أما بعد: فإن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
السؤال: ما رأيكم في هذه العبارة التي قررها كاتب إسلامي كبير، قال هذا الكاتب: والبدعة الإضافية والتّركية، والالتزام بها في العبادات المطلقة خلاف فقهي، لكل فيه رأيه، ولا بأس بتمحيص الحقيقة بالدليل؟
فأقول: إن هؤلاء الصحابة اختلفوا في مسائل كثيرة، ولكن نلاحظ أن هذا الاختلاف لم يتعد الخلافات التي يسمونها بالفروع الفقهية، ولم يتعد إلى الاختلافات الاعتقادية الفكرية، وهذا من فضل الصحابة.
فهؤلاء لما اختلفوا في بعض المسائل الفقهية لم يعاد بعضهم بعضاً، مثلاً: منهم من تمسك بقول الإمام أبي حنيفة، فقال: خروج الدم ينقض الوضوء. وفيهم من تمسك بقول الإمام الشافعي فقال: مس المرأة ينقض الوضوء. ونحو ذلك من الاختلافات، ولكن هل وصل الأمر بذاك الصحابي الذي يرى بأن خروج الدم ينقض الوضوء باجتهاد منه، ألا يصلي وراء أخيه الصحابي الذي يراه توضأ ثم خرج منه دم ولم يعد الوضوء كما نفعل نحن اليوم؟
الجواب: لا والله، لم يؤدِ بهم الاختلاف إلى هذا الشقاق وهذا التنازع والتنافر.
إذاً: إذا كان لابد من الاختلاف؛ لأن الله فرض ذلك على الناس، بسبب أنه جعل لكل منهم طاقة فكرية وعلمية خاصة به، تختلف عن طاقات الآخرين.
نقول: هذا الخلاف أمر طبيعي وفطري لابد منه، ولكن ينبغي ألا يكون هذا الاختلاف سبباً للنزاع والشقاق، ومنه هذا الذي نهى عنه ربنا عز وجل في قوله: وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ * مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ [الروم:31-32] هذا الذي نهى عنه ربنا عز وجل، لكن لم ينه أن الإنسان لاجتهاده إذا وصل إلى رأي خالف فيه رأي الآخر، ولم يصدم برأيه نصاً، كما يفعل المتأخرون المقلدون اليوم.
هذه ضابطة لابد منها قبل الدخول للإجابة عن السؤال مباشرة.
إن الكاتب المشار إليه يقول: البدعة الإضافية والتركية والالتزام بها في العبادات المطلقة خلافٌ فقهي.
الخلاف الفقهي هل هو إذا كان هناك مجتهد بل مجتهدون لهم رأي متفقون عليه، ثم جاء بعض المقلدين فبنوا رأياً لهم، ثم جاء بعض المتأخرين فقالوا: الخلاف فقهي. وهذا تعبير غير علمي صحيح، فالخلاف الفقهي هو الذي يكون مداره بين الأئمة المجتهدين، الذين هم في أنفسهم -قبل أن يشهد لهم الناس- يشعرون بأنهم قد بلغوا من المنزلة في العلم تمكنهم بأن يقول أحدهم: أنا أرى كذا، أنا أفهم كذا. ثم شهد الناس -فيما بعد- لهم بأنهم قد وصلوا هذه المرتبة، وهذه الشهادة ليست هي التي بررت لهم ذلك، وإنما هذه الشهادة تكشف عن حقيقة ما وصلوا إليه من المرتبة في العلم.
أما إذا كان الذين اختلفوا أو خالفوا ليسوا من المجتهدين في واقع أنفسهم، بل هم يصرحون للناس بأنهم ليسوا كذلك، بل وأكثر من ذلك يفخرون بأنهم ليسوا مجتهدين، وإن كانوا لا يفصحون هذا الإفصاح، لكننا إذا فسرنا قول بعضهم حينما يفخرون بأنهم مقلدون، فتفسير ذلك أنهم يفخرون بأنهم غير مجتهدين، ولا فرق حين ذلك في التعبير إلا فرقاً لفظياً، كذلك الفرق على مذهب الحنفية، أو عند الحنفية... المعنى واحد، فهؤلاء الذين يفخرون بأنهم مقلدون، ذلك يساوي أنهم يفخرون بأنهم غير مجتهدين، وهذا يساوي في نهاية المطاف أنهم يفخرون بأنهم غير علماء، وهذا يساوي أنهم جهال.
إذاً: غرضي من هذا لفت النظر إلى أن هذا الكاتب لم يكن تعبيره تعبيراً علمياً دقيقاً؛ لأنه حشر في جملة العلماء هؤلاء المقلدين الذين هم يتبرءون من أن يكونوا من العلماء، هذا لازمهم شاءوا أم أبوا، وما دام أنهم يعترفون بأنهم مقلدون فهم ليسوا بعلماء، وهم يقولون ذلك.
ما هي وظيفة المقلد؟ هذه حقائق نستطيع أن نجابه بها أكبر مقلد، إذا كان هناك مقلد -كبير أو صغير- فنقول حينذاك: الذي يزعم بأن في مسألة الابتداع خلافاً فقهياً، فمن هم العلماء والفقهاء حقيقة الذين قالوا: إن البدعة في الدين تنقسم إلى بدعة حسنة، وإلى بدعة سيئة؟ هذه واحدة.
والأخرى نطالبهم بالإتيان ببعض الأمثلة مما استحسنها وابتدعها أولئك الأئمة الذين يزعمون أنهم يتمسكون بأقوالهم، لو سألنا اليوم مشايخ التقليد: هاتوا مثالاً من البدعة الحسنة، لملئوا كتباً ومجلدات لإحصائها، كثيرة وكثيرة جداً، فهاتوا عشر بدع فقط عن إمام من أئمة المسلمين الذين تنتمون إليهم قال: هذه بدعة حسنة، وليس عليها دليل من الكتاب والسنة؛ لأن هنا تفصيلاً ذكرناه مراراً، ليس كل شيء حدث مجرد حدوث ووقوع بعد الرسول يكون بدعة، وإنما هذا بشرط: ألا يكون عليه دليل من الكتاب والسنة، ومن هنا يخطئ المتأخرون الذين يذهبون إلى تقسيم البدعة إلى خمسة أقسام، فيقولون:
بدعة فرض: ومثالها: جمع القرآن -عياذاً بالله- جمع القرآن بدعة؟! لماذا يقولون هكذا؟ لأن الجمع وقع بعد الرسول صلى الله عليه وسلم، الجمع الصوري بكيفية معينة وقع بعد الرسول، مثل: الطباعة الآن، الطباعة ما كانت في زمن الرسول، فما نسميها بدعة، وهذه لها فصل وباب خاص في علم الأصول هو باب: المصالح المرسلة، فهذا من المصالح المرسلة، فيقولون: جمع القرآن بدعة، ويقولون: جمع عمر بن الخطاب الصحابة على التراويح بدعة، وقد يقولون -أقول هذا بتحفظ- إخراج عمر بن الخطاب اليهود من خيبر بدعة، مع أن هذه الأشياء عليها نصوص صريحة، التراويح تكلمنا عليها مراراً وتكراراً، فقد سنها الرسول بفعله، وحض عليها بقوله، وقال للذي يصلي صلاة القيام في رمضان مع الإمام وصلاة الفجر مع الإمام فكأنما قام الليل كله، مع ذلك يقال: إن جمع الناس على التراويح بدعة! فهذا أحد شيئين:
إما أنهم يجهلون هذه السنن فيسمونها بغير اسمها، وهذا موضوع ينزع من البعيدين عن التفقه بالكتاب والسنة، أو إنهم -وهذا خير الظنين بهم- يسمونها بذلك مجازاً كما وقع من بعض السلف، فـعمر بن الخطاب -مثلاً- سمى التراويح بدعة حين قال: [نعمت البدعة هذه]، وهو لا يعني البدعة التي أطلقها المتأخرون: بدعة في الدين، وهو إحداث عبادة على غير مثال سابق، لا من فعله عليه الصلاة والسلام ولا من قوله.
إذاً: في هذه الجملة: خلاف فقهي، تسامح في التعبير؛ لأن هذا الخلاف ليس قائماً بين المجتهدين، وإنما هو قائم بين المجتهدين والمقلدين، والمقلد لا رأي له بشهادتهم أنفسهم، فلا قيمة لقول أحدهم في رأيه واجتهاده أبداً.
من هنا يظهر لكم علم أحد الأئمة الأربعة الذين ينتمي إليهم جماهيرنا اليوم حين قال: من ابتدع في الإسلام بدعة يراها حسنة فقد زعم أن محمداً صلى الله عليه وآله وسلم خان الرسالة، اقرءوا قول الله تبارك وتعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً [المائدة:3] قال: فما لم يكن يومئذٍ ديناً لا يكون اليوم ديناً.
نحن نقول هكذا، فإذا أراد أحد المقلدين أن يجادلنا فبالله عليكم بماذا يجادلنا؟ فإن جاءنا بنقل عن إمام كما يقولون: إن أبا حنيفة قال بالاستحسان، والاستحسان لا يعني الاستحسان بمعنى الابتداع في الدين أبداً، وإنما هو ترجيح دليل على دليل، لوجود نصها أو ما شابه ذلك كما هو مذكور في أصولهم، فالغرض إن جاءنا مقلد بقول إمام فضلاً عن قول مقلد من مشايخهم، فنقول له: إمام من أئمة السنة وإمام دار الهجرة يقول: فما لم يكن يومئذٍ ديناً لا يكون اليوم ديناً، نحن نقول: يومئذٍ لم يكن من الدين أن يصعد المؤذن المنبر وينشد ويتكلم بكلام غير جائز قبل الأذان، ما كان هذا باعترافهم، لذلك يسمونها بدعة، أي: حدثت لكنها حسنة، ولا أيضاً ما أضافوه بعد الأذان من الصلاة على الرسول عليه السلام، ومن أشياء أخرى أيضاً يضيفونها، كل هذا وهذا لم يكن.
فـمالك يقول: فما لم يكن يومئذٍ ديناً لا يكون اليوم ديناً، إذاً: أذن كأذان بلال وغيره من مؤذني الرسول صلى الله عليه وسلم.
سوف يقول: أنا مذهبي هكذا.. دعك أنت ومذهبك، فلماذا تجادل بالباطل وبالجهل؟ تريد أن تبحث على ضوء الكتاب والسنة تعال إلى الكتاب والسنة، هذه أول آية، وهذا تفسيرها لإمام دار الهجرة، الذي بينه وبين الصحابي واسطة واحدة، مالك عن نافع عن ابن عمر، وعاش في عقر دار السنة المدينة المنورة، يقول: من ابتدع في الإسلام بدعة يراها حسنة فقد زعم أن محمداً صلى الله عليه وسلم خان الرسالة، اقرءوا قول الله تبارك وتعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً [المائدة:3] فما لم يكن يومئذٍ ديناً لا يكون اليوم ديناً.
لكن مالك رحمه الله جاء بخاتمة قاسمة في الجملة، التي تستحق أن تُكتب بماء الذهب -كما يقولون- ونحن نعتبر هذه الجملة من منهجنا في الدعوة، بينما الذي يقول هذا الكلام وغيره لا يرفعون لهذه الجملة وزناً، يقول مالك: ولا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها. فهل صلاح هذه الأمة بأن تتقرب إلى الله بمئات بل ألوف من البدع؟! يستحيل هذا! وهو من باب:
وداوني بالتي هي داء |
العبادات التي شرعها الله هي معالجة لأمراض نفسية، قد يشفى بها بعض الناس وقد لا يشفى جمهورهم، فتأتي هذه التشاريع الإلهية الحكيمة كمرهم وعلاج لهذه الأمراض النفسية.
وعلى العكس من ذلك؛ حينما نستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير، ونقيم البدعة مقام السنة، زدنا مرضاً على مرض، بحيث أننا نصل إلى اليأس من الشفاء، لذلك فمن منهجنا نحن الدعاة إلى الكتاب والسنة وعلى منهج السلف الصالح: -الذي يدل على هذا المنهج- كلمة الإمام مالك هذه: ولا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها.
وتأكيداً لما نقول؛ فهناك جماعات إسلامية كثيرة وكثيرة جداً، فهل هناك جماعة تسعى لتنوير بصائر المسلمين، لكي يهتدوا بهذا المنهج السليم، وهو أنه لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها؟
الجواب: لا يوجد -مع الأسف- جماعات إسلامية، لا اسمها ولا وزنها في العالم الإسلامي يدندن حول موضوع الاتباع للكتاب والسنة، ليس اتباعاً لفظياً، قلنا لكم مراراً وتكراراً: كل الطوائف الإسلامية التي بلغت ثلاثاً وسبعين فرقة أو زادت، كلها تقول: الكتاب والسنة، لكن المهم في الكتاب والسنة:
أولاً: تطبيق عملي.
وثانياً: فهم سليم لما كان عليه السلف الصالح.
فهنا يقول: إن في هذه المسألة خلافاً فقهياً، وكل واحد وما ذهب إليه دليله.
إذاً: هذه الآية من أدلة العلماء من السلف الصالح من الصحابة والتابعين، الذين ذهبوا إلى أنه لا بدعة في الإسلام.
من عجائب الأمور التي نلاحظها، والتي تؤكد لنا صحة منهجنا وخطأ منهج غيرنا: أنك لا تجد خطيباً من الخطباء يحافظ في خطبته على هذه الخطبة، التي هي من خطبة الحاجة التي كان نبينا عليه الصلاة والسلام يحافظ عليها دائماً وأبداً، لماذا؟ لأن أبسط إنسان سيقول له: من صعود الخطيب إلى خروجه من الصلاة كلها بدع وخلاف هدي الرسول، وهذا الذي أنت تدعو إليه، ولذلك الشيطان أوحى إليهم: كونوا متجاوبين، لا تكونوا متنافرين في أنفسكم، تصعد إلى المنبر تخطب: خير الكلام كلام الله، وتختمها: وكل ضلالة في النار، وأنت تقول: لا. هناك بدعة حسنة، ورسولك يقول، وأنت تنقل عنه: (وكل ضلالة في النار) هذا تناقض، لذلك زين لهم سوء عملهم، ونشأ من شريعتهم هذه السنة التي واظب عليها الرسول عليه الصلاة والسلام.
لذلك فأنا صار عندي مبدأ: بمجرد ما أسمع خطيباً يفتتح الخطبة بهذه الخطبة أقول: هذا لا بد، وأنا ما أقول سلفي، لكن عنده سلفية، وإلا فليس من الممكن أن يكون عنده بدعة حسنة ويأتي يخطب في الناس ويقول: وكل ضلالة في النار.
فهذا من الأحاديث الدالة على خلاف ما يراه المتأخرون المقلدة -وليسوا مجتهدين أبداً باعترافهم- من أن هناك بدعة حسنة، ثم يتجرءون لجهلهم بل لغباوتهم ويقولون: يا أخي! هذا نص عام لكنه مخصص. كل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، يقولون: ذلك مخصص.
أولاً: لا نعلم في ألفاظ الرسول صلى الله عليه وسلم التي هي من جوامع الكلم مثل هذا التعميم ثم يدخله تخصيص، ولفظة (كل) من أصرح ألفاظ العموم والشمول: (كل بدعة ضلالة)، أقول دائماً وأبداً بهذه المناسبة على وزن قوله عليه الصلاة والسلام: (كل مسكر خمر، وكل خمر حرام) هل من الممكن أن يقول قائل: ليس كل مسكر خمر، وليس كل خمر حرام؟ مستحيل هذا الكلام! وهناك كليات كثيرة: (كل بني آدم من تراب، ويتوب الله على من تاب)، لا يمكن أن إنساناً يقول: ليس من تراب، فأصله من تراب .. وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (كلكم يدخل الجنة إلا من أبى، قالوا: ومن يأبى يا رسول الله؟ قال: من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى). إذاً: كل من أطاع الرسول عليه السلام دخل الجنة.
هذه الكليات لا تقبل التخصيص، وهذه الكلية جاءوا إليها فحطموها، وقالوا: ليس الحديث على عمومه، مع أن الرسول عليه الصلاة والسلام كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية العارف بالله حقاً، ولا أدري هل نثني عليه خيراً حينما نصفه بما يصف غيرنا بعض كبارهم، حينما نصف ابن تيمية بأنه العارف بالله حقاً، ما ندري أنذمه أم نثني عليه! لكن إنما الأعمال بالنيات؛ لأنه حقيقة هو عارف بكتاب الله وبحديث رسول الله، يقول: رسول الله في كل خطبة جمعة فضلاً عن خطب أخرى يقول فيها: (كل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار)، تأكيداً وتقريراً لهذه القاعدة، ثم يأتي هؤلاء في أبسط حماقة ويقولون: لا. هذه ليست عامة، ولا مرة يقول الرسول عليه الصلاة والسلام ما كل ضلالة بدعة، فهو دائماً يؤكد، وتكرار الجملة العامة على اختلاف الملابسات والمناسبات من حيث الأسلوب العربي، تأكيد أن هذا الكلام -كما أنكم تسمعون- لا يقبل تأويلاً ولا تقييداً ولا تخصيصاً إطلاقاً.
فهنا يقول: (كل بدعة) هذه كلية، وهناك يقول: (من أحدث)، أيضاً: (من): مِن صيغ العموم والشمول، ومعنى: من أحدث أي: كل من أحدث في ديننا هذا ما ليس منه فهو رد، والبحث في هذا طويل، ولكن أذكّر أيضاً بأثر عن صحابي جليل، كان بارزاً من بين الصحابة بحبه للرسول صلى الله عليه وسلم وحبه لاتباعه واتباع سنته، فسر لنا الجملة الأولى: (كل بدعة ضلالة) تفسيراً سد الطريق على هؤلاء المبتدعة، فهم يقولون: كل بدعة ضلالة، وهذا يأتي فيرد عليهم، وكأنما الله عز وجل قد كشفها عن بصيرته، ولو كنا نؤمن بالكشف الذي يقول به الصوفية وأتباعهم لقلنا: انكشف له؛ لأنه سيأتي أناس من بعدهم يقولون: هذه بدعة حسنة، وأن قول الرسول: (كل بدعة ضلالة) من العام المخصوص، كشف له ذلك فأجابهم سلفاً، فقال: [كل بدعة ضلالة، وإن رآها الناس حسنة]، فأين تذهبون يا مقلدون؟
وعلى فرض أنه أخطأ هذا الرجل وهو من كبار الصحابة، فنحن نقبل ولا نقول بالعصمة، لكن لا نرد كلام الصحابي الواحد -فضلاً إذا كانوا أكثر- بمجرد أن يرد عليه مقلد، بل ولو كان مجتهداً إلا بالدليل، فكيف ذلك وهناك من الصحابة من يقول وهو حذيفة بن اليمان : [كل عبادة لم يتعبدها أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم فلا تعبدوها]، عدوا العبادات التي يفعلها الناس اليوم، واطلبوها من كتب التقليد وليس كتب السنة، سوف لا تجدون لها ذكراً، لماذا؟ لأن المقلدين -أنفهسم- الذين هم علماء بأقوال أئمتهم من قبل ما سطروا هذه البدع، وكل يوم تأتي بدعة جديدة، لماذا؟ لأن خرج البدع لا يكاد يمتلئ أبداً، فهو واسع جداً، والشيطان للناس بالمرصاد، كما قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح لما خط خطاً مستقيماً وقرأ: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ [الأنعام:153] خط الخط المستقيم وخط على طرفيه خطوطاً كثيرة، وقال: (هذه الخطوط للشيطان طرق، وعلى رأس كل طريق منها شيطان يدعو الناس إليه)، فشياطين الجن فضلاً عن شياطين الإنس لا يزالون أحياء يقومون بوظيفتهم، ولذلك فالسعيد من يستعصم ويستمسك بالعروة الوثقى التي لا انفصام لها.
ما هي العروة الوثقى؟ الكتاب والسنة.
ولعل في هذا الخبر الكفاية، وإن كنت أشعر -كما قلت لكم في مبتدأ الكلام- أن موضوع البدعة في الإسلام يحتاج إلى محاضرات عديدة، فعساني في درس آتٍ -إن شاء الله- أتبع البحث هذا ببحث متمم أو مكمل بعضه على الأقل بأدلة أخرى نذكر بها الإخوان، ونعالج شبهات المتأخرين التي يتمسكون بها لرد هذه الأساطين من الأدلة في أنه ليس في الدين بدعة حسنة.
وقد ذكرنا لكم بعض الأحاديث والآثار التي تنهى المسلم عن الابتداع في الدين، ولا أدري إن كنت ذكرت لكم شعور وانتباه ذلك الرجل الذي كان من أحبار اليهود، الذي تنبه لهذه النعمة وعظمتها على المسلمين، حين جاء إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقال ذلك الحبر اليهودي: يا أمير المؤمنين! آية لو أنها علينا معشر اليهود نزلت لاتخذنا يوم نزولها عيداً، قال: ما هي؟ قال: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً [المائدة:3]، فقال عمر رضي الله عنه: [لقد نزلت يوم عيدنا، نزلت يوم الجمعة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم في عرفات ] .
ومعنى هذا الكلام من هذا الحبر اليهودي أنه عرف بالغ أهمية هذه النعمة التي امتنَّ الله بها على عباده المؤمنين، حيث أكمل لهم الدين؛ ذلك لأنه سيفرغهم لأن يعملوا لشئون حياتهم، وأن يتفرغوا لها بعد قيامهم بواجبات ربهم، فأغناهم بهذا التشريع الكامل أن يتوجهوا إلى التشريع والتقنين الذي ليس من اختصاصهم وإمكانياتهم؛ ذلك لأن الإنسان كما وصفه ربنا في القرآن: وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً [الإسراء:85]، فالإنسان لا ينظر بالنسبة لما يتعلق بمصالحه المستقبلة إلى أبعد من أرنبة أنفه -كما يقول المثل العربي- فلذلك نجد كل الذين يسمونهم بالمشرعين والمقلدين في كل بلاد الدنيا، كل يوم يأتوننا بدستور، وكل يوم يأتوننا بقانون؛ وذلك لأنه يتبين لهم بالتجربة العملية أن هذه القوانين بل الدساتير لا تقوم بمصالح العباد.
ذلك الحبر اليهودي فعلاً كان من العلماء حينما عرف هذه النعمة وقدرها، فجاء ليقول لـعمر بن الخطاب : لو علينا نحن اليهود نزلت هذه الآية لاتخذنا يوم نزولها عيداً، فأخبره عمر بأنها فعلاً نزلت في يوم عيد، ألم يكن المسلمون أحق وأولى بأن يعرفوا فضل هذه النعمة من ذاك اليهودي؟ لقد كان الأمر كذلك، وكان كذلك بالنسبة للسلف الأول، فقد كانوا أبعد الناس عن الإحداث في الدين ما ليس منه، ومن هنا تبين المرتبة التي وصل إليها اهتمام السلف في إنكار البدعة.
فماذا يقول هؤلاء لو بعثوا في زمننا هذا، ونظروا إلى هذه البدع التي لا يمكن إحصاؤها؛ لأنها بالألوف المؤلفة؟ لا شك أن إنكارهم سيكون بالغاً جداً جداً على هؤلاء المحدثين لهذه البدع، وأنهم سيذكرونهم بأن هذا الإحداث في الدين هو تشريع، والتشريع إنما هو من حقوق رب العالمين تبارك وتعالى.
الأمر ليس حديثاً، فالحق والباطل دائماً في صراع مستمر؛ لأن الله عز وجل يقول: وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ [هود:118] .. إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ [هود:119]، فهذا الاختلاف مستمر، ولذلك فحينما يأتي الإنسان بشبهة اليوم يتوهمها دليلاً فهو في الواقع لم يأت بشيء جديد، ونحن حينما نرد هذه الشبهة أيضاً لم نأت بشيء جديد؛ لأننا مسبوقين بهذا الحق الذي ندعو الناس إليه، وهذا من فضل الله علينا وعلى الناس: وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ [الأعراف:187] .
وكشف الخطأ في هذا الاستدلال يمكن أن يقوم على أمرين اثنين:
الأمر الأول: أن نستحضر سبب ورود الحديث، فإن معرفتنا بسبب ورود الحديث سيكشف لنا مباشرة خطأ الاستدلال بالحديث على أن في الإسلام بدعة حسنة لم يأت بها الرسول عليه الصلاة والسلام ولا أمر بها، وإنما يستحسنها المسلمون.
سبب هذا الحديث كما هو أيضاً مذكور مع الحديث في صحيح مسلم وغيره، يقول جرير بن عبد الله البجلي : (كنا جلوساً مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فجاءه أعراب مجتابو النمار، متقلدو السيوف، عامتهم من مضر بل كلهم من مضر، فلما رآهم رسول الله صلى الله عليه وسلم تمعر وجهه -أي: ظهرت عليه ملامح الحزن والأسى لما رأى في هؤلاء المُضريين من فقر مدقع- فخطب عليه الصلاة والسلام في الناس ووعظهم وذكرهم، وكان من جملة ذلك أن قال لهم: وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ [المنافقون:10] )، قرأ صلى الله عليه وسلم هذه الآية يحض فيها الصحابة على الصدقة على هؤلاء- وزاد في ذلك أن قال عليه الصلاة والسلام مفسراً الآية: (تصدق رجل بدرهمه، بديناره، بصاع بره، بصاع شعيره، فكان أن قام رجل منهم لينطلق إلى داره ويعود ومعه ما تيسر له من صدقه، ووضعها أمام الرسول صلوات الله وسلامه عليه، فلما رآه سائر الصحابة قام كل منهم أيضاً وجاء بما تيسر له من صدقة، فاجتمع أمام الرسول صلوات الله وسلامه عليه كأمثال الجبال من الطعام والدراهم، فلما رأى ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم صار وجهه كأنه مذهبة -تهلل وجهه كأنه مذهبة، كالفضة المكسية بالذهب، تبرق أسارير وجهه عليه السلام فرحاً باستجابة أصحابه لموعظته - فقال: من سن في الإسلام سنة حسنة ...) إلى آخر الحديث.
فالآن هم يفسرون (من سن) بمعنى: من ابتدع في الإسلام بدعة حسنة، وهنا في الشطر الثاني: (ومن سن في الإسلام سنة سيئة) أي: ابتدع في الإسلام بدعة سيئة، يفسرون (من سن) بمعنى: من ابتدع، في كل من الموضعين.
فالآن نعود إلى الشطر الأول من هذا الحديث الذي فيه: (من سن في الإسلام سنة حسنة ...) وهم يفسرونها بقولهم: من ابتدع في الإسلام بدعة حسنة، أين البدعة في هذه القصة حتى يصح تفسير الحديث لما يذهبون إليه؟ لم نجد في هذه القصة سوى الصدقة، والصدقة مشروعة بنص القرآن قبل هذه الحادثة، فرسول الله صلى الله عليه وسلم ذكرهم بالآية السابقة فقال: أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ [البقرة:254]، فإذاً: هذه الصدقة ليست بدعة، وأكد لهم الرسول عليه السلام فحضهم أن يتصدق أحدهم ولو بدرهم، فإذاً: ليس في هذه الحادثة بدعة حسنة حتى يقال: إن الرسول قال في هذه المناسبة: من ابتدع في الإسلام بدعة حسنة، ولا يتجاوب أبداً، فلو حرفنا لفظ الحديث إلى هذا اللفظ: من ابتدع في الإسلام بدعة حسنة، لا يتجاوب هذا اللفظ مع الحادثة مطلقاً؛ لأن الحادثة ليست فيها بدعة مطلقاً، فهذا يبين خطأ هذا التفسير.
وأنا كما أقول في مثل هذه المناسبة: إن تفسير هذا الحديث بهذا التفسير المتأخر: من ابتدع في الإسلام بدعة حسنة. لا يقوله رجل أعجمي -ليس عربياً- إذا كان عنده شيء من الفقه الإسلامي والمعرفة باللغة العربية؛ لأنه ليس هناك تتطابق ولا أي موافقة بين الواقعة وبين قول من قد يقول: من ابتدع في الإسلام بدعة حسنة، في مثل هذه المناسبة، وهذا يدل على خطإ هذا التفسير.
والتفسير الصحيح واضح جداً إذا تأملنا تأملاً قليلاً في الحادثة، إذا عدنا إلى لفظ الحديث: (من سن في الإسلام سنة حسنة ...) نسأل الآن: الصدقة حسنة أم سيئة؟ لا شك أنها حسنة؛ فقد شرعها الله بنص الآية السابقة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بحديثه.
إذاً: هذا المتصدق الأول لم يأتِ ببدعة حسنة، لم يأت بشيء جديد لم يكن معروفاً من قبل، بل الصدقة من فضائل الأعمال، وجاء فيها أحاديث كثيرة.
إذاً: ما معنى قول الرسول عليه الصلاة والسلام في هذا الحديث بالذات: (من سن في الإسلام سنة حسنة ...)؟
واضح جداً من الحادثة: أن الرجل الأول كان أول من استجاب لموعظة الرسول صلى الله عليه وسلم، وأول من انطلق إلى داره ليأتي بما تيسر له من الصدقة، فاتبعه الصحابة في ذلك، فكان هو بانطلاقه أول إنسان سنَّ لهؤلاء هذه السنة الحسنة.
فهو إذاً: كأناسٍ يكونون غافلين عن مشروع خيري، فيُلْهِم الله عز وجل أحدهم فيقوم بهذا المشروع، وهذا المشروع مذكور الأمر به في الكتاب والسنة، ولو فرضنا: جمع أموال لأيتام.. لمساكين.. لبناء مسجد.. لأي عمل خيري، لا يمكن لإنسان عنده ذرة من فقه أن يقول: هذا العمل الخيري بدعة في الدين أبداً، لكن كان هذا الإنسان أول من تحرك لهذا المشروع الخيري، فأعان الناس على ذلك، فهذا الإنسان الأول يطلق عليه أنه سنَّ في الإسلام سنة حسنة، لكن التحسين ليس من عنده، التحسين ممن له التحسين والتقبيح وهو الله تبارك وتعالى، لكن هو كان أول من تحرك لفتح باب هذا المشروع الحسن بنص الكتاب والسنة.
إذاً: (من سن) بمعنى: من فتح طريقاً إلى سنة حسنة بالنص لا بالعقل والهوى، كما يفسره جماهير الناس اليوم: (كان له أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة).
كذلك تمام الحديث إذا ما قام به إنسان ينطبق عليه: (من سن في الإسلام سنة سيئة ..) ما هي السنة السيئة؟
أمر منكر شرعاً، معروف نكارته وضلالته بنص الشرع، يقوم الإنسان فيفتح باباً لهذا الشر، فيكون عليه وزره ووزر من عمل به إلى يوم القيامة، مثلاً: التبرج .. رفع القبور والتفاخر ببنائها.. بناء المساجد على القبور، كل هذه محرمات في الإسلام، فأول واحد فتح هذه السنة المنكرة عليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة، هو لم يأتِ بمنكر غير معروف شرعاً، معروف أنه منكر في الشرع، لكن الناس كانوا في عافية من هذا المنكر، فجاء رجل من الناس ففتح الباب لهذا المنكر، فهو ما سنَّ سنة سيئة بمعنى: ابتدع وأحدث شيئاً لم ينبه الشرع على نكارته وضلاله، لا. وإنما هو فتح الطريق لهذا المنكر أمام الناس .. فكان عليه وزره ووزر من عمل به إلى يوم القيامة.
هذا هو الأمر الأول الذي يمكن أن نفهم به هذا الحديث فهماً صحيحاً، ونرد به التفسير الخاطئ الذي ذاع في الأزمنة المتأخرة بأن معنى الحديث: (من سن في الإسلام سنة حسنة ...) أي: من ابتدع في الإسلام بدعة حسنة، فهذا التفسير خطأ، والتفسير الصحيح قد تبين لكم.
الأمر الثاني: أن نقول: في هذا الحديث ذكر السنة الحسنة والسنة السيئة، فما هو المعيار للتمييز بين السنة الحسنة والسنة السيئة، ولنقل معهم الآن -مجاراة لهم على ألفاظهم-: ما المعيار وما الميزان للتفريق بين البدعة الحسنة والبدعة السيئة؟
إنه القرآن أو السنة، ليس عندنا سوى ذلك.
إذاً: كل من يقول: هذه بدعة حسنة، أو يقول: هذه بدعة سيئة، فلا بد أن يأتي على ما يقول بالدليل الذي يشهد بما يقول من الكتاب أو السنة، أما مجرد القول كما نسمع دائماً وأبداً حينما يقول أنصار السنة: إن هذه يا أخي بدعة، يكون الجواب: انظر يا أخي! كيف الإسلام؟ لا بد أن يأتي هذا الذي يستحسن هذه البدعة بالدليل المحسن، والذي ينكر البدعة أو يسميها بدعة سيئة لا بد أيضاً أن يأتي بالدليل على أنها بدعة سيئة.
وهنا لا بد من التذكير بخطإٍ يقع فيه أولئك الناس حينما يقال: هذه بدعة، فيأتيك الجواب: أنت كلك بدعة! هكذا يبادءوننا، بدعة لماذا؟ يقولون: أنتم دائماً تقولون: هذا ليس من السنة، وهذا ليس من السنة.. والكرسي والعباءة والطاقية ... وإلى آخره، كل هذا لم يكن في عهد السلف الصالح، هذه غفلة منهم عن الشعور بمنة الله وفضله على الناس في الآية السابقة، هو قال: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ [المائدة:3]، ما قال: أتممت عليكم دنياكم، فهذه من أمور الدنيا ليس لها علاقة بالدين أبداً، كل إنسان له أن يأكل ويشرب ويلبس ما يشاء، لكن في حدود الشرع، فالرسول صلى الله عليه وسلم صرح من أجل هذا وقال: (أنتم أعلم بأمور دنياكم)، فيخلط هؤلاء الناس بين البدعة الدينية والبدعة الدنيوية، فأول ما تنكر عليهم بدعة من بدع الدين رأساً يحاججك ببدعة من بدع الدنيا.
يا أخي: ما جاء رسول الله ليعلمنا المهن والاختراع والابتكار في أمور الدنيا، وإنما قال عليه السلام: (ما تركت شيئاً يقربكم إلى الله إلا وأمرتكم به)، أما وسائل الدنيا والتوسع بها فهذه ليس لها علاقة بالبدعة في الدين.
إذاً: من فسر الحديث بمن ابتدع بدعة حسنة عليه أن يأتي بالدليل من الكتاب والسنة أن هذه بدعة حسنة، وحينذاك نحن نسلم لهم تسليماً، فإذا جاءوا بحديث يؤيد أن هذا الذي يسمونه بدعة في الدين لكنها بدعة حسنة، جاءوا بالدليل على أنها حسنة فيبقى بعد ذلك الخلاف بيننا وبينهم كما يقول الفقهاء: خلافاً لفظياً، نحن لا نوافقهم على تسمية ما قام الدليل الشرعي على حسنه، لا نوافقهم على تسميته بدعة، وهم يسمونها بدعة، لا بأس، لكن المهم أن يكون هناك دليل يؤيد ما وصفوا به البدعة من أنها حسنة.
وآتيكم بمثال، وهذا نستنكره أشد الاستنكار: لما يقسمون البدعة إلى خمسة أقسام، أول هذه الأقسام: بدعة فرض: واجبة، فريضة، وأول مثال: جمع القرآن الكريم بدعة في الدين، الله أكبر! إذا كان الرسول عليه الصلاة والسلام هذب ألفاظنا إلى درجة أن قال: (لا يقولن أحدكم: ما شاء الله وشاء محمد، وإنما يقول: ما شاء الله وحده) .. (ولا يقولن أحدكم: خبثت نفسي، ولكن لقست)، إلى آخر ذلك من الآداب اللفظية التي علمناها الرسول عليه السلام، فكيف نقول: إن أس الإسلام وهو القرآن جمعه بدعة في الدين، ولو وصفناه بأنه بدعة حسنة؟! لكن كيف نصفه بأنه بدعة، أي: أمر حادث، مع أن القرآن جمع في عهد الرسول عليه الصلاة والسلام، لكن كان جمعاً بدائياً على حسب الوسائل المتوفرة في ذلك العصر من جهة، ولأن القرآن كان ينزل حسب ظروف المناسبات.
فجمع أبو بكر وعمر بن الخطاب الجمع الأول لهذا القرآن الكريم بين الدفتين، وهذا يسمونه بأنه بدعة واجبة، نحن نقول: هذا ليس ببدعة، هذا أمر من أمور الدين، ولكن هنا عبرة لا يحسن بنا أن نعبر عنها، وألَّا نُذكر بها: هذا الأمر الواجب الذي هو المحافظة على القرآن الكريم من أن يضيع بين الناس، أتدرون ماذا كان موقف الخليفة الأول تجاه الاقتراح الذي قدم إليه بجمع القرآن؟ ليت موقف هؤلاء الناس يكون مثل موقف أبي بكر بالنسبة لجمع القرآن.
أقول: هذا المثال في الواقع -أيضاً- من جملة المنبهات لخطر البدعة في مفهوم السلف الصالح، لما قُدِم الاقتراح لـأبي بكر في جمع القرآن جمعاً على صورة لم يكن قطعاً في عهد الرسول عليه الصلاة والسلام بين دفتين، ماذا كان موقف أبي بكر وكذلك زيد بن ثابت لما كلف بالقيام بهذا الواجب؟ كان موقفهما: [كيف تصنعون شيئاً لم يصنعه رسول الله؟]، أي: جمع القرآن، يقول الخليفة الأول هذا خشية أن يقع في الإحداث في الدين: [كيف تصنعون شيئاً لم يصنعه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟] فلم يزل أحدهما بالآخر يقنعه، ويبين أن هذا أمر ضروري، وما لا يقوم الواجب إلا به فهو واجب، قال عمر : [حتى شرح الله له صدر أبي بكر لذلك] . وكذلك زيد بن ثابت رضي الله عنه.
فجمع القرآن هذا الجمع قام الدليل القاطع على وجوبه، فليس هذا من باب الاستحسان في الدين كما هو شأن البدعة الكثيرة.
كذلك -مثلاً- إخراج عمر بن الخطاب اليهود من خيبر، هذا أمر حدث بعد وفاة الرسول عليه الصلاة والسلام، لكنه ليس ببدعة في الدين؛ لأن البدعة في الدين هي: إحداث عبادة لم يشرعها الرسول عليه الصلاة والسلام، لا بقوله ولا بفعله ولا بتقريره، أما إخراج اليهود فقد أمر صلى الله عليه وسلم بذلك، وقال: (أخرجوا اليهود من جزيرة العرب).
بل وفي العهد الذي تعاهد الرسول عليه الصلاة والسلام عليه مع اليهود قال لهم: (نُقِركم فيها ما نشاء)، أي: أن الرسول صلى الله عليه وسلم اتفق مع اليهود على أن يبقوا في خيبر، وقد فتحها بالسيف عنوة ورغماً عن اليهود، ولكن كانوا أهل زراعة، فأبقاهم يستغلون هذه الأرض على المناصفة، نصف الغلة للرسول عليه الصلاة والسلام والمسلمين، والنصف الآخر لليهود، لكن هذا ليس إلى الأبد، قال لهم عليه الصلاة والسلام في العقد: (نقركم فيها ما نشاء)، فوافق اليهود على ذلك.
ثم بدا لـعمر بن الخطاب أنه قد آن الأوان لإخراج اليهود من خيبر ؛ لأن الأنصار أنفسهم صاروا متمكنين من استثمار الأرض واستحسان هذا الاستثمار، فأخرجهم، وهذا الإخراج بلا شك بعد الرسول صلى الله عليه وسلم، لكن لا يسمى بدعة في الدين؛ لأن عمر لم يفعل شيئاً لم يأمر به الرسول صلى الله عليه وسلم، بل هو نفّذ أمر عليه الصلاة والسلام.
فهذا التفسير للبدعة في الدين نحن لا نوافق عليه، لكن كما قلنا آنفاً: إذا أصروا على تسمية هذا النوع مما حدث بعد الرسول عليه الصلاة والسلام بأنه بدعة في الدين، نقول: هذا اصطلاحكم، أنتم تسمون هذا الشيء بأنه بدعة في الدين، ونحن لا نسميها بدعة في الدين، وإنما هي بدعة لغةً، أي: حدث بعد الرسول، هذا أمر حادث بلا شك، لكن هذا الأمر الحادث تارة يكون شرعاً وتارة يكون بدعة.
متى نميز بين ما يكون شرعاً وبين ما يكون بدعة على اعتبار: (وكل بدعة ضلالة)؟
إذا قام الدليل الشرعي على أن هذا الأمر الحادث أمر جائز شرعاً؛ كفعل عمر، وجمع القرآن، فذلك لا نسميه بدعة إنما هو أمر مشروع، إن سميتموه بدعة حسنة فحينئذٍ نقول: لا مشاحة في الاصطلاح، مع رفضنا لهذه التسمية، لكن جئتم بالدليل على أن الذي فعله عمر هو بإذن من الرسول صلى الله عليه وسلم، فيبقى الخلاف لفظي.
وفي الدرس الآتي -إن شاء الله- سنعالج بعض الأمثلة الأخرى مما يستدلون بها على الاستحسان في الدين، وهي ليست من ذلك بسبيل، وأبتدئ -إن شاء الله- بقول عمر، هذا بالنسبة لصلاة التراويح: [نعمت البدعة هذه]، ونبين لكم أن فعل عمر في صلاة التراويح هو تماماً كفعله حيث أخرج اليهود من خيبر، وأنه ليس من الابتداع في الدين في شيء، وبهذا القدر الكفاية.
الجواب: صاحب البدعة له حالتان:
- إما أن يكون منطوياً على نفسه.
- أو أن يكون مشهوراً بين الناس.
ففي الحالة الأولى لا داعي لتشهيره؛ لأن ضلاله محصور في ذاته.
أما في الحالة الأخرى فلا بد من تشهيره والتحذير منه؛ حتى لا يغتر الناس الذين يعيش بينهم به، وليس ذلك من الغيبة في شيء كما قد يتوهم بعض المتنطعين، وحديث: (الغيبة ذكرك أخاك بما يكره) هو من العام المخصوص، وقد ذكرت لكم قول بعض الفقهاء في بيتين من الشعر جمعوا فيهما الغيبة المستثناة من الحرمة، فقال قائلهم:
القدح ليس بغيبةٍ في ستةٍ متظلم ومعرِّفٍ ومحذرٍ |
ومجاهر فسقاً ومستفتٍ ومـن طلب الإعانة في إزالة منكر |
فهنا المبتدع والتشهير به يدخل في التعريف ويدخل في التحذير، ولذلك اتفق علماء الحديث جزاهم الله خيراً على وصف كثير من رواة الحديث بما كانوا عليه من الابتداع في الدين، وهذا كله من قيامهم بواجب البيان للناس؛ حتى يعرفوا الراوي الصارف يؤخذ بعقيدته، والراوي المبتدع، ويترك هو وعقيدته المنحرفة عن الكتاب والسنة.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر