أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102] ، يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1] ، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71] .
وبعد:
فإنا إن شاء الله على مشارف أفضل عشرة أيام في العام، على مشارف الأيام المعلومات التي ذكرها الله في كتابه، حيث قال: وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ [الحج:28] ، والأيام المعلومات عند جماهير أهل العلم: هي العشر الأول من ذي الحجة، وهي أفضل أيام العام على الإطلاق، وقد أقسم الله سبحانه وتعالى بها في قوله: وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ [الفجر:1-2] .
فمن أهل العلم من خص العمل الصالح بالذكر، فقال: المراد بالعمل الصالح ذكر الله عز وجل؛ وذلك لأن العمل الصالح أفضل من الجهاد، والجهاد من الأعمال الصالحة، فلو أطلقنا العمل الصالح لدخل فيه الجهاد، ولكن أريد به هنا صورة مخصوصة، ألا وهي الذكر، وقد وضحت هذه الصورة أفعال صحابة النبي الأمين عليهم رضوان الله، لقد أخرج البخاري معلقاً: أن ابن عمر وأبا هريرة رضي الله عنهما كانا يخرجان إلى السوق في هذه الأيام العشر فيكبران ويكبر الناس بتكبيرهما، أخرج البخاري معلقاً عن ابن عمر وأبي هريرة رضي الله عنهما: (أنهما كانا يخرجان في هذه الأيام العشر إلى السوق يذكران الله عز وجل ويكبران، فيكبر الناس بتكبيرهما).
فلا جرم -إذاً- أن ذكر الله فيه منتهى النفع؛ إذ العبادات شرعت من أجله، والأنبياء ما رخص لهم في تركه بحال من الأحوال، زكريا عليه الصلاة والسلام لما منع من الكلام، قال الله له: آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا [آل عمران:41]، أي: أنك لا تستطيع الكلام ثلاثة أيام، ومع عدم استطاعة الكلام لا تمتنع من الذكر، بل قال تعالى: وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ [آل عمران:41]، ولم تسقط الصلوات التي هي محل ذكر الله في أشد الأوقات؛ لم تسقط عن أي مريض، ولم تسقط عن أي مسافر، ولم تسقط عن أي مقاتل، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (صلّ قائماً، فإن لم تستطع فقاعداً، فإن لم تستطع، فعلى جنب)، وفي بعض الروايات: (فأومئ إيماء)، فذكر الله ينبغي ألا يفارق العبد، بأية حال من الأحوال.
ذكر الله به تذكر في الملأ الأعلى، قال الله سبحانه: (من ذكرني في نفسه، ذكرته في نفسي، ومن ذكرني في ملأٍ ذكرته في ملأٍ خير من ملئه )، فتخيل وأنت واقف مع إخوانك تذكرهم بالله أن ربنا يذكرك في الملأ الأعلى سبحانه وتعالى، قال الله في الحديث القدسي: (أنا مع عبدي إذا هو ذكرني وتحركت بي شفتاه)، وحسّن بعض العلماء حديثاً لرسول الله عليه الصلاة والسلام: (ألا أدلكم على خير أعمالكم، وأزكاها عند مليككم، وخير لكم من إنفاق الذهب والورق، وخير لكم من أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم؟ قالوا: بلى يا رسول الله! قال: ذكر الله).
- ذكر الله يجلب محبة ربك لك:
قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله ليرضى عن العبد أن يأكل الأكلة فيحمده عليها، وأن يشرب الشربة فيحمده عليها).
- ذكر الله به تطمئن القلوب الوجلة المضطربة:
القلوب الخائفة تطمئن بذكر الله: الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ * الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ [الرعد:28-29]، فحقاً إنها نعمة ينعم الله بها على أهل الإيمان، إذا أصيبوا بمصيبة، أو حلت بهم كارثة، أو ابتلوا بفقدان مال أو عيال، أن يلهموا الذكر، فذكر الله يطمئنهم.
- ذكر الله خير عوض لهم عما فات:
قال تعالى: الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ [البقرة:156-157]، يقوم الشخص من نومه، منزعجاً من رؤيا رآها فبذكر الله يطمئن قلبه ويسكن خاطره، إذا ذكر الله سبحانه وتعالى، وتعوذ بالله من شرها.
- ذكر الله سبحانه يقوي القلب:
قال تعالى في شأن من خوفهم الناس من عدوهم: الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ [آل عمران:173]، فماذا كان؟ فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ [آل عمران:174]، قالها أهل النفاق مرجع الرسول صلى الله عليه وسلم من أحد، وقد أنهكت قواه وقوى أصحابه، وقتل من قتل، وشج رأس نبينا محمد عليه الصلاة والسلام، وانصرف آنذاك أبو سفيان مفتخراً متباهياً، قائلاً: اعلُ هبل! فأجابه عمر ، بل الله أعلى وأجل، فانصرف رسول الله وأصحابه، فجاء أهل النفاق بالإرجاف إلى رسول الله وإلى أصحاب رسول الله، يقولون لهم: إن أبا سفيان ومن معه سيأتون لاستئصالكم -مع أن القوة منهكة، والنفوس كسيرة- فماذا قال رسول الله هو وأصحابه: الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ [آل عمران:172]؟! قالوا جميعاً: حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ [آل عمران:173]، فماذا كان؟ كفاهم الله شر عدوهم قال سبحانه: فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ [آل عمران:174]، وكذلك كانت حال غلام ضعيف في وسط جبابرة ظلمة أخذوه ليلقوه من أعلى جبل، وأخذوه ليلقوه في وسط البحار، وما له معتصَم إلا بالله وبذكر الله، فقال -في كلا الحالتين-: اللهم اكفنيهم بما شئت، فكفاه الله سبحانه بما شاء، ورجع سالما آمناً غانماً.
ذِكر الله سبحانه وتعالى نور لك في السماء.. نور لك في قبرك.. نور لك في أُخراك.
- ذكر الله سبحانه حصنٌ لك من الشيطان الرجيم:
قال الله سبحانه وتعالى: وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ * وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ [المؤمنون:97-98].
ذكر الله -بما فيه من استغفار- تستدر به الأرزاق، وتتسع به المضايق:
قال تعالى: وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ [هود:3]، وكما قال نوح: فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا [نوح:10-12].
ذكر الله -بما فيه من استغفار- تدفع به البلايا:
قال تعالى: وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ [الأنفال:33]، فجدير بك ألا تفارق الذكر في هذه الأيام الطيبة المقبلة عليك على وجه الخصوص، ولا تغفل عن ذكر الله أبداً، فإنك إن غفلت عن الذكر، انقضت عليك شياطين الإنس، بل وشياطين الجن كذلك، فالشيطان وسواس، وتدفع وسوسته ويبعد شره بذكر الله عز وجل.
وقال عليه الصلاة والسلام (من قال: سبحان الله وبحمده في يوم مائة مرة، حطت خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر)، الخطايا تحط وإن كانت مثل زبد البحر -من كثرتها- بقوله: سبحان الله وبحمده مائة مرة.
وقال عليه الصلاة والسلام: (كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم).
وثَمَّ ذكر آخر فيه نفع وفضل، قال عليه الصلاة والسلام لـأبي موسى الأشعري: (يا
فيا عبد الله! لا تغفل عن الذكر، ولا تغفل عن الشكر.
عند دخولك البيت اطرد الشياطين بقولك: باسم الله.
إذا أخذت المضجع اطرد عنك الشياطين التي تؤذيك وأنت نائم بقولك: (باسمك ربِّي وضعت جنبي وبك أرفعه)، أو الأحاديث الواردة في ذلك.
أغلب ما يفعل بالأيام العشر، هو ذكر الله عز وجل، ثم سائر أعمال البر.
ورد في ذلك عن رسول الله عليه الصلاة والسلام حديثان: أحدهما ينفي، والآخر يثبت.
أما الذي نفى فقد ورد عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها بسند صحيح، قالت: (ما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم صائماً العشر قط)، ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يصوم العشر قط، وورد في معرض الإسناد حديث رواه راوٍ يقال له: هنيدة بن خالد، رواه مرة عن أمه عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، ومرةً عن امرأته عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، ومرة عن حفصة ، قالت: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يصوم العشر الأول أو التسع الأول من ذي الحجة)، وقد عمل بهذا الحديث بعض أهل العلم.
ومن العلماء من أعله بالاختلاف وقالوا: إن الأصوب حديث عائشة .
وعلى كلٍ: قد أدخل فريق من أهل العلم الصيام في العمل الصالح الذي ينبغي أن يحافظ عليه.
ذهب أكثر العلماء إلى أنه على الكراهة، وليس على التحريم، فقالوا -في معارض التعليل لكونه على الكراهة- إن الأضحية من أصلها ليست بواجبة فمتبوعاتها لا تجب، وهذا قول.
لكن استدل الإمام الشافعي رحمه الله تعالى على جواز الأخذ من الشعر والأظفار، حتى للمضحي بحديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: (كنت أفتل قلائد النبي صلى الله عليه وسلم بيدي فيرسل بها من المدينة إلى مكة ولا يحرم عليه شيء مما يحرم على المحرم)، وهذا كما سبق يفيد بيان سنة من السنن أصبحت مهجورة وهي: أن الموسر الذي لم يحج، يذبح أو يرسل هديه أو ما استطاع من الهدي إلى مكة، وهذا فعل لرسول الله عليه الصلاة والسلام أغفله الكثيرون.
الشاهد: أن أم المؤمنين عائشة كانت تفتل القلائد، أي: الحبال التي توضع في رقاب الإبل ورقاب الأنعام المتجهة إلى الكعبة، والرسول يرسلها ولا يمتنع عن شيء مما يمتنع منه المحرم، فدل ذلك على أنه يجوز له أن يأخذ من شعره، ومن أظفاره، لكن هذا مفهوم.
أما المضبوط فهو: (إذا أراد أحدكم أن يضحي ودخل العشر فلا يأخذ من شعره، ولا من أظفاره شيئاً)، وهذا منطوق، والمنطوق الصريح أولى بالأخذ من المفهوم غير الصريح، فالرسول نهى نهياً صريحاً عن الأخذ من الشعر والأظفار لمن أراد أن يضحي فكذلك فافعلوا.
معشر الإخوة! لقارئ القرآن بكل حرف من تلاوته حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، وليست (ألم) حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف، كما ثبت عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه.
كتاب الله -معشر الإخوة- يطرد الشياطين، قال عليه الصلاة والسلام: (إن البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة ينفر منه الشيطان)، آية الكرسي تطرد عنك الشيطان عند منامك.
تلاوة كتاب الله خير لك من الإبل وخير لك من الأنعام، كما قال الرسول عليه الصلاة والسلام، فعليكم بكتاب الله فهو لكم نور، قال تعالى: قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [المائدة:15-16].
تلاوة كتاب الله تتنزل بسببها السكينة، وتحفك بسببها الملائكة.
كتاب الله يأتيك شفيعاً يوم القيامة، يدافع عنك، قال النبي عليه الصلاة والسلام: (اقرءوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعاً لأصحابه، تقدمه البقرة وآل عمران، كأنهما غمامتان أو غيايتان، من طير صواف تحاجان عن صاحبهما)، تأتي سورة البقرة تدافع وتحاج عن صاحبها وتشفع لصاحبها: يا رب! عبدك كان يتلوني، كان يقرأ بي في الصلوات، وكان يقرأ بي في الخلوات، كان يذكرك بي وكذلك آل عمران.. هذه السور تأتي تدافع عن أصحابها يوم القيامة.
فيا عباد الله! كتاب الله.. عليكم به لا تهجروه، ولا تتركوه، خاصة في هذه الأيام الطيبة المباركة، ففرغ من وقتك لذكر الله فيه.
جديرٌ بك يا أيها الأخ البقال! أن تغلق المحل عند الأذان فوراً ولا تتباطأ.
جدير بك أيها الأخ الذكي! أن تغلق أي محل وتغفل أي عمل عند الأذان، إذا سمعت قول القائل: حي على الفلاح، أي غباء أصابك وأنت لا تجيب المؤذن؟ قال لك: حي على الفلاح، يعني: أقبل على السعادة.. أقبل على الخير.. أقبل على الفوز، ولكن أهل الجهل لا يعلمون.
جدير بكل طبيب أن يغلق العيادة حين سماع المؤذن.
بعض إخواننا يجهلون أو يتجاهلون عند أن يترك عاملاً أو عاملين من البالغين في المحل أن هذا لا يجوز، كأن الصلاة ليست مكتوبة على العمال! بل الصلاة مكتوبة عليك وعلى عاملك، وبئس العامل الذي يقف في المحل والصلاة تقام، بئس العامل، وليس بأمين ذلك العامل الذي يستأجر فيترك الصلاة، ويقف في الدكان، ابنة يعقوب صاحب موسى عليه السلام تلك الفتاة الذكية تقول لأبيها: يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ [القصص:26]، قد تترك المحل -وفيه العامل- وتذهب للصلاة فيسرقك العامل جزاءً وفاقاً، قد ورد في حديث صحيح -العبرة منه ورادة-: أن رجلاً كان يقرض أمواله للناس، الدرهم بدرهمين -وهو حديث إسناده ثابت صحيح- وعلى هذه الوتيرة طيلة حياته، فجمع الأموال كلها، فوضعها في صندوق وسافر بها على الباخرة، وغفل ونام فجاء قردٌ ففتح الصندوق، وجعل يرمي ديناراً في البحر ويضع ديناراً على جانب في المركب، حتى أتى على الدنانير كلها، ألقى نصفها في البحر وأبقى نصفها في المركب، صحيحٌ أن متاع الدنيا ألقي، لكن هل يعذبه الله في الآخرة؟! نقف عن هذا فالله تعالى أعلم، لكن ربنا سبحانه وتعالى قد قال: فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ [البقرة:279]، فالحرام يذهب جفاء، والحلال يمكث في الأرض ينفع الله به الناس.
فيا معشر الإخوة! -وخصوصاً الملتحين- كونوا قدوة حسنة في هذه الأبواب، إذا سمعتم داعي الله ينادي: حي على الصلاة، فامتثلوا قول ربكم، امتثلوا قول إخوانكم من الجن المؤمنين: يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ [الأحقاف:31]، وهنا يبرز اليقين فيما عند الله.
فالتقي الذكي يفهم أن الرزق لن يفوت وأنه مدخر وباقٍ، قال النبي عليه الصلاة والسلام -في الحديث الذي حسنه بعض العلماء-: (إن روح القدس نفث في روعي، أن نفسا لن تموت حتى تستوفي أجلها ورزقها فاتقوا الله وأجملوا في الطلب)، وفي بعض الروايات: (ولا يحملنكم استبطاء الرزق على أن تنالوه بمعصية الله عز وجل)، وللحديث شواهد عامة في كتاب الله ومن سنة رسول الله عليه الصلاة والسلام، فالرزق مسطر لك ومقدر، وأنت في بطن أمك يكتب لك رزقك، ويكتب لك أجلك، فاتق الله وأجمل في الطلب، وما أدراك أن المال الكثير فيه خيرٌ لك؟! من أدراك بذاك؟! ومن أعلمك به؟! وربنا يقول: وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ [الشورى:27]، ويقول ربنا: كَلَّا إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى [العلق:6-7]، وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الإِنسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ [الإسراء:83]، فالمال ليس بخير في كل حال، إلا إذا اكتسب من الحلال وأنفق في الحلال، واتقى الله العبد فيه، فاستغفروا ربكم معشر الإخوة! وأنيبوا إليه من قبل أن يأتيكم العذاب بغتة وأنتم لا تشعرون، اتقوا ربكم وارجعوا إليه من قبل: أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ * أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ [الزمر:56-57]، فهذه آيات الله بين أيديكم، وعلى مسامعكم فاتلوها وتدبروها، وفقنا الله وإياكم لكل خير، اللهم! أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله ملتبساً فنضل، واجعلنا للمتقين إماماً، اللهم! رطب ألسنتنا بذكرك، اللهم! رطب ألسنتنا بذكرك، وبالصلاة على نبيك محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، اللهم! احشرنا مع الذاكرين لك كثيراً والذاكرات، اللهم! منّ علينا بذكرك كثيراً يا رب العالمين! اللهم! اجعلنا من الذاكرين الله كثيراً ومن الذاكرات يا رب العالمين! اللهم! غنمنا الخير حيث كنا، وغنمنا السلامة حيث كنا يا رب العالمين! وامنن علينا جميعاً -يا ربنا- بالحشر مع نبينا محمد عليه الصلاة والسلام في الفردوس، وامنن علينا وتفضّل بالسقيا من حوضه يا رب العالمين! يا أكرم الأكرمين!
وصل اللهم وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر