصل لم يتخذ سترة، فقد فرط في حق نفسه، والمار إذا كان يعلم النهي فتعمد المرور بين يديه في أقل من الثلاثة الأذرع؛ فكلاهما آثم، المصلي آثم لتقصيره في عدم اتخاذ السترة، والمار آثم لتعمده المرور بين يديه وعنده مندوحة أخرى، بخلاف ما إذا كانت ليست له مندوحة فيجوز له المرور.

    وقوله: (لكان أن يقف) أي: لكان الحال والشأن أنه لو وقف أربعين يوماً، أو شهراً، أو خريفاً -كما في بعض الروايات-؛ أهون له وأخف عليه من إثم مروره، فلو انتظر أربعين دقيقة لانتهت المسألة، وانتهى المصلي من صلاته، وخرج من تلك المسئولية.

    وهذا عام في كل مصل، وفي كل مكان، وفي كل زمان، لكنهم يقولون: يستثنى من ذلك المار بين يدي المصلي في المسجد الحرام، وبعضهم يقول: في مكة كلها، وبعضهم يقول: في حدود الحرم كله، ولكن النص قد جاء في المسجد الحرام فقط، فجاء أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في المسجد الحرام، والناس يمرون بين يديه، ولم يمنع أحداً، وعلل الفقهاء ذلك بأن المساجد غير المسجد الحرام الصفوف فيها منتظمة معتدلة، فيمكن للإنسان أن يذهب من طرف بعيد عن تجاه المصلي ويمشي، لكن في المسجد الحرام الصف حلقة مستديرة، فإذا كان المصلي داخل الحلقة فمن أين يخرج؟ لن يخرج إلا إذا مر بين يدي بعض المصلين فلا يتأتى المنع، ويتعذر المنع، فأبيح وخفف في ذلك.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3087684978

    عدد مرات الحفظ

    773532705