أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102] ، يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1] ، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].
وبعد:
أقسم الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم بقوله: وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى * وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى * وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالأُنْثَى [الليل:1-3]، يقسم الله سبحانه وتعالى بهذا كله على شيء ألا وهو: إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى [الليل:4] أي: السعي الذي نقوم به في حياتنا الدنيا متنوع ومختلف ومتعدد، فمنا من يسعى للآخرة، ومنا من يسعى للدنيا، منا من يسعى لطلب المال والجاه في الحياة الدنيا، ومنا من يسعى لرفعة درجاته في الآخرة، منا من يسعى في أعمال البر والصلاح، ومن الناس من يسعى في أعمال الشر والفساد، وقد قال الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى * ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الأَوْفَى [النجم:39-41]، فأفادة الآية الكريمة أن السعي الذي نقوم به في دنيانا سنراه في أخرانا، كما قال تعالى في الآية التي سمعتموها: وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى * ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الأَوْفَى [النجم:40-41]، فمنا من سعيه مشكور، كما قال الله سبحانه: فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ [الأنبياء:94]، وفي هذا أيضاً يقول تعالى: وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا [الإسراء:19] ، وقال الله في شأن أقوام آخرين: قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا [الكهف:103-104]، فلابد من أن نرى جزاء سعينا كما وعد ربنا، فهو أصدق القائلين سبحانه وتعالى، وكذلك لا بد أن تبلى السرائر كما قال ربنا سبحانه وتعالى، والحَكَم على السعي الصالح المحمود المشكور والسعي الباطل المردود هو كتاب الله سبحانه وتعالى وسنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، فمن أراد أن يتقن السعي فلينظر إلى كتاب الله وإلى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ففيهما الحكم على سعيك، هل هو سعي مشكور يشكره لك ربك سبحانه وتعالى أم هو سعي باطل مردود؟ ولذلك كان لزاماً علينا كي نتقن العمل أن نتعلم كتاب ربنا وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم، فليس كل عامل يثاب على عمله، بل هناك من يعمل ويعاقب على هذا العمل؛ فالله سبحانه وتعالى ذم المرائين في كتابه، وبين أنه قد أحبط عملهم، وكذلك ذمهم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم في سنته، قال سبحانه في شأنهم: وَقَدِمْنَا إلى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا [الفرقان:23] ، وقال الله في الحديث القدسي: (من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه) أو كما قال عليه الصلاة والسلام.
فجدير بنا في كل عمل من أعمالنا أن نتعلم كيفية إتقان العمل من كتاب الله ومن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكثير من الناس يتقنون أمر دنياهم أيما إتقان، يسهرون الليل والنهار لإتقان أمور دنياهم؛ لنيل المراتب العلية في الدنيا، ولنيل المال الوفير في الدنيا، ويغفلون تمام الغفلة عن إتقان العمل للآخرة، وقد تقدم شيء مما يتعلق بإتقان العمل في الصلاة.
وإن كان البعض من أهل العلم يستدلون بالآية الكريمة: وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ [محمد:33] على مشروعية الإتمام والتجوز فيه، والأمر في ذلك غريب! لأن هذا من المسائل التي فيها نص، أما التي ليس فيها نص فإذا شرعت في عبادة فلتتم عبادتك، هذا هو الأصوب والأقرب.
فمن الأقوال في تأويل قوله سبحانه: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ [البقرة:196] إذا شرعتم فيهما فأتموهما.
وهناك قول آخر: حجوا واعتمروا لله لا لأحد غير الله سبحانه وتعالى، لا تجعلوا مع الله شريكاً في الحج، ولا تبتغوا بذلك رياءً وسمعة عند الناس، فإن من شعائر الحج: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك، فلا تستهل الحج بلفظ هو صواب غاية الصواب بقلب بعيد عن هذا اللفظ، قلب رجل مراء -والعياذ بالله تعالى-، فقوله: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ [البقرة:196] أي: لا تشركوا مع الله أحداً في تلبيتكم لله سبحانه، وكما لا يخفى عليكم أن أهل الشرك كانوا يقولون: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، ثم يقولون: إلا شريكاً هو لك تملكه وما ملك، وكان نبينا محمد صلى الله عليه وسلم إذا قال أهل الشرك: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، يوقفهم صلوات الله وسلامه عليه عند هذا القدر، ولكنهم يأبون عليه، ويستمرون في جعل الشريك لله سبحانه وتعالى.
وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ [البقرة:196] وثمة أقوال أخر، منها: أن تحرم من دويرة أهلك، وقيل غير ذلك، وهذا ليس محلها.
مثلاً: إذا أنت خرجت مهلاً بالحج من أي ميقات من المواقيت، من أبيار علي، أو من ذي الحليفة، أو من رابغ التي هي ميقات لأهل مصر، ثم بعد أن تجاوزت الميقات وأهللت منعت لأي عارض؛ حينئذ تذبح هدياً، ولكن أين محل هذا الهدي الذي ينبغي أن يتحلل فيه المحرم؟
يقول فريق من أهل العلم: لابد أن يرسل هذا الهدي إلى مكة ويذبح هنالك، وتبقى في إحرامك حتى يصل هديك إلى مكة، فإذا تيقنت أنه قد ذبح فحينئذ تحل من إحرامك؛ لأن الله يقول: ثُمَّ مَحِلُّهَا إلى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ [الحج:33] هذا قول.
لكن جماهير العلماء أنك تتحلل حيث حبست، وتذبح حيث حبست؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام خرج عام الحديبية فصده المشركون عن بيت الله الحرام عند الحديبية، فكان النبي صلى الله عليه وسلم هو وأصحابه عند الحديبية خارج الحرم، في منطقة يقال لها: الشميسي، فتحلل النبي هناك ونحر هديه هنالك، ولم يكن ذلك داخل الحرم، فهذا هو الذي قوى وجهة نظر الجمهور القائلين بأن الشخص إذا منع من الحج يتحلل حيث منع، ويذبح حيث منع، ويتأكد هذا ويتأيد بأنه لا يستطاع في كثير من الأحيان بالنسبة للذي أحصر أن يرسل هدياً إلى مكة، قد لا يستطاع في كثير من الأحيان ذلك، فليتحلل حيث منع وحيث حبس.
قال تعالى: فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إلى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ [البقرة:196]، لم ينص على تحديد هذه الأيام ربنا سبحانه في كتابه ولا نبينا عليه الصلاة والسلام في سنته، فمن العلماء من قال: يوم السادس والسابع والثامن من ذي الحجة، ومنهم من قال: الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر وثمَّ أقوال أخر، والأمر في ذلك واسع كما قال كثير من أهل العلم، وقوله تعالى: تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ [البقرة:196] من باب التأكيد حتى لا يتسرب إلى الذهن أنها ثلاثة أو سبعة، كما في قوله تعالى: وَمَا كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ [العنكبوت:48] (بِيَمِينِكَ) والخط إنما يكون باليمين، إنما جيء بذلك للتأكيد، وكما في قوله تعالى: وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ [الأنعام:38] (بِجَنَاحَيْهِ) والطير لا يطير إلا بجناحيه، قال تعالى: تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ [البقرة:196].
ومن أهل العلم من قال: أشهر الحج تمتد إلى نهاية يوم الثالث عشر من ذي الحجة؛ لأن أعمال الحج ما زالت باقية فيه، ومنهم من قال: تمتد إلى نهاية ذي الحجة، والله سبحانه أعلم.
وينبغي أن ينتبه الحاج إلى هؤلاء المطوفين الذين يسرعون في مرورهم من مزدلفة، فيأتون من عرفات يقفون فقط لالتقاط الجمرات من مزدلفة، ثم ينصرفون رأساً إلى منىً، هذا صنيع فيه ترك لواجب ألا وهو المبيت بمزدلفة، وعلى الأقل إلى غياب القمر، فهذا الذي رخص فيه النبي عليه الصلاة والسلام للضعفة من النساء أو لأصحاب الأعذار من الرجال، فجدير بك أن تنتبه لهذا؛ لأن كثيراً من أهل العلم يوجبون دماً على من لم يفعل هذا، وإن كانت المسألة فيها بعض النزاع.
قال الله تعالى: فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ [البقرة:198] ، فتذكر نعمة الله عليك بالهداية في هذه الأماكن ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [البقرة:199] ، وفي تأويل الآية:
أن القرشيين كانوا إذا حجوا، انطلق الناس إلى عرفات، وبقي القرشيون بمزدلفة ولم يتجاوزوها؛ لأنهم من الحمس -أي: من الأحمسيين- وليس لهم بزعمهم أن يتجاوزوها، قال جبير بن مطعم : رأيت النبي صلى الله عليه وسلم واقفاً بعرفات، فقلت: ما لهذا يقف هذا الموقف وهو من الحمس؟! وكانت قريش تظن أن النبي صلى الله عليه وسلم سيتجه من منى إلى مزدلفة ولن يتجاوز مزدلفة بحال، فطفقوا يرقبونه، فلما تجاوز النبي صلى الله عليه وسلم مزدلفة متجهاً إلى عرفات تعجبوا من أمره! ولكن ذلك منه صلوات الله وسلامه عليه إمضاء لقول الله تبارك وتعالى: ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [البقرة:199].
قال تعالى: فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ [البقرة:200]، ليس له حظ ونصيب في دعاء الآخرة، فكل تركيزه في الدعاء على أمر الدنيا وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [البقرة:201]، فلك أن تسأل ربك من خيري الدنيا والآخرة، وهذه كانت أكثر دعوة يدعو بها النبي عليه الصلاة والسلام، قال تعالى: أُوْلَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ * وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ [البقرة:202-203]، وهي: أيام التشريق وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ [البقرة:203].
فيا معشر الإخوة! عظموا شعائر الله؛ فإن تعظيم شعائر الله من تقوى القلوب قال تعالى: ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ [الحج:32].
فنجيب على ذلك كله بأننا والحمد لله من أهل الإسلام، رضينا بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد رسولاً، فما في وسعنا إلا الامتثال لأمر ربنا، فإنا مسلمون ممتثلون لأمر الله، متبعون لسنة رسول الله، سواء علمنا الحكمة من وراء ذلك أم لا، وهذا جوابنا لكل سؤال من أهل زندقة أو من أهل إلحاد أو من أهل نفاق، شعارنا: رضينا بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد رسولاً، اتبعنا ملة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين.
إن العبد يغنم غنائم كبيرة لا تكاد تحصى، وهو لم يقدم كبير عمل إلا أنه تعذر عليه الحج وفي نيته أن يحج، وقد قال رسولنا صلى الله عليه وسلم عن بعض أصحابه وهم في المدينة: (إن بالمدينة لأقواماً ما سرتم مسيراً ولا قطعتم وادياً إلا شاركوكم الأجر) يعني: في الخروج للغزو: (إلا شاركوكم الأجر)، فلك أن تغنم غنائم وأنت في بيتك قد حيل بينك وبين الحج بقلة مال، أو لضعف في بدن، أو لعدم تيسر الحصول على تأشيرة للحج، وأنت في بيتك تغنم غنائم كثيرة لأنك أصلحت نيتك، وسألت الله بصدق تيسير أداء فريضة الحج، وقد قال رسولنا محمد عليه الصلاة والسلام: (من سأل الله الشهادة بصدق بلغه الله منازل الشهداء، وإن مات على فراشه)، وربنا يقول: وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ [البقرة:212]، فإذا كانت نيتك صحيحة تريد من قلبك أن تحج أو أن تجاهد في سبيل الله أو أن تتصدق أو أن تصلي وسلكت الأسباب المؤدية لذلك وحيل بينك وبين ذلك؛ فمن فضل الله -إذ هو كريم سبحانه، وعلينا أن نعرف حق المعرفة أنه كريم سبحانه- أن يثيب من كانت هذه نواياه، حتى أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (من خرج من بيته يريد الصلاة) -يعني: أنه لم يقصر في الخروج لكنه خرج يريد الصلاة- (فوجد القوم قد صلوا، كتب له أجر الجماعة)، فجدير بكل مسلم أن يصلح نواياه، والله سبحانه ذو فضل على المؤمنين، وهو ذو الفضل العظيم سبحانه وتعالى يثيب على النوايا كما قال: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الأَسْرَى [الأنفال:70] الذين حزنوا على ما أعطوه من فداء: َيا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الأَسْرَى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ [الأنفال:70] أي: يعوضكم الله مكان هذه الأموال التي دفعتموها خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ ويَغْفِرْ لَكُمْ [الأنفال:70]، وكما قال الله تعالى في شأن أصحاب نبيه: فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ [الفتح:18] أي: من الحب للخير ومن الإيمان، فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا * وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا [الفتح:18-19]، فإذا لم يستطع أحد الحج فجدير به أن يكثر من سؤال ربه التيسير للحج فإن الله يثيبه على ذلك، وييسر له أيضاً، فهذا من فضله ومن كرمه سبحانه وتعالى، فإذا لم يتيسر له هذا السبيل، فليصلح نيته والله يجزيه على ذلك، وعلى العموم من صلحت نواياهم أكرمهم الله من فضله، إن ربي رحيم ودود كريم مجيب سبحانه وتعالى.
الأضحية قربة يتقرب بها العبد إلى الله، فلو اشتريت بألف جنيه لحماً، واشتريت شاة بمائتي جنيه، فإنك تثاب على ذبح الشاة أكثر من ثوابك على شراء اللحم، فالذبح في نفسه نسك وقربة وعبادة يتقرب بها إلى الله سبحانه وتعالى، دلت على ذلك الآيات والأحاديث، قال النبي عليه الصلاة والسلام: (لعن الله من ذبح لغير الله)، فالذبح نفسه عبادة، فالأضحية سنة مستحبة عن رسولنا محمد عليه الصلاة والسلام، ولقد (ضحى النبي عليه الصلاة والسلام بكبشين أملحين أقرنين سمينين).
للأضحية شروط كما لا يخفى عليكم، فلا يضحى إجمالاً بذوات العيوب، ولا يضحى إجمالاً إلا بالمسنة، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (لا تذبحوا إلا المسنة إلا أن يعسر عليكم فلتذبحوا الجذعة من الضأن) والمسنة: هي الثني من كل شيء، فالثني من المعز من له سنة تامة ودخل في الثانية، والثني من البقر ما له سنتان ودخل في الثالثة، والثني من الإبل ما له خمس سنوات ودخل في السادسة، لا يجزئ إلا ذلك، يعني: لا يصح أن تذبح من الماعز ما عمره أقل من سنة، ولا من البقر ما عمره أقل من عامين، ولا من الإبل ما عمره أقل من خمس سنوات، فإن فعلت فهو لحم وليس من النسك (إلا أن يعسر عليكم فلتذبحوا الجذعة من الضأن)، ومن أهل العلم من قال: جذعة الضأن عمرها سنة، ومنهم من قال: جذعة الضأن ستة أشهر والأمر في تحديدها قريب، فلتستعدوا بذلك، وإن لم يكن هذا بواجب، فالنبي عليه الصلاة والسلام (ضحى عمن لم يضح من أمته) ولكنها سنة مستحبة، سنة لخليل الله إبراهيم وسنة لنبي الله محمد خاتم النبيين عليه أفضل صلاة وأتم تسليم.
فمن وجد سعة فليضح، والله سبحانه وتعالى يثيبه على هذه الأضحية، فلا تكن مريضة بين مرضها، ولا عرجاء بين عرجها، ولا عوراء بين عورها، ولا تكن من ذوات العيوب الظاهرة الواضحة، ولا تكن هزيلة كذلك، فإن سلفنا الصالح -أهل الفضل والصلاح- كانوا عند تقربهم لله ينتقون أفضل وأجل وأعظم قربة يتقربون بها إلى الله سبحانه وتعالى، قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ [البقرة:267]، يا من بخلتم! ويا من عمدتم إلى الرديء فأخرجتموه وذبحتموه! اعلموا أن الله غني حميد، غني عنكم وعن قرباتكم، والأمر كما قال تعالى: لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ [الحج:37]، فجدير بكم أن تستعدوا بأضحية إن كان ربنا قد وسع عليكم، فلا تبخلوا عن أنفسكم، والأضحية تجزئ عن أهل البيت الواحد.
ابتداءً ينبغي أن ينصح أهل الميت الصالح بألا يجمعوا الجنازة مع هذا الساحر، بل تميز جنازة أهل الفضل وأهل الصلاح عن جنازة السحرة والكفار، بل هو واجب إذا استيقنت من سحره ومن كفره أن تميز جنازة أهل الفضل فيصلى عليها، وأما الساحر فلا يصلى عليه أصلاً، لا يصلى على الكافر لقوله تعالى: وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ [التوبة:84] فلا يصلى على أهل النفاق، ولا على أهل الكفر، ويلحق بهم السحرة فلا يصلى عليهم، لكن قدر وأتي بجنازة فيها ميت ساحر مع ميت ليس بساحر فهل نترك الصلاة عليهما معاً لوجود الساحر أم ماذا نصنع؟
فمن أهل العلم من يجوز الصلاة ويقول: إن النبي عليه الصلاة والسلام مر على مقبرة مشركون، ويهود، وأهل نفاق، وفيهم مسلمون، فسلم عليهم النبي صلى الله عليه وسلم جميعاً، وقد نهينا عن ابتداء اليهود بالسلام؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (لا تبدءوا اليهود والنصارى بالسلام)، فمن العلماء من قال: صل وادع للمسلم ولا تدع للكفار، هذا وجه قوي، وحق المسلم لا يسقط، وإن امتنع أهل الفضل عن الصلاة، ليس لأن الصلاة على المسلم حرام آنذاك، ولكن امتنعوا عن الصلاة زجراً لكل ساحر ومشعوذ، فحينئذ قد سلك نبينا محمد مسلك الزجر في جملة من المواطن، وترك الصلاة على أقوام أحياناً مع أنهم من أهل الإسلام حتى ينزجر غيرهم، فكان عليه الصلاة والسلام إذا أتي بجنازة ليصلي عليها سأل: (هل عليه دين؟) إن قالوا: لا، صلى عليه، وإن قالوا: عليه دين، سأل: (هل ترك لدينه وفاء؟) فإن قالوا: نعم، صلى الله النبي عليه الصلاة والسلام، وإن قالوا: لا، لم يصل عليه النبي عليه الصلاة والسلام، فعل ذلك إلى أن أغناه الله فقال: (أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم من ترك كلاً أو ضياعاً فعلي، ومن ترك مالاً فلورثته)، هكذا قال عليه الصلاة والسلام.
فالشاهد أن المدين مسلم ومع ذلك كان عليه الصلاة والسلام يترك الصلاة عليه قبل أن يوسع الله سبحانه على نبيه محمد عليه الصلاة والسلام، وهذا للترهيب من الدين، ومن أكل أموال الناس، ومن المماطلة في سداد الديون، فإن ترك أهل الفضل الصلاة عليهما معاً من أجل أن ينزجر القوم، ولا يجعلوا ميتهم يصلى عليه مع هذا الماجن وهذا الساحر، فحينئذ هذا وجه سديد سلكه بعض العلماء، والزجر بالهجر وارد، والأدلة عليه كثيرة متعددة كما لا يخفى عليكم، هذا ما أردنا أن نلفت النظر إليه.
هب أنه وجد أن الديون كثيرة؛ يعني قال: من له دين فعليّ، وكان يظن أن الذي عليه فقط ألف جنيه وبوسعه أن يتحملها، فإذا به يفاجأ أن الديون مائة ألف، فهل نقول: عليك المائة ألف كاملة؟
لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة:286]، وتبقى ذمة الميت محملة بالدين، صحيح أن النبي عليه الصلاة والسلام أجاز لما قال أبو قتادة : علي دينه يا رسول الله! قال النبي عليه الصلاة والسلام: (انطلقوا فصلوا على صاحبكم)، فقال أبو قتادة : عليّ دينه يا رسول الله! ولم يستفصل الرسول عليه الصلاة والسلام عن قدر الدين كم هو، هذا محله أن يكون في حيز المستطاع، وأن يكون القائل: علي دينه رجل من الأمناء، أما إذا كانت أموال الناس ستضيع فكم من شخص مسرف على نفسه قال: عليّ دين الميت، فذهب الناس يطالبونه بعد أسبوع من موت الميت، فإذا به يسبهم وإذا به يشتمهم، فحينئذ إذا أقر صاحب الدين بالحوالة أي بأنه قبل بأن يتحول دينه على فلان حينئذ تبرأ ذمة الميت، تبرأ ساحة الميت، فينبغي أن يذهب إلى أصحاب الديون! ويقال: يا أصحاب الديون أنتم رضيتم أن يحال الذي لكم على فلان من الناس إن قالوا: قبلنا، برأت ساحة الميت، وسقطت عنه كل الديون، وتحولت إلى الذي تحمل هذه الحمالات، وإن لم يرضوا بذلك لفجور أو للمماطلة في الذي أحيل عليه أو لفقر الذي أحيل عليه حينئذ ذمة الميت ما زالت متعلقة بالدين، وتؤخذ الديون من أصل الميراث الذي تركه هذا الميت.
هذا ما أردنا أن نبينه، وإن كان في المسألة خلاف، لكن هذا الذي ظهر والله سبحانه أعلم بالصواب، وأعلم بتأويل كتابه، وأعلم بسنة نبيه محمد عليه الصلاة والسلام، فإن أصبنا فمن الله، وإن أخطأنا فمن أنفسنا ومن الشيطان، والله ورسوله بريئان مما نقول من خطأ، ونسأل الله أن يلهمنا وإياكم الصواب في القول والعمل.
اللهم! أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله ملتبساً علينا فنضل، واجعلنا للمتقين إماماً.
اللهم! ألف بين قلوب عبادك المؤمنين، وخذ بأيديهم إلى النصر والتمكين يا رب العالمين! يا مجيب السائلين! وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر