أما بعد:
فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
إخواني في الله: إن لله على العباد نعماً عظيمة ومِنَناً جليلةً كريمة، وقد كان من أجلِّها وأعظمها على الإطلاق: هذا الكتاب المبين والصراط المستبين، الذي أخرج الله به العباد من الظلمات إلى النور، فأنار به القلوب، وشرح به الصدور، فانتقلت تلك النفوس المؤمنة من جحيم الهوى والشرور وأليم العذاب والغرور.
هذا الكتاب المبين الذي لا تنتهي عجائبه، ولا تنقضي غرائبه، هذا الكتاب الذي جعله الله تبارك وتعالى نوراً، هادياً للسداد والصواب.
كم نبَّه الله به من غافلين! وأيقظ به من نائمين! وهدى به من ضالين حائرين!
هذا الكتاب الذي فيه الوعد والوعيد، وفيه التخويف والتهديد، وفيه الترغيب والترهيب، وفيه ذكر النعيم وذكر الجحيم، كم فيه من آياتٍ تضمنت تلك العظات البالغات! كم فيه من آياتٍ أنار الله عز وجل بها السبل لطاعته وجنته! فما ألذ الموعظة إذا كانت من الله جل جلاله! وما أطيب العظات إذا كانت من فاطر الأرض والسماوات!
إن المواعظ رحمة من الله تبارك وتعالى، يهدي بها من الضلال، ويرحم بها من العذاب.
ومن هذه المواعظ: موعظةٌ خَتَمَ الله عز وجل بها مواعظ القرآن.
من هذه المواعظ: آية كريمة كانت هي آخر الوصايا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، قرع بها القلوب، فذكرها بالوقوف بين يدي الواحد الديان، آيةٌ ما عاش النبي صلى الله عليه وسلم بعدها إلا أياماً قليلة، كانت هي آخر الآيات، جاءت بعد مائتين وثمانين آية من الزهراء الأولى، تذكِّر العباد بيومٍ مشهود ولقاءٍ موعود، لا يغني فيه والدٌ ولا مولود، اشتملت على موعظتين ومشهدين عظيمين.
وأما المشهد الثاني: ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ [البقرة:281].
أما المشهد الأول: فذكَّرنا بيومٍ طالما نسيناه، وموقفٍ حقٍّ آمنا به وصدقناه، ذكَّرنا بيومٍ هو آخر الأيام، وذكَّرنا بيومٍ هو إما عذابٌ أو مسكٌ للختام، ذكَّرنا باليوم الآخر الذي تغصُّ فيه الحناجر، فلا يوم بعده، ولا يوم مثله، إنه اليوم العظيم، والموقف الجليل بين يدي العظيم الكريم.
وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ [البقرة:281]: هي الآية التي أقضَّت مضاجع الصالحين، كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ [الذاريات:17]، فيا لله مِن أجساد إذا أوت إلى فراشها تذكرت يوم لقاء ربها، فقامت تتقلب بين يديه، تناجيه وتناديه، تسأله الرحمة إذا حلَّت بناديه.
وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ [البقرة:281]: هذا اليوم العظيم الذي كتب الله عز وجل على كل صغيرٍ وكبير، وكل جليل وحقير أن يُقاد إليه عزيزاً أو ذليلاً، كريماً أو مهاناً، كتب الله عز وجل علينا أن نصير إلى ذلك اليوم المشهود، واللقاء الموعود.
ولكن قبل ذلك اليوم، وقبل ذلك المشهد العظيم: لحظةٌ ينتقل الإنسان فيها من دار الغرور إلى دار الشرور أو دار السرور، لحظةٌ من اللحظات التي يُكتب فيها للعبد أنه منتقل إلى ذلك اليوم، تلك اللحظة التي يُلقي الإنسان فيها آخر النظرات على الأبناء والبنات والإخوان والأخوات، يُلقي فيها آخر النظرات على هذه الدنيا، وتبدو على وجهه معالم السكرات، وتخرج من صميم قلبه الآهات والزفرات.
إنها اللحظة التي يؤمن فيها الكافر، ويوقن فيها الفاجر.
إنها اللحظة التي يعرف الإنسان فيها حقارة الدنيا.
إنها اللحظة التي يحس الإنسان فيها أنه فرَّط كثيراً في جنب الله.
إنها اللحظة التي يحس الإنسان فيها بالحسرة والألم على كل لحظة فرَّط فيها في جنب الله، ينادي: ربَّاه ربَّاه، ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ [المؤمنون:99-100].
إنها اللحظة الحاسمة، والساعة القاصمة التي يدنو فيها رسول الله -أعني: ملك الموت- لكي ينادي، فيا ليت شعري هل ينادى نداء النعيم أو نداء الجحيم؟!
ويا ليت شعـري هـل يقـال: يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً [الفجر:27-28].
أو يقال: (يا أيتها النفس الخبيثة! اخرجي إلى سخطٍ من الله وغضب)؟!
ويا ليت شعري كيف تكون الخواتم؟!
ويا ليت شعري من تلك الساعة التي أقضَّت مضاجع الصالحين؟ رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأَبْرَارِ [آل عمران:193]، وفي لحظةٍ واحدة أسلمت الروح إلى بارئها، وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ * إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ [القيامة:29-30]؟!
هناك يحس العبد بدارٍ غريبة، ومنازل رهيبة عجيبة!
فلا إله إلا الله! في لحظة واحدة ينتقل العبد من دار الهوان إلى دار النعيم المقيم!
ولا إله إلا الله! في لحظة واحدة ينتقل من ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة! وفي لحظة واحدة ينتقل من جوار الأشرار إلى جوار الواحد القهار! وفي لحظة واحدة طويت صفحاتُ الغرور، وبدا للعبد هولُ البعث والنشور!
ولا إله إلا الله! مضت الملهيات والمغريات، وبقيت التَّبِعات!
ولا إله إلا الله! من ساعةٍ تُطْوَى فيها صحيفتك، إما على الحسنات أو على السيئات، فتتمنى حسنة تزاد في الأعمال، أو حسنة تزاد في الأقوال، تتمنى صلاح الأقوال والأفعال! رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ [المنافقون:10]، فتحس بقلبٍ متقطعٍ من الألم، تحس بالشعور والندم؛ أن الأيام انتهت، وأن الدنيا قد انقضت؛ لكي تستقبل عالم الجد أمام عينيك، وتُرْهَن بما قلتَه وفعلتَه بين يديك، هناك حيث يُسْلِم الإنسان روحَه لبارئها، وينتقل إلى الآخرة بما فيها، وفي لحظةٍ واحدة أصبح العبد كأن لم يكن شيئاً مذكوراً، طُوِيت الصفحات، وصرتَ في عداد الأموات، تذكرُ كأن لم تكن في الدنيا، كأن عينك لم ترَ، وكأن أذنك لم تسمع، وكأن الأرض لم تَضْرِب عليها الخُطى!
ولا إله إلا الله! من ساعةٍ نزلتَ فيها أول مراحل الآخرة!
ولا إله إلا الله! إذ صرتَ في عداد تلك السفينة الماخرة، واستقبلت الحياة الجديدة، فإما عيشة سعيدة أو عيشة نكيدة، ونزلت في عداد أولئك الغرباء بين الأجداث والبلاء، هناك حيث تُفْسح القبور لأهلها، ويَزداد السرور على من حل بها، هناك حيث تنسى نعيم الدنيا مع النعيم المقيم، هناك حيث تنال من الله البركات والرحمات والتكريم! فيا ليت شعري ما حال أهل القبور! كم من قبورٍ في كهوفٍ مظلمة، وفي أماكن موحشة ملئت أنواراً وسروراً على أهلها!
ولا إله إلا الله! كم من قبورٍ حولها الأنوار مضيئة، والناس يسرحون ويمرحون، وفيها الجحيم والعذاب المقيم.
ولا إله إلا الله! من دارٍ تقارَب سكانها، وتفاوَت عُمَّارها، فقبرٌ يتقلب في النعيم والرضوان العظيم من الرحيم الحليم الكريم، وقبرٌ في دركات الجحيم والعذاب المقيم، ينادي ولا مجيب، ويستعطف ولا مستجيب، انقطعت الأيام بما فيها، وعاين الإنسان ما كان يقترفه فيها!
وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ [البقرة:281]، يـا أمـة محـمـد، وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ [البقرة:281]، يوماً لا يغني فيه والد ولا مولود، إنه اليوم المشهود، واللقاء الموعود.
فاللهم يا سامع الدعوات، ويا من تُحْيِي الأموات بعد الرفات، نسألك أن تجعل أسعد اللحظات وأعزها: لحظة المصير إليك.
اللهم اذكرنا فيها برحمتك، وعُمَّنا فيها بمغفرتك، إنك على كل شيء قدير، وبالإجابة جدير.
إنه اليومُ الذي يجمع الله فيه الأولين والآخرين.
إنه اليومُ الذي تنتهي عنده الأيام، وتتبدد عنده الأوهام والأحلام.
إنه يومٌ تجتمع فيه الخصوم، وينصف فيه الظالم والمظلوم.
إنه اليوم الذي أعده الله للعباد فتُنْشَر فيه الدواوين، وتُنْصَب فيه الموازين لحكومة إله الأولين والآخرين.
إنها المسئولية العظيمة.
إنها المسئولية الجليلة الخطيرة.
إنها مسئولية الآخرة.
كل هذه الجموع وكل هذه الأمم أقيمت في ذلك المشهد العظيم، وذلك اليوم العظيم؛ لكي تنهال عليها الأسئلة، وتعد لها درجاتها ودركاتها بما تجيب.
إنه اليوم الذي جمع الله فيه الأولين والآخرين من أجل السؤال هناك حيث تغص الحناجر بغصصها هناك، يوم الطامة والصاخة، يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ [عبس:34-37].
يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ * وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْويهِ * وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنجِيهِ [المعارج:11-14].
وخرج العبد حسيراً كسيراً أسيراً، خرج حقيراً ذليلاً؛ فلا ثوب يكسيه، ولا ثوب يواريه، خرج إلى الله حافياً عارياً، خرج إلى ربه، خرج إلى خالقه، خرج إلى جبار السماوات والأرض وقهارهما؛ لكي يسأله ويحاسبه ويجزيه.
فلا إله إلا الله! في يومٍ نُسِيَت فيه الملهيات، وزالت فيه المغريات، وعاينَ العبدُ فيه الحقائقَ أمام عينيه، جُمِعَت فيه الأمم على عرصةٍ واحدة، وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ [الأنعام:94]!
ولا إله إلا الله! من أرضٍ لم تطأها قدم غير تلك الأقدام!
ولا إله إلا الله! إذا شعت الشمس وتبدد الظلام!
ولا إله إلا الله! إذا طال الوقوف بين يديه!
ولا إله إلا الله! يوم يُرْهَن العبد بما جناه بيديه!
خرجت تلك الأمم حفاةً عراةً غرلاً، فأين الحرير واللباس؟! وأين الشدة والشوكة والبأس؟!
قد انكسر العباد لرب الجِنَّة والناس خرجوا منها صفر اليدين إلا من رحمته، ووقفوا في ذلك المشهد العظيم يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلىً عَنْ مَوْلىً شَيْئاً * إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ [الدخان:41-42]، يوم يفر المرء فيه من أحب الناس إليه، فلا يلتفت عن يمينه ولا عن يساره، وأبى الله إلا أن يشخص العبد إلى السماء بعينيه، ينتظر فصل القضاء، ينتظر حكم رب الأرض والسماء، أفي الجنة أم في النار يكون السواء! وشخُصَت الأبصار، وولَّت بين يدي الواحد القهار، وخرج أهل الصالحات وقد ابيضَّت الأيدي والوجوه بآثار الحسنات، خرجوا بذلك الأثر العظيم من الله الكريم، فابيضت عند الله وجوههم، وما عَظُمَ المقام عليهم، وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ [الأنبياء:103] ووقف العباد بين يدي رب العباد لكي يفصل بينهم في يوم التناد.
ونادى منادي الله لكل عبدٍ بما جنت يداه، ودعيتَ على رءوس الأشهاد لكي تسأل عن كل قولٍ قلتَه، وعن كل عملٍ عملتَه.
هناك حيث تقف بين يدي الله، والشهود حاضرة، والعيون إلى الله ناظرة.
هناك حيث يوقف العبد بين يدي الله جل جلاله فينادي منادي الله: يا فلان بن فلانة، قم للعرض على الله، فلا ينادَى أحدٌ بأبيه؛ لكي تزول الأحساب والأنساب، ويَذِل العباد بين يدي الله رب الأرباب، ودعيتَ أمام الأولين والآخرين فرَعَدَت فرائصك من خشية الله، واصطكَّت القدمان بين يدي الله، وجئتَ بزادك للقاء الله، وسألك الله عن هذه الأيام التي مضت، وعن هذه السنين والأعوام التي انقضت، سألك عن الشباب، وما كان فيه من اللهو مع الأصحاب والأحباب، سألك الله عن أيامٍ فنُشِرَت بين يديك، لا تخرِم منها لحظةٌ واحدة، فإما لك وإما عليك، عُرِض الشباب عليك بأيامه وما فيه من الشهوات والملهيات، فكُشِفت الأستار، وتبدَّت للأنظار.
هناك حيث تبيِّن الليالي بما اجترحتَ فيها.
هناك حيث تحمد عيناً سهرت على طاعة الله، وقدماً طالما انتصبت بالوقوف بين يدي الله، فقلتَ: رباه! أما ليلي: فوقوفٌ بين يديك أناجيك بالقرآن، وأما نهاري: فصيامٌ لوجهك يا رحمن.
وأما يديَّ: فأنت الشهيد وأنت المطلع، فكم سَتَرْتُ بها من عورات! وكم فرَّجْتُ بها من كربات! أنفقتُها لهذا اليوم العظيم، اللهم مددتها لهذا اليوم العظيم، وحُسْن ظني فيك، فلا تخيبني إذ وقفتُ بين يديك.
وأما جَناني: فأسكنته حبك وتأييدك، فعشتُ وأنت الشهيد، ووحَّدتُك وأنت الحميد المجيد، ما ناديتُ أحداً سواك، ولا تعلقت بشيء عداك، ربِّ صبَبْتَ عليَّ البلايا فعذتُ بك وحدك ولم أعذ بشيء عداك، وصبَبْتَ عليَّ الرزايا فصبرتُ واحتسبتُ لهذا الموقف بين يديك.
وأما لساني: فأنت الشهيد وأنت المطلع، فكم ذكرتك به مع الذاكرين! وكم أثنيت عليك به مع المثنين! وكم تلوت به آياتك! اللهم فعلتُها وقلتُها لوجهك العظيم، اللهم فعلتُها ابتغاء رضوانك الكريم.
اللهم قدمي: ضربتُ بها الخطى إلى بيتك اللهم خرجت بها في الظلمات، فقمتُ بها مع القائمين، ونصبتها مع الراكعين الساجدين.
أما يديَّ: فكم تبطنها الليل منتصباً بين يديك!
وأما وجهي: فقد عفَّرته بالسجود بين يديك!
فيا من خشع لك سمعي وبصري! نجني من هول هذا اليوم العظيم.
اللهم قليلٌ فعلتُه في جنبك، كثيرٌ أحسنتُ به إليك، اللهم مع هذه الحسنات والباقيات الصالحات فالفضل لك جل جلالك، والفضل لك وحدك لا إله غيرك، فقيل: مشهودك؟ فشهدت الأرض التي أقلتك، والسماء التي أظلتك، وقال الله: صدقتَ وبررتَ، خذوا عبدي إلى جنان النعيم، خذوه إلى الرضوان العظيم. فنال الكتاب باليمين، وصاح أمام العالمين: هَاؤُمْ اقْرَءُوا كِتَابِيَـهْ * إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَـهْ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَـةٍ [الحاقة:19-21]، وفتحت أبواب الجنان، وطاف الحور والوِلدان، وذهب النكد والنصب، وزال العناء والتعب.
فهنيئاً لتلك الأقدام التي انتصبت في جوف الليل بين يدي الله تنادي!
وهنيئاً لتلك الألسن التي ضجَّت بالدعاء بين يديه تناجي! اليوم يومها، والنعيم نعيمها، والسرور سرورها.
ونادى منادي الله تلك النفس الظالمة في جنب الله: يا فلان بن فلانة، أنْ قُمْ إلى العرض بين يدي الله. فسُئِل عن ليلٍ طالما قضاه في معصية الله، وعن نهارٍ أضاعه، وما الخير فيه أسداه.
فنادى منادي الله: أي حسنةٍ ترجوها عندنا؟! وأي صالحة قدمتَها في جنب الله؟!
فنُشِرَت الفضائح، وصاح بين يدي الله الصائح:
فقالت القدم: إلى الحرام طالما مشيتُ! وفي جنبك رباه أسأتُ واعتديتُ!
وقالت اليد: كم خطفتُ من الآثام! وكم هتكتُ وأكلتُ من الحرام! فلا منك خفتُ ربِّ حقيقة الخوف، أرجو رحمتك إذ وقفت بين يديك.
وقالت العين: أما أنا فقد نظرتُ وتمتعتُ، رباه! متَّعَنِي بالحرام، وتزيَّن بي في الفواحش والآثام!
وشهدت الفروج بآثامها!
والجوارح بخطيئاتها!
ثم عَرَضت على الله مظالمها.
وقالت الآذان: اللهم استمعتُ للحرام، فطالما سَهِر ليله يُمَتِّعُني بالآثام! وكم سمعتُ من الغيبة والنميمة!
اللهم إن عبدك هذا قد ظلم وفجر، وشَهِدَت الجوارح بآثامها، وعُرِضَت الفضائح بين يدي الله ربِّها، فقال الله: يا ملائكتي! خذوه، ومن عذابي أذيقوه، فقد اشتد غضبي على مَن قلّ حياؤه مني.
ووقفت تلك النفس الآثمة الظالمة على نارٍ تلظى وجحيم تغيظ وتزفر، وبدا لها مآلُها، فقالت وتمنَّت أن لو رجعت لكي تحسن في جنب ربها، فكُبْكِبَت على رأسها وجبينها، فهوت في تلك المهاوي المظلمة، وتقلبت بين الدَّرَكات والجحيم والحسرات، مضت الشهوات بأهلها، وانقضت الملهيات بأصحابها، وذاق الهوان بعد المعزة والكرامة، ونزل إلى ذلك الدَّرْك العظيم من الجحيم، فكأن لم يكن مَرَّ به نعيم قط.
روى مسلم في صحيحه عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه (يؤتى يوم القيامة بأنعم أهل الدنيا من أهل النار، فيُغْمَس في النار غمسة، فيقال: عبدي! هل مرَّ عليك نعيمٌ؟ فيقول: لا وعزتك) وهوى في تلك الدَّرَكات رهين السيئات، فلا مال، ولا بنون، ولا عشيرة، ولا أقربون، فُرِّق بين الأم وولدها، والآباء وأبنائهم، وفُرِّق بين الأصحاب والأحباب فراقاً لا لقاء بعده أبداً، فهناك نعيم لا جحيم بعده، وجحيم لا نعيم وراءه، فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ [الشورى:7].
وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ [الزخرف:76].
أي إخواني! لمثل هذا فأعدوا، أي إخواني! لمثل هذا فأعدوا، أي إخواني! لمثل هذا فاستعدوا، فإن الموت قريب، (وإذا أمسيتَ فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحتَ فلا تنتظر المساء)، (كن في الدنيا كأنك غريب).
تزودوا من هذه الدار من الباقيات الصالحات.
أكثروا من ذكر الله، فما خاب عبدٌ أكثر من ذكر الله، واعملوا بوصية الله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً [الأحزاب:41-42].
واعملوا بوصية الله في كتابه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [الحشر:18].
وحق على الله عز وجل ما من عبدٍ أطاعه واتقاه وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ [البقرة:223].
فمن يقول لك: ستلقاني وأبشر، كيف يكون الظن به جل جلاله.
وقال الله: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً * وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُنِيراً * وَبَشِّرْ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنْ اللَّهِ فَضْلاً كَبِيراً [الأحزاب:45-47].
أبشروا يا أهل الإيمان إذا صَلُحَت لله السرائر، ولقي العبد ربه موحداً على العقيدة التي ترضيه، والإيمان الذي هو القُرْبَة بين يديه، فله من الله البشارة، فإن عَظُمَت الإساءة، فأعدوا لها الاستغفار، وحُسْن الظن بالله العظيم القهار.
أيها الأحبة في الله: من رجا لقاء الله؛ فليخفف الأحمال من الأوزار:
أما الألسن فكفوها عن الغيبة، والنميمة، كفوها عن أعراض المسلمين، وتتبع عورات المؤمنين، وكفوها عن القيل والقال، وكثرة السؤال، وعمَّا لا يرضي الكبير المتعال.
وعُفُّو الأسماع عمَّا لا يرضي الله.
وأعدُّوا الجوارح وسخِّروها في طاعة الله.
اللهم رب السماوات السبع وما أظلَّت، ورب الأرضين السبع وما أقلَّت، ورب الشياطين وما أضلَّت، ورب كل شيء ومليكه، فاطر السماوات والأرض، يا من جل جلالك، وتقدست أسماؤك، نسألك باسمك الأعظم الذي إذا دعيتَ به أجبتَ، وإذا سئلتَ به أعطيتَ، أن ترحمنا عند السكرات.
اللهم اجعل خير أعمالنا خواتمها، وخير أعمارنا أواخرها، وخير أيامنا يوم نلقاك فيه.
اللهم آمِن فيه روعاتنا، واستر فيه عوراتنا، واغفر فيه زلاتنا وخطيئاتنا.
اللهم قبل أن نصير إلى الحفر المظلمة، وقبل أن نصير إلى تلك المشاهد المؤلمة، وفي هذه الدار، نسألك أن تذكرنا فيها بالرحمات، وأن تكفر عنا بها الخطيئات، وأن تستر لنا بها العورات، وأن لا تفضحنا بها أمام البريات، يا فاطر الأرض والسماوات.
اللهم أسبغ شآبيب الرحمات على موتى المسلمين.
اللهم اغفر لأهل القبور من المؤمنين.
اللهم أسبغ عليهم الرحمات.
اللهم أسبغ عليهم شآبيب الرحمات.
اللهم فرِّج عنهم ما هم فيه من الضيق والكربات، وخص بذلك الآباء، والأمهات، والإخوان، والأخوات، والأبناء، والبنات، يا فاطر الأرض والسماوات.
اللهم من لهم وقد صاروا في الغربة والوحشة؟!
اللهم من يرحم ضعفهم؟! ومن يجبر كسرهم سواك؟!
اللهم ارحم في ظلمة القبور وحشتهم، وآمن يوم المشاهد روعتنا وروعتهم.
لا إله إلا أنت سبحانك إنا كنا من الظالمين!
سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الصافات:180-182].
ما هو الحل، وما هو العلاج لقسوة القلوب التي تنتاب كثيراً من الناس، وكذلك قلة البكاء والخشية من الله، والتكاسل عن قيام الليل، والتهاون في الصلوات، وغيرها من الأمور والمعاصي التي تحدث من جرَّاء قسوة القلب، فما هي النصيحة؟ وما هو العلاج لذلك فضيلة الشيخ؟
الجواب: باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد:
فأحبك الله الذي أحببتني فيه، وأُشْهِد الله العظيم رب العرش الكريم أني أحبكم في الله، وأسأل الله أن يجمعنا بكم بهذا الحب فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ [القمر:55].
أخي في الله: إن قسوة القلب بلاء وأي بلاء! وإذا قسا لعبد قلبُه فقد حِيل بينه وبين الله، فالقلب القاسي بعيدٌ من الله، والقلب القاسي محروم من رحمة الله، فمن وجد في قلبه قسوةً فليبكِ على ما ابتُلي به، وليطَّرِح بين يدي الله.
أما العلاج لقسوة القلوب:
فتسألُ اللهَ مقلِّبَ القلوب أن يرزقك قلباً ليناً، وعيناً دامعة من خشيته، وقلباً رقيقاً لجلاله ومحبته، إذا ذُكِّر تذكَّر، وإذا بُصِّر تبصَّر، سَلِ اللهَ أن يعطيك، ونادِهِ، وناجِهِ يولِك، ولا يخيب ظنُّ عبدٍ صَدَقَ ظنُّه في الله بارِئِه.
أما الوصية الثانية: فأوصيك -أخي في الله- أن تبتعد عن الذنوب والمعاصي، فإن الذنب يطفئ نور الطاعة من القلوب، وإذا انطفأ نور الطاعة في القلب أظلم ذلك القلب، وتَحجَّر، واستحكمه الشيطان، فلا يستجيب بعدُ لداعي الرحمن.
أوصيك -أخي في الله- أن تفر من الله إلى الله.
أوصيك أن تتفقد المظالم التي بينك وبين بارئك، فلا بد من ذنب بينك وبين الله أوجب لك قسوة القلب، إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [يونس:44]، تفقَّد نفسك، وتفقَّد أهلك وزوجك، وتفقَّد أبناءك وبناتك، فلعل مظلمة حالت بين قلبك وبين الخشوع، ولعل مظلمة حالت بين عينك وبين الدموع.
ثم أقبل على الله بالتوبة النصوح إن وجدتَها، قال بعض السلف: أذنبتُ ذنباً فحُرِمْتُ قيام الليل ستة أشهر، فإذا كان هذا في ذنبٍ واحد يُحْرَم العبد المقام بين يدي الله، فحَرِيٌّ أن يُحْرَم التذكُّر والتدبُّر لآيات الله.
أما الوصية الثالثة: فخذ مِمَّا يرقِّق قلبك:
خذ هذا القلب الغافل الساهي إلى منازل الأموات، واجعله يعيش بين أهلها، وذكِّره تلك المنازل.
وأكثر من تشييع الجنائز، فإن تشييعها يحيي -بإذن الله- موات القلوب، انظر إليه محمولاً وحيداً فريداً، وانظر إلى أبنائه وأقاربه، وعشيرته، وأحبابه، كلٌّ يكفكف دمعه، وكلٌّ يجفف -مما أصابه- جفنه، ومع هذا لا يغني له من الله شيئاً.
فإن لم ينكسر قلبك، فخذه إلى المرضى، وأقمه مع أهل البلاء، واسمع تلك الصيحات، والآهات، والآلام التي يعيشها أهل الأسقام، عِشْ مع المرضى حتى تعرف عافية الله ونعمة الله التي نعَّمك بها، ثم خذ من العلاج النبوي.
أَدْنِ اليتيمَ إليك، وامسح برأسه، وضمه إليك ثم أحسن إليه، وقربه، وواسِه، فإن ذلك مما يزيل قسوة القلوب؛ لأن الله يرضى على مَن أحسن، ومِن أعظم الإحسان: الإحسان إلى اليتيم.
ثم كذلك خذ من عبير السلف الصالح، وسِيَر الصالحين من عباد الله المؤمنين من الماضين، وأدعوك أن تعيش مع الأموات من أهل الصالحات والطيبات، وأدعوك -أخي- أن تقرأ سيرة السلف الصالح، فإنها ترقق القلوب لله جل جلاله.
وأسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يحول بيننا وبين قسوة القلوب.
اللهم إنا نعوذ بك من قسوة القلب.
اللهم إنا نعوذ بك من قلب قاسٍ أمام ذكرك.
والله تعالى أعلم.
الجواب: المُنْبَغي على المؤمن أن لا ييئس من رحمة الله، وأن لا يقنط من روح الله، فإن الله يفرح بتوبة التائبين.
يقول: رباه أذنبتُ، وليس لذنوبي أحدٌ سواك، رباه أسأتُ وليس لإساءتي يمحوها أحدٌ عداك، يطَّرح بين يدي بارئه ويناديه ويناجيه ويسأله أن يمن عليه بالعفو فيما سلف، وأن يبدل الإساءة بالإحسان، وأن يجعله من أهل الطاعة والإيمان. هذا الذي يقوله، والقلب يتمزق حسرة وألماً في جنب الله جل جلاله.
والله تعالى أعلم.
الجواب: أسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يسلمنا وإياكم من الفواحش ما ظهر منها وما بطن.
اللهم إنا نسألك العافية، اللهم إنا نسألك العافية، وأن تمن على من ابتُلي بها في هذا المجلس بالعفو والعافية.
اللهم مُنَّ علينا جميعاً بالعفو والعافية، يا ذا الجلال والإكرام.
أخي في الله: إذا خلوتَ وغبتَ عن الأنظار، وأرخيت عليك الأستار، تذكر نعمة الله عز وجل عليك.
إذا خلوتَ تذكَّر المريض الذي يتأوه، واللهُ متَّعَك بالعافية!
تذكر الفقير الذي يكدح آناء الليل والنهار من أجل لقمة عيشٍ يسد بها رمقه الذي يؤلمه، واللهُ أغناك!
تذكر -أخي في الله- الخائف القلق المعذب الذي يعيش العذاب والنكد في الحياة، واللهُ أمَّنك من خوفها ونكدها!
أكان الجزاء أن تعصيه؟!
أكان الجزاء أن تحاربه بنِعَمِه التي أسداها إليك؟!
أهذا جزاء الإحسان؟! فما جزاء الإحسان إلا الإحسان، لا الجحود ولا الكفران.
فاتقِ الله بارِئَك، وخف من الله عز وجل فيما تقترفه بيديك، واعلم أن لله سطواتٍ، وأن له أخذاتٍ، فإن الله عز وجل لا يدع العاصي، ولا تزال المعصية بأهلها تتبعهم، فتنكِّد عليهم حياتهم أو آخرتهم، أو يجمع الله لهم بين العقوبتين، فإما أن يعذبه الله بمعصيته في الدنيا، وإما أن يعذبه بها في الآخرة، أو يجمع له بين النقمتين والمصيبتين.
فاتق الله عز وجل، وازجر نفسك بقوارع التنزيل، وذكرها سطوة العظيم الجليل، فإن ذلك أعظم زاجرٍ من حدود الله جل جلاله.
والله تعالى أعلم.
الجواب: إن المؤمن ليست له إجازة، إن المؤمن لا يزال في هم وغم حتى يلقى الله، فيلقي عصا الهموم والغموم بين يدي الله جل في علاه، فإن الله كتب على أهل الإيمان أنهم في ابتلاء واختبار، ولا تزال الدنيا تصب همومها وغمومها على أهل الإيمان حتى يلقوا الله العظيم الرحمن؛ ولكنها إجازة بمعنى.
فيا مَن متعك الله بأيامٍ خلوتَ فيها عن الأشغال! تذكر نعمة الكبير المتعال.
تذكر المأسور برزق أهله، لا يجد إجازة في مسائه ولا يومه.
تذكر المريض طريح السرير الأبيض، لا يستطيع أن يقوم على قدميه؛ لكي يتمتع بما أنت فيه.
فليكن من شكر الله عز وجل الذي أعطاك الفراغ: أن تحمد الله جل جلاله أولاً وآخراً، وقل بلسان الحال والمقال: اللهم لك الحمد أن فرَّغت قلبي من الشواغل، فأسألك يوماً يرضيك وغداً يكون في مراضيك، سل الله عز وجل أن يوفقك فيه للصالحات، ثم اغتنم هذه الإجازة، فإنها أيامٌ قليلة إما حُجَّةٌ لك، أو حُجَّةٌ عليك، (كل الناس يغدو فبائعٌ نفسه، فمعتقها، أو موبقها).
أخي في الله، إخواني في الله: كم من إنسان سرَّه أن يبقى إلى زمان ساءه ذلك الزمن إذا بقي إليه، فسلوا الله العافية، فإن الأيام فيها مغيَّبات لا يعلمها إلا الله عالم المغيَّبات، سلوا الله العافية، واسألوه أن يمتعكم بأيامٍ ترضيه عنكم، واعلموا -إخواني- أن أفضل ما تُقْضَى فيه الأعمار، وأفضل ما يُسْتَغل فيه الليل والنهار: ذكر الله الواحد القهار، فأكثروا من ذكر الله، فإن خرَجْتَ إلى البَرِّ:
فانظر إلى الأرض، وقل: سبحان من دَحَاها! أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا [النازعات:31].
ثم ارْمِ إلى السماء بطرفك وقل: سبحان من بناها! رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا * وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا [النازعات:28-29].
ثم انظر إلى هذا الملكوت الذي جعله الله مذكِّراً بالله جل جلاله، كل مَن حولك يقول بلسان الحال والمقال: لا إله إلا الله!
انظر إلى الأوراق فقل: سبحان من أجرى الماء فيها! سبحان من أحياها بعد موتها!
وانظر إلى الربيع بساطاً أخضر على الأرض فقل: سبحان مَن ألقى خضرته! وسبحان من زيَّنه وأنبته جل جلاله، وتقدست أسماؤه!
ثم انظر إلى حشراته، وهوامِّه فقل: سبحان من أحصاها عداً! ولا يغيب منها شيءٌ عنه فرداً، جل جلاله وتقدست أسماؤه!
وانظر إلى تلك الأمم التي تسعى وتدب بين يديك فقل بلسان الحال والمقال: سبحان من تكفَّل بأرزاقها! سبحان من أغناها وأولاها!
ثم انظر إلى كل شيءٍ حولك؛ انظر إلى الليل إذا أرخى بظلامه، فقبل لحظات يسيرة وأنت في ضياء الشمس، وإذا بك في ليل بهيم! لم يختلط الليل بالنهار، ولم يسبق العشي الإبكار! وسبحان الله الواحد القهار! سبحانه! وفي لحظة واحدة أظلمت عليك الدنيا، لو أخرجتَ يدك لن تَرى شيئاً فيها! سبحان الله جل جلاله!
وانظر إلى تلك الظلمات، واذكر ظلمة الحُفَر والقبور، علَّها أن توقظ قلبك لله العظيم الشكور.
ثم إذا أرخى عليك الليلُ سدولَه؛ فانظر إلى السماء وقل: سبحان من زيَّنها بالكواكب زينة وشهباً! لا يفوت عنها شيطان غائب.
ثم انظر إلى النهار فقل: سبحان من أقبله بضيائه! سبحان من أجرى شمسه! سبحان من أشع نوره! وأبلج ضياءه!
إنها آياتٌ ما أوجدها الله عبثاً، بل أوجدها لكي تخرج من هذا المكان الذي نزلتَه وأنت على عقيدة بأنه "لا إله إلا الله".
ثم إذا مضت عليك الأيام، وجاءك اليوم تلو اليوم فانظر إلى آخر الأيام إذا طُوِيَت رحلتُك وآذَنَتْ بالرحيل! فأين اللذات؟! وأين الملهيات؟! كأن لم يكن شيئاً، كأنك لم تنزل إلى ذلك المكان.
كأن شيئاً لم يكن إذا انقضـى وما مضى مِمَّا مضى فقد مضى
فقد مضت الأيام، فالله أعلم بما خبَّأْتَ فيها من خير ترجوه، أو شرٍ تلقى الله به إذا لقيتَه.
فخير ما يوصى به الإنسان: أن يعمِّر وقته بذكر الله.
والوصية الأخيرة: أن تسخِّر أبناءك وبناتك وزوجك لكي يتفكروا في ملكوت السماوات والأرض، قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ [يونس:101].
قل لهم بلسان الحال والمقال: من الذي دبر هذا الوجود؟!
من الذي جعل الشمس تجري، وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ * لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ [يس:39-40]؟! هل استطاع أحدٌ أن يكف شعاعها يوماً من الأيام؟! هل استطاع أحدٌ أن يجعل الليل ضياءً يوماً من الأيام؟! سبحانه جل جلاله! قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ [القصص:71]، سبحانه! لا إله إلا الله!
فخذ من هذه المواقف مدارس التوحيد، واغرس في تلك القلوب البريئة تعظيم الله الحميد المجيد، واللهِ إن أحبَّ الأشياء إلى الله، وأعظمها زلفى بين يديه: أن تغرس الإيمان في قلب ابنٍ من أبنائك، وأن تخرج من هذه الدنيا وابنك يوحد الله حق توحيده، ويعظم الله حق تعظيمه وتمجيده.
اللهم إنا نسألك أن تجعلنا من الذاكرين، وأن لا تجعلنا من الغافلين، وأن تجعل هذه الإجازة عوناً لنا على طاعتك، وأن توفقنا فيها لسبيل محبتك.
والله تعالى أعلم.
الجواب: أما الشيء الذي عليك: فتراه إذا اجتمع الخصوم بين يدي الله جل جلاله، تراه حينما تصْطَكُّ قدمك، فترى في صحيفة عملك أنك قد خَرَجْتَ من الدنيا عاقَّاً لوالديك والعياذ بالله.
إن إساءة الوالدين لا تدعو الابن للإساءة، إذا أساءا إليك فأحسن إليهما، فإن الله قد أمرك ببرهما، أحسِن إلى الوالدين ولو أساءا، وأنعم إليهما ولو كَفَرا، وكن معهما ولا تؤذهما، فإن الله أوصاك من فوق سبع سماوات أن تقول لهما قولاً كريماً، وأن تخفض لهما جناح الذل من الرحمة، وأن تقول: رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً [الإسراء:24]. لا تؤذهما، فإن الله لا يرضى منك أذيتهما، قابِلِ الإساءة بالإحسان، فإن أحبَّ البَرَرَة إلى الله وأعظم ما يكون البِرُّ: إذا كان من ابن يؤذيه أبوه وأمه، أفضل ما يكون البِرُّ إذا كان الوالد يؤذيك، وأفضل ما يكون البِرُّ إذا كانت الأم تهينك، أفضل البِرِّ يكون حينما تجد الإساءة وتقابلها بالإحسان؛ لأنك تريد ما عند الله، وتريد أن تمتثل أمر الله، ولا تريد منهما جزاءً ولا شكوراً.
فيا للهِ من ابن أحسن إليهما مع إساءتهما! فأحبه الله بذلك الإحسان، وبُشِّرَ البارُّ بكل خيرٍ من الله، فمَن حَفِظَ وصية الله في والديه فإن الله عز وجل سيوفقه لكل خيرٍ يرجوه، واللهِ ما قرع البارُّ باباً من الخير إلا فتحه الله في وجهه، ولا سلك سبيل طاعةٍ إلا يسر الله له من أمره.
بر الوالدين من أعظم القربات، وأحبها إلى الله، فابكِ على الأيام التي مضت، ثم تذلل لهما، وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ [الإسراء:24]، واسألهما قبل أن تبيت ليلتك هذه العفوَ منهما، واطَّرِح بين أيديهما، وقل: قد أسأتُ إليكما، وإني تائب من الإساءة إليكما. فلا تدري فقد تكون هذه هي آخر ليلةٍ لك من الدنيا، فاللهَ الله أن تصبح وقد عققت والديك!
ثم أعلموا يا إخواني: أن من أفضل ما يتقرب به الشاب المهتدي بعد توحيد الله: بر الوالدين، وقد قرنه الله بتوحيده، فالذي يريد التوفيق، والذي يريد المعونة والتيسير فليكن بوالديه رحيماً، حتى ولو كانا أمواتاً، فإن الوالدان أحوج ما يكونان إلى بر الولد إذا قُبِضا وانتقلا من الدنيا، أحوج ما يكون الوالدين إلى بر الولد إذا انتقلا إلى الله جل جلاله، أحوج ما يكونان إلى دعوة صالحة منك، قال: (يا رسول الله، هل بقي من بري لوالدَي شيء أبرهما به بعد موتهما؟ قال: نعم، الصلاة عليهما، والاستغفار لهما، وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما)، واللهِ ما ذكرتَهما بدعوة إلا سخر الله لك إذا صرت إلى مصيرهما من يذكُرك بمثلها وخيرٍ منها، فاحتسب عند الله في بر والديك أحياءً وأمواتاً.
نسأل الله تعالى أن يوفقنا لبرِّ الوالدين، وأن ينجينا من العقوق، وأن لا يجعلنا من أهله.
فإن العاق ولو كان مطيعاً فهو محبوس عن الجنة، قال بعض العلماء في قوله تعالى: وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ [الأعراف:46] قال: إنهم رجال خرجوا إلى الجهاد دون إذن الوالدين، استشهدوا وقُبِلَت شهادتهم، فإن أرادوا دخول الجنة بالشهادة حبسهم العقوق؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لا يدخل الجنة عاقٌّ)، وإن أرادوا دخول النار بالعقوق حبستهم الشهادة، فالشهيد كريم عند الله جل جلاله، فيُحْبَسون عن دخول الجنة، ثم بعد فترة يؤذن بدخولها، ولذلك قال الله عنهم: لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ [الأعراف:46] يعني: يطمعون في دخولها؛ ولكن يُحبسون بسبب عقوق الوالدين.
فعقوق الوالدين أمر خطير.
بل قال بعض العلماء في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يدخل الجنة عاقٌّ) قال: إن معناه أن الغالب في العاق أن لا يوفق لحسن الخاتمة -نسأل الله السلامة والعافية- والغالب أن الله يستدرجه حتى يمكر به -والعياذ بالله- فيأخذه على سيئةٍ يَشْقَى بها، فيخسر الدنيا والآخرة، نسأل الله السلامة والعافية.
نعوذ بالله من العقوق.
فإياك أن تصبح وفي قلب والديك عليك شيء.
إياك أن تخرج من هذا المسجد وتفكر في شيء إلا أن ترضيهما قبل أن يناما ليلتهما هذه، فلعلها أن تكون آخر ليلةٍ لك من الدنيا.
فاتقِ الله في والديك، اتقِ الله في الوالدين، وامتثل أمر الله.
نسأل الله العظيم أن يسلمنا من الزلل، وأن يعصمنا في القول والعمل.
والله تعالى أعلم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر