أما بعد:
فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
إخواني في الله: إن الله فرض الحج إلى بيته الحرام، وجعله شعيرة من شعائر الإسلام، وركناً من أركانه الجليلة العظام، غفر به الذنوب، وستر به العيوب، وفرج الكروب، ومحا الآثام.
فعن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من حج البيت فلم يرفث ولم يفسق، خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه).
يخرج من ذنوبه جميعها، صغيرها وكبيرها، جليلها وحقيرها، هؤلاء هم حجاج بيت الله الحرام، طلاب عفوه ومغفرته ورحمته، وبره وإحسانه.
وإن زاد حجاج بيت الله الحرام أساسه وروحه وقاعدته ولبه: الإخلاص لله، الذي لا يقبل الله ديناً سواه، إذا خرجت من بيتك فاخرج وليس في قلبك إلا الله، ترجو رحمة الله وتخشى عذابه.
(لبيك) خالصة من قلبك!
(لبيك) نقية تقية لربك! لا للسمعة والرياء، لا للمدح ولا للثناء، تتمنى أن حجك بينك وبين الله لا تراه عين، ولا تسمع به أذن، ولا يخطر على قلب بشر.
من حج للسمعة والرياء والمدح والثناء قال الله يوم القيامة له: اذهب إلى من حججت له فخذ أجرك منه أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [هود:16].
من حج للأصحاب والأحباب متعه الله بأصحابه وأحبابه، وحرمه الجزيل من رحمته وثوابه.
إذا خرجت ونظر الله إلى قلبك -وقد أخلصت في حجك- أحبك ووفقك وسددك، وفتح أبواب الخير في وجهك، وجعل حجك مبروراً، وسعيك مشكوراً، وذنبك مغفوراً، وأجرك محظوظاً موفوراً.
تصعد أقوالك وأفعالك إلى السماء فتفتح أبوابها إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ [فاطر:10] يرفعه سبحانه وتعالى لك لكي ينشره أمام عينيك في يوم تبعثر فيه ما في القبور، ويحصل فيه ما في الصدور: إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ [العاديات:11].
في يوم قرت فيه عيون المخلصين يقول الله فيه وهو رب العالمين: هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ [المائدة:119] رضي الله عنهم بالإخلاص.. رضي الله عنهم لما أرادوا وجهه وما عنده سبحانه، فتقبل الأقوال والأفعال خالصة لوجه ذي العزة والجلال.
أخلص لله في حجك وعمرتك وإلا حبط العمل؛ وكان العبد من الخاسرين.
لو شاء الله ما خرجت، لو شاء الله ما لبيت؛ ولكنه سبحانه هو الذي أخرجك لرحمته: وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ [يوسف:64] أخرجك برحمته وبره وإحسانه وهو أكرم الأكرمين، أخرجك إلى عفوه ورضوانه.
نظر الله إليك وقد أحاطت بك الذنوب فأحب أن يغفرها، نظر الله إليك وقد كثرت منك العيوب فأحب أن يسترها، نظر الله إليك وقد أحاطت بك الهموم والغموم فأحب أن ينفسها، نظر الله إليك وقد آلمتك الأسقام والآلام فأحب أن يذهبها، نظر الله إليك وقد أقلقتك الديون وحقوق الناس فأحب أن يتحملها.. سبحانه ما أرحمه! سبحانه ما أفضله! وما أكرمه وما أوفاه وما أبره!
اختارك من بين الملايين برحمته وهو أرحم الراحمين، اختارك وأنت أفقر ما تكون إليه، وهو أغنى ما يكون عنك، اختارك لرحمته فتشكره وتذكره.
لو أن عبداً من عباد الله اختارك من بين المئات والألوف لضيافتك أو لمناسبته لشكرته وذكرته وحمدته، ولله المثل الأعلى، ما قدرناه حق قدره، ولا شكرناه حق شكره؛ فاحمده فإنه يرضى عن الحامدين، واشكره فإنه تأذن بالمزيد للشاكرين.
إذا حججت بمال لست تملكه فما حججت ولكن حجت العير
لا يقبل الله إلا كل صالحة ما كل من حج بيت الله مبرور
يقول عليه الصلاة والسلام: (كم من أشعث أغبر ذي طمرين، يطيل السفر، يرفع يديه إلى السماء يقول: يا رب! يا رب! ومطعمه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام؛ فأنى يستجاب لذلك؟!) .
الحج المبرور يستعان عليه بالرفقة الصالحة والإخوان الصالحين؛ فكم غير الله أقواماً برفقةٍ صالحين! كم أصلح الله من أحوالهم!، وكم أصلح الله من شئونهم عندما كانوا مع الصالحين: (هم القوم لا يشقى بهم جليسهم).
إن رفقة الصالحين معونة على الخيرات، والرفقة الصالحون إما أن يكونوا أكثر منك فتتمنى خيرهم؛ فيبلغك الله أجرهم، قال أحدهم: (يا رسول الله! الرجل يحب القوم ولما يعمل بعملهم؟ قال: أنت مع من أحببت) فمن أحب الصالحين أحب الخير وهدي إليه، فإن لم يستطع فعله بلغه الله أجره بالأمنية والنية.
ومن خيار من تصحبه لحجك وبيت ربك عالم فاضل، تهتدي بهديه، وتقتدي بسمته ودله، عالم يأخذ بحجزك عن النار، ويقيمك على سبيل الأبرار، إذا نظرت إليه ذكرت الله، وإذا سمعته أعانك على طاعة الله.
صحبة العلماء وطلاب العلم الأتقياء الصلحاء معونة على الحج المبرور، معونة على كل خير وبر ورحمة، قال صلى الله عليه وسلم: (هم القوم لا يشقى بهم جليسهم).
وإذا صحبت العلماء فاحفظ حقوقهم وحرمتهم، وكن كأحسن ما يكون الصاحب لصاحبه، الله الله! أن يكون منك شين الخلال أو سيئ الخصال، فيشهد على ذلك خيار عباد الله عليك، كن كأحسن ما يكون عليه طالب العلم، وكأحسن ما يكون الرفيق لرفيقه، تحفظ مشهدهم وغيبتهم.. وترعى مشاعرهم، وتهتدي بسمتهم ودلهم.
احفظ اللسان! كان شريح إذا أحرم بالحج والعمرة كأنه حية صماء، كان السلف يحفظون ألسنتهم حتى يبلغوا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من حج هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه) .
اشترط النبي صلى الله عليه وسلم لهذه المغفرة والرحمة سلامة لسانك، وهي وصية الله في كتابه، ووصيته لأوليائه وأحبابه: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ [البقرة:197].
اتفقت كلمة السلف وعبارة الأئمة رحمة الله عليهم في قوله سبحانه: (فلا رفث): هو الكلام الذي يكون عند النساء مما يثير الشهوة ويبعث عليها، وأما الفسوق: فمذهب طائفة من السلف أنه المعاصي كلها، فإذا أراد الله أن يجعل حج العبد مبروراً عصم لسانه؛ وحفظه عما لا يليق؛ فأصبح لله ذاكراً، ولنعمته شاكراً، ومن ذكر الله ذكره، ومن شكر الله فإن الله يجزي الشاكرين ولا يضيع أجر المحسنين.
إذا رأيت العبد يلهج لسانه بذكر الله، ويعمر أوقات حجه بالكلام في طاعة الله؛ فاعلم أن ذلك من بشائر القبول من الله سبحانه وتعالى.
احفظ لسانك؛ فإن حفظ اللسان سبيل إلى الجنان، كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من يحفظ لي ما بين لحييه وما بين رجليه أضمن له الجنة) فضمن الله الجنة لمن حفظ اللسان من هماته وزلاته، والفرج من مساوئه وتبعاته.
إذا لبى الملبي تعمر لسانك بذكر الله، وتذكر قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما من مسلم يلبي إلا لبى ما عن يمينه وشماله من حجر وشجر حتى تنقطع الأرض) تذكر الله قائماً، وتذكره قاعداً، وتذكره على جنب في طاعته سبحانه على جميع الشئون والأحوال.
من علامة الحج المبرور: سلامة جوارحك وأركانك من أذية المؤمنين؛ فإن الله عز وجل إذا أحب عبده وفقه لاستغلال جوارحه في طاعته، وبلوغ أعلى المنازل من محبته ومرضاته.
من برور الحج: أن تكون محسناً إلى المسلمين لا مسيئاً، سئل عليه الصلاة والسلام -كما روى الطبراني وأحمد في مسنده- عن برور الحج، فقال صلوات الله وسلامه عليه: (إفشاء السلام، وإطعام الطعام).
قال العلماء: من برور الحج إفشاء السلام، وإطعام الطعام، ليس المراد أن ينحصر في هاتين الخصلتين، وإنما هو إشارة إلى صلاح اللسان، وصلاح الجوارح والأركان، معناه: أنه حاج بار ما رأى المسلمون منه إلا الخير في لسانه، وفي جوارحه وأركانه؛ فقل أن تجد مسلماً يفشي السلام إلا كان لسانه معصوماً من الآثام؛ لأن الذي يسلم فيه: خصال المؤمنين الحقة، فيه التواضع ومحبة الخير للمسلمين، ولذلك يسلم حتى يكون دعاؤه وسلامه رحمة لإخوانه المسلمين.
الذي يفشي السلام ويطعم الطعام قد قيض قلباً يخاف الله ويرجو رحمته، الذي يفشي السلام ويطعم الطعام قد قيض قلباً نقياً تقياً لعباد الله المؤمنين؛ ولذلك أحب لهم الخير فكان في أعلى المراتب، وهي مرتبة الإحسان إلى الناس لا مرتبة الإساءة.
كل الشرر مبداها من النظر ومعظم النار من مستصغر الشرر
كم نظرة فتكت في قلب صاحبها فتك السهام بلا قوس ولا وتر
والمرء ما دام ذا عين يقلبها في أعين الغيد موقوف على الخطر
يسر مقلته ما ضر مهجته لا مرحباً بسرور عاد بالضرر
لا خير والله في نظرة إلى الحرام في البلد الحرام والشهر الحرام، ولحجاج بيت الله الحرام.
قال العلماء: المعصية تتعاظم بالزمان وبالمكان وبالحال. فهي لا تضاعف؛ لأن الله لا يضاعف السيئات وإنما يضاعف الحسنات، قالوا: إنما يعظم إثمها ووزرها إذا كانت في زمان محرم، أو كانت في مكان محرم، أو كانت على حالة ينبغي للمسلم أن يرعى حرمتها، ففي الزمان الحرام كالأشهر الحرم.
وأشهر الحج هي شوال وذو القعدة وذو الحجة فهي أشهر الحج، ومنها شهران محرمان نهى الله عباده المؤمنين أن يظلموا فيها أنفسهم، هذان الشهران الحرامان قد يعصي الإنسان فيهما فتكون الحرمة والذنب والمعصية أعظم من الوقوع في غيرها؛ فالنظر إلى الحرام في بيت الله الحرام، وكذلك في الشهر الحرام، والإنسان متلبس بحرمات الإحرام؛ فإن ذنبها أعظم ووزرها أكبر، فينبغي للإنسان أن يخاف الله جل جلاله، والله سبحانه وتعالى إذا اطلع على قلب العبد أنه يخافه وفقه، وعصمه من الفتن والمحن، فالذي يقع في الفتن والمحن غالباً لا يكون إلا وهو مستخف بعظمة الله سبحانه وتعالى.
فيحرص الحاج إلى بيت الله الحرام على حفظ نفسه من الفسوق والآثام، يحرص على سلامة لسانه من الغيبة والنميمة والسباب والشتائم، وغير ذلك من المحرمات، فإن رأى خيراً ذكره، وإن رأى سوءاً وشراً ستره، وهذا هو حال أهل الإسلام.
نسأل الله أن يجعلنا وإياكم ممن وفق لهذه الخصلة من الخصال الكرام.
الحج من أول لحظة فيه يدعو للخشوع، ويدعو للاستكانة والخضوع، فالمسلم من أول لحظة يخرج فيها من بيته تنبعث في نفسه ذكريات الآخرة، ويتحرك في قلبه ذكر لقاء الله سبحانه وتعالى، فاليوم يخرج مفارقاً لأهله وأولاده، وغداً هو غريب عنهم في سفره، وعن قريب يفارقهم بلا رجعة.
وإذا قدم على الميقات فأزال ثيابه، وتجرد من لباسه لإحرامه، تذكر ساعة تنزع منها ثيابه وينزع من الدنيا فلا يعود إليها أبداً، فلا لا إله إلا الله من يوم لبست فيه ثيابك، وقد كتب الله جل جلاله ألا تنزع هذا الثوب الذي لبسته! فلا إله إلا الله من يوم لبست فيه ثيابك وكتب الله جل جلاله ألا تنزع هذا الثوب الذي لبسته وأنه ينزع منك!
فإذا تجردت لإحرامك تذكرت هذه الساعة التي تنزع فيها من أهلك وأولادك وأحبابك وجيرانك، وإذا اغتسلت تذكرت خرير الماء عليك وأنت تغسل لكفنك ولحدك، وإذا صرت في جموع المؤمنين استشعرت في كل لحظة وأنت ضيف على الله رب العالمين.
قال العلماء: (لبيك) من لبى إذا أجاب وكأنه يأخذ العهد على نفسه أنه يستجيب لطاعة الله ربه إجابة بعد إجابة.
وقيل: (لبيك): من لب الشيء وهو خالصه وناصحه وأفضله الذي لا شائبة فيه، فكأنك تقول: أنا على الإخلاص لك يا رب، وكأنك تعاهد الله على أن تكون أفعالك وأقوالك لوجهه سبحانه وتعالى، ليس فيها لأحد سواه حظ ولا نصيب.
وقيل: (لبيك): من قولهم: داري تلب بدارك إذا جاورتها، فكأنك تقول: أنا مجاور لطاعتك، ومقيم عليها إقامة بعد إقامة، فكأنه يأخذ العهد على نفسه أن يقيم على طاعة الله، وأن يستقيم على محبة الله سبحانه وتعالى.
وإذا كتب الله جل جلاله للعبد فدخل البيت الحرام فإنه يحمد الله سبحانه وتعالى أن بلغه هذا المكان، انظر إلى هذا المكان الطيب المبارك الذي شرفه الله وكرمه، واستشعر عظمة الله سبحانه وتعالى، هذا المكان الذي وطئته قدماك كان يوماً من الأيام وادياً لا أنيس فيه ولا جليس.
أمر الله الخليل أن يأتي بأهله وذريته، فجاء بامرأة ضعيفة وصبي صغير، فأمره الله وابتلاه واختبره أن يضعهما في هذا المكان، فلما أراد أن ينصرف عنهما تعلقت المرأة الضعيفة وقالت: إلى من تدعنا يا إبراهيم؟ قال: لله. فقالت: إذن لا يضيعنا الله، فلما انتصبت قدماه في الوادي وولى، وقد جعل أهله وذريته وراء ظهره صدع، بالدعوات المباركات، استجاب لأمر الله ثم دعا ربه فقال: رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ [إبراهيم:37].
كانت أشجانهم وأحزانهم للدين ولطاعة رب العالمين، ما كانت للدنيا ولا للهوى: أَسْكَنتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ [إبراهيم:37] لتوحيدك وطاعتك والإنابة إليك.
فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ [إبراهيم:37] سبحان الله! إذا دخلت في حجك أو في عمرتك فرأيت الألوف وهي تطوف ببيت الله جل جلاله فاذكر دعوة الخليل عليه الصلاة والسلام، استجاب الله دعوته فحنت القلوب إلى بيت الله الحرام، وأصبح الرجل تراه قد شاب شعر رأسه ولحيته يتمنى من الله سبحانه أن يبلغه البيت العتيق، كل ذلك استجابة من الله لدعاء الخليل.
قال العلماء: استجاب لأمر الله وأقام أمر الله عز وجل بإحضار أهله وذويه، ثم دعا فاستجاب الله دعوته.
فمن أطاع الله وامتثل أوامره استجاب الله دعوته، وها هي الجموع تكتظ في هذا المكان، فانظر إلى عظيم رحمة الله عز وجل! ومن استجاب للخليل لما أخلص لوجهه وأناب إليه سبحانه سيجيب دعوتك، ويفرج كربتك، ويستر عورتك إن صدقت معه كما صدق.
وإذا سعيت بين الصفا والمروة فاذكر أن بين هذين الجبلين كربة من الكربات فرجها الله من فوق سبع سماوات، امرأة ضعيفة ليس معها أحد، وقد عطش صبيها، فأصبحت تقبل وتدبر في هذا المكان مفجوعة خائفة وجلة، ولكن كان قلبها متعلقاً بالله، منصرفاً إلى الله لا إلى شيء سواه؛ فجعل الله تفريج كربها من تحت قدم صبيها وابنها، وجعل الله الماء الذي جرى من تحت هذه القدم يبقى إلى الأبد طعام طعم وشفاء سقم؛ لما أخلصت لله في دعائها.
وإذا كنت مكروباً فإن الله سيفرج كربتك، وإن جئت شاكياً ضارعاً إلى الله جل جلاله، وصدقت كما صدقت هذه المحرومة الفزعة الوجلة الخائفة الذليلة؛ فإن الله يؤمِّن خوفك كما أمن خوفها، ويقضي حاجتك كما قضى حاجتها، ويزيل عناءك كما أزال عناءها.
تستشعر وأنت بين الصفا والمروة همومك وغمومك وأشجانك وأحزانك وكرباتك فتضعها بين يدي الحي القيوم الذي لا تأخذه سنة ولا نوم، بين يدي الله جل جلاله منتهى كل شكوى، وسامع كل نجوى، وكاشف كل ضر وبلوى، ادعه بقلب مخلص موقن لا يعرف أحداً سواه أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ [النمل:62] فتستشعر في هذه الأماكن والمنازل أن الله يجيب الدعوات.
واستمع المؤمنين والمؤمنات، وانظر إلى عظمة جبار السموات والأرض يوم عجت ببابه الأصوات، واختلفت اللغات، والله لا يضيع منها حرف واحد، ولا تغيب منها كلمة واحدة، ولا تخفى عليه مسألة منها سبحانه وتعالى، في هذا المقام العظيم تستشعر همومك وغمومك أنك تنزلها بأكرم الأكرمين، وملاذ الهاربين، وأمان الخائفين، وجوار المستجيرين، تبارك الله رب العالمين!
أستودع الله أموري كلها إن لم يكن ربي لها فمن لها
لنا مليك محسن إلينا من نحن لولا فضله علينا
تبارك الله وجل الله أعظم ما فاهت به الأفواه
سبحان من ذلت له الأشراف أكرم من يرجى ومن يخاف
فتدعوه وأنت موقن أنه لا يخيبك، وأنه لا يردك.
وإذا مضيت إلى عرفات، وأشرقت عليك شمس ذلك اليوم المبارك، فاحمد الله جل جلاله أنها أشرقت عليك وأنت ضيف على الله، احمد الله جل جلاله أنها أشرقت عليك فما كنت من المحرومين، وما كنت من المثبطين، فقل: يا رب! أكرمتني بهذا الموقف ولو شئت لحرمتني، فلا تجعلني أشقى عبادك في هذا اليوم العظيم.
إذا أشرقت عليك شمس يوم عرفات فاذكر رحمة الله فاطر الأرض والسموات، وانظر إلى ذلك الموقف العظيم بقلب يعظمه، بقلب أسلم إليه سبحانه وتعالى، من بيده مقاليد السماوات والأرض جل جلاله وتقدست أسماؤه.
وصل، وأخلص لله جل جلاله في صلاتك، ثم انصرف إلى الدعاء، وهذه الساعات لا تضيع في أي لحظة منها، ولا تضيع منها دقيقة، وأفضل ما يكون منك أن تذكره سبحانه وتعالى بتوحيده، قال صلى الله عليه وسلم: (خير يوم طلعت عليه الشمس يوم عرفة، وخير ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له) فالإنسان يقبل على هذا الموقف وهو يذكره ويمجده ويعظمه، لا إله إلا الله خالصة من قلبك، معظمة لربك، وأنت تحس أنه أقرب إليك من حبل الوريد، وأنه يسمعك وأنه يراك سبحانه جل جلاله.
وإذا وقفت بين يديه وقفت وأنت تحس أن الذنوب قد كثرت، وأن العيوب قد عظمت، وأن الخطايا قد جلت، ولكنه أرحم الراحمين، وأنه لم يسئ ظنك فيه وهو الحليم الرحيم، فتقبل على الله جل جلاله بقلب يناجيه ويناديه بصدق وإخلاص، تدعوه من كل قلبك أن يغفر ذنبك وأن يستر عيبك، وأن يفرج كربتك وأن يرحمك.
فلا إله إلا الله كم أشرقت شمس ذلك اليوم على أشقياء فغابت وهم سعداء!
لا إله إلا الله كم أشرقت شمس ذلك اليوم على أقوام مذنبين مسيئين فغابت وهم مطهرون مرحومون مغفور لهم!
لا إله إلا الله إذا رحم الله برحمته، وسمح بحلمه وعفوه وكرمه سبحانه وتعالى!
لا إله إلا الله إذا نزل جبار السماوات والأرض نزولاً يليق بجلاله وعظمته على الحقيقة، ينزل إلى السماء الدنيا لأنه علم أنه لا يجيب دعاء ما سواه، وعلم أنه ليس للمسألة أحد عداه كائناً من كان، ولو كان نبياً مرسلاً أو ملكاً مقرباً.
ينزل إلى السماء الدنيا لكي يرحم المذنبين ويغفر للمسيئين، ويقيل عثرة النادمين سبحانه وتعالى، ينزل إلى السماء الدنيا في تلك الساعة المباركة لكي يباهي بالجموع المؤمنة ملائكته (انظروا إلى عبادي! أتوني شعثاً غبراً من كل فج عميق؛ يرجون رحمتي ويخافون عذابي، أشهدكم أني قد غفرت لهم) .
فلله نفحات ولله رحمات، ولربما غفر الله جل وعلا لأهل الموقف جميعهم، لربما غفر الله -جل جلاله- لأهل الموقف نساءً ورجالاً، ورحمهم جميعاً شباباً وشيباً وأطفالاً، فرحمته واسعة، وخزائنه ملأى، بيده سبحانه وتعالى الخير كله، فتناديه وأنت موقن برحمته، وتحس أنك أفقر العباد إليه، وأغناهم به سبحانه وتعالى، وتعج ببابه جل جلاله مسترحماً مستحلماً مستعطفاً لله سبحانه وتعالى.
فإذا غابت شمس ذلك اليوم خرجت وأنت تحسن الظن بالله سبحانه وتعالى؛ أن يجعل سعيك مشكوراً، وذنبك مغفوراً، وأجرك موفوراً، فتنطلق إلى تلك المشاهد الباقية بقلب مستحضر لعظمة الله سبحانه وتعالى.
فتقف بمزدلفة وأنت تحس بجلال ذلك الموقف، الذي أثنى الله عز وجل عليه في كتابه، هذا الموقف الذي قل أن يدعو الإنسان فيه بإخلاص وترد دعوته، وكان بعض السلف يقول: (ما سألت الله حاجة وحال الحول إلا قضاها الله لي).
هذا الموقف -الذي هو موقف المشعر الحرام- أثر عن بعض السلف أنه قال: (لقد وقفت في هذا الموقف في كل عام وأنا أسأل الله ألا يجعله آخر العهد فيستجيب الله دعوتي، وإني لأستحي أن أسأله هذا العام فرجع ومات رحمه الله).
هذا الموقف -وهو موقف المشعر الذي غاب عن كثير من الناس- أدب الله المؤمنين فيه فذكرهم أن تكون دعوتهم للآخرة، وأن تكون جامعة بين خيري الدنيا والآخرة، فالناس فيه بين سائل للدنيا وبين سائل خيري الدنيا والآخرة، من الناس: مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ [البقرة:200] هذه الكلمة يقول العلماء: معناها أنه يقول: اللهم أصلح لي تجارتي، اللهم أصلح لي أموالي، اللهم اشف لي ولدي، اللهم عافني من كذا وكذا... وينسى الآخرة، هذا هو الذي عناه الله بقوله: رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ [البقرة:200].
فاجمع بين ثلاث مسائل:
المسألة الأولى : أن تسأل الله أن يصلح دينك الذي هو عصمة أمرك.
والثانية : أن يصلح دنياك التي فيها معاشك.
والثالثة : أن يصلح لك آخرتك التي إليها معادك.
أما إذا سألته صلاح دينك الذي هو عصمة أمرك؛ فأنت بين أمرين: تسأله العفو عما كان من الذنوب والعصيان، والإحسان فيما بقي من عمرك، فقل: اللهم إني أسألك حياة ترضيك، اللهم اغفر لي ما سلف وما كان، وارحمني ووفقني فيما بقي لي من زمان، واجعل ما بقي لي من الحياة عوناً لي على طاعتك، فكم من إنسان حيي إلى فتنة!، وفي الحديث الصحيح: (أنه لا تقوم الساعة حتى يمر الرجل على قبر أخيه ويقول: يا ليتني مكانك) يتمنى أن يكون مكانه من كثرة الفتن والمحن!، نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يسلمنا منها.
فتسأل الله العظيم أن يجعل ما بقي من عمرك في الخير والبر، وتسأله العفو عما سلف وكان، ولازم ذلك: أن تسأله أن يعافيك من الفتن ما ظهر منها وما بطن، ففي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (تعوذوا بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن) .
اللهم إنا نعوذ بك من الفتن ما ظهر منها وما بطن.
أما مسألة الدنيا فتقول: اللهم أصلح لي دنياي التي فيها معاشي.
واسأله ألا يجعل ما وهب لك من الدنيا سبباً في شقائك، فكم من إنسان تمنى أموالاً أشقته أمواله! وكم من إنسان تمنى أولاداً عذبه الله بأولاده! وكم من إنسان تمنى زوجة نكد الله بها عيشه، ونغص بها حياته وأشقاه بها!
فسل الله العافية فيما يعطيك من الدنيا، فليس المهم أن تكون هناك أموال وتجارات وأبناء وبنات، ولكن المهم والأهم: أن يضع الله البركة فيها، وألا يجعلها سبباً في شقائك في الدنيا أو الآخرة.
ثالثاً: تسأله أن يرحمك ويصلح لك آخرتك التي إليها معادك، وأن يجعل أسعد لحظاتك وأعزها وأشرفها لحظة خروجك من الدنيا، فإن عباده السعداء الأخيار الأتقياء جعل الله جل وعلا أسعد ما لهم في هذه الدنيا لحظة الموت.
الأخيار والسعداء تضيق عليهم الدنيا، فالدنيا سجن المؤمن، ولا يمكن أن يرى المؤمن السعادة ويضع أول قدمه عليها إلا إذا غرغر ورأى سكرات الموت، فتنزلت عليه ملائكة الله تبشره بما عند الله من الرحمة، فأحب لقاء الله فأحب الله لقاءه، ولو خير ساعتها بين إقباله على الله وبين أهله وولده وأعز الناس عليه لاختار إقباله على الله على الدنيا وما فيها.
قال صلى الله عليه وسلم: (ذلك العبد المؤمن إذا تنزلت عليه الملائكة فبشرته بما عند الله من المثوبة والرحمة؛ فأحب لقاء الله فأحب الله لقاءه) اللهم اجعلنا ممن أحب لقاءك فأحببت لقاءه، اللهم اجعلها أسعد اللحظات وأعزها وأشرفها يا أرحم الراحمين.
ولذلك لما قالت فاطمة : (واكرب أبتاه! قال صلى الله عليه وسلم: لا كرب على أبيك بعد اليوم) لا كرب على المؤمن بعد الموت؛ ولذلك يبشرهم الله جل وعلا يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ [التوبة:21] يبشرهم بإقبالهم على الآخرة، فاسأل الله أن يصلح لك آخرتك، وأن يجعل أسعد لحظاتك أن تقبل عليه، قال الله في كتابه المبين: وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ [البقرة:223] فمن يقول: ستلقاني وأبشر؟ فالظن به حسن سبحانه وتعالى.
أثر عن الإمام مالك أنه مرض مرض الوفاة -هذا الإمام الجليل من أئمة السلف، والديوان العظيم من دواوين السنة والعلم والأثر! فمكث مغمى عليه أربعة أيام، ثم أفاق، فقال له أصحابه: كيف أنت يا أبا عبد الله -أي: كيف حالك وكيف جسمك وجسدك وما تحس-؟
فقال رحمه الله: إني أرى الموت -يعني: ما أظن إلا أني ميت- إلا إنكم ستعاينون من رحمة الله ما لم يخطر لكم على بال.
فالظن بالله جل جلاله حسن، نسأل الله العظيم رب العرش الكريم بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا.
إذا وفقك الله جل جلاله فأتم عليك حجك، ويسر لك طاعته -جل جلاله- فاحمده واشكره؛ فإن ذلك من بشائر القبول، وإذا وقفت مودعاً للبيت فقف خاشعاً متخشعاً متضرعاً وجلاً، قل: يا رب! إن عفوت عني فيفضلك، وإن لم تعف عني فاعف عني قبل أن أفارق مكاني. واسأله واسترحمه واستعطفه سبحانه وتعالى.
نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن ييسر لنا حج بيته وعمرته، وأن يجعل أقوالنا وأعمالنا خالصة لوجهه، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبيه وآله وصحبه أجمعين.
الجواب: بسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد:
فإن الدعوة سهم من سهام المؤمنين، الدعوة إذا استجيبت لا ترد، والدعوة إذا استجابها الله فإنها ماضية نافذة؛ ولكن من الذي يوفق للدعوة المستجابة، ومن حق المسلم على المسلم أن يتألم بآلامه، وأن يحزن لأحزانه وأشجانه، فكلما سمع بأخيه المسلم كربة أو نكبة تألم لها وكأنها به.
كان بعض العلماء إذا سمع بضر بالمسلمين تألم وسقم جسده حتى يعاد في بيته؛ وهذا من كمال الإيمان الذي أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (مثل المسلمين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد) فيتألم المسلم لضعفاء المسلمين ولنسائهم وأطفالهم، وشبابهم وشيبهم، وصغارهم وكبارهم، وكأن البلايا نزلت به، فإذا بلغ هذه المرتبة فليحمد الله جل جلاله أن رزقه الإيمان والشعور، فيقدم لإخوانه المسلمين، وأقل ما يقدمه -وليس بقليل-: أن يدعو لهم بظهر الغيب.
سل الله أن يفرج كرباتهم، سله في مواطن الإجابة ومواطن الدعاء، وأنت ساجد بين يديه، وفي الأسحار، وبين الأذان والإقامة... ونحو ذلك من المواضع المستجابة.
نسأل الله العظيم رب العرش الكريم بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يفرج هم المهمومين، وأن ينفس كرب المكروبين، وأن يفك الضيق عن المأسورين، إنه ولي ذلك والقادر عليه..والله تعالى أعلم.
الجواب: من ملك الزاد وجب عليه الحج إلى بيت الله سبحانه وتعالى، ومن لم يقم بفريضة الله فقد عصى الله جل جلاله، فإن كانت الأموال هي التي تمنعه فإن الله قد يمحق بركة ماله، وإن كانت الأبناء والبنات والزوجات فإن الله يشقيه ببناته وأبنائه وزوجاته.
لا خير في الدنيا إذا صرفت عن الله سبحانه وتعالى: إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ * رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالأَعْنَاقِ [ص:32-33] وكانت عزيزةً عليه -عليه الصلاة والسلام- فالدنيا إذا ألهت عن ذكر الله أشقت صاحبها نسأل الله السلامة والعافية!
فإذا كان الإنسان يتخلف عن الحج بدون عذر فليعلم أن الله فتن قلبه، وأن الله كره انبعاثه فثبطه: وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ [التوبة:46].
لا يقصر في أوامر الله إلا من كان محروماً من كمال الإيمان، فالإيمان هو الذي يبعثك على طاعة أمر الله، والاستجابة لما يحييك إذا دعاك الله، والإيمان هو الذي يكفك ويحجزك ويخوفك من حدود الله جل جلاله، فإذا كان الله قد أمر عبده بالأمر فامتنع وقصر وهو يرفل في نعمة الله سبحانه وتعالى فليبك على نفسه، فإنه ذنب ومعصية وسيئة وخطيئة، وسيسيئه الله بهذا الذنب إما في الدنيا وإما في الآخرة، وإما أن يجمع له بين إساءة الدنيا والآخرة.
من تخلف عن الحج فقد عصى الله جل جلاله، وسيرى عاقبة هذه المعصية.
كان السلف الصالح رحمة الله عليهم يعرفون التقصير في الطاعات والواجبات حتى في خلق الدابة والزوجة.
من عصى الله جل جلاله فترك أمره، واقترف نهيه وزجره؛ فإن الله يعذبه بما فعل.
قال العلماء: سميت السيئة سيئة لأنها تسيء بصاحبها إما في الدنيا وإما في الآخرة، وإما أن يجمع الله له بين إساءة الدنيا والآخرة.. نسأل الله السلامة والعافية! فمثل هذا وإن ارتاح قليلاً فسيتعب كثيراً، وإن لم يتداركه الله بتوبة نصوح، والندم عما سلف وكان، ويستغفر الله مما بدر منه، ويبادر إلى حج بيت الله الحرام، ويحمد الله جل جلاله أن يسر له السبيل، فليؤذن نفسه بعقوبة من الله سبحانه وتعالى: إما عاجلة، وإما آجلة، وإما عاجلة وآجلة.
نسأل الله العظيم ألا يبتلينا بمثل هذا، إنه ولي ذلك والقادر عليه.. والله تعالى أعلم.
الجواب: هذه المسألة فيها تفصيل: إما أن يكون الحج واجباً وفرضاً لازماً فلا طاعة للوالدين، تطيع الله جل جلاله، ونص العلماء -رحمهم الله- على أن الحج المفروض لا يشترط فيه إذن الوالدين.
أما إذا كان الحج نافلة فإنك لا تخرج إلا بإذن والديك، فإن منعك الوالدان -خاصة إذا كان لهما مبرر، أو يخافان عليك، وكان لخوفهما مبرر: كضعف جسد الإنسان، أو كون الإنسان لا يحسن التصرف في السفر- فهذا من حق الوالدين، وبرك وجلوسك عند والديك تصيب به الأجران.
قال العلماء: إذا منع الوالدان فقد بر والبر فرض، ولو خرج ترك الفرض لسنة ونافلة. فيجلس مع والديه ويكتب الله أجر الحج كاملاً بالنية، قال صلى الله عليه وسلم: (إن بالمدينة رجالاً ما سلكتم شعباً ولا قطعتم وادياً إلا كانوا معكم، إلا شركوكم الأجر. قالوا: يا رسول الله! كيف وهم في المدينة؟ قال: حبسهم العذر).
قال العلماء: العذر عذران:
عذر حسي يكون في الإنسان من مرض ونحو ذلك مما سن الله عز وجل.
وعذر حكمي: وهو العذر الشرعي، أن يمنعك عذر شرعي، فإذا امتنعت لبر الوالدين فهذا عذر شرعي، يكتب لك الأجر، وتبلغ بالنية ما لم تبلغه بعملك.. والله تعالى أعلم.
أولاً: احرص بارك الله فيك على أمر هو قاعدة كل خير، وأساس كل بر في العبادات، وهو: التأسي بسنة النبي صلى الله عليه وسلم، فما من موقف وقف فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم وحرص فيه على الدعاء إلا كنت كذلك حريصاً على الدعاء، وتجتهد -رحمك الله- في التأسي به صلوات الله وسلامه عليه: وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [الأعراف:158]كتب الله الرحمة والهداية والخير والبر لمن سار على نهجه والتزم بسنته صلوات الله وسلامه عليه.
لا تستحدث من عندك أوقاتاً ولا مناسبات، ولا تستحسن شيئاً على شيء، إنما تكون خطواتك وآثارك وسيرتك وسريرتك على وفق السنة.
قال بعض السلف: إن استطعت ألا تحك رأسك إلا بأثر فافعل. وإن استطعت ألا تفعل أي شيء إلا بسنة فافعله، وكانوا إذا أرادوا أن يثنوا على الرجل قالوا: هو صاحب سنة. فإذا أردت مواطن الدعاء فاجتهد في التأسي بالنبي صلى الله عليه وسلم.
دعا عليه الصلاة والسلام وهو يطوف بالبيت، ودعا لما رقى على الصفا، وهذه السنة يضيعها كثير إلا من رحم الله، لما رقى على الصفا كبر الله وهلله ووحده سبحانه وتعالى.
الله أكبر! في هذا المقام الذي وقف عليه -عليه الصلاة والسلام- في أول دعوته الجهرية، قال لهم: (قولوا لا إله إلا الله) فقال له أبو لهب : تباً لك.. ألهذا جمعتنا؟! عمه وقريبه وأمام الناس يسفهه ويهينه صلوات الله وسلامه عليه وهو الكريم، وإذا به في حجة الوداع يرده الله إلى نفس المكان ويوقفه صلوات الله وسلامه عليه ومعه مائة ألف من أمته وأصحابه صلوات الله وسلامه عليه، كلهم يفديه بنفسه وروحه خلفاً من الله وعوضاً.
فلما رقى قال: (لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، لا إله إلا الله نصر عبده، وأعز جنده، وصدق وعده) فهلله سبحانه وتعالى ثم شرع يدعو، ثم رد ثانية فهلل وكبر ثم دعا، ثم هلل وكبر... (ثلاث مرات).
هذه السنة يضيعها الكثير.. كنا إذا حججنا مع بعض مشايخنا رحمة الله عليهم لربما في العمرة يمكث الساعتين إلى ثلاث ساعات، أما الآن فتجد المعتمر يقف في هذا الموقف قد تكون لحظات يسيرة، قد تبلغ الدقائق بل ثواني يريد أن يعجل حتى ينتهي من عمرته، هذا الموطن موطن دعاء، وموطن مكروبة مفجوعة منكوبة فرج الله كربتها ونكبتها، فهذا موطن دعاء فاجتهدوا فيه.
وإذا كان يوم عرفة ثبت في الحديث عنه عليه الصلاة والسلام أنه ذهب إلى الموقف، فإذا صليت مع الإمام فليس بوقت نوم ولا راحة، فاجتهد بذكر الله وتوحيده والثناء عليه، ثم اجتهد في الدعاء والمسألة والإلحاح على الله عز وجل، وكلما دعوته استلذ بالكلمات التي تخرج منك، ادعه بقلب حاضر.
كذلك في المشعر الحرام وقف صلى الله عليه وسلم ودعا وتضرع حتى أسفر، ثم دفع قبل الإسفار؛ مخالفة للمشركين كما ثبت في الحديث الصحيح، ثم لما كان اليوم الثاني -وهو اليوم الحادي عشر- رمى الجمرة الصغرى، ثم أخذ ذات اليسار ورفع يديه ودعا دعاءً طويلاً، ثم مضى إلى الجمرة الوسطى ورماها، ثم أخذ ذات اليسار، ثم دعا دعاءً طويلاً، ثم مضى ورمى جمرة العقبة ولم يقف عندها، فما ثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه دعا عند جمرة العقبة، لا في يوم العيد ولا في أيام التشريق.
فهذه المواطن هي أفضل المواطن، يقول العلماء: من تحرى السنة في أي طاعة وذكر كان له أجران: أجر الدعاء، وأجر التأسي. فأنت إذا وقفت هذه المواقف تتأسى بالنبي صلى الله عليه وسلم، وتفعل كما فعل؛ تثاب بثوابين:
الثواب الأول: ثواب العمل.
والثاني: ثواب الاقتداء واتباع النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا يجعل عبادتك أفضل وأكمل؛ ولذلك بعض العلماء يرون -وهو مذهب الجمهور- أن المضاعفة تختص بالحرم، وإن كان الأقوى أن المضاعفة تشمل الحرم كله لأحاديث منها حديث الحديبية، وتسمية الله لمكة كلها بالمسجد الحرام.
الشاهد: أنه على القول الذي يقول إن مضاعفة مائة ألف صلاة تختص بالمسجد نفسه يقولون: في يوم الثامن -الذي هو يوم التروية- صلاة الحاج في منى الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر أفضل من صلاته بمكة؛ لأنه إذا صلاها بمنى نال فضل التأسي بالنبي صلى الله عليه وسلم، فهي فضيلة الاتباع، وحينئذ يكون التأسي بالنبي صلى الله عليه وسلم فيه الأجران، ولذلك قال العلماء: ما ورد من القربة اتباعاً أفضل مما لا يكون فيه اتباع كأن يكون مندرجاً تحت أصل عام، إلا إذا بلغ حد البدعة.
فالمقصود: أن تتأسى بالنبي صلى الله عليه وسلم، وتجتهد في السؤال والمسألة والإلحاح على الله، خاصة في المواطن التي ألح فيها صلوات الله وسلامه عليه؛ لأنه لم يختر هذا الموقف للإلحاح إلا وهو يعلم أنه موطن إلحاح، ولذلك كان أعلم الناس بربه، وكذلك أتقاهم وأخشاهم لربه صلوات الله وسلامه عليه.
والله تعالى أعلم.
الجواب: الرمي عن المرأة بدون وجود عذر لا يجوز ولا يشرع، ولذلك إذا كانت المرأة قادرة على الرمي ورمى عنها زوجها أو محرمها أو أي شخص فإن هذا الرمي وجوده وعدمه على حد سواء، فلا يصح التوكيل على هذا الوجه الذي خلا فيه المكلف من العذر، وحينئذٍ يلزمها أن تعيد الرمي إذا كان الوقت يمكن فيه التدارك، وإذا كان لا يمكن فيه التدارك ففيه ما في واجبات الحج.
والله تعالى أعلم.
الجواب: الحج جمع الله فيه المؤمنين والمؤمنات؛ حتى نحس أننا مسلمون ومؤمنون؛ وأن الله قد ألف بين أرواحنا وجمع بين قلوبنا، فيكمل بعضنا بعضاً.
كم أصلح الله من أحوال أقوام في هذا الحج!، وكم استقامت قلوب لله جل جلاله بالنصائح الغالية والتوجيهات والمواعظ الهادفة في حج بيته الحرام!، غير الله قلوباً وقوالب فأذعنت واستسلمت وصلحت واستقامت بالذكر.. بالتواصي بالحق.. بالأمر بما أمر الله والنهي عما حرم الله جل جلاله.
فتحرص -أخي في الله- أن تؤدي لإخوانك حقهم عليك: النصيحة، وأعظم ما تكون النصيحة في أصول الدين، فإذا رأيت منه أخطاءً في عقيدته سددته ووفقته وقومته، ودللته على أصل الأصول، وعلى الأساس الذي لا يمكن أن يقبل الله به عمل عامل حتى يصححه، ويقيمه على المنهج السوي والطريق الرضي، وتأخذ بحجزه عن النار، وتذكره بحق الله جل جلاله عليه.
تسمع منه كلمة فيها استغاثة بغير الله أو استجارة بغير الله تدله على توحيد الله، وإسلام القلب لله، وأنه ما جاء لهذا المكان إلا لكي يقيم حق لا إله إلا الله، فتبين له هذا الأصل وتقرره.
واعلم رحمك الله أنك لو رأيت منه هذا الذنب العظيم وسكت تعلق بك بين يدي الله جل جلاله، وقال: يا رب! رآني على هذا المنكر، ورآني على هذا الخلل والزلل ولم يأمرني بأمرك ولم ينهني عن نهيك.
كذلك إذا رأيت منه الأخطاء في أقواله وأفعاله، سواء كان رجلاً أو كانت امرأة هتكت حجابها واعتدت حدود ربها؛ ذكرتها بالله: يا أمة الله! اتقي الله.. يا أمة الله! افعلي.. يا أمة الله! اتركي (وإن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله ما يلقي لها بالاً يكتب الله له بها رضاه إلى يوم يلقاه) ربما تمر على عاصٍ منتهك لحدود الله، فيتمعر قلبك لله، فتقول من كل قلبك: اتق الله؛ فيكتب الله لك بهذه الكلمة رضاً لا سخط بعده أبداً.
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو قاعدة الخير وأساس البر؛ ولذلك عظم الله به الأجور، ورفع به الذكر، وما رفع قدر العلماء إلا لما قاموا بدينه، ما رفعهم بأحسابهم ولا أنسابهم ولا ألوانهم؛ ولكن رفعهم لما رفعوا دينه وأقاموا حجته على عباده سبحانه وتعالى.
وجعلهم ورثة للأنبياء، وشرفهم وكرمهم بالأمر بأمره والنهي عن نهيه، فمن أراد أن ينال أو يبلغ مبلغ مرضاة الله فليتشبه بالعلماء العاملين الصديقين، الذين يأمرون بأمر الله وينهون عن حدود الله ومحارم الله، فتأمر بطاعة الله وتنهى عن معصية الله، ولا عليك، يقبل من يقبل ويرد من يرد، فما كلفت بنتائج عملك، إنما كلفت أن تقيم بحق الله جل جلاله.
نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجعلنا هداة مهتدين، غير ضالين ولا مضلين.
والله تعالى أعلم.
الجواب: بسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد:
فإن التوبة بابها مفتوح، الله جل جلاله يفرح بتوبة التائبين، ويقيل بحلمه وإحسانه عثرات النادمين، ما صد أحداً عن بابه، ولا حرم أحداً رجاه في مغفرته وعفوه وإحسانه، الله جل جلاله لا يهلك عليه إلا هالك، يفرح بتوبتك أشد من فرحك بالتوبة، ولو علمت مقدار حبه سبحانه لتوبتك وإنابتك لكنت أعجل الناس بالتوبة وأسرعهم إليها، ولو تكررت منك الذنوب، وكثرت منك الإساءة والعيوب؛ فإن الله جل جلاله رحيم لطيف كريم، فأبشر بخير، ولا تقنط من رحمة الله، ولا تيأس من روح الله، فإنه لا يهلك على الله إلا هالك.
قتل رجل مائة نفس.. آخرها عابد صالح قانت مقبل على ربه، فقتل هذا العابدَ تمام المائة وما قنط من رحمة الله جل جلاله، فسأل عن أعلم أهل زمانه؛ فدل على أعلمهم وسأل عن التوبة، فقال له: وما الذي يمنعك منها؟! ولكن قومك قوم سوء، وقوم فلان قوم صالحون، انطلق إلى قرية كذا وكذا.. فخرج إلى قرية الصالحين تائباً نادماً مقبلاً على الله جل جلاله، فأدركه الموت بعد هذه الجرائم الفظيعة، والدماء التي سفكها، والمحارم التي أصابها، ففرح الله بتوبته، وأجل الله منه الخطوات وهو مقبل عليه سبحانه وتعالى.
إن تقربت منه شبراً تقرب منك ذراعاً، وإن تقربت منه ذارعاً تقرب منك باعاً سبحانه، وأنت أفقر ما تكون إليه، وهو أغنى ما يكون عنك. (يا عبادي: إنكم لن تبلغوا نفعي فتنفعوني، ولن تبلغوا ضري فتضروني) فالله -سبحانه وتعالى- لا تنفعه طاعة المطيعين، ولا تضره معصية العاصين، تبارك وهو رب العالمين.
فلا تيأس من رحمته، ولا تقنط من روحه، ولو تكرر الذنب منك مرات وكرات ولو ملايين المرات، فلا تقنط من رحمة الله، وأغظ عدو الله إبليس، فإن الله إذا رآك كلما افتتنت تبت فرح بتوبتك؛ لأنه يحب التوابين، و(التوابون) هذه الصيغة في لغة العرب تدل على أنهم أكثروا التوبة، وأكثروا الإنابة إلى الله سبحانه وتعالى.
فأبشر بخير ما دمت ترجو رحمة الله سبحانه وتعالى، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم -كما في الصحيح-: (من تاب قبل أن تطلع الشمس من مغربها تاب الله عليه) .
نسأل الله العظيم أن يتوب علينا وعليكم في التائبين، وأن يرحمنا وإياكم وهو أرحم الراحمين.
والله تعالى أعلم.
الجواب: الدين يمنع وجوب الحج، الأصل في ذلك: أن المديون إذا لم يجد سداد دينه فإنه عاجز عن بلوغ البيت؛ لأن حقوق العباد محيطة به، وهو مطالب بسدادها، ولا يؤمر بحجه إلا بعد أن يملك النفقة والزاد، لقوله سبحانه وتعالى: مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا [آل عمران:97] فالمديون الذي لا يجد سداد دينه لا يستطيع إلى البيت سبيلاً، لأنه ذمته مشغولة بحقوق العباد، ولذلك أجمع العلماء رحمهم الله على أنه ينبغي عليه أن يبدأ بسداد دينه، ولا يجب عليه الحج ما دام أنه غير قادر من ناحيته المادية.
أما إذا كان الدين أقساطاً، فقال بعض العلماء: الدين المقسط الذي يكون على أنجم شهرية أو سنوية، إذا أدى قسطه لشهر حجه فإنه لا حرج عليه أن يحج، وهكذا إذا كان عليه دين، واستأذن أصحاب الديون فأذنوا له؛ فإنه لا حرج عليه أن يحج.
والله تعالى أعلم.
الجواب: هذه المسألة لم تكن موجودة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ولذلك يعتبرها العلماء من مسائل النوازل، وقد نزلت في العصور المتأخرة، فبعد المائة السابعة أو الثامنة وجد الدواء، وكان عند العطارين يوجد ما يقطع الدم عن المرأة ويؤخر الحيض عنها، فقال بعض العلماء: إنها إذا شربت الدواء الذي يقطع حيضها ويؤخر عادتها فعبادتها صحيحة. وهذا هو القول الصحيح؛ لأن الشرع علق الحكم على وجود الدم، فإن وجد الدم تعلق به المنع، وإن انتفى فإنها لا تعتبر ممنوعة من عبادتها؛ لأن الأصل فيها أنها مكلفة.
وبناءً على ذلك قالوا: إنها إذا شربته وصامت صح صيامها، ولو شربته وحجت وطافت صح طوافها وحجها؛ لأن الله علق الحكم بوجود الدم.
والله تعالى أعلم.
الجواب: كتاب الله والسنة الصحيحة فيهما الغنى والكفاية، وما حرم كثير من الناس من حصول الخير على أتم وجوهه وأكملها إلا لما حرموا كتاب الله جل جلاله، فتجد الإنسان إذا أراد موعظة يبحث عن الأشرطة والكتيبات، وموعظته في كتاب الله سبحانه وتعالى، يترك خير الواعظين جل جلاله ورب العالمين، الذي إذا وعظ بلغته موعظته، فلربما الآية الواحدة تقلب الإنسان من الشقاء إلى السعادة، فكم من كلمات في كتاب الله لو استحضرها الإنسان لجعلها نصب عينيه إلى لقاء الله سبحانه وتعالى.
ما ضر الكثير -حتى من الدعاة والهداة- إلا إقبالنا على كلام الناس أكثر من إقبالنا على الله، ولذلك كان السلف يصحبون هذين الكتابين وهذين النورين، صحبوا كتاب الله جل جلاله بقيام الليل بالقرآن، وبكاء الأسحار بآياته وتأثرهم بعظاته، حتى بلغ كتاب الله منهم المبلغ، فتقرحت قلوبهم، وأقبلوا على الله ربهم يدعونه ليلاً ونهاراً، ويخبتون إليه سراً وجهاراً أن يرزقهم جنة ويحجب عنهم ناراً.
كانوا أئمة في الخير بهذا الكتاب، اصحب كتاب ربك.. واصحب مواعظه معك.. وانظر إلى أثر هذه المواعظ وعظيم انتفاعك بها.
قرأنا القرآن وما حضرت قلوبنا عند قراءته، وسمعناها وما حضرت قلوبنا عند سماعه، والله تعالى يقول: وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ [القمر:17] هل من مدكر؟ هل من مشتر لرحمة الله فيستمع لهذا القرآن فيرحم، كما قال تعالى: وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [الأعراف:204]؟.
الاستماع لكتاب الله وكثرة التلاوة والتدبر هي التي تعين على كل خير، وما نال السلف الصالح -رحمة الله عليهم- الاستقامة على أتم وجوهها وأكملها، فشرفهم الله أئمة لهذه الأمة الصالحة إلا بكتاب الله جل جلاله، كان الرجل يختم على الأقل كل شهر مرة، ومنهم من لا تمر عليه عشر ليالٍ إلا وقد ختم كتاب الله، ومنهم -وهو من أكملهم وأفضلهم، الذي أصاب السنة- من يختم كل ثلاث ليالٍ.
يعرض كتاب الله -أوامره ونواهيه، ووعده ووعيده، وتخويفه وتهديده، وبشارته ونذارته- في كل ثلاثٍ مرة، يقف لكي يعرض قلبه وقالبه وأقواله وأعماله على هذا الكتاب.
فأوصيك أن تصحب كتاب الله معك فتتلوه إن كنت حافظاً، وتسمعه إذا لم تكن حافظاً، وتقرؤه ولو بالنظر؛ وسترى الخير الكثير من الله سبحانه وتعالى؛ فإنه كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ [هود:1] ففيه الخير كله.
كذلك تصحب سنة النبي صلى الله عليه وسلم الصحيحة، وتعلم ما الذي أمرك الله به فتفعله، وما الذي نهاك عنه فتتركه، وتسأل دائماً عن هديه وسمته ودله، فإن العلم بالسنة رحمة، ولذلك أقرب الناس لرحمة الله جل جلاله علماء السنة، العاملون بها المهتدون بهديها، الداعون إليها، تجدهم في رحمة، حتى إن وجوههم مشرقة في الدنيا والآخرة، قال صلى الله عليه وسلم: (نضر الله امرأً سمع مقالتي فحفظها ووعاها، وأداها كما سمعها، فرب مبلغ أوعى من سامع) (نضر الله): من النضارة، وهي الحسن والوضاءة والجمال.
قال العلماء: إن هذا الحديث يدل على أن الله سبحانه وتعالى يهب لأهل الحديث النور في وجوههم. قال بعض العلماء: (نضر الله) أي: في الآخرة، فيحشرون يوم القيامة ووجوههم مشرقة من نور السنة جعلنا الله وإياكم من أهلها.
وقال بعض العلماء: الحديث عام -وهو الصحيح- (فنضر الله) أي: في الدنيا والآخرة، ولذلك قل أن تجد عالماً عاملاً بالسنة إلا وجدت وجهه كالشمس والقمر بنور السنة، ولذلك عرف أهل السنة بهذا النور في وجوههم: سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ [الفتح:29] من أثر التأسي بالنبي صلى الله عليه وسلم والاقتداء به، ولذلك يحرص الإنسان على هذين النورين أن يصحبهما.
نسأل الله العظيم أن يرزقنا حبهما، والعمل بهما، والائتساء بهما، حتى يكون القرآن شفيعاً لنا في موقفنا بين يدي ربنا، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
والله تعالى أعلم.
الجواب: أوصي هذا الزوج وكل زوج أن يتقي الله جل جلاله، أوصي الزوج أن يتقي الله في زوجته، والزوجة أن تتقي الله في زوجها، وقد ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إني أحرج حق الضعيفين: المرأة، واليتيم) قرنها باليتيم؛ لأنها إذا اشتكت قد لا تجد من تشتكي إليه إلا الله جل جلاله، ويتخلى عنها أبوها وأخوها وابنها وقرابتها، فلا تجد إلا الله: وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا [النساء:45].
ظلم النساء لا خير فيه، ظلمهن بالأقوال، وظلمهن بالأفعال، وظلمهن في الحقوق لا خير فيه، ولذلك ذكر الله المرأة وهي تشتكي إليه، فأخبر أنه سمع شكواها من فوق سبع سماوات، لما جادلت رسول الله صلى الله عليه وسلم واشتكت إليه، وبثت إليه حزنها، وتقول: إلى الله أشتكي ثعلبة . فصعدت هذه الشكوى إلى الله جل جلاله منتهى كل شكوى، ولذلك بالتجربة: قل أن تجد إنساناً يظلم أزواجه ويسيء إليهن إلا عاقبه الله جل جلاله؛ ورأيت في الدنيا عاجل ما يكون من حاله، إلا أن يتقي الله ويغير ما به.
ولذلك: ينبغي على المسلم أن يتقي الله، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أوصى بالنساء وهو في حجة الوداع، وجعل وصية النساء في هذا اليوم المشهود العظيم، قال العلماء: لكي ينص ويبين على حقوقهن، وأنه ينبغي الوفاء بها وردها إليهن؛ لضعفهن في الغالب؛ وعجزهن عن المطالبة حتى عند الخصومة.
المرأة إذا ظلمتها أو ظلمت وأرادت أن تخاصمك أو تقف في وجهك لا تستطيع، لربما تقول الكلمة والكلمتين ويغلبها البكاء، ولربما تقول الكلمة والكلمتين فيغلبها الخوف والرهبة.. فاتق الله جل جلاله! أمانة في عنقك، إما إلى جنة وإما إلى نار، أحسنوا إليهن، ولذلك ذكر النبي صلى الله عليه وسلم من ضرب النساء وقال: (ما أولئك بخياركم) .
شاع عند كثير من الناس -إلا من رحم الله- في هذا الزمان التسلط على النساء، بالأذية لهن، والقهر لهن، والتضييق عليهن دون خوف من الله جل جلاله، ودون استشعار لنقمة الله العاجلة والآجلة، فالله الله! في النساء، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أوصى بهن خيراً، صحيح أنهن ضعيفات وقد يكون منهن التقصير، ويكون منك كما يكون منها، ولكن الإنسان يغفر السيئة بالحسنة، ومن منا كمل؟! ولعلك ترحم هذه المسكينة فيرحمك الله جل جلاله.
ووالله لقد عهدت علماء وفضلاء وأتقياء صلحاء تنازلوا عن كثير من الحقوق للنساء؛ فوجدت أحوالهم على خير ما يكون عليه الحال، لأن من رحم يرحمه الله، ومن وسع على أقرب الناس إليه وسع الله عليه في الدنيا والآخرة.
هذه وصية مهمة: التوسيع على الأهل، وإذا دخلت إلى بيتك دخلت حليماً رحيماً رفيقاً رقيقاً، خاصة الشباب الملتزمون بدين الله، فإنهم قدوة، ولربما يكون هو وحده من بين الأخوة كلهم ملتزماً بدين الله، والبقية على فجور أو على عصيان، فينظرون إليه أنه قدوة.
فالله الله! في أذيتهن والتضييق عليهن، خاصة إذا رأيتها أمة تخاف الله جل جلاله.
احمد الله سبحانه وتعالى إذا رزقك امرأة صالحة، اقدرها قدرها، فكم من نساء يتقلبن في الفتن وأهلكن أزواجهن وضيقن عليهم في الفتنة الحرام، وهذه الولية المؤمنة الأمة الصالحة اشكر منها صلاحها، في هذا الزمان تجدها بين أربع أركان بيتها، لا تستطيع أن تخرج، لا تطالبك بخروج ولا تبرج ولا فتنة، ولا تطالبك بشيء يفتنها عن دينها؛ فاشكر منها ذلك، ولو رأيت منها زلة فليتسع صدرك، ولتكن ذلك الرجل، لأن الله فضلك بالصبر والحلم والرحمة تسعها بحنانك، وعطفك وإحسانك.
كان بعض الأخيار -أعرفه- تؤذيه زوجته، فكنت أقول له: لم تصبر؟!
فقال: والله إن أباها قد أكرمني، وإنها رضيت بي زوجاً، وإني أرى فيها الخير، وقد أجللت هذه الثلاث، وأرجو من الله ألا أردها إلى بيتها يوماً من الأيام تشتكي مني أو أشتكي منها.
الوفي كريم، ولعلك أن تصبر اليوم فيخرج الله منها ذرية صالحة.. فاصبر!
وقد ذكر عن ابن أبي زيد القيرواني ، ذلك الإمام الذي قال عنه النسائي : كان ثقة، وكانوا يقولون له: مالك الأصغر في صلاحه وديانته، كانت امرأته تسبه حتى أمام طلابه وأمام خاصته، ومع ذلك يصبر. قالوا له: لم تصبر؟! قال: إن الله سلطها علي بالذنب، وأخشى أنني لو طلقتها أبدلني الله شراً منها.
فلذلك ما رأيت منها من هذه الإساءة فبذنبك، وكن حليماً رحيماً؛ فإن الله يرحمك. أنت قادر أن تطلق وأن تنتقم وتأخذ حقك بالقوة؛ ولكن تحلم فيحلم الله عليك، وترحم فيرحمك الله.
وصية: أن نتقي الله، وكذلك يوصي الشباب الأخيار بعضهم بعضاً بالصالحات، النساء الصالحات في هذا الزمان لهن فضل كبير، والله! إن المرأة الصالحة في هذا الزمان درة ثمينة، ينبغي أن نعينهن على الالتزام بالتوسعة عليهن والرحمة بهن والإحسان إليهن.
نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يوفقنا لذلك، وأن يرحمنا برحمته.
والله تعالى أعلم.
أما بالنسبة للسؤال: فإن الزوج ظالم، والمال مال المرأة، حقها وعناؤها وكدها وشقاؤها هو حق من حقوقها، ليس من حقه أن يطالبها بهذا الراتب، وليس من حقه أن ينتزعه منها، ولقد ظلم وفجر، وبلغ من ظلمه وفجوره أن يحرمها من بر والديها -نسأل الله السلامة والعافية-! فقد ظلمها في مالها، ولا يحل له من مالها إلا ما طابت به نفسها، أما إذا لم تطب نفسها بشيء فإياك إياك! ومالها وحقها.
ولذلك: يعتبر ظالماً من وجهين:
لأخذه من مالها بدون حق، ويلزمه في التوبة أن يرد المال إليها كاملاً، وأن يتوب إلى الله مما بدر منه.
وأما الأمر الثاني: فإنه يستغفر الله من العقوق الذي أمرها به.
وانظروا إلى الشقاء! الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ [النساء:37] نسأل الله السلامة والعافية، فقد يكون عاقاً ويأمر زوجته بالعقوق.
وأنا أطيل في هذه المسألة وأركز عليها -ولو تأخرنا- والله لأهميتها، فكم من بيوت هدمت، ولقد سمعت من بعض الشكاوى حتى من الصالحات يشتكين الصالحين، بعض الشباب فيه خير، وقد يلتزم على ذكر وعلى طاعة وبر، ولكنه يسيء التعامل، وقد تجد المرأة عنده السنة والسنتين لم يدخل السرور عليها يوماً من الأيام.
يأتي لكي يدقق في كل صغيرة وكبيرة، ناسياً فضلها واستقامتها، المرأة بشر.. المرأة ضعيفة.. بين هذه الجدران الأربعة، تصور لو أنك سجنت بين هذه الأربعة الجدران يوماً كاملاً لضاقت عليك الدنيا، أنت تخرج هنا وهناك تبدد همومك وأحزانك، ولكن هذه الضعيفة لمن تشتكي غير الله جل جلاله؟!
فلذلك: الرحمة! وينبغي على الأخيار أن يوسعوا، وأن يكونوا مثلما كان النبي صلى الله عليه وسلم، كان يقف على قدميه يوم العيد لـعائشة -نبي الأمة، وإمام الرحمة- من أجل أن تنظر إلى الحبشة وهم يلعبون بالسلاح، فيقول: هل فرغت؟ تقول: لا بعد. يقول: هل فرغت؟ لا بعد. هل قال لها: أنا نبي الأمة.. أقف لك؟!
لو أن شاباً خيراً اليوم قالت له امرأته: أريد أن تخرج بي لكي أنفس عن نفسي. لأقام الدنيا وأقعدها، أنت تتشبهين بالفاجرات! أنت كذا وأنت كذا!
ونبي الأمة يقف على قدميه صلوات الله وسلامه عليه! يقود الأمة والجحافل في الجيوش والجهاد، وإذا دخل إلى بيته دخل حليماً رحيماً موطأ الكنف صلوات الله وسلامه عليه، فيأخذ بمجامع تلك القلوب ببره وإحسانه، فيأخذ القصعة من أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها فيقسم عليها أن تشرب قبل أن يشرب.. من يفعل هذا الفعل؟! تشرب قبل شربه، ثم إذا شربت وضع فمه حيث وضعت فمها.. من يفعل هذه الأفعال الكريمة غير الصالحين؟ وإذا لم يفعلها الصالحون فمن يفعلها؟
فالله.. الله! في حقوق النساء! في التوسعة عليهن! وإدخال السرور عليهن!
نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجعلنا من الخيار للأزواج.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
الجواب: يا معاشر المؤمنات! يا معاشر الصالحات القانتات! إن الله وعظكن فأحسن وعظكن، وأدبكن فأحسن تأديبكن، وأثنى على الخيرات الدينات، فقال سبحانه وتعالى فيما أنزل من آيات: فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ [النساء:34].
يا أمة الله: اتقي الله جل جلاله في جنانك، فاعمريه بالإيمان والعبودية للرحمن، فإن الله رضي لك ذلك، والبسي لباس الحياء والحشمة والعفة، وكوني على الخير والصفاء يستقم لك أمر الدنيا والآخرة، أصلحي لله السريرة في كل ما تقولين.. وكل ما تفعلين.. وكل ما تذرين وتتركين.. تستوجبي رحمة الله وهو أرحم الراحمين.
احرصي على الخير حيثما كنت، وعلى طاعة ربك حيثما نزلت، فإن كنت كذلك بارك الله لك في الأيام والليالي، وقرت عينك بالباري.
أسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يوفقنا لمرضاته، وأن يبلغنا منازل الرحمة في جناته.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
وصلى الله وسلم وبارك على نبيه وآله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر