يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102] .. يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً [النساء:1] .. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً [الأحزاب:70-71].
أما بعد:
فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته:
إخواني في الله: الحمد لله الذي جمع قلوبنا بالقرآن، وألف بين أرواحنا بالطاعة والإيمان.. الحمد لله الذي خشعت له قلوبنا، وذلت له رقابنا، وتعفَّرت بالسجود له جباهنا.. الحمد لله الذي لم يجعل سجودنا لحجر ولا لشجر ولا لمدر ولا لبقر ولا لقبر.. الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله.. الحمد لله كالذي نقول، والحمد لله خيراً مما نقول.
إنه الإيمان، أن تعبد الله على نور من الله ترجو ثواب الله، وتخشى عذاب الله، تعيش به حميداً، وتموت به قرير العين سعيداً، قال صلى الله عليه وسلم: (من كان آخر كلامه من الدنيا لا إله إلا الله دخل الجنة)، وقال سبحانه وتعالى: إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ * قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ [يس:25-27].
إنه الإيمان الذي غفر الله به الذنوب والعصيان.. إنه الإيمان الذي أخرج أصحابه بالروح والريحان، ورب كريم راضٍ غير غضبان، وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (يقول الله تعالى: ما ترددت في شيء ترددي في قبض روح عبدي المؤمن، يكره الموت وأكره مساءته) الله أكبر! ما أعظم مقام أهل الإيمان عند العظيم الرحمن!
إنه الإيمان الذي بشر الله أهله بالخير والرحمات والجنان، فقال سبحانه وتعالى: وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ [البقرة:223] بشر المؤمنين بالرحمات، وبشرهم بالعفو والمكرمات، ويقول مخاطباً نبيه عليه من الله جميل الصلوات: وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلاً كَبِيراً [الأحزاب:47].
سبحان من خلقك وصورك وأنت في الظلمات في ذلك الظلام من الأرحام، فلا طعام ولا شراب ولا كلام، ولا يسمعك ولا يراك إلا هو سبحانه العلَّام!
سبحانه ما أحكمه!
خلق الإنسان فصوره وشق سمعه وبصره، وتبارك الله أحسن الخالقين، ما من شيء في الوجود إلا وهو دليل على أنه الواحد المعبود.
هو الذي بث الأرواح في أجسادها، خلق الخلق فأحصاهم عددا، وقسم أرزاقهم فلم ينس منهم فردا، ما كانت الطبيعة يوماً من الأيام رازقة، بل الله هو الرزاق ذو القوة المتين وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ [الذاريات:56-57].
سبحانك يوم خلقت! سبحانك يوم كنا في العدم وأخرجتنا وأسبغت الآلاء والنعم! سبحان من خلق آدم بيده فشرفه وكرمه، وأسجد له ملائكته، خلق الإنسان من طين وجعل نسله في سلالة من ماء مهين. حملته أصلاب الرجال وغيبته ترائب النساء، وقذف في تلك الأرحام في ذلك البهيم من الظلام، والتقت النطفة على قدر قد كتبه الله لها فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ [المرسلات:23]، نعم القادر على خلقه، ونعم القاهر لكل شيء، الباسط للجميل من رزقه.
الله خالقنا وخالق كل شيء، جرت الشمس بقدرته، ونوّر القمر بقدرته، وأظلم الليل بقدرته، وأضاء النهار بعظمته، سبحان مدبر الوجود، سبحان الواحد المعبود، سبحان من له الملكوت والجبروت، الحي الذي لا يموت.
سبحان من فتحت السماء أبوابها لرحمته! فكم من دعوة أجابها، وكم من كربة كشفها، وكم من هموم وغموم أزالها! سبحان من لا تحصى نعمه، ولا يكافأ فضله ولا كرمه!
ومن الإيمان بالله: أن تملأ القلوب بالحب لله، ومن الإيمان بالله صدق الحب لله والشوق إلى رحمة الله، فإن المؤمنين على حب لله رب العالمين.
من علامة الإيمان حب العظيم الرحمن، وكيف لا تحبه وما من طرفة عين إلا وله النعم، وله الفضائل والمنن؟! ما من طرفة عين إلا وأنت ترفل في نعمه وفي جوده وفي فضله وكرمه.
الصبر على البلاء من الإيمان بالله واحتساب الأجر عند الله عز وجل، فما صبر إلا من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، أعد للشدائد صبره، أعد للنكبات والفجائع والنائبات أعد لها الصبر واحتساب الأجر.
الإيمان ذلة لله، وعبودية خالصة لوجه الله.
إذا كمل إيمان العبد حسن نطقه وسلم لسانه، فالإسلام أن يسلم المسلمون من يدك ولسانك، وزلات جوارحك وأركانك، كما قال صلى الله عليه وسلم: (المسلم من سلم المسلمون من يده ولسانه) وقال عليه الصلاة والسلام: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت).
فإذا كمل إيمان العبد استقامت جوارحه على طاعة الله، وكان على منهج الله ومرضاته، إذا استقامت القلوب لله بالإيمان استقامت الجوارح والأركان بأطيب الخلال، وأجمل الخصال، فمن علامة المؤمنين أنهم على أكمل الأخلاق وأحبها وأحسنها وأجملها، قال صلى الله عليه وسلم: (أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً).
ولقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن شمائل المؤمنين الكريمة؛ من العفو عمَّن زل لسانه أو زلت جوارحه وأركانه، واحتساب الأجر عند الله. المؤمن يعفو عمن ظلم، ويعفو عمن أساء، يحتسب الأجر عند الله في عفوه.
ومن كريم خلال المؤمنين وجميل خصالهم أمرهم بطاعة الله، ونهيهم عن حدود الله ومحارمه، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، فيحيون شعائر الله، ويميتون شعائر أعداء الله، كل ذلك علامة للمؤمنين، ودليل صادق على حب الله رب العالمين.
إذا رضي الله عن العبد أرضاه، وأسعده وأولاه، وثبت قلبه على الصراط المستقيم، وجعل الخير له حيثما توجه، يرضى الله عنك في الدنيا ويرضى عنك عند الممات، ويرضى عنك في الآخرة، فإذا كمل إيمان العبد كمل رضوان الله عنه، وإذا رضي الله عنه أرضى عنه خلقه، قال صلى الله عليه وسلم: (من أرضى الله بسخط الناس رضي الله عنه وأرضى عنه الناس، ومن أرضى الناس بسخط الله سخط الله عليه وأسخط عليه الناس).
اللهم إنا نسألك إيماناً تؤمننا به في دنيانا وأخرانا، وتوجب به العفو عنا يا أرحم الراحمين.
المؤمنون أهل ثبات وأهل يقين، لا تقلبهم الفتن، ولا تضرهم المحن، ولكنهم على الثبات، عضوا على حبل الله بالنواجذ، واستمسكوا بعروة الله الوثقى، فالجنة والنار نصب أعينهم، والآخرة كأنها قريبة منهم، يثبت الله بذلك قلوبهم، ويشرح بذلك صدورهم، حتى يكونوا على صراط الله ومنهجه.
إذا كمل إيمان العبد كملت استقامته وثبتت قدمه، واستمسك بعروة الله الوثقى إلى لقاء الله جل وعلا، حتى إذا جاءه الموت جاءه على خصال الخير، جاءه الموت راكعاً أو جاءه ساجداً، أو جاءه صائماً، أو جاءه في الليل قائماً، أو جاءه حاجاً أو معتمراً أو مزكياً أو واصلاً للرحم أو باراً لأمه وأبيه، يأتيه الموت على أحسن الحالات وأشرف الساعات، لكي يتم الله رضوانه عليه، يثبت الله بالإيمان القلوب، فهذا من ثبات القلوب.
أما إذا ضعف الإيمان اختلجت القلوب عن الطاعات، وتلبست بالمعاصي والسيئات، حتى لا يبالي الله بها في أي أودية الدنيا هلكت، إذا ضعف إيمان العبد فإنه يتزلزل وسرعان ما ينتكس قلبه يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ [الحج:11].
فمن عواقب الإيمان حلول الجنان والروح والريحان، وما يكون من العفو والصفح والغفران، ومن عواقب الجنان دخولها والتنعم بسرورها، فالله أكبر! إذا وطئ العبد بابها، الله أكبر! إذا حل بين خيامها، الله أكبر! إذا دار عليه غلمانها وحورها، الله أكبر! إذا ارتشف من رحيقها، الله أكبر! إذا جاور النبيين والصديقين فيها، الله أكبر! إذا رأى منازل الجنان، وزال عنه الهم والغم وما كان من الدنيا من كدر، الله أكبر! إذا انتهت عند باب الجنة الهموم، وزالت عن أهل الطاعات الغموم وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ [فاطر:34].
اللهم إنا نسألك بأسمائك الحسنى وصفاتك العلى أن تكمل إيماننا، اللهم كمل إيماننا، اللهم كمل إيماننا، اللهم إنا نسألك إيماناً كاملاً، وعملاً صالحاً ورزقاً طيباً، اللهم ثبتنا على الإيمان واختم لنا بخاتمة الصفح والغفران يا كريم يا منان، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبيه وآله وصحبه أجمعين.
الجواب: باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:
فأما ما ورد في السؤال من حكم كشف المرأة على الرجل وكشف الرجل على المرأة فإنه إذا وجدت الحاجة فلا حرج في ذلك، وقد ثبتت الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أقر النساء بخروجهن معه في الغزوات، قالت أم عطية رضي الله عنها كما في الصحيح: (كنا نغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نداوي الجرحى ونسقي المرضى).
لا حرج في كشف الرجال على النساء والعكس إذا وجدت الحاجة، أما إذا وجد الطبيب من الرجال للرجال، ووجدت الطبيبة من النساء للنساء، فحرام على المرأة أن تذهب إلى الرجل، وحرام على الرجل أن يذهب إلى المرأة، فلا يجوز كشف الرجال على النساء، ولا كشف النساء على الرجال إلا من ضرورة وحاجة، وتتحقق الضرورة أولاً بوجود المرض، وبوجود الشكوى من المريض، أما إذا لم توجد الشكوى وكان الفحص فحصاً فضولياً أو كمالياً فإنه لا يجوز لها أن تكشف ولو لم تجد رجلاً.
الأمر الثاني بعد وجود الحاجة: أن تؤمن الفتنة من ذلك الكشف، فيكون الكشف بالوجه المعروف الذي أذن الله عز وجل فيه، فيكشف الطبيب عن المحل المحتاج لعلاجه، ويتقيد بالنظر على قدر الحاجة دون زيادة في الزمان ودون توسع في المكان، وكذلك الحال بالنسبة للمرأة إذا كشفت على الرجل، أما إذا وجد البديل فإنه كما قلنا يحرم على الرجال أن يكشفوا على النساء ويحرم على النساء أن يكشفن على الرجال.
أما ما سألتيه من تذكير أخواتك المسلمات فاعلمي أختي المسلمة أن الله يرضى لك الطاعة ويكره لك المعصية، استقيمي على طاعة الله فإن الله يحب المطيعين، وأكثري من ذكر الله فإن الله يحب الذاكرين، وخذي بخصال الخير التي توجب رحمة الله وأعظمها بر الوالدين وصلة الأرحام، والإحسان إلى ما عندك من الأبناء والبنات، قال صلى الله عليه وسلم: (من ابتلي بشيء من هذه البنات فرباهن فأحسن تربيتهن، وأدبهن فأحسن تأديبهن إلا كن له حجاباً من النار) فأحسني إلى أبنائك وبناتك، واتقي الله في ليلك ونهارك، وأحسني إلى بعلك، كما قال صلى الله عليه وسلم في حديث أم سلمة : (فأيما امرأة ماتت وزوجها عنها راضٍ؛ دخلت الجنة) فأحسني إلى البعل وأكرمي العشير، فما رأيت من خير فاحمديه، واشكري الله عز وجل على ما كان منه من خير، وما رأيت من شر وسوء فاستريه لعل الله أن يسترك في يوم تنكشف فيه السرائر والفضائح.
أحسني إلى الجيران فقد قال صلى الله عليه وسلم: (لا تحقرن جارة لجارتها ولو فرسن شاة) أحسني إلى الجيران بالإحسان إليهم بالمال.. بالإحسان إليهم بالدعوة إلى الخير.. بستر عوراتهم وتفريج كرباتهم، واحتسبي عند الله الجميل.
الوصية الأخيرة: أن تكفي اللسان، فإن اللسان مطية إلى النيران: (قال: يا رسول الله! أو إنا مؤاخذون بما نقول؟ قال: ثكلتك أمك يا
الجواب: أما ما ذكرته -أخي في الله- من تذكيرك بالله ودعوتك إلى الله؛ فلا خرس لسان منك داعياً إلى الله وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ [فصلت:33] لا أحسن مما تقول ما دام أنه ذكر لله، ولا أطيب مما نطقت به ما دام أنه دعوةٌ إلى الله، فلا أحسن من هذا الكلام الذي تتكلمه، فأسأل الله العظيم أن يعظم به الأجر لنا ولك ولجميع المسلمين.
فالدعوة إلى الله عماد الدين، وهي الخير لعباد الله المؤمنين، فاستدم على ما أنت عليه ثبت الله قلبك ولسانك.
أما الوصية الثانية: فلا يضعفك تقصير الأب في جنبك وجنب الناس، وإياك أن يأتيك شيطان الإنس والجن ويقول: أنت تعظ الناس وأبوك في غفلة، فما ضر عكرمة كفر أبيه، ولا ضر الصحابة رضوان الله عنهم ما حصل من تقصير من عشيرتهم ومن قرابتهم، عليك نفسك والله حملك أمرها، فإن استجاب الناس لك فالحمد لله ، وخير من الله، وإن لم يستجيبوا؛ فألق الأحمال وأعذر إلى الله الكبير المتعال، وسر إلى الآخرة وقد بلَّغت رسالة الله، وأديت شريعة الله إلى عباد الله، فلا تضعف بتقصير الوالد.
وأما ما كان من أذية من أبيك؛ فاصبر رحمك الله على أذيته، واصطبر على ما كان من بليته، فإن الله يعظم أجرك، ولا تقصرنَّ في بره، فإن أبلغ البر إذا آذاك أبوك، ولعلك من التزامك وطاعتك لربك وهدايتك سلط الله عليك أباك؛ لكي يرفع من درجاتك ويعظم من حسناتك، ويكفر ما كان من خطيئاتك وزلاتك، فاصبر رحمك الله، وكثير من الأخيار إذا التزموا أوذوا من الآباء وأوذوا من الأمهات ومن الإخوان والأخوات وهذه الأذية كلها ابتلاء من الله جل وعلا، فاصبر واصطبر ولا يمنعك أذية الوالد لك أن تبره، فإن سعداً رضي الله عنه وأرضاه لما عصت أمه ودعته إلى الكفر وامتنع من ذلك أنزل الله عز وجل عليه: وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً [لقمان:15].
فبر أباك وأحسن إليه ولعل الله أن يجعل من برك له سبباً في هدايته وصلاحه، نسأل الله له ولجميع المسلمين التوبة والإنابة والله تعالى أعلم.
الجواب: أما مرض الشبهة فإنه مرضٌ يأتي بسبب ضعف الإيمان، فالشبهات ترد على الإنسان بضعف إيمانه، فيغذي إيمانه، أولاً: بسؤال الله أن يصرفها عنه وأن يثبته على الإيمان الذي يحول بينه وبين هذه الشبهات، فأول علاج لمن بلي بالشبهات والشكوك والوساوس والأذية في قلبه وفي صدره، أن يستعيذ بالله جل وعلا، لأن الله يقول في كتابه: وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [فصلت:36] فأمر الله بالاستعاذة إذا حصلت الشبهة، فأكثر من الاستعاذة فإن الله يعيذ من استعاذ.
أما الأمر الثاني: فأن تأخذ بالأسباب التي تبعد الشبهة عنك، فإذا كانت الشبهة من جليس سوء فابتعد عنه وإياك أن تجلس معه؛ لأن الله أمرك أن تقوم إذا ذكر الله بما لا يليق به في مجالس الظالمين وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [الأنعام:68]؛ فلا يجوز للإنسان أن يجلس في المجالس التي تثار فيها الشبه ويضعف فيها الإيمان.
أما الأمر الثالث من الأسباب التي تعين على انصراف الشبهة: أن تأخذ بالأسباب التي تزيد في الإيمان، ومن أعظم ذلك تلاوة القرآن وتدبره، أن تختار لتلاوة كتاب الله أنسب الأوقات، وأن تقبل على كلام الله وأنت تحس كأن الله يخاطبك، وكأن الله يناديك، وكأن الله يوصيك، فإذا استشعرت بهذا الشعور دخلت الآية إلى سويداء قلبك وتغلغلت إلى جنانك وكان لها أطيب الأثر على جوارحك وأركانك، وكف الله بها عنك الوساوس والشكوك، القرآن فيه الحجج وفيه الآيات، وهذه الحجج والآيات تقوي القلب، وتجعل فيه الحصانة والقوة من هذه الشبهات التي ترد على القلب.
أما مرض الشهوة فابتدئ بأسبابها، فما كان من أسباب تثير الشهوة فابتعد عنها، غض البصر عن الحرام، وعن استماع الفحش والآثام، واجعل جوارحك سليمة عن مظان الريب والفتن؛ فإن ذلك يعصم الله به قلبك، فإن الإنسان إذا حفظ سمعه وبصره صانه الله عن الشهوات، ولم يجد الشيطان عليه سبيلاً أن يعلق قلبه بها، ثم خذ بالأسباب التي تزيد في إيمانك حتى تقوى على البعد من الشهوات، وقال بعض العلماء: إن عقوق الوالدين، وقطيعة الرحم من أعظم الأسباب التي توقع الإنسان في الانتكاسة بشهوة أو شبهة، فيبتعد الإنسان عن عقوق الوالدين وأذية الوالدين, وقطع الأرحام، لأن الله يقول: فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ [محمد:22-23] قال: أصمهم فلا ينتفعون بموعظة، وأعمى أبصارهم فلا يهتدون ببصيرة -نسأل الله السلامة والعافية- وكل ذلك بسبب قطيعة الرحم، فأكثر ما يقع الإنسان في شهوة أو شبهة إما بذنب بينه وبين الله وإما بذنب بينه وبين عباد الله.
ونسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجيرنا من مضلات الفتن ما ظهر منها وما بطن، والله تعالى أعلم.
الجواب: الشهرة مصيبة، وحب النظر فتنة، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (من تعلم العلم ليماري به السفهاء أو ليجادل به العلماء -وفي رواية: أو ليصرف وجوه الناس إليه- فليتبوأ مقعده من النار).
فالعلم يراد به وجه الله، ولا يراد به أي شيء سواه، وكان بعض السلف إذا أراد أن يحُدث قيل له: حدثنا، قال: حتى تأتي النية، كانوا يخافون من النيات وحب الشهرة وحب الظهور، وقال سفيان الثوري رحمه الله: [ما عالجت شيئاً أشد علي من نيتي، إنها تتقلب علي] وهو إمام من أئمة السلف في الصلاح والورع.
فحب الظهور، وحب الشهرة، وحب التفاف الناس ونظر الناس فتنة، ويأتي صاحبها يوم القيامة بين يدي الله وقد عمل الصالحات والأعمال الطيبات، (فيقول الله: ماذا أردت بهذا، فيقول: يا رب أردت وجهك، فيقول الله: كذبت، وتقول الملائكة كذبت، إنما تعلمت وليقال فلان عالم وقد قيل، اذهبوا به إلى النار) نسأل الله السلامة والعافية.
وكان أبو هريرة رضي الله عنه إذا حدَّث بهذا الحديث غشي عليه ولربما يغشى عليه ثلاث مرات، يغشى عليه فيفيق، ثم يغشى عليه فيفيق، ثم يغشى عليه فيفيق رضي الله عنه وأرضاه من شدة أمر الإخلاص في العلم.
لذا ينبغي على الإنسان أن يوطن نفسه بالإخلاص قبل العلم، وقد يصاب طالب العلم في بداية طلب العلم بحب الشهرة، ولكن إذا أراد الله به خيراً كسر قلبه في آخر العلم، ولذلك قالوا: أول العلم طفرة وغرور وآخره إنابة إلى الله جل وعلا وخشية.
فالعلم قد يكون في أوله شيء من الزهو، فينبغي على طالب العلم ألا يسترسل مع هذه الآفات؛ لأنه ربما يجد من يزكيه ويثني عليه، فلا تغتر بهذا، تعلق بالله فإنه نعم المولى ونعم النصير، والله! إذا رضي الله عنك، وسخطت عنك الخليقة كلها لم يضرك سخطها، وإذا سخط الله عنك ورضيت عنك الخليقة كلها، لم ينفعك شيء أن تكون راضية عنك، تعلق بالله، فإنه لا ملجأ من الله إلا إليه، والغرور والزهو لا فائدة فيه، تصوَّر لو أن الأنظار رفعت إليك والأسماع أصغت إليك ثم انتهى كل شيء، ما الذي تجنيه من نظر الناس واستماعهم والتفافهم حولك إلا أجرٌ ترجوه لآخرتك، فالإنسان العاقل الحكيم لا يلتفت إلى مثل هذا، فالغرور والشهرة وحب الظهور والعجب بالنفس من آفات القلوب،ولذلك قال مطرف بن عبد الله الشخير وهو من أئمة السلف: [لأن أبيت نائماً وأصبح نادماً أحب إلي من أن أبيت قائماً وأصبح معجباً].
فالإنسان الحكيم العاقل لا يلتفت إلى الدنيا فمتاعها قليل وما عند الله خير وأبقى، إن العمل القليل الذي يراد به وجه الله أعظم لأجرك، والعمل الكثير الذي لا يراد به وجه الله لا خير فيه وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً [الفرقان:23] فالله .. الله أن تجعل علمك وتعليمك هباءً منثوراً، الله .. الله أن تذهب عليك ساعات ليلك وساعات نهارك دون أن تجني بها حسنة عند ربك، نسأل الله العظيم أن يسلمنا من هذه الفتن وأن يعيذنا منها، والله تعالى أعلم.
الجواب: أما بالنسبة للحديث الأول والذي سئل فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (أيزني المؤمن؟ قال: نعم، أيسرق؟ قال: نعم، قالوا: أيشرب الخمر؟ قال: نعم، قالوا: أيكذب؟ قال: لا) قال العلماء: لأن أعظم الذنوب التي يعصى الله عز وجل بها الكذب، حتى إن الشرك فيه كذب على الله عز وجل، وافتراءٌ عليه، ولذلك تبوأ الكذب هذه المكانة -والعياذ بالله عز وجل من السوء والإثم- ولأن الكذب يتضمن فساد الظاهر والباطن، فنفى النبي صلى الله عليه وسلم أن يكون المؤمن كذاباً، وقال بعض العلماء: إن الإنسان إذا كذب وألف الكذب قل أن يستقيم له لسان -والعياذ بالله- على طاعة الله عز وجل، إذا كان لسانه دائم الكذب فإنه يلعنه الله عز وجل، فلا يستقيم له لسان على طاعة الله، والدليل على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل الكذب من علامة المنافق، فقال: (إذا حدث كذب) فالكذب لا خير فيه، فلعظيم ما فيه من النفاق والتدليس والغش بيّن النبي صلى الله عليه وسلم أن المؤمن الصادق لا يتلبس به.
وأما بالنسبة للزنا وشرب الخمر والسرقة، فإنه قد يسرق الإنسان وهو مؤمن، قد يسرق لوجود الحاجة ووجود الضرورة إلى المال، أو يسرق لغلبة الفتنة بالدنيا، ولكن مع هذا لا يصل إلى ما يصل إليه الكاذب، وهكذا بالنسبة للزنا، وصحيح أنه انتهاك للأعراض واقتراف لفراش المسلم، وأذية له، خاصةً إذا كانت المرأة متزوجة، ولذلك عد النبي صلى الله عليه وسلم من أكبر الكبائر أن يزاني الرجل بحليلة جاره -والعياذ بالله- فالزنا ذنب عظيم، وقد وصفه الله عز وجل بأنه: فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً [الإسراء:32]، ولكن لا يصل إلى ما يصل إليه الكذب؛ لأن الكذب يمكن أن يكون في مرحلة من المراحل سبباً في سفك الدماء، فلو جاء إنسان وكذب على قبيلة، وكذب على قبيلة أخرى، وأوقع بينهم الشحناء لسالت دماء بكذبة واحدة، فلذلك الكذب بلاؤه عظيم وشره كبير، وعظَّم النبي صلى الله عليه وسلم أمره وأخبر أنه لا يصل إلى ما يصل إليه الزنا من الإثم والخطيئة.
فقال العلماء: لعظيم ما يكون من الكذب إلى درجة أنه قد يكون سبباً في الشرك والكفر بالله عز وجل، نفاه النبي صلى الله عليه وسلم عن المؤمن، بخلاف المعاصي التي لا يسلم الإنسان منها في بعض الأحيان؛ لضعفه وغلبة الشهوة عليه.
أما الحديث الثاني وهو قوله عليه الصلاة والسلام: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن) وقوله في هذا الحديث: (أيزني المؤمن؟ قال: نعم) فالجواب عن هذا كما يقول العلماء رحمة الله عليهم: أن قوله: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن) أي أنه لا يمكن أن يفعل الزنا وفي قلبه الإيمان بالله عز وجل، حتى ورد في الخبر أنه يخرج حتى يصير كالظلة عليه، فإذا انتهى من زناه وذنبه -والعياذ بالله- رجع ناقصاً عليه بقدر ما أصاب من الذنب، فلا يمكن أن يقع في حدِّ الله عز وجل من الزنا وإصابة هذا الحد العظيم إلا وعنده ضعف في الإيمان، ولذلك قالوا: لا يزني وهو مؤمن، أي: وهو يستشعر عظمة الله ويستشعر هيبة الله عز وجل، وهذا صحيح؛ لأن الله عز وجل أخبر أن أهل تقواه إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ [الأعراف:201].
فهذه الأحاديث كل حديث منها على وجه، والقاعدة في الأصول أنه لا يحكم بالتعارض بين النصين إلا إذا استويا دلالةً وثبوتاً ومحلاً، فمحل الحديثين هنا مختلف، حديث الذي ينفي الزنا من المؤمن -أي: أثناء الزنا- أن يكون مؤمناً مستشعراً لعظمة الله، والحديث الذي يثبت أنه يكون منه الزنا بحسب ما يكون منه من ضعف إيمان وتلبس بالعصيان، والله تعالى أعلم.
الجواب: أولاً أحب أن أنبه على أن الأخ ذكر أنه ملتحق بحلقة التحفيظ، وبعض الناس إذا سمع أن إنساناً مطيعاً يفعل معصيةً ربما يسيء الظن بمن ينتسب إليهم، وهذا ينبغي التنبيه عليه، فإن الإنسان إذا وقعت منه المعصية قد تقع في حال ضعف، وقد تقع ابتلاءً من الله له بسبب ذنب بينه وبين الله، أو ذنب بينه وبين عباد الله، فأراد الله أن يعاقبه في الدنيا قبل الآخرة، وقد يكون مستدرجاً من الله، نسأل الله أن لا يجعلنا ذلك الرجل، فإن المستدرج لا يزال يبتلى بالعادة تلو العادة حتى يستدرج إلى الزنا ثم يختم له بخاتمة السوء -والعياذ بالله- لكن أسأل الله جل وعلا ألا يجعل صاحبنا ومن ابتلي بها من أهل الإيمان ذلك الرجل.
أخي في الله، أوصيك أولاً بأمور:
أولاً: أن تدعو الله عز وجل فسبحان من بيده القلوب! فإن قلبك إذا استقام، استقامت جوارحك، فسل الله جل وعلا أن يهبك قلباً خاشعاً يطمئن بذكره وينفر عن عصيانه، سل الله؛ فإن الله يجيب من دعاه.
أما الأمر الثاني: فخذ بالأسباب، لا تجلس لوحدك، ولا تأت إلى فراشك إلا عند النوم وأنت تَعِبٌ.
الأمر الثالث: أن تشغل وقتك بطاعة الله، فإن الطاعة تدعو إلى أختها، وإذا عمّرت وقتك بطاعة الله وذكر الله؛ أمنت الفتنة وسلم لك دينك وعصم الله عز وجل نفسك من معاصيه.
والأمر الرابع: أوصيك -أخي في الله عز وجل- إذا ابتليت بهذه المعصية وضعفت نفسك أن تديم الاستغفار، وأن لا تقنط من رحمة الله عز وجل ولو عدت إليها ملايين المرات، حاول قبل الوقوع فيها أن تجاهد نفسك، فإن غلبك الشيطان وفعلتها فحاول أثناء فعلها أن تنزع، فإن ذلك خوفاً من الله، فإن غلبك وفعلتها فأرق من عينك دمعة الندم، وبث من قلبك الأشجان والألم لعل الله عز وجل أن يمن عليك بالعفو وهو أهل الكرم.
فكن على إحدى هذه الثلاث المراتب، أولاً: أن تجاهد نفسك فإن الله يسمعك ويراك، ويطلع على سرك ونجواك، ويعلم تلك اللحظة وأنت في الصراع في داخل قلبك -أأقدم أو لا أقدم، أقدم أو أحجم- وأنت تصطبر وتتألم وتتأوه، فإذا نزعت في هذه الحالة فهي أكمل الحالات وأحبها إلى الله وأقربها زلفى عند الله، أن تأتيك المعصية فتبقى في جهاد مرير فتكون العاقبة أن تنجو بنفسك منها، لأنَّ الله لا ينجي العبد أثناء الوقوف أمام المعاصي وتيسر أسبابها إلا إذا أحبه، ولذلك يلطف الله بأحبابه كما لطف بيوسف عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، فإنه لما وقف أمام المعصية لطف الله به؛ لأنه من عباده المخلصين، فهذه المرتبة الأولى أن تجاهد نفسك، وعود نفسك على ذلك.
ثم الأمر الثاني: فإن اقتربت منها فاقترب متذمراً، واقترب ساخطاً متألماً، ولا تقترب ضاحكاً مسروراً، فإنَّ الله يمقت هذا الضحك والسرور، ولربما عاقبك الله على أُنسِك بها فغضب عليك، فإذا وقعت فيها وذقت أول لذاتها فاستشعر شيئاً من الآخرة فلعلَّ الله عز وجل أن يلطف بك، وينزعك عن هذه المعصية، فإن نزعت عند بداية العصيان، وعند بداية الذنب، فتلك رحمةٌ من الله جل وعلا، ولك عند الله منزلة، فإنَّ الله يبدل هذه الإساءة منك إحساناً، ويكون انتزاعك منها أثناء تلبسك بها في بدايتها دليل على حبك لله عز وجل، والله سبحانه كريم إذا أتيته بالعقبى التي فيها الإنابة محا ما كان من الإنسان في الأولى من الإساءة، فلعل الله -إذا رأى منك أنك تنزع أثناء المعصية- أن يغفر لك ما كان من العصيان.
الأمر الثالث: فإن تمردت النفس وعتت، وطغت وبغت وتلذذت بهذه المعصية، وذقت حلاوتها فبمجرد أن تنزع عنها تب إلى الله وقل: أي شيء فعلت؟! وأي ذنب اقترفت؟! وما يدريني فلعل الله أن يكون غاضباً علي، وأكثر من الندم والاستغفار والتوبة إلى الله وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى [طه:82]، وإذا أصبحت كلما فعلت العادة ترجع إلى الله بتوبة، وكلما يمكر الشيطان بك ويوقعك في هذه المعصية، تريق دمعة الندم وتتوب إلى الله، أبدل الله سيئاتك حسنات، وأغاظ الله عدوك الشيطان، فأصبح ما يكون منك من عصيان، رفعة درجة لك في العاقبة، وهذا من رحمة الله عز وجل، ولكن بالتوبة الصادقة، فإذا تبت إلى الله توبة صادقة بدل الله سيئاتك حسنات.
فهذا مما أوصيك به، وأسأل الله العظيم أن يسلمنا وإياكم من الفتن ما ظهر منها وما بطن، والله تعالى أعلم.
الجواب: أما بالنسبة لمذهب أهل السنة والجماعة أن الإيمان اعتقاد في الجنان وقول باللسان وتحقيق بالجوارح والأركان، تزيده الطاعة وينقصه العصيان، والدليل على زيادة الإيمان بالطاعة قوله تعالى: وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدىً وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ [محمد:17] فأخبر سبحانه وتعالى أنه يزيد المهتدين هدى، وقال تعالى: أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَاناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ [التوبة:124] فأهل الإيمان دائماً في زيادة وفي كمال وعلو من الله جل وعلا، فدلت هذه النصوص على أن الإيمان يزداد بالطاعة.
وأيضاً ينقص بالمعصية كما قال عليه الصلاة والسلام: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن).
فالإيمان ينقص بالمعصية وهذا هو مذهب أهل السنة والجماعة بالنسبة لنقصان الإيمان وزيادته.
أما بالنسبة لما سألت عنه من حال الإنسان في حال إقباله على الله، ونشاط نفسه على طاعة الله، وفي حال إدباره عن الله وضعف نفسه عن طاعة الله، فإذا أقبلت نفسك على طاعة الله فجد واجتهد، فتلك رحمة من الله لطف الله بك حينما أعطاكها. فاغتنم الأوقات واغتنم اللحظات إذا وجدت في نفسك انشراحاً للخير فاغتنمه بطاعة الله، وأما إذا وجدت من نفسك التقصير فأوصيك بوصيتين أوصى بها العلماء في حالة الفتور والضعف:
الأولى: حدود الله لا تقربها.
الثانية: حقوق الله وواجباته لا تضيعها.
فإذا حفظت هذين الحقين: الواجبات أديتها والمحارم اجتنبتها؛ فأنت على خير -بإذن الله عز وجل- إذا أصابك الضعف فإياك أن يصل بك إلى تضييع واجب أو فعل محرم، فإذا كنت في هذه الحالة -في حال ضعف النفس- محافظاً على واجبات الله وفرائض الله، بعيداً عن حدود الله ومحارم الله فأنت على خير.
فهذا مما ينبغي على المسلم أن يعتني به في حال ضعف إيمانه، وكمال إيمانه، لكن ينبغي على الإنسان إذا ضعفت نفسه أن يتفقد نفسه فيرى ما هي الأسباب -كما ذكرنا فيما قبل- وأن يأخذ بالأسباب التي تزيد في إيمانه لعلَّ الله أن يرحمه بها، والله تعالى أعلم.
الجواب: الله المستعان، أنت على خير، فهل صمت النهار وقمت الليل وبلغت ما بلغه الصالحون الذين كانوا قليلاً من الليل ما يهجعون؟!
أخي في الله: انظر في الطاعات إلى من هو أكثر منك، ولا تنظر إلى من هو دونك، فإذا نظرت إلى من هو أكثر منك احتقرت نفسك وأخذت بأسباب بلوغ الكمال، أما تعظيم الرجاء؛ فإنه لا ينبغي للمسلم أن يفعل ذلك وهو على خطر عظيم، فإن تغليب الرجاء أمنٌ من مكر الله، ولا ينبغي للمسلم أن يكون على هذه الحالة، وكذلك تغليب الخوف قنوطٌ من رحمة الله، ولا ينبغي للمسلم -أيضاً- أن يكون على هذه الحالة، بل ينبغي له أن يجمع بين الأمرين: خوفٌ من الله ورجاءٌ في رحمة الله، وقال العلماء: هما جناحا السلامة لمن يطير إلى رحمة الله جل وعلا، ولذلك ذكر الله أهل الجنة بهاتين الصفتين -يدعوننا خوفاً وطمعاً- فقال تعالى: إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً [الأنبياء:90]، وقال تعالى: تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً [السجدة:16] .. أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ [الزمر:9].
فينبغي الجمع بين هذين الأمرين، وكون الإنسان يقول: إني أُغلِّب جانب الرجاء والله حليم رحيم، لا يأمن أن يقع في حدود الله عز وجل، وكون الإنسان يقول: الله شديد البطش عظيم القوة عظيم السلطان، لربما أهلكني وأنا مقصر في ذنوبي وما كان مني تجاه ربي لربما غلب عليه فيأس وقنط من رحمة الله عز وجل، والعياذ بالله.
فينبغي أن تجمع بين الأمرين كما جمع بينهما أصحاب نبيك عليه الصلاة والسلام ورضي الله عنهم أجمعين فإن جمعت بينهما سعدت وأفلحت ونجحت وكنت على هدي السلف الصالح، والله تعالى أعلم.
الجواب: يقول الله تعالى: الم [العنكبوت:1] الله أعلم بالمراد بهذه الحروف، ذكر الله عز وجل هذه الحروف للعرب وهي تتكلم بلسانها؛ لكي يعجزهم ويقول: هذه الحروف من كلامكم، ولا يستطيع أحد أن يدرك حقيقتها إلا بوحي من الله جل وعلا، ولذلك نقول: الله أعلم بالمراد بقوله: الم [العنكبوت:1]، وكذلك قوله: الر [يونس:1]، وقوله: المر [الرعد:1] وقوله: كهيعص [مريم:1].
وأما قوله: أَحَسِبَ النَّاسُ [العنكبوت:2] أي: أظن الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون، فالناس لفظ عام يشمل المؤمنين والكافرين، ولكنَّ المراد بهذه الآية المؤمنين خاصةً لقوله بعد ذلك: أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ [العنكبوت:2]، وقوله: أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا [العنكبوت:2] أن يتركوا بدون تمحيص من الله، وابتلاءٍ واختبارٍ منه عز وجل، كلَّا. مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ [آل عمران:179] لابد من الامتحان، ولابد من الاختبار، ولابد من الابتلاء الذي يظهر به حال العبد، فهذه الفتن في قوله تعالى: أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا [العنكبوت:2] فدل على أن الإيمان قول باللسان كما أنه عقيدة في الجنان وعمل بالجوارح والأركان كذلك هو قول باللسان أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ [العنكبوت:2] أي: لا يختبرون من الله عز وجل، فسبحان من يختبرهم! وطوبى لمن اختبر فنجح في اختباره مع ربه، فأظهر لله خلوص قلبه، وصدق إيمانه وصلاح قوله وعمله.
أما الفتن التي يفتن الله بها العبد فهي تنقسم إلى قسمين: فتن في دينه، وفتن في دنياه.
أما فتنه في دينه فهذه ترجع إلى ما يحدث من الشبهات والأذية؛ مثل ما كان عليه أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من كلام كفار قريش لهم ومجادلتهم لهم ومعاداتهم لهم، كل ذلك من فتن الدين، أي: أن الله افتتنهم وامتحنهم بهذه الفتن؛ لكي يظهر صدق إيمان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وابتلاهم بالشدائد من فتن الدين، ولذلك لما جاء يوم الأحزاب قال الله عز وجل عنه: إِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً [الأحزاب:10-11] معناه أنه إذا وجد الإيمان وجدت الزلزلة ووجد الابتلاء ووجد الاختبار والامتحان من الله عز وجل، فزلزل الله الصحابة زلزالاً شديداً، ولكنَّ هذا الزلزال أظهر كمال إيمانهم وكمال إحسانهم وصدق إنابتهم إلى الله سبحانه وتعالى وَلَمَّا رَأى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَاناً وَتَسْلِيماً [الأحزاب:22].
والله يبتليك في نفسك ببلايا الدنيا، فهي -أيضاً- من الفتن، يلتزم الإنسان بدين الله فإذا به يفتن في نفسه فيجد الهموم ويجد الضيق النفسي والقلق والألم والحيرة وكل ذلك؛ لكي يقول: يا ألله، لكي يقول: اللهم إني أرجو رحمتك، لكي يفر إلى الله، ويلتجأ إليه، فيعود هذا البلاء رفعةَ درجةٍ وخيراً له في دينه ودنياه وأخراه، يبتليه في جسده فيفقده السمع ويفقده البصر فيقول: الحمد لله، ما دام ديني سالماً فإنني بخير، قال بعض السلف: ما ابتلاني الله ببليلة إلا كان له عليَّ فيها ثلاث نعم. الأولى: أنها لم تكن في ديني، والثانية: أنه لم يبتلني بما هو أعظم منها، والثالث: أنه رزقني الصبر عليها.
فلذلك يحمد الإنسان ربه ويسترجع فيصبح امتحان الله له وفتنته له دليلاً على إيمانه.
أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ [العنكبوت:2] لا والله بل إنهم يفتنون ويختبرون ويمتحنون من الله عز وجل؛ ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حيَّ عن بينة.
قال بعض العلماء: مثل الفتن والمحن لقلوب المؤمنين كالذهب، إذا حك ازداد لمعانه واشتد ضياؤه وحسن بهاؤه، نسأل الله العظيم أن يجعلنا وإياكم ذلك الرجل وأن يلطف بنا وبكم في الفتن ما ظهر منها وما بطن، والله تعالى أعلم.
الجواب: على المرأة المسلمة أن تتقي الله عز وجل في وجهها، كما أنها تتقي الله في سائر جوارحها، فلتتقي الله في هذا الوجه، لتتقي الذي خلقه وصوره وشق سمعه وبصره، تتقي الله عز وجل في جمالها، وتتقيه في هذه النعمة التي أنعم الله بها عليها، وإن المعاصي تطفئ نور الإيمان من القلوب وتذهب جمالها وبهاءها، فلتتقي الله المرأة المسلمة في حجابها ولتدنِ عليها الحجاب وترخه عليها فإنه أتقى لربها، وأبعد لها عن حدود خالقها، وأيما امرأة تساهلت في حجابها وكشفت حجابها للناس؛ فنظرت إليها عين مسمومة ففتنت في دينها، نالت إثمها ووزرها والعياذ بالله.
وينبغي على المرأة المسلمة أن تتقي الله في حجابها، وأن تخشى الله عز وجل من أن تفتن عباد الله عز وجل بالنظر إليها، فإن أحبت أن تتمادى في غيها فالله الموعد إذا ضمها لحدها وقبرها، والله الموعد إذا وقفت بين يدي الله ربها وتعلق بها من فتن بالنظر إليها.
الوجه عورة وكشفه بلاء وفتنة، فينبغي للمرأة المسلمة أن تخاف الله وتتقيه خاصةً إذا كانت شابة، ولذلك أجمع العلماء على أن المرأة الفاتنة الشابة يجب عليها أن تغطي وجهها، والخلاف في الوجه والكفين الذي يتذرع به البعض محله أن لا تكون هناك فتنة، أما إذا وجدت الفتنة بالنظر إليها، وكانت جميلة فاتنة؛ فإنه -بالإجماع- ينبغي عليها أن تستر وجهها وأن تغطي ذلك الوجه، والله تعالى أعلم.
الجواب: باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:
فالنصيحة خير لمن تكلم بها وخير لمن سمعها وعمل بها، النصيحة -في الحقيقة- ما هي إلا حجةٌ تلقى من الله عليك، وستأتي بين يدي الله عز وجل، ويسألك عن هذا الكلام الذي سمعته هل عملت به أو لم تعمل؟ ويقول الله لك: يا عبدي! فعلت كذا؟ فقلت: يا رب فعلت، فيقول الله: ألم ينصحك عبدي فلان، ألم تبلغك حجتي مع فلان؟ فتكون النصيحة حجة لك أو عليك، ليست النصيحة كما يظن الناس أنها مجرد كلام يقال ممن يتكلم به، لا والله! ما هي إلا حجة قيضها الله لكي تلقى في هذه الأذن، فتشهد بين يدي الله عز وجل أنها سمعت، وتلقى في تلك القلوب فتشهد بين يدي الله أنها أصغت وأنها وقرت، فهذه النصيحة ما هي إلا حجة لك أو عليك.
فالإنسان الموفق الصالح إذا سمع النصيحة يقول لمن نصحه: جزاك الله خيراً، نعم إنني مقصر وأسأل الله العظيم أن يوفقني، فيرد الرد الجميل الذي يدل على خوفه من الله وخشيته لله سبحانه وتعالى، أما أن يتهرب أو يتهكم أو يعتذر لنفسه فهذا على خطر حينما يقول: ساعة لربك وساعة لقلبك! ما هي الساعة التي للقلب؟ هل المراد بها الساعة التي تنتهك بها حدود الله وتغشى بها محارم الله؟! فبئس -والله- الساعة، لا والله لا يملكها القلب، ولا يرضى بها قلب يؤمن بالله عز وجل.
أما إذا كانت من الترويح والاستجمام، والمراد بها الأمور المباحة التي يوسع الإنسان فيها عن ضيق نفسه فلا حرج، كون الإنسان إذا أصابته السآمة والملالة خرج إلى نزهة، أو لاطف أخاه أو مازحه أو ضحك معه بالمعروف لا حرج، كان محمد بن سيرين -سيدٌ من سادات التابعين- إذا جن عليه الليل سُمع البكاء من بيته، يقوم بكتاب الله عز وجل فتبكيه آيات القرآن، وإذا أصبح الصباح سُمع الضحك من بيته، إذا جن عليه الليل أعطى حقه لله، وإذا جاء الصباح والنهار آنس الناس وأدخل السرور على طلابه وأدخل السرور على أحبابه وزواره، وهذه من الأمور التي وسع الله بها على الأخيار، فديننا دين رحمة، ودين تيسير، ولكن بشرط ألا يبالغ في هذه الأمور.
وكما مثل العلماء للمرح واللهو بأنه كالملح في الطعام، فإذا كان اللهو مباحاً والمرح مباحاً وزاد عن حده كان كملح في الطعام أفسده، وكذلك طاعة الإنسان الملتزم إذا أكثر في المزاح والعبث والضحك واللهو، ذهب بهاء الهداية وذهب بهاء الإنسان الملتزم بدين الله وشريعته، ونظرت إليه العيون نظرة انتقاص بقدر ما يكون منه من زيادة في هذا الأمر، ولكن إذا أخذ بالمعروف، وبالقدر المعتبر، فإن ذلك خير ولعل القلوب أن تتقوى على الطاعة بما يكون من المباحات، وكان ابن عباس رضي الله عنهما إذا وجد السآمة في مجلس العلم رمى بالطرفة والنكتة التي يضحك بها القوم، وهي من المباح ومن الأمور التي أحلها الله عز وجل دون أن يكون فيها أذية لمسلم أو هتك ستر الله عليه أو نحو ذلك من الذنوب والمعاصي والله تعالى أعلم.
الجواب: أسأل الله أن يشفيك ويشفي كل مكروب ومنكوب ، أخي في الله أوصيك بالصبر واحتساب الأجر، وقد مرت عليك الأيام والليالي، ومرت عليك الأسابيع والشهور، الله أعلم كم كتب في ميزان حسناتك من خيرات، الله أعلم كم مرت عليك ساعات وأنت ترتجف وتتأوه، لو تعلم ما لك من الله من المثوبة لتمنيت أن حياتك كلها في هذا، فنعمت عيون المبتلين إذا لقوا الله رب العالمين، ورأوا في دواوين الحسنات الأجور والدرجات، فنعمت هناك عيونهم، وبهجت قلوبهم وارتاحت نفوسهم، ورضوا عن الله ورضي عنهم ربهم.
فأوصيك بالصبر، فما أطيب العيش بالصبر! قال عمر رضي الله عنه: [وجدنا ألذ عيشنا بالصبر] حينما تنزل في السمع أو في البصر أو في السكر أو في الضغط أو في غير ذلك من المصائب والمتاعب، فتتأوه في ليلك وعليك الملك، لا تتأوه إلا كتب آلامك وأحزانك وأشجانك، ولا يتألم أهلك وزوجك ووالداك إلا كتب الله لهم أجر ذلك، ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل الله إلا كتب الله عز وجل ما كان من عناء ونصب وبلاء، حتى ورد في الحديث: (إذا رأى أهل البلاء يوم القيامة ما لهم عند الله من الأجر، تمنوا أن حياتهم كلها بلاء) إذا رأى أهل البلاء ما لهم عند الله من الأجر في البلاء تمنوا أن حياتهم كلها بلاء، تبتلى نفسيتك.. يأتيك الضيق النفسي والألم فأوصيك بالصبر.
ثم اذكر الله ذكراً كثيراً كما أمرك الله عز وجل أن تذكره، وبذكر الله يطمئن قلبك، وتثبت شخصيتك؛ لأن الله يثبت بالإيمان ويثبت بذكره القلب والجنان، قال تعالى: أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد:28] أوصيك بالصبر واحتساب الأجر، وإياك أن تشكي الله إلى خلقه، فاجعل شكواك إلى الله، فهو منتهى كل شكوى، وسامع كل نجوى وكاشف كل ضر وبلوى، فهو المستعان وهو حسبنا ونعم الوكيل، قال يعقوب عليه السلام: وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ [يوسف:18]، وقال عليه السلام: إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ [يوسف:86] فرد الله ولده إليه وأقر عينه به، وأراه ذلك اليوم الذي اطمأنت فيه نفسه وارتاح فيه قلبه، فاصبر واحتسب الأجر عند الله ولا تشكِ إلا إلى الله.
واعلم -رحمك الله- أنك كلما كظمت غيظك، وكتمت سرك، واشتكيت إلى الله جل وعلا، كلما كان ذلك أرفع لدرجتك، إلا أن تشتكي طلباً للدواء، فإنه يجوز للإنسان، بل ينبغي للإنسان إذا وجد طبيباً أن يصارحه بآلامه، وذلك لا يضر في التوكل، فإن سيد المتوكلين وإمام الصابرين صلوات الله وسلامه عليه كان يقول: (وا رأساه) فاشتكى عليه الصلاة والسلام، فلا حرج أن تشتكي ولكن اشتكي إلى الله، واعلم أن الداء والدواء من الله منزل الداء ومنزل الشفاء.
الأمر الرابع الذي أوصيك به حسن الظن بالله، لعلَّ الله أن يأتي بالفرج، لعلَّ الله أن يأتي بالمخرج، ثم أحسن الظن بالله فإن الشيطان دائماً جرب لا يأتيك أقل شيء ولو شوكة تشاكها حتى يأتيك الشيطان ويقول: الله لا يريدك.. الله يكرهك؛ لأن الشيطان لا ينفث إلا الخبث، ولا ينفث إلا سوء الظن بالله، ولا ينفث إلا الأمور الخبيثة، فإياك أن يسوء ظنك في البلاء، إذا جاءك المرض والسقم وجاءك إحساس في نفسك أن الله يمقتك ولا يحبك فاعلم أنه من الشيطان واتفل عن يسارك وقل: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، اللهم تعلم سري ونجواي أشكو إليك وأنت أرحم الراحمين، فالله أرحم بك من أمك وأبيك، فإن أيوب لما أصابه البلاء قال: أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ [الأنبياء:83] ما ساء ظنه بالله عز وجل أبداً، فلا يأتيك سوء الظن ولو أصابك الضيق النفسي والاكتئاب والتعب والأمراض الشديدة في ضيق النفس وهي من أصعبها، فلا يسوءن ظنك بالله. فينغاظ عدو الله لما يراك وأنت تملأ قلبك بالمحبة لله، وأنت تحسن الظن بالله، وكأن الله ينظر إلى ذلك القلب في خضم البلاء، وينظر إليه في شدة الضيق والكرب وهو مسلم إلى الله لا إلى شيء سواه.
القلوب يا إخوان لها أعمالٌ صالحةٌ، وقال بعض العلماء: أعمال القلوب في بعض المواقف أعظم عند الله من أعمال الجوارح، ولذلك أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن الرجل الذي قال: (إذا أنا مت فأحرقوني ثم اسحقوني ثم ذُّروا نصفي في البر ونصفي في البحر فلئن قدر الله عليَّ ليعذبني عذاباً لا يعذبه أحداً من العالمين، فلما مات فعلوا به ذلك فأوحى الله إلى البحر أن اجمع ما فيك، وأوحى إلى البر أن اجمع ما فيك، فإذا هو قائم بين يدي الله جل جلاله) سُحق حتى صار كالرماد، فأين الذين يقولون الآن: إنه إذا انفجرت بالإنسان قنبلةٌ من يعيده؟ يعيده الذي أنشأه أول مرةٍ وهو بكل خلقٍ عليم، سف كالسفساف وسفته الرياح فأخذه البحر وأخذته الصحراء في فيافيها، فقال الله للبحر: اجمع ما فيك، وقال للبر: اجمع ما فيك، فإذا هو قائم بين يدي الله، قال: (ما الذي حملك على هذا يا عبدي؟ قال: خوفك، قال: قد غفرت لك).
قالوا: كمال الإيمان، وكمال الخوف من الله من أعمال القلوب العظيمة عند الله سبحانه وتعالى، فاملأ قلبك بحب الله ولو انصبت عليك الشدائد والمصائب والمتاعب، فاملأه حسن ظن بالله، وتذكر أنه اللطيف والرحيم والكريم والحليم وقل: يا رب أسأت، ولو عذبتني لكنت عدلاً في عذابك، ولكن أرجو رحمتك التي وسعت كل شيء، وأسأله أحد الأمرين: إما أن يعطيك صبراً أضعاف ما أعطاك من البلاء، أو يعطيك كشف الضر والعناء، أما أن تتسخط عليه أو تشكي إلى الناس فلا، واملأ قلبك بهذه العقيدة فإن الله يرفع بها درجتك ويعظم بها أجرك.
نسأل الله الكريم رب العرش العظيم أن يلطف بنا وأن يرحمنا برحمته الواسعة، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا وآله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر