أما بعد:
فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأسأل الله العظيم في بداية هذا المجلس المبارك أن يجزي من تسبب فيه خير الجزاء، وأن يشكر مسعى الجميع، وأن يجعل القول خالصاً لوجهه، والعمل موجباً لمحبته ومرضاته.
أيها الأحبة في الله: إن المؤمن كلما بعد زمانه عن عهد النبي صلى الله عليه وسلم عظمت غربته، واشتدَّت فتنته ومحنته وبليته، وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذا المعنى بقوله: (ما من زمانٍ إلا والذي بعده شرٌ منه حتى تقوم الساعة) بدأ هذا الدين غريباً، بدأ بداعية إلى الله، ورسولٍ أحبه الله، فحمل أعباء الرسالة، وقام بواجبات الأمانة، فبلغ الرسالة على أتمِّ الوجوه وأكملها، وأدى الأمانة على أتم الوجوه وأكملها، صلوات ربي وسلامه عليه إلى يوم الدين.
بدأ به هذا الدين، ثم انتشر بين الخلق والعالمين، فاستضاءت به الأنوار في المشارق والمغارب؛ ففتح الله به القلوب، وشنف به الأسماع، وطهر به الجوارح من أدناس الجاهلية، وأدران الشرك والوثنية، وصاغ العباد بالطاعة والعبودية والحنيفية، وما زال هذا الدين يسطع نوره، وتشرق تلك الأنوار على مشارق الأرض ومغاربها، حتى بلغ ما شاء الله أن يبلغ، ثم بدأت الفتن والمحن والويلات والآهات، وغير ذلك من النكبات، والفجائع المبكيات، حتى فرقت شمل المسلمين، وقوضت معالم الدين، وأصبح العبد في غربةٍ عن رسالة سيد الأنبياء والمرسلين صلوات الله وسلامه عليه.
بدأت هذه الغربة، فضعف المسلمون من بعد قوة، وتفرقوا من بعد اجتماع، وخارت قواهم، وتشتت أذهانهم وأفكارهم، وكل ذلك بقضاء الله وقدره، والله غالبٌ على أمره، ولكنَّ كثيراً من الناس يجهلون ذلك، ولا يعلمون بحكمة الله التي هي من وراء ذلك.
لما تساهل المسلمون في هذا الأصل العظيم، وأصبحت معالم الحنيفية مندثرةٌ منطمسةٌ في ديار كثيرٍ من المسلمين، حينئذٍ سلَّط الله على العباد أنواع البلاء، وأراهم صنوف الشدة واللأواء والعناء، ونسأل الله أن يلطف بالعباد.
والسعادة، والفلاح، والنجاح، والربح، والصلاح لهذه الأمة والقاعدة التي ينبغي أن تشيد، والأساس الذي ينبغي أن يُبنى، والدعوة التي ينبغي أن يركز عليها، وأن يُدعى إليها، هي تحقيق كلمة التوحيد "لا إله إلا الله".
فمتى كانت الأمة على هذا الأصل العظيم، صافية عقائدها من الشوائب، نقية لربها في النكبات والنوائب، لا تدعو غيره، ولا تستجير بأحدٍ عداه، فأنعم بها من أمة! إذا أصبح المؤمن إن أصابته السراء شكر ربه، واعترف بالجميل لله، لا لأحدٍ سواه، وإن أصابته ضراء نصب وجهه لله، لا لأحدٍ سواه، فكيف يكون حاله؟ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ [الطلاق:3] ومن يتوكل على الله هذا الشرط -الإيمان، التوحيد، العقيدة- والجزاء؛ فهو حسبه، وقائمٌ بأمره، وإذا كفى ربك عبداً فكيف يكون حاله؟ كفى بالله إذا كفى عباده وكفى خلقه، فقد كفى أنبياءه ورسله وكفى خيار عباده الصالحين، إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ [غافر:51] تكفل الله لمن حقق الإيمان ( رسلنا ) أي: رسلنا بالتوحيد، (والذين آمنوا) ما قال: والناس، (والذين آمنوا) أهل العقيدة، أهل الإيمان، ما قال المسلمون، بل قال: الذين آمنوا، أي: الذين حققوا هذه الكلمة وطبقوها؛ فلذلك كانت دعوة النبي صلى الله عليه وسلم في تربية الأمة، وفي توجيهها، وفي تسديدها، وفي دلالتها على الخير، تقوم على هذه الكلمة، على "لا إله إلا الله".
كانت شئون المسلمين بينهم وبين الله في العقيدة، كانت شئون المسلمين في السراء، وفي الضراء، في الرفعة، وفي المهانة كلها بهذه الكلمة، فكانت شئونهم بينهم وبين الله عز وجل في "لا إله إلا الله،" لا يمكن للواحد منهم أن يصرف حقاً لله لأحدٍ سواه؛ فكانت أمورهم بينهم وبين الله صالحة.
أما شئونهم بينهم وبين العباد فكانت بهذه الكلمة، بها يأخذون، وبها يعطون، وبها يوالون، وبها يعادون، وبها ينتصرون، وبها يُنصرون.
هذه الكلمة أحبوا بها في الله، وكان إذا لقي الرجل منهم أخاه قال: [تعال بنا نؤمن ساعة]، نؤمن: أي الإيمان .. العقيدة .. التوحيد. وكان كل واحدٍ منهم إذا لقي أخاه، شد من أزره؛ لكي يحقق الإيمان، كما قال تعالى: إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ [العصر:3] أي: بـ (لا إله إلا الله)، قال بعض العلماء: (الحق هو "لا إله إلا الله") و"َتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ" أي: بالصبر على هذا الحق، وهو تحقيق هذه الكلمة، فكانت شئونهم مع الناس بهذه الكلمة.
ولما أصبح ميزانهم هو هذه الكلمة، قربوا الغريب عنهم بالإيمان، وأبعدوا القريب منهم بالكفران، فكان الرجل يعادي أباه، ويعادي أمه، ويعادي أبناءه، ويعادي زوجه وعشيرته، من أجل "لا إله إلا الله"، تهون الدنيا -كلها- بأسرها إذا مسَّت كرامة هذه الكلمة، وكان الميزان للحب والعداء، والبغض والولاء في "لا إله إلا الله"، فكلما وجدت المسلم تدور أشجانه وأحزانه مع هذه الكلمة كلما وجدته منغمساً في نعيم السعادة الأبدية، وإذا كانت هذه الكلمة لا تُسعد صاحبها، فمن هو السعيد؟؟
إنها الكلمة التي عليها قامت السماوات والأرض، وعنها سيكون السؤال، ومن أجلها سيكون السؤال والحساب والعرض، بل من أجلها خلقت الخلائق، ومن أجلها كان الليل والنهار، والشمس والقمر، والأفلاك كلها من أجل "لا إله إلا الله"، فكلما جئنا في أي زمان ننظر إلى مشاكل المسلمين، وهمومهم، وغمومهم، أول ما ينبغي أن يصب عليه حديثنا، وأن تلتفت إليه أنظارنا، وأن يعتني به المصلحون، وأن يركز عليه الدعاة المهتدون الموفقون، تحقيق "لا إله إلا الله".
ثلاث عشرة سنة والقرآن في مكة يدعو إليها، ويحققها، ويغرسها في القلوب؛ حتى إذا تمكنت هذه الكلمة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، جاءت معركة بدر وأحد والأحزاب، ومواقف الإسلام والكفر..
أولاً، غرس الإيمان؛ ولذلك إذا غُرس الإيمان في القلوب، تفجرت ينابيع الحكم، وتبددت دياجير الظلم، ووجدْت صاحبه على ثبات وقوة وإيمان، تجد أهل هذه الكلمة إذا أخلصوا لله عز وجل، نالوا بها عز الدنيا والآخرة، هذه الكلمة تطهر القلوب، وتزكي الأعمال، تجد صاحبها على أكمل ما أنت راءٍ من إسلامٍ وصدق، بالإخلاص، بتوحيد الله وإخلاص العمل لله، قال شيخ الإسلام رحمه الله كلمة نفيسة، قال رحمه الله: (بل إخلاص الدين لله، هو الدين الذي لا يقبل الله سواه). أي: إذا جئت تعبد الله عز وجل، فاعلم أن أساس العبادة والديانة هو "لا إله إلا الله"، الإخلاص، الخلوص والصفاء والنقاء في القلوب لله جل جلاله.
فإذا كان الإنسان متعلقاً بالله عز وجل، طهر قلبه، ولذلك وصف الله الشرك بالدنس والقذر فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ [الحج:30] اجتنبوه، أي: ابتعدوا عنه، فهو دنس الحس والمعنى.
كذلك -أيضاً- تزكو بهذه الكلمة أخلاق المؤمنين، ولذلك تجد الإنسان أعف ما يكون عن حدود الله حينما يمتلئ قلبه بالإيمان بالله عز وجل.
والإيمان باليوم الآخر أساس من أساسيات "لا إله إلا الله"، وهو ركن من أركان الإيمان، فإذا امتلأ قلب الإنسان إيماناً بالله واليوم الآخر، هل يسرق؟ هل يزني؟ هل يقتل؟ هل يشرب الخمر؟ أبداً، إذا كان الإنسان يشاهد الآخرة بين عينيه، وجدته أخوف ما يكون لله، وأتقى ما يكون له، ولذلك تزكو به الأعمال، وكلما وجدت الإنسان يخل في شهوة أو شبهة؛ فاعلم أن وراء ذلك إخلالاً بهذه الكلمة، ونقصاً في العبودية لله عز وجل، وإلا لو كمل خوفه من الله، وخشيته لله، وتوحيده له، ما كان منه شيءٌ من ذلك.
فالمقصود: أنه ينبغي العناية بهذا الأصل، وغرسه في القلوب والدلالة عليه، وتحبيبه إلى النفوس، وتقريب القلوب إليه، ولا شك أنها دعوة الرسل (ما بعث الله نبياً ولا رسولاً إلا كانت كلمته الأولى: قولوا لا إله إلا الله) ولذلك إذا وجدت الإنسان يحرص عليه، وجدته أثبت الناس قلباً، وأخلصهم منهجاً، وأصفاهم مشرباً، وأكثرهم صدقاً في العبودية لله سبحانه وتعالى، بسبب العناية بهذا الأصل العظيم.
وكذلك أيضاً يُخل بطهوره وبغسله، وباستنجائه، وبغير ذلك مما أوجب الله عز وجل عليه أن يحفظه، وهي أمانة حمَّلها الله عز وجل العبد.
ثم غربته في زكاته، فيحرمها الفقراء، والعجيب أنك قد تجده يزكي، ولكن يزكي كيف يشاء، لا كما أمر الله عز وجل، فتجده يعطي الزكاة لمن هب ودب، فإذا قلت له: يا أخي! ما هذا الذي تفعل؟ قال لك: أفعل ما أشاء، هذا مالي، وأنا حرٌ فيه. وإذا قلت له: لا يجوز، ادفعها إلى الفقير أو إلى المسكين. يقول: لا، هذا مالي، وأفعل به ما أشاء.
فأصبح في غربةٍ من أحكامه، في غربة من صيامه .. من حجه .. من معاملاته .. البيع والشراء .. الحلال: ما حل في يده، والحرام: ما لم يحل في تلك اليد .. يتبايع كيف يشاء .. إذا جئته في أي مسألة من الأحكام تقول له: افعل كذا، أو لا تفعل، أو العلماء يقولون: لا يجوز أو كذا. يقول: لا، افعل ما أشاء، ولا تحجِّر عليَّ واسعاً.
إذاً المشكلة الرئيسية في قضايا المسلمين: الغربة؛ غربة العقيدة، وغربة الأحكام، وغربة الآداب.
الإسلام فيه الآداب الكريمة، والأخلاق العظيمة، التي ملكت بها القلوب، ومن أعظمها وأجلها وأساسها، الأمانة، ابحث عن مؤمنٍ أمين، قلَّ أن تجد، أو مسلم أمين، قل أن تجد، حتى أخبر النبي صلى الله عليه وسلم (أنه تقبض الأمانة من القلوب -نسأل الله السلامة والعافية- ولا يبقى إلا أثرها، كجمرٍ دحرجته على قدمك).
فإذاً قبضت الأمانة من المسلمين -إلا من رحم الله- فتجده يدخل في وظيفته، يتساهل في ساعات العمل .. يتساهل في أخذ الرشوة .. يتساهل في أخذ حقوق الناس .. يؤخر هذا .. يعد هذا ويخلف .. ساعات العمل عنده للقيل والقال والزيارات، وكأن مكتب عمله بيته، أو مكانه، يفعل فيه ما يشاء، لماذا؟! غربة، لا يوجد دين يحكم المسلم في أخلاقه، وفي تعامله؛ ولذلك لما أخل المسلم بالأمانة، حقر حتى في عين عدوه، فترى المسلمين ضائعةً أماناتهم، مفرطين في حقوق الناس، لا يبالون بمشاعر الناس، قد يأتي الكبير الشائب الذي وصى النبي صلى الله عليه وسلم باحترامه وإجلاله، فيأتيه ذاك المتسمي بالإسلام، لا يرحم شيبته، ولا يرحم ضعفه، فيرفع عليه صوته، ويجهل عليه في الكلام، ويعده الوعود الكاذبة، ويمنيه الأماني الباطلة، أين الدين؟!
إذاً: لما آل حال المسلمين إلى هذا، أصبحت أمور المسلمين إلى وبال، وساء بهم الحال، ولا فرق بينهم وبين أعدائهم، بل إنك قد تجد بعض الأعداء في بعض الأمور، يفوقون المسلمين، فتجد بعض المسلمين يعامل الكفار، فتقول له: لماذا تعاملهم؟ يقول: هؤلاء إذا وعدوا وفَّوا، وإذا قالوا صدقوا. سبحان الله! نحن أحق بهذا منهم، أثر عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أنه لما أتي بكنوز كسرى، ووضعت في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، غطيت، حتى إن المسجد تلألأ من كثرة الكنوز والأموال: ذهب وجواهر ونفائس؛ تلألأ المسجد في شدة الظلام من كثرة الأموال، فلما دخل عمر إلى صلاة الفجر، ورأى ذلك، بكى، قالوا: يا أمير المؤمنين! ما يبكيك في يومٍ أعز الله فيه الإسلام والمسلمين؟ قال: [إن أناساً أدوا هذا لأمناء]. كان الصحابي يسير على بعيره في الفلوات، معه كنوز كسرى، وهو في الفلاة يستطيع أن يسرقها، ويستطيع أن ينقص منها، أو أن يذهب بها يميناً أو يساراً، أو يدفنها في مكان، لكن يذكر قوله تعالى: وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَ [آل عمران:161] فيخاف الله عز وجل.
إذاً كان الإسلام عقيدة، وحكماً من ناحية الأحكام، وأدباً من ناحية التعامل والتعاشر، والمسلم بهذه الثلاث الأمور: عقيدة، أحكام، آداب.
فإذاً: لا ننظر إلى أي واقع للمسلمين أو مشاكل لهم إلا من خلال هذه الثلاثة الأمور: العقيدة، الأحكام، الآداب. وأي مجتمع نريد أن ننظر فيه، أو أي مجتمع نريد أن نقيمه، وهو يتسمى بالإسلام أياً كان، في أي زمان أو في أي مكان، ينبغي أن ينظر إلى هذه الأسس الثلاثة، أين هو من عقيدته، وأحكامه، وآدابه؟
انظر إلى كثيرٍ من بلاد المسلمين، تدخل إلى بعض مساجده؛ فتجد المشاهد، وتجد القبور يُطاف بها كما يُطاف ببيت الله عز وجل! ويستغاث بأصحابها كما يُستغاث بالله عز وجل! ويستجار بهم كما يستجار بالله أو أشد من ذلك! فأين الإيمان؟! حتى إنك لو دخلت في بعض الأماكن تبكي على الإسلام بين أهله، وترثي للإسلام بين حزبه.
فلذلك نحن بحاجة إلى إعادة النظر في عقائدنا، وتصفيتها وتخليصها لربنا ونقائها من الشوائب، وإعادة النظر في تعاملنا ومعاشرة بعضنا لبعض؛ البيع والشراء، الأخذ والعطاء، العبادات، المعاملات، نقيمها على كتاب الله، وسنة النبي صلى الله عليه وسلم.
الأمر الثالث: الآداب، نريد إسلاماً يظهر من خلال المسلمين، لا من خلال الكلمات ولا الندوات، ولا المحاضرات ولا الشعارات، ولا الرسائل ولا المجلات، نريد إسلاماً يظهر من خلال التعامل، خاصةً في البلاد التي يكون فيها أقليات مسلمة، يكون الإسلام معروفاً بأخلاق المسلمين، وليس برسائلهم ولا بمجلاتهم ولا بمقالاتهم، لكن بتعاملهم، فلذلك يحرص المسلم على أنه يتعامل بحذر، لكي يعطي الصورة السامية الزاكية التي تظهر الإسلام بصورته الحقيقية.
نحتاج إلى إسلام يترجَم بالأفعال والأخلاق، حتى إذا رآنا أعداء الإسلام قالوا: نعم، هذا الدين ونِعْم الدين!
أما أن نتكلم ونتشدق ونحدر الخطب ونقيم الجماعات، ونتفرق إلى جماعات متعددة وشعارات متباينة، وكل منا يدعي أنه هو المسلم الحق، وكلٌ منا في معزل عن أخيه، مع ما فيها من اعتوارٍ ونقص في بعض الأمور التي ينبغي ألا يكون فيها النقص، هذا لا يليق، بل هذا يزيد الجرح اتساعاً، ويزيد الخرق اتساعاً.
ولذلك ينبغي علينا أن نعي رسالتنا.
وتوحده في أسمائه وصفاته، فلا تسمع أذنك آيةً فيها صفة من صفات الله جل وعلا إلا أثبتها لله، وتقول: آمنا بالله. كما أخبر الله على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، وتثبت لله ما أثبت لنفسه، فنبدأ بهذا الأساس، نبدأ بالأهم فالمهم.
أما إذا جاءنا شخص وقال: نبدأ بكذا، والثاني يقول: نبدأ بكذا، وهذا بكذا فكلا، نبدأ بدعوة الرسل "الإيمان والتوحيد". ثم إن صلحت عقائد الناس نبدأ بالأحكام، وبعد الأحكام نبدأ بالأخلاق، ويدل على هذا هدي النبي صلى الله عليه وسلم، أول ما بدأ في مكة بالتوحيد، وغرس في قلوب الناس الإيمان، ثم بعد ذلك دعا إلى الأحكام، فعندما انتقل صلوات الله وسلامه عليه إلى المدينة بين الله له الحلال والحرام، وفصل له الشرائع والأحكام، ولذلك تجد السور المدنية تتسم بطول آياتها وكثرة أحكامها، أما السور المكية فتتسم بقصر الآيات، والحجج الدامغات للذين كفروا عن سبيل الله فاطر الأرض والسماوات، تجدها شواهد الوحدانية، تنصب السور المكية، كلها قوارع تنزل على الذين كفروا، تبين لهم أنه لا إله إلا الله، وتأخذ بالقلب طوعاً أو كرهاً لكي يقول: "لا إله إلا الله"، فتأخذه تارة لكي ينظر أمامه، وتارة لكي ينظر فوقه وتحته وعن يمينه وشماله، ثم تلتفت حتى على دلائل التوحيد في نفسه وفي جسده وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ [الذاريات:21] فكانت آيات القرآن كلها تنصب في بدايته على هذا الأساس.
نوصي جميع إخواننا في مشارق الأرض ومغاربها أن يبدءوا بهذا الأساس، وإذا جاءت الأمة المهتدية في بلاد الكفر، أو غيرها -حتى من بلاد الإسلام- إذا جاءت عقيدة صافية وفق الله وسدد وأصلح؛ لأن الله يحب المخلصين، ويوفقهم، وهو معهم ينصرهم ويؤيدهم، ويربط على قلوبهم.
والأمر الثاني: بعدما نجد من المسلمين من صفت عقيدته وخلصت من الشوائب -بعد هذا الأصل العظيم- نبدأ ببيان الأحكام، لا يمكن أن نقول للإنسان: صل. وهو يعبد القبر! ولا يمكن أن نقول للإنسان: صل. وهو يستغيث بصاحب القبر! ولا يمكن أن نقول للإنسان: صل. وهو يذبح لزيد أو عمرو! لا بد -أول شيء- أن نبدأ بالعقيدة، فإذا صفيت جاءت الأحكام (فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله، فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في اليوم والليلة، فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقةً تؤخذ من أغنيائهم إلى فقرائهم) ما قال له: وأمرهم بالصلاة ولا الزكاة إلا بعد التوحيد والإيمان.
إذاً هذا سبيل الرسل، هذا هو عين الحكمة والصواب، لا يمكن أن تجلس مع إنسان أو تصلي معه وأنت تعلم أنه يستغيث بغير الله، ويستجير بغير الله، تتبطنه وتواليه، وتحس أنه كالمسلمين تغشه لنفسه.. أبداً، قل له في وجهه: هذا مسارٌ غير صحيح، أخلص لله أولاً (قل آمنت بالله ثم استقم) أول شيء الأساس فليعتن به، يعتنى به بأمور: عن طريق الدعاة، عن طريق الرسائل، والأشرطة التي تعتني بغرس العقيدة، فإذا وفق الله وخلصت العقائد، جاء التوجيه في الأحكام فنبدأ بالطهارة، ثم بالصلاة، كيف نتوضأ كيف نصلي؟ تعرف المرأة أحكام الحيض، أحكام الغسل من الجنابة، نقرأ فيها ونبحث عن رسائل مفيدة في هذه المسائل.
بعد هذا -بعد الأحكام- ننتقل إلى المعاملات، كيف نبيع؟ كيف نشتري؟ ما الذي أحل الله أن نأخذه؟ ما الذي حرم الله أن نأخذه؟ بعد هذا ننتقل إلى جمال الإسلام وكماله وبهائه في تلك الأخلاق العطرة، والسير الجميلة النضرة، فإذا أردت أن ترى المسلم الجميل الكامل الفاضل، فانظر إلى ذلك المسلم الذي جمع هذه الثلاثة الأمور، وانظر إليه حينما تأتيه الرحمة من الله فيتخلق بأخلاق المؤمنين قال تعالى: فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ [آل عمران:159] والإنسان إذا صفت عقيدته وكملت عبادته، واستقامت معاملته ظهرت آثارها على أخلاقه، فتجد أثر ذاك الإيمان الخالص الصافي من الشوائب يظهر في التعامل، وإذا بالرحمة تدخل إلى قلب المؤمن فيبدأ -سبحان الله- يرحم إخوانه المؤمنين، تجد التواضع، وتجد الكلام الطيب، العفة عن أذية المسلمين، تجد المسلم الحق قد سلم المسلمون من يده ولسانه، لا يغتاب، ولا ينم، ولا يفشي الحديث ليوقع الضغينة بين المؤمنين، يحرص على أخلاقه، يرحم من المسلمين ضعافهم، ويستر بإذن الله عوراتهم، ويفرج كرباتهم، الناس همهم الدنيا وهم ذلك العبد الصالح مكروباً يفرج كربته، أو مهموماً ينفس بإذن الله همه، فتجد أخلاق الإسلام تظهر بعد تحقيق هذه الثلاثة الأمور.
هذه الأمور التي هي العقيدة والأحكام، تجد بعدها الآداب، فإذا استقام القلب لله استقامت الجوارح: (ألا إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله).
فنسأل الله العظيم أن يصلح الأحوال، وأن يوجب لنا ولكم حسن العاقبة والمآل، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين , وصلى الله وسلم وبارك على نبيه وآله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر