وبعد:
أيها الإخوة في الله! هذا الدرس ضمن سلسلة تأملات قرآنية في سورة الأنعام، يلقى بعد مغرب يوم السبت الموافق للثامن والعشرين من شهر ذي الحجة سنة (1415هـ) على صاحبها أفضل الصلاة وأزكى التسليم، وذلك بمدينة جدة بمسجد كيلو12، عنوان هذا الدرس: لهم دار السلام عند ربهم.
ودار السلام هي الجنة -جعلنا الله وإياكم من روادها ومن أهلها- وسماها الله عز وجل دار السلام؛ لأنها سلمت من كل آفة ومن كل خلل ونقص، والسلام بمفهومه الشامل: السلامة من الموت، والسلامة من المرض، والسلامة من الفقر والهرم، والسلامة من الهم، والسلامة من التعب والنصب، والسلامة من كل آفة وعلة، وتوفر كل نعمة: لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ [ق:35] إنها الجنة! نسأل الله الذي لا إله إلا هو أن يجعلنا وإياكم من أهلها.
وقد كان الدرس الماضي عن النار -أعاذنا وإياكم منها- وهو بعنوان: (وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ) وذكرنا ما ذكره الله في كتابه، وما ذكره رسوله صلى الله عليه وسلم في سنته من بيان وتوضيح للنار، وما أعد الله فيها من النكال والعذاب الذي لا يتصوره عقل ولا يخطر على قلب بشر، ولما كان القرآن مثاني -هذا أسلوب القرآن- إذا جاء بذكر النار عقب بذكر الجنة؛ لأن النفوس لا تمشي إلا بالسوْق وأيضاً بالحدو، السوْق: سوط في ظهورها، والحدو: صوت يهيجها، مثل الإبل، فهناك إبل إذا قام الحادي يعطي لها أصواتاً؛ ترنمت ونشطت وهملجت وقطعت الأرض، وهناك إبل مريضة لا تمشي إلا بالسوط وإلا بركت.
وإن من الناس من يهيجه ذكر الجنة، فإذا سمع بما فيها نشط، ومنهم من يزعجه ذكر النار فإذا سمع بما فيها نشط في العبادة، ومن الناس -وهم غالب البشر- من يهيجه ذكر الجنة وأيضاً يزعجه ذكر النار على السواء، وهذا ملاحظ إذا قرأت القرآن، فإنك لا تجد الله تبارك وتعالى يخوف عباده من النار إلا ويبشرهم بالجنة، فجاء القرآن الكريم بذكر الجنة ثم بذكر النار، أو ذكر النار بداية، وفي الغالب أن الله عز وجل يذكر النار دائماً باستمرار قبل الجنة، ويقول العلماء: إن في هذا سراً، وهو أن القلوب الغافلة لا يزعجها إلا الألم، فإذا انتبهت وصار عندها خوف جاء الأمل بذكر الجنة وما أعد الله لأهلها.
وهذه الجنة أيها الأحبة جاء ذكرها في سورة الأنعام، يقول الله عز وجل للرسول صلى الله عليه وسلم: وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً [الأنعام:126] أي: هذا الدين، هذا القرآن، هذا الإسلام، هذا صراط الله، هذا الكتاب الكريم، هذه السنّة المطهرة، هذا الرسول الكريم، صراط وطريق واضح: وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً قَدْ فَصلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ [الأنعام:126] فصّل الله الآيات، وبين الله الأمر وأقام الحجة، لكن لمن؟ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ [الأنعام:126] لقوم عندهم عقول وذاكرة وأفهام وألباب، أما الغافلون المغطى عليهم، أما المخمورون المخدوعون، فإنه لا يزعجهم سوى النار، فإذا وقعوا في النار قالوا: يا ليتنا نرد، ولكن لم يعد هناك مرد، انتهى الأمر، فليس هناك إلا النار.
أما الذين يذَّكرون وتزعجهم قوارع القرآن، فقد قال الله عز وجل وهو يطمئنهم: وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً قَدْ فَصلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ * لَهُمْ دَارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ [الأنعام:126-127] ليس فقط دار السلام، وإنما عند ربهم، وتصور عندما تكون عند ربك، ربك الذي رحمك، ربك الذي خلقك ورزقك، ربك الذي هداك وسددك، ثم لما مِت وأنت على دينه أحبك وأكرمك وقربك وأدخلك جنته، ولهذا تقول امرأة فرعون آسية بنت مزاحم وهي تدعو الله: رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ [التحريم:11] لا تريد بيتاً في الجنة فقط بل تقول: عندك يا رب! يقولون: سألت الجار قبل الدار: رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ [التحريم:11] لأن بيتاً ليس عند الله لا يصلح، ونعيماً وسلاماً ليس عند الله لا يصلح، والله يقول: لَهُمْ دَارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ [الأنعام:127] وهذا شرف لهم فوليهم الله، ومن كان الله وليه فلا يخاف ظلماً ولا هضماً، بسبب ماذا؟ قال الله: وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الأنعام:127].
لَهُمْ دَارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ [الأنعام:127] بسبب ماذا؟ هل لأن لهم جنسية معينة؟ أم لأن لهم أرصدة في البنوك كثيرة؟ أم لأن عندهم شهادات عالية؟ أم لأن لهم مقاماً رفيعاً في المجتمع، أم لأن لهم رتباً أو مناصب أو جاهاً أو سلطاناً؟ لا. فهذا في الدنيا فقط، لكن في الجنة: بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الأنعام:127] أي: بسبب ما كانوا يعملون من عمل صالح بوأهم الله هذه المنزلة وأحلهم هذه الدرجة، فلهم دار السلام التي سلمت من كل آفة، وعند ربهم، والله وليهم.
وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا [الإنسان:12] جزاهم بسبب صبرهم: جَنَّةً وَحَرِيراً [الإنسان:12] ثم بعد ذلك رغب الله الناس وشوق الله الناس، فكان يكفي في القرآن الكريم أن يقول الله: من أطاعني فله الجنة ومن عصاني فله النار، ويبين لنا ما في الجنة من شيء، لكن القرآن مملوء من أوله إلى آخره بالترغيب والتشويق والتنويع والتفصيل لما أعد الله في الجنة لعباده المؤمنين من أجل تشويق النفوس وجذبها إلى هذه الجنة العالية، يقول الله عز وجل: سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ [الحديد:21] اللهم إنا نسألك من فضلك يا رب العالمين!
(سابقوا) إلى ماذا؟ إلى جنة. كم هي مساحتها؟ عرضها كعرض السماء والأرض. أعدت وهيئت لمن؟ للذين آمنوا بالله ورسله. بعد ذلك قال الله: ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ [الحديد:21] ذلك الفضل العظيم يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.
ثم قال في سورة آل عمران: وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ [آل عمران:133] لما أمر الله عز وجل بالسير إلى الجنة أمر بالمسارعة والمسابقة والفرار، فقال في سورة الحديد: سَابِقُوا [الحديد:21] وقال في سورة آل عمران: سَارِعُوا [آل عمران:133] وقال في سورة الذاريات: فَفِرُّوا [الذاريات:50] كلها إلى الله، ولما أمرنا الله بالسير في الدنيا والمعيشة قال: هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ [الملك:15] امشوا على مهلكم، وكلوا من رزقه، ليس من رزقكم، والله إن أسرعت أو أبطأت لن تأكل إلا رزقك، وفي الحديث يقول عليه الصلاة والسلام: (من أصبح والدنيا همه) مفتوح قلبه على الدنيا -والعياذ بالله- مثل جهنم: هَلْ امْتَلأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ [ق:30] طالب الدنيا مثل شارب البحر، كلما زاد شربه زاد عطشه: (لو أن لابن آدم واديان من ذهب لتمنى الثالث، ولا يملأ جوفه إلا التراب، ويتوب الله على من تاب).
يقول عليه الصلاة والسلام: (من أصبح والدنيا همه فرق الله عليه شمله، وجعل فقره بين عينيه) الملايين في (البنك) لكنه لا يرى إلا الفقر، لا يرى الأرصدة ولا يرى العمارات ولا يرى السيارات، لا يرى إلا الفقر! وإذا رأيته تراه ملهوفاً كمثل الكلب إن تتركه يلهث أو تحمل عليه يلهث، تسأله: ماذا عندك؟ قال: والله الأمور صعبة، والسيولة منعدمة هذه الأيام، والأحوال متأزمة، كأنه لا يملك عشاء ليلته، لماذا؟ لأنه لا يرى إلا الفقر بين عينيه: (وجعل فقره بين عينيه ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له).
(ومن أصبح والآخرة همه) في قلبه مثل النار مما أمامه من الأهوال والأخبار، همه القبر والحشر، همه الجنة كيف يدخلها، همه النار كيف ينجو منها، كيف صلى، كيف صام، كيف تصدق، كيف ربى ولده، كيف حفظ زوجته، كيف بنى دينه، كيف حمى عقيدته، كيف دعا إلى دينه، هذا الذي همه الآخرة، قال: (ومن أصبح والآخرة همه جمع الله له شمله -أموره المتفرقة يجمعها الله له- وجعل غناه في قلبه وأتته الدنيا وهي راغمة) هو لا يفكر فيها لكن تأتيه، وليس من شأن المسلم أن يرفض الدنيا إذا جاءته فلا يرفضها، بل يأخذها ويسخرها في طاعة الله؛ لأن الدنيا مثل الدابة إما أن تركب عليها أو تركب عليك، فإن كنت مؤمناً ركبت عليها، وذهبت بها إلى الله، وإن كنت فاجراً ركبت عليك وجعلتك حماراً لها تذهب بك إلى النار، فكن راكباً على دنياك، ولا تكن مركوباً لها.
فالله عز وجل أمرنا أن نسارع وأن نسابق إلى الجنة، وأما الدنيا فأمرنا أن نسير وأن نمشي فيها، ولكن هل الناس -أيها الإخوة- واقعيون مع هذه الآيات في حياتهم، أم أنهم يلهثون ويسارعون بل ويقتحمون ويقتتلون على الدنيا؟ وأما الآخرة فقليل من يسير في طريقها، وإذا أراد طريقها فإنه لا يسرع وإنما يمشي، وبعضهم يعثر وبعضهم لم يمش خطوة واحدة في طريق الله، وهو يسارع بكل أسلوب بالليل والنهار، وبكل تفكير واهتمام في الدنيا، أما إذا جاءت الصلاة والدين فإنه يعثر الخطا.
فهذا لم يعرف الله ولم يعرف دينه، وهو خاسر وسوف يعض أصابع الندم ولكن حين لا ينفع الندم.
يقول ابن عباس رضي الله عنه في تفسير قول الله عز وجل: وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهاً وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [البقرة:25] قال: [لا يشبه شيء مما في الجنة مما في الدنيا إلا في الأسماء] التشابه فقط في الأسماء، يعني: يوجد خمر في الدنيا، لكن هل خمر الجنة مثل هذا؟ لا. ويوجد لبن في الدنيا، لكن هل لبن الجنة مثل هذا؟ لا. وتوجد نساء في الدنيا، لكن هل حور الجنة مثل نساء الدنيا؟ لا. قصور الجنة، أنهار الجنة، ولدان الجنة، طعام الجنة، لباس الجنة، شراب الجنة، كل ما في الدنيا لا يمكن أن يساوي ما في الجنة إلا في الأسماء فقط، أما في الحقائق والكيفيات فقد نفى الله ذلك، يقول عليه الصلاة والسلام فيما يرويه الإمامان البخاري ومسلم في الصحيحين ، قال الله عز وجل: (أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، اقرءوا إن شئتم: فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [السجدة:17]).
ويروي البخاري ومسلم عن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن أهل الجنة ليتراءون أهل الغرف كما تتراءون الكوكب الدري الغابر في الأفق).
فأهل الجنة وهم في الجنة يرون أهل الغرف العالية مثلما نرى نحن النجوم التي في أعلى السماء، وذلك من تفاوت ما بينهم في الدرجات، وأعلى الجنان الفردوس، ثم عدن، ثم الخلد، ثم المأوى، وهذه هي الجنان الأربع قد بينها الله عز وجل في سورة الرحمن، يقول الله تبارك وتعالى: وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ [الرحمن:46] ووصف ما فيهما من الأنهار فقال بعدما وصفها: ذَوَاتَا أَفْنَانٍ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ [الرحمن:48-58] تصور زوجتك ياقوتة وأخرى مرجانة تمشي أمامك، كيف تتصور امرأة من ياقوت، هل لك أن تتصور هذا في الدنيا؟ لا يمكن. لكن نسأل الله أن يجعلنا نراهن حقيقة في جنته ومستقر رحمته، وأن نتمتع بهن في الجنة.
وهذه لا تأتي -يا إخواني- إلا بتعب دائم، فالسلعة الغالية لا أحد ينالها إلا بتعب: (ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة) فالجنة لا تنالها الهمم الضعيفة:
يا سلعة الرحمن لست رخيصة بل أنت غالية على الكسلان |
يا سلعة الرحمن ليس ينالها في الألف إلا واحد لا اثنان |
يا سلعة الرحمن كيف تصبّر الـ خطاب عنك وهم ذووا إيمان |
يا سلعة الرحمن سوقك كاسد بين الأراذل سفلة الحيوان |
يا سلعة الرحمن لولا أنها حجبت بكل مكاره الإنسان |
ما كان عنها قط من متخلف وتعطل دار الجزاء الثاني |
لكنها حجبت بكل كريهة ليصد عنها المبطل المتواني |
وتنالها الهمم التي ترنو إلى رب العلا في طاعة الرحمن |
هذه الجنة العالية يقول الله فيها بعد ذلك: وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ [الرحمن:46] وبعد ذلك ذكرها ثم قال: وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ [الرحمن:62] يعني: أقل من هذه الاثنتين جنتان: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ [الرحمن:63] فما نوعهما؟ قال: مُدْهَامَّتَانِ [الرحمن:64] بينما قال في الأخرى: ذَوَاتَى أَفْنَانٍ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ [الرحمن:48-49].. فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ [الرحمن:66] وقال في الأخرى فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ [الرحمن:50] والعين الجارية ليست كالعين التي تنبع وهي في مكانها لا تجري، والعين الجارية أفضل.
وبعد ذلك قال في الفاكهة: فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ [الرحمن:68] أما في الأخرى فقال: فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ [الرحمن:52] وبعد ذلك لما جاء عند الحوريات قال: فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ [الرحمن:70-72] أما في الأخرى فقال: فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ [الرحمن:56] يقول ابن القيم : فرق بين القاصرة والمقصورة، فالقاصرة قصرت نفسها، والمقصورة جبرت على قصر نفسها: حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ [الرحمن:72].. لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ [الرحمن:74].. مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ [الرحمن:76].. تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ [الرحمن:78].
روى البخاري ومسلم عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (جنتان من فضة آنيتهما من فضة وما فيهما من فضة، وجنتان من ذهب، آنيتهما وما فيهما من ذهب، وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلا رداء الكبرياء على وجهه عز وجل في جنة عدن).
يا أخي! يا أيها الملتزم! يا أيها المستقيم! لا تتصور أنك أنت المستقيم لوحدك، فهناك ملايين البشر ساروا في طريق الله، فلست لوحدك بل معك ملايين من البشر، فاسلك سبيل الصالحين ولا تغتر بقلة السالكين، واحذر طريق الهالكين ولا تنخدع بكثرة الهالكين، فإن العبرة بمن نجا، كيف نجا وليست العبرة بمن هلك كيف هلك؛ لأن دواعي الهلكة كثيرة، أما دواعي النجاة قليلة، والناس من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين إلى جهنم وواحد إلى الجنة، جاء في الحديث الصحيح: (يقول الله: يا آدم! قال: لبيك ربِ وسعديك، قال: أخرج بعث الجنة من بعث النار، قال: ربِ! وكم بعث الجنة؟ قال: من كل ألف واحد، وتسعمائة وتسعة وتسعون إلى جهنم) فمتى تأتي هل في المائة الأولى أم المائة الثانية أم الثالثة أم الرابعة؟ لا إله إلا الله!
باب من هذه الأبواب الثمانية، مخصص لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، وبقية الأبواب لسائر الأمم ويشارك فيها أمة محمد صلى الله عليه وسلم، يعني: أمة محمد صلى الله عليه وسلم لهم باب خاص لا يدخل فيه شخص من الأمم الثانية، لكن أمة محمد يدخلون من هذا الباب ويدخلون من الأبواب كلها، وهذا من فضل الله على هذه الأمة.
وهذه الأبواب كل منها مخصص لعمل خاص، ففيها باب للصائمين يسمى باب الريان، وفيها باب للمصلين يسمى باب الصلاة، وفيها باب للمتصدقين يسمى باب الصدقة، وفيها باب للبارين بوالديهم يسمى باب البررة، يعني: إنسان ليس عنده كثير عمل صالح لكنه بار بوالديه، فيدخله الله الجنة من هذا الباب، وآخر متخصص في الصدقة، لا يصلي كثيراً، يصلي الفرائض فقط، لكن يده تبذل بالصدقة والخير، فيدخل من باب الصدقة، وآخر متخصص في الصلاة، يصوم الفريضة ويتصدق بالفريضة ولكن في الصلاة لا تراه إلا مصلياً، فيدخل من باب الصلاة، وآخر متخصص في الصيام، يصلي الفريضة ولا يستطيع أن ينفق فلا يملك مالاً، لكنه دائماً يصوم فيدخل من باب الصائمين، وشخص متخصص في الحج لا تفوته حجة، بينما لا يقوم الليل، ولا يكثر من صيام النوافل، ولا يتصدق كثيراً، لكن إذا جاء الحج شد رحله وحج، وهذا يدخل من باب الحج ومن باب العمرة.
ومن الناس من يدخل من كل الأبواب، أي نعم. وهذا قليل في الأمة، ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم واحداً منهم وهو: أبو بكر الصديق رضي الله عنه، فقد كان يسبق في كل باب، إن جئت إلى باب الصدقة وإذا به الأول، وإن جئت إلى باب الجهاد وإذا به الأول، وإن جئت إلى باب الصلاة وإذا به الأول، وإن جئت إلى باب الصيام وإذا به الأول، ولهذا سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (يا رسول الله! أعلى أحد أن يدعى من هذه الأبواب كلها؟ قال: نعم. وأنت منهم يا
روى مسلم وأصحاب السنن عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم -والحديث صحيح في صحيح مسلم، حديث عظيم وفضله كبير جداً، والعمل فيه بسيط-: (ما منكم من أحد يتوضأ فيحسن الوضوء أو فيسبغ الوضوء ثم يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء) ما أعظم هذا الفضل!
وورد في رواية أخرى ليست في الصحيح، وهي في السنن : (اللهم اجعلنا من التوابين المتطهرين الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون).
روى الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (قلت: يا رسول الله! مم خُلق الخلق؟ قال: من الماء. قلت: الجنة ما بناؤها؟ قال: لبنة من فضة ولبنة من ذهب. قلت: ما ملاطها يا رسول الله؟! قال: المسك الأذفر. قلت: وما حصباؤها؟ قال: اللؤلؤ والياقوت. قلت: وما تربتها يا رسول الله؟! قال: الزعفران، من يدخل ينعم فلا يبأس، ويخلد فلا يموت، لا تبلى ثيابهم، ولا يفنى شبابهم) -نسأل الله أن يجعلنا وإياكم منهم- هذه هي تربة الجنة وأرضيتها.
وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ [محمد:15] وهذه آفة في اللبن أنه إذا مر عليه وقت تغير طعمه، هذا اللبن الموجود في الأسواق إذا اشتريته اليوم يكون له مذاق، وإذا اشتريته بعد أسبوع يصبح حامضاً، أما بعد أسبوعين فإنه يتسمم ولا يصلح للاستعمال، ولهذا يضعون على كل علبة تاريخ انتهاء الصلاحية، لكن لبن الجنة ليس له انتهاء في الصلاحية، ولا يتغير طعمه.
روى البخاري ومسلم عن أبي موسى رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (في الجنة خيمة من لؤلؤة مجوفة) هذه لأهل الخيام، وتلك للذين يحبون العقار؛ لأن هناك من الناس من يحب العقار لكنه يريد أن يعمل له في الحوش أو في الحديقة أو في البستان بيت شعر، أو يعمل له خيمة؛ لأنه ضاق من الغرف والمجالس ومل منها، فيريد أن يأتيه الهواء من كل جانب، فاسمع ما لك من خيمة في الجنة، يقول عليه الصلاة والسلام، والحديث في الصحيحين : (إن في الجنة لخيمة من لؤلؤة مجوفة -كل الخيمة من لؤلؤة- عرضها ستون ميلاً، في كل زاوية منها -من زوايا هذه الخيمة- أهلٌ -يعني: زوجة- لا يرون الآخرين -يعني: أن بينها وبين رفيقتها مسافة بحيث أنها لا تراها من كبر المسافة، كم مساحة هذه الغرفة؟- يطوف عليهن كلهن) أي: أن المؤمن يطوف على زوجته هذه وتلك في خيمة واحدة لا يرى بعضهم بعضاً، لا إله إلا الله!
ويقول عز وجل: عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ [الحجر:47] ويقول: عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ * مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ [الواقعة:15-16] .. ويقول: فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ * وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ * وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ * وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ [الغاشية:13-16] هذا بالنسبة للفرش.
أما الأواني فهي من صحاف وأكواب وكئوس كلها من الذهب، يقول عز وجل: يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ [الزخرف:71] ولكن لمن؟ للذي لم يشرب ويأكل فيها في الدنيا، يقول عليه الصلاة والسلام: (لا تشربوا ولا تأكلوا في آنية الذهب والفضة في الدنيا، فإنها لهم في الدنيا ولنا في الآخرة) لا تأكلوا ولا تشربوا في آنية الذهب ولا الفضة فإنها للكفار في الدنيا -إذ عندهم مال- ولكن أنتم إن شاء الله هي لكم في الجنة.
قال عز وجل: يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ [الزخرف:71] ويقول عز وجل: وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَا * قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيراً [الإنسان:15-16] فكيف تكون هناك ذهب وهنا فضة؟ قالوا: آنية الذهب للذي في الجنة التي من الذهب، وآنية الفضة للذي في الجنة التي من الفضة.
كما جاء الوصف في السنّة، يقول عليه الصلاة والسلام: (لكل مؤمن في الجنة زوجتان من نساء الدنيا) أما من الحور العين فعلى قدر أعماله، والحد الأدنى أن له اثنتان من نساء الدنيا، فإن كان عمله (100%) أخذ سبعين حورية، وإن كان عمله أقل من ذلك -مثلاً- أخذ خمسين حورية، يعني: يتفاوتون في الحوريات؛ لأن الحوريات أنشأهن الله إنشاءً: إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاءً * فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَاراً * عُرُباً أَتْرَاباً * لأَصْحَابِ الْيَمِينِ [الواقعة:35-38] نسأل الله أن يجعلنا وإياكم منهم.
ولعلك تقول: مالنا ولنساء الدنيا؟! بعض الناس يقول: أنا أهرب -الآن- منها في الدنيا وتلقاني أيضاً في الجنة؟ وهناك شخص ماتت زوجته فلما ماتت وأراد أن يتزوج -ولم تمت حتى آذته- فلما ماتت قال له أحد أولاده: أسأل الله يا أبي! أن يجمعك بها في الجنة، فقال الأب: أسأل الله ألا يجمعني بها في الجنة! يقول: أن يجعلها في دار غير الجنة؛ لأنه كان قد ضاق ذرعاً بها. ولعل شخصاً من الناس يقول: حسناً.. ما لنا ونساء الدنيا؟ نريد فقط نساءً حورياتٍ، وأما نساء الدنيا فلا نريدهن. نقول: لا. إن نساء الدنيا غير نساء الجنة؛ لأن الله تبارك وتعالى ينزع من النساء سوء الأخلاق، وينزع منهن جميع الصفات السيئة، ولا يبقى فيها إلا الخلق القويم الجميل؛ ولأن المؤمن لا يتلذذ التلذذ الكامل إلا بنساء الدنيا، فاعلم أن النساء المؤمنات المسلمات الصالحات اللاتي استقمن على دين الله وأدخلهن الله الجنة سيكن لك في الجنة خير وأجمل من الحور العين، وأجمل أيضاً في الأخلاق من الحور العين، وأن الحور العين خدم لهن، فالحورية في الجنة تكون خادمة للمؤمنة من نساء أهل الجنة، يقول الله عز وجل: وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ [الحجر:47].
واعلم أن نساء أهل الجنة مطهرات، ليس كما كانت في الدنيا، سواء منهن المسلمات أو الحور العين، فلا بول ولا غائط ولا حيض ولا نفاس، ولا ولادة، وإنما أبكار، كلما جاءها زوجها رجعت بكراً كما كانت، فليس هناك شغل عند المؤمن إلا افتضاض الأبكار في الجنة، يأتيها بكراً ويذهب فيردها الله بكراً مرة أخرى، كيف؟ لا نعلم. هذا نعيم أعده الله لأهل الجنة. نسأل الله أن يجعلنا وإياكم منهم.
يقول الله: وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [البقرة:25] ويقول: فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ [الرحمن:56] وسماهن الله كواعب: وَكَوَاعِبَ أَتْرَاباً [النبأ:33]، وأتراب أي: في سن واحدة، وكواعب: يعني: ناهدات، أي: مرتفعات النهود.
أرأيت يا أخي! لو أن رجلاً أو شاباً أراد أن يتزوج وأخبره أحد الناس عن فتاة جميلة مهذبة ذات خلق ودين وجمال، فحببه إليها، حتى ازداد شغفاً لها ورغبة فيها، وبذل المال الطائل في سبيل الزواج منها، ولربما أدى هذا إلى إتلاف روحه في سبيل نيلها، وهذا رب العالمين -أيها الإخوة- أصدق المخبرين: ِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً [النساء:87] يخبرنا عن الحور العين ويصفهن ويحببهن إلينا بما يجعلنا نرغب فيهن، ونعمل من أجل الحصول عليهن، والزواج منهن، فهل من خاطب -أيها الإخوة- في الحوريات؟ هل من راغب لهن في الجنة، إن كنت خاطباً فبرهن على صدقك بدفع المهر المقدم، إنه الإيمان بالله، إنه العمل الصالح، إنه اجتناب محارم الله. ولا تكن كمثل ذلك الأعرابي الذي صلى في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فما أحسن الصلاة، صلى صلاة خفيفة ثم رفع يديه وقال: اللهم إني أسألك حوراء عيناء في الجنة، فدعاه النبي صلى الله عليه وسلم وقال له: (أحسنت الخطبة ولكنك أسأت المهر) تريد جنة وفيها حوراء عيناء بهذه الصلاة المضطربة! لا ينفع هذا المهر.
إن الجنة -أيها الإخوة- لا بد أن تدفع فيها المهر الغالي.
ومن يخطب الحسناء لم يغله المهر |
يقول ابن القيم رحمه الله:
فكن مبغضاً للخائنات بحبهـا لتحظى بها من دونهن وتسلم |
ويا خاطب الحسناء إن كنت راغباً فهذا زمان المهر فهو المقدم |
إن كنت تريد الحوراء فقدم المهر، وهو: الإيمان والعمل الصالح، والاستقامة على منهج الله، وإليك هذا الحديث الشريف الذي يزيدك حباً في الحوريات، يروي الترمذي عن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لو أن امرأة من نساء أهل الجنة اطلعت على الأرض لأضاءت ما بينها -يعني: ما بين الخافقين- ولملأت ما بينهما ريحاً -ما بين السماء والأرض- ونصيفها على رأسها خير من الدنيا وما فيها) فما ظنك -يا أخي- إن كان خمارها خير من الدنيا وما فيها، وريحها يعبق ما بين السماء والأرض؟ فيا سعادة من تكن له هذه الزوجة!
اللهم وفقنا للعمل الصالح والإيمان الصادق حتى نكون من أزواجهن برحمتك يا أرحم الراحمين!
واعلم يا أخي! أن من في الجنة لا يحتاج إلى مرآة، فإذا كنت في الجنة فلا يوجد هناك مرايات لكي ترى شكلك ومنظرك، وإنما تنظر في وجهها وفي صدرها فترى وجهك في صدرها، وترى مخ ساقها من وراء الحلل كما ترى اللبن في القارورة، لا تخفيه حللها، ويحكى أن رجلاً من الصالحين لما سمع قول الله عز وجل: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ [التوبة:111] لما سمع هذه الآية، قال: الله اشترى مني ودفع لي الجنة، فقام وجاهد حتى وجدوه وقد قتل في سبيل الله عز وجل.
من الذي يخدمك في الجنة؟ وصف الله عز وجل خدم الجنة وغلمانها بأنهم لؤلؤ مكنون، فقال عز وجل: وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً [الإنسان:19] وإذا كان الخدم مثل اللؤلؤ المنثور فكيف بالمخدومين، لا إله إلا الله!
واعلم يا أخي! أن أولئك الغلمان هم ملك لأهل الجنة، وليسوا أجراء، وإن أدنى أهل الجنة منزلة من يقف ويكون على خدمته ثمانون ألف غلام، يقول الله: وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ [الطور:24] ويقول: يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [الزخرف:71] ويقول عز وجل: يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ * بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ * لا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلا يُنْزِفُونَ * وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ * وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ [الواقعة:17-21].
وورد في الحديث أن المؤمن وهو جالس في الجنة يشتهي الفاكهة وهي في الشجرة فيتدلى له الغصن ثم يقطف منه ويأكل ثم يعود الغصن كما كان، يقول الله عز وجل: قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ [الحاقة:23] فلا يذهب ليأتي بها ولكنها دانية.
ويروي الترمذي عن أنس رضي الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها، اقرءوا إن شئتم وَظِلٍّ مَمْدُودٍ [الواقعة:30]) ولعلك تقول: يا أخي! إن هذه الشجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام فكيف يستطيع أن يأكل من جميع الثمار، فاعلم يا أخي! أن أغصان الجنة ملتفة حول بعضها من كثرتها، يقول الله: ذَوَاتَا أَفْنَانٍ [الرحمن:48] أي: ملتفة بعضها على بعض، ولكن تأكل من كل الثمار، وتجد لآخر فاكهة، أو لآخر طعام من اللذة والطعم ما لأول أكلة، لماذا؟ قال العلماء: لأن طعام الجنة ليس كطعام الدنيا، فأنت تأكل طعام الدنيا على أساس تقوية جسمك وتعويضه بالمواد الغذائية، فإذا اكتفى جسمك فإنك بعد ذلك لا تريد، ولهذا إذا شبعت وأتى شخص وأجبرك بشيء طيب، فإنك تقول: طعام طيب ولكني شبعت، فلا أستطيع، وإذا أجبرك وقال: والله لابد أن تأكل -هذا إكرام أم ماذا؟ إهانة- وفتح فمك وأدخل فيه الطعام بالقوة فإنك ستموت أو تتقيء؛ لأنك تأكل لغرض، وهذا الغرض هو تعويض الجسم بالطعام، لكن في الجنة لا تأكل لغرض تعويض الجسم، وإنما تأكل لغرض المتعة.
وفي قول الله عز وجل: يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ [الزخرف:71] ذكر ابن كثير حديثاً، قال: (يطوف على رأس كل رجل من أهل الجنة عشرة آلاف خادم مع كل خادم صحفتان: صحفة من ذهب وصحفة من فضة، في كل صحفة لون من الطعام ليس في الثانية مثله) يعني: عشرة آلاف في صحفتين كم تصبح؟ عشرين ألف نوع من الطعام، يأكل من أوله حتى يصل إلى آخره، فيجد لآخر لقمة من الطعم واللذة مثل ما لأول لقمة، لا إله إلا الله! اللهم إنا نسألك من فضلك يا رب العالمين!
هذه ثمارها وطعامها.
روى الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أهل الجنة جرد مرد) ليس هناك لحى في الجنة، إذا كان معك لحية في الدنيا وأتعبتك وأزعجتك بالإحراجات وبما يصفك الناس به فاصبر عليها، فإنك في الجنة ستكون أجرد أمرد، من أجل النعيم، لكن إذا كنت أجرد أمرد هنا تكون معك لحية هناك، لكن أين تكون؟ لا حول ولا قوة إلا بالله!
أخي: لا بد أن نتمسك بهذه السنة -أيها الإخوة- هذه السنة ليست شعر، لا. هذا هدي نبوي، هذا دين، هذا شرع، هذا أمر الله، يقول الله: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ [الحشر:7] الرسول أمرنا أن نعفي لحانا، قال: (قصوا الشوارب) (اعفوا اللحى) (أكرموا اللحى) (أرخو اللحى) (أسدلوا اللحى) (خالفوا المجوس) (خالفوا المشركين) كانت لحيته الشريفة ما بين منكبيه، تملئ وجهه.
فالقضية ليست قضية شعر، وإنما قضية انتماء، قضية اعتزاز، قضية فخر، قضية محبة للرسول صلى الله عليه وسلم.
من أحب مخلوق عندك أنت أيها المسلم؟! إنه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
من الرجل المثالي في كل حياتك، والذي تتشرف أنت أن تكون من أتباعه ومتأسٍ به؟ إنه رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولهذا قال الله: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً [الأحزاب:21] هذا الذي يكون له أسوة في رسول الله، من كان يرجو الله، ويرجو ما عند الله، وذكر الله كثيراً، أما من يحلق لحيته ويعتدي عليها -أيها الإخوة- فإنه يخالف هدي الرسول صلى الله عليه وسلم، ويخالف أوامر الرسول صلى الله عليه وسلم، فالرسول يقول: (أكرموا اللحى) فهل أكرمها مَن حلقها؟ لا والله. بل أهانها، أين يحلق الرجل لحيته؟ إما في غسالة البيت، وتذهب بعد ذلك في المجاري أو عند الحلاق، يحلقها ثم يدوس عليها برجله، ثم يكنسها بالمكنسة، ويضعها في صندوق القمامة، ثم تمر سيارة البلدية ويدعيهم فيقول: خذوا ثمانين لحية واذهبوا بها إلى المحرقة.
هذه لحى المجرمين! أكرم ما فيك وجهك ولحيتك، ولهذا لو جاء شخص وجذب لحيتك فإنك تأكله، كل شيء يهون فيك إلا لحيتك، وكان الآباء والأجداد يوم أن كان للحية قيمة إذا قال الشخص كلمة وأراد أن يلتزم بها قال: في لحيتي، يعني: انتهى.
لكن الآن لو قال لك: في لحيته، يعني في ماذا؟ في عظمه، ولا وحول ولا قوة إلا بالله!
(إن أهل الجنة جرد مرد كحل، لا يفنى شبابهم ولا تبلى ثيابهم، عليهم التيجان، وإن لؤلؤة منها لتضيء ما بين المشرق والمغرب، وأما النساء فيلبسن على رءوسهن الخمر) سبحان الله! يقول العلماء: إن المؤمن والمؤمنة في الجنة يعفيان من كل تكاليف الشرع الإسلامي، لا صلاة ولا صيام ولا صدقة، ولا حج ولا بر، ولا شيء، ليس هناك إلا أكل ونكاح، حتى النوم لا يوجد، لماذا؟ قال العلماء: لأن النوم في الجنة يفوت على الشخص النعيم؛ ولأنه إذا نام فاته الأكل والشرب والنكاح، ولا يوجد نوم في النار، لماذا؟ لأن النوم يريحهم من العذاب، ولهذا قال الله: لا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْداً وَلا شَرَاباً [النبأ:24] قالوا: البرد يعني: النوم، لا يذوقون النوم، فأهل الجنة لا ينامون حتى لا يفوتهم شيء من النعيم، وأهل النار لا ينامون حتى لا يستريحون من العذاب.
إلا تكليف واحد أبقاه الله على النساء في الجنة، وهو: الحجاب.
ولهذا قال الله: حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ [الرحمن:72] أي: محجبات، والمرأة في الجنة وهي في الجنة أيضاً محجبة، وهذا شرف عظيم لها، أن الله عز وجل يغار عليها في الدنيا ويغار عليها أيضاً في الجنة، وعلى رءوسهن الخمر، وقد علمت أن الرسول صلى الله عليه وسلم ذكر أن خمارها أي: غطاءها خير من الدنيا وما فيها.
وأما الزينة والحلي، فهي أسوار، يقول الله عز وجل: يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ [الحج:23] ويقول: وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً [الإنسان:21] والحديث في سنن الترمذي يقول عليه الصلاة والسلام: (لو أن رجلاً من أهل الجنة طلع فبدا إسوره لطمس ضوء الشمس كما تطمس الشمس ضوء النجوم) الآن في الليل هل ترون النجوم؟ نعم. لكن في الصباح والنهار هل نراها؟ لا. هي موجودة ونورها موجود لكن لا نراه، لماذا؟ لأن الشمس طمسته، كذلك لو طلعت إسورة فقط من حلي مؤمن من أهل الجنة لطمست الشمس كما تطمس الشمس النجوم، فلن ترى الشمس من بريق إسورة فقط من أساور أهل الجنة.
فهذه الجنة -يا أخي- وهذا وصفها.
وروى البخاري والترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أول زمرة تدخل الجنة صورتهم على صورة القمر ليلة البدر، لا يبصقون ولا يتمخطون ولا يتغوطون، آنيتهم من ذهب، وأمشاطهم من ذهب، ومجامرهم من الألوة، ورشحهم المسك) والألوة هي العود، وهو عود الطيب، والعرق الذي يخرج من أهل الجنة المسك.
ويقول عليه الصلاة والسلام -والحديث أيضاً أخرجه الترمذي - : (أول زمرة تدخل الجنة على صورة القمر ليلة النصف، والثانية على لون أحسن كوكب دري في السماء، لكل رجل منهم زوجتان) وهكذا يعيشون في الجنة يأكلون ويشربون، لا يتغوطون ولا يبولون، وإنما يرشح منهم الطعام والشراب رشحاً لونه رشح وريحه ريح المسك، كما أنهم لا يموتون ولا يمرضون، ولا يهرمون ولا يضعفون، ولا يحزنون ولا يتعبون، وليست بينهم عداوة ولا بغضاء، وليس بينهم حسد ولا نزاع، بل إخوة متحابون، يقول الله: لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ [الدخان:56].. وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ * الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ [فاطر:34-35].. وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ [الحجر:47].
روى الإمام مسلم عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن في الجنة لسوقاً -السوق هذا كل جمعة- فتهب ريح -يسمونها ريح الشمال- فتحثوا وجوههم وثيابهم بشيء من الجمال، فيزدادون حسناً وجمالاً، فيرجعون إلى أهلهم وقد ازدادوا حسناً وجمالاً، فيقول أهلوهم: والله لقد ذهبتم وعدتم إلينا وقد ازددتم حسناً وجمالاً فيقولون: والله وأنتم لقد ازددتم حسناً وجمالاً) يعني: مع كثرة الاستمرارية والعيش في الجنة يمل بعضهم بعضاً، فيجري التجديد للجمال كل أسبوع، يعني: كل أسبوع ومعك زوجة فيها جمال غير الجمال الأول.
وقارن في الدنيا عندما يكون معك سيارة (موديلها) [95] تستريح فيها، لكن عندما تطلع [96] فماذا تفعل؟ تنظر إلى [96] وتقول: الله ما هذا الجمال! هذه ممتازة، هذه شكلها حسن! وتبقى سيارتك في نظرك قديمة، وإذا جاء (موديل) [97] أصبحت سيارتك أقدم، إلى أن تستقبحها وتبيعها.
لكن لو كان لك كل (موديل)، كلما ظهر (موديل) اشتريته، معناها أنك رجل في مكان عالٍ، كذلك أهل الجنة كل أسبوع، وليس كل سنة، كل أسبوع يجتمعون في سوق اسمه سوق الجنة، وهذا السوق يحصل فيه بيع وشراء، لكن من غير ثمن، السلع موجودة وأنت تأخذ منها ما تشاء، والله يتجلى على الناس في ذلك اليوم:
ويرونه سبحانه من فوقهم نظر العيان كما يرى القمران |
وبعد ذلك يرجعون إلى بيوتهم، فإذا دخلوا على زوجاتهم لا يعرفنهم، تقول الزوجة: والله ما أنت الأول، ازددت والله حسناً وجمالاً، وهو يقول: وأنت أيضاً لست الأولى، ماذا فعلت؟ ازددت حسناً وجمالاً.
تغير (الموديل)! كل أسبوع ومعك (موديل) عظيم في الجنة، نسأل الله أن يجعلنا وإياكم من أهلها.
يقول عز وجل وهو يبين أن أعظم نعمة هو النظر إلى وجهه الكريم: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ [القيامة:22] أي: مشرقة وجميلة إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ [القيامة:23] أي: مشاهدة، ويقول: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ [يونس:26] والزيادة هي: النظر إلى وجه الله الكريم، ويقول: لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ [ق:35] والمزيد هو: النظر إلى وجه الله الكريم، فعندما يتجلى الله عز وجل ويكشف لهم الحجاب يخرون سجداً لله عز وجل فيقال لهم: ارفعوا رءوسكم يا عبادي! إن عهد العبادة قد مضى في الدنيا وانقطع، وأنتم اليوم في درا النعيم، ودار الجزاء: كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ [الحاقة:24] فلا صلاة ولا صيام ولا صدقة ولا جهاد، بل: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ [الزمر:74]. ويزداد النعيم عليهم عن طريق الملائكة التي تدخل من أجل التبريك والتهنئة، يقول الله عز وجل: وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ * سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ [الرعد:23-24].
ثم يحصل بينهم نوع من الذكريات، وأهل الجنة على الأسرة يقابل بعضهم بعضاً يشربون من الأنهار ويتناولون من الثمار، ويأكلون من الفواكه واللحوم، وينكحون أجمل الحوريات، يحصل لهم نوع من الذكريات، وهذا نوع من النعيم، أنهم يتحدثون في الجنة، فيتذكرون ما كانوا فيه، يذكر الله عز وجل لنا في كتابه الكريم بعض هذه الأحداث والمحاورات، يقول الله: وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ * قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ [الطور:25-26] يقولون: إنا قبل ونحن في أهلنا ومع أزواجنا ومع أولادنا كنا خائفين، كنا مشفقين من عذاب الله، كان هذا الخوف يمنعنا من المعاصي، كان هذا الخوف يزجرنا عن الآفات والسيئات، كان يقودنا إلى الطاعات والعمل الصالح: إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ * فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا [الطور:26-27] أي: أمّننا الله: فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ * إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ [الطور:27-28].
ويقول عز وجل: فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ * قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ [الصافات:50-51].
واحد أهل الجنة يتحاور مع جلسائه في الجنة قال لهم: إني كان لي قرين، كان لي صاحب، كنت على الطاعة وهو على المعصية، كان يستهزئ بي، كان كلما رآني على الإيمان والعمل الصالح قال لي: هل أنت مصدق أن هناك جنة ونار؟ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ * يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ * أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنَّا لَمَدِينُونَ [الصافات:51-53] وبينما هو يحدثهم وإذا بآخر يقول: هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ [الصافات:54] هل تريدون أن ترون هذا الذي كان يكذب، هذا لم يختفِ، بل موجود، أين يا رب؟ موجود في النار. قال عز وجل: فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ [الصافات:55] في وسط النار: قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ [الصافات:54] هل تريدون أن تروا هذا المستهزئ المكذب، هل أنتم مطلعون، -وهم على الأسرة- ويفتح لهم باب ونافذة، وإذا بهم يرونه: فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ [الصافات:55] ماذا قال؟ قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ [الصافات:56] يقول: والله إنك أردت أن تهلكني يا عدو الله! وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ [الصافات:57] أي: لولا الثبات على الدين لكنت من المحضرين، ثم يقول لإخوانه: أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ * إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ * أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقومِ [الصافات:58-62] هذا المكان أحسن أو ذاك ما رأيكم؟
إذا دخلت بيتاً وتريد أن تتعشى، وأنت معزوم على العشاء، واستوقفك صاحب البيت وقال: انظر! هذا المجلس يوجد فيه عشاء ومشايخ وعلماء وخرفان وفاكهة، وهذا المجلس يوجد فيه (سواطير) و(مشاعيب) وسلاسل ومجرمون، وخبط وضرب، تريد هنا أو هناك، ماذا ستقول؟ ستقول: تخيرني! الله أكبر عليك! تشاورني! ليس في هذا مشورة، ونحن نقول للناس الآن: يوجد جنة ونار هل فيها خيار؟ ماذا تختار؟ الله يقول: مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ [القصص:68] ويقول تبارك وتعالى: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ [الأحزاب:36] تختار بين الجنة والنار؟! وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً [الأحزاب:36].
أيضاً من دواعي النعيم في الجنة أن يحصل نوع من الكشف لأهل الجنة بما يعاني منه أهل النار، ليعرفوا فضل الله عليهم بنعيم الجنة، وقد ذكر الله تبارك وتعالى هذا في أنه يحصل محادثة بين أهل الجنة وأهل النار، قال عز وجل في سورة الأعراف: وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ [الأعراف:44] النداء يأتي من الجنة لأهل النار: أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقاً [الأعراف:44] يقولون: وجدنا الذي وعدنا الله من النعيم، إنه موجود حقاً ونحن فيه الآن فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقاً قَالُوا نَعَمْ [الأعراف:44] أهل النار يقولون: نعم. فقط! لم يطيلوها؛ لأنه ليس هناك مجال للتطويل؛ لأنهم في النار والذي في النار لا يستطيع أن يتكلم كثيراً: فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ [الأعراف:44] أعاذنا الله وإياكم من النار.
ثم يأتي نداء من أهل النار: وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ [الأعراف:50] لا يريدون إلا الماء؛ لأنهم في نار تشوي أجوافهم وأكبادهم أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ [الأعراف:50].
ويذكر الله تبارك وتعالى ما يقوله المنافقون حينما تنطفئ أنوارهم ولا يرون نوراً وهم يسيرون على الصراط، فيقول عز وجل: يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ [الحديد:13] قال المفسرون: انظرونا يعني: انظروا إلينا من أجل أن نقتبس من أنواركم، أو انظرونا أي: انتظروا حتى نلحق بكم ونمشي على نوركم: قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ [الحديد:13] يعني: اذهبوا إلى الدنيا، الأنوار التي تريدها في الآخرة تأخذها من الدنيا، و(ارجعوا وراءكم) تقال لهم على سبيل التهكم وإلا ليس هناك إمكانية للرجوع إلى الدنيا: فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ * يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ [الحديد:13-14] كنا جيراناً وإخواناً وأصدقاءً وأرحاماً وزملاءً، كيف ذهبتم وتركتمونا؟ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى [الحديد:14] نعم. كنا سوياً: وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ [الحديد:14] بالمعاصي والوقوع فيها، وترك الطاعات وعدم ممارستها: فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ [الحديد:14] وما هي الأماني؟ ما يفعله من يتمنى المغفرة وهو مقيم على الذنب، عندما تذهب إلى شخص وهو غارق إلى أذنيه في المعاصي وتقول له: يا أخي! اتق الله! فيقول لك: ربنا غفور رحيم، غفور رحيم لك؟ لا. غفور رحيم لمن يتوب ويرجع، أما المصر على الذنب فلا. بل شديد العقاب عليه: نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ [الحجر:49-50].. وَإِنِّي لَغَفَّارٌ [طـه:82] لكن لمن؟ لمن استمر؟ لا. لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى [طـه:82].. قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ [الزمر:53] ثم قال بعدها: وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ [الزمر:54].
أما أن يظل مقيماً على المعاصي ويقول: الله غفور رحيم، فهذه أماني، والأماني رءوس أموال المفاليس، هذا مفلس يوم القيامة، ليس عنده شيء إلا الأماني، والأماني لا تفعل شيئاً: وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ [الحديد:14].
ويحصل أيضاً خطاب بين أهل الجنة، يقول الله عز وجل: إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ * فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ [المدثر:39-40] أحدهم يسأل ويقول: أين فلان؟ لكن عمن؟ عن المجرمين. إذا عرف أنه مجرم قال: أين هو؟ فيقال: في النار. فينظر إليه ويقول: مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ [المدثر:42] ما الذي ذهب بك إلى النار؟ لماذا لم تكن معنا؟ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ * وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ * وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ * حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ * فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ [المدثر:43-48].
هذه -أيها الإخوة- الجنة وهذا نعيمها، ولكن الطريق الموصل إليها -أيها الإخوة- يسير وسهل على من يسره الله عليه -اللهم يسره علينا- إنه طريق الإيمان بالله والعمل الصالح لله، الإيمان المعتمد على اليقين والعمل الصالح المعتمد على المتابعة للرسول صلى الله عليه وسلم، وقد جمع الله هذا في عشر آيات، قال عز وجل: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنْ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْعَادُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ * أُوْلَئِكَ هُمْ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [المؤمنون:1-11].
فيا أخي في الله! هذا طريق الفردوس من سلكه انتهى به إلى الفردوس، وفقنا الله وإياكم إلى العمل الصالح.
وهذا مثل من أمثلتهم:
رجل منهم اسمه: عمير بن الحمام رضي الله عنه، وقف في غزوة بدر والرسول صلى الله عليه وسلم يقول للصحابة: (قوموا إلى جنة عدن، وجنة عرضها السماوات والأرض، قال: يا رسول الله! عرضها السماوات والأرض؟ قال: نعم. قال: بخ بخ. قال: ما حملك على هذا؟ قال: أرجو أن أكون من أهلها، قال: ما بينك وبينها إلا أن تموت، فنظر إلى يديه وفيها تمرات، قال: والله إنها لحياة طويلة حتى آكل هذه التمرات، ثم رماها وقام ودخل المعركة وقاتل وأبلى بلاءً عظيماً) مات في سبيل الله، هذا هو الصادق! أما الذي يريد الجنة وهو كاذب، يريد الجنة وهو مقيم على الذنوب، يريد الجنة وهو مضيع لصلاة الفجر، يريد الجنة وهو محافظ على شرب الدخان، تقول له: اترك التدخين، يقول: يا شيخ! لم أستطع! يريد الجنة وهو ينظر إلى الحرام، يريد الجنة وهو يستمع إلى الحرام، يريد الجنة وهو يقع في الزنا، يريد الجنة وهو يتعامل بالربا، ويقول: الله غفور رحيم ونريد الجنة، أبوك آدم أُخرج من الجنة بذنب.
يقول ابن القيم : يا قليل العزم! أبوك أُخرج من الجنة بذنب وأنت عند الباب وخارج الجنة وعندك آلاف الذنوب كيف تدخلها، وما هو ذنب آدم؟ لا زنى ولا سرق ولا لاط ولا رابى، وإنما لا تأكل من الشجرة فأكل من الشجرة، وما أكل يريد أن يعصي الله، بل يريد أن يبقى في الجنة، يريد أن يبقى فيها دائماً، ومن الذي كاد له؟ إنه الشيطان، هو الذي قال له: مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنْ الْخَالِدِينَ [الأعراف:20]، إذا أكلتها أصبحت من الملائكة، قال الله: فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ [الأعراف:22].
فيا إخواني! هذه الجنة تحتاج إلى عمل وتحتاج إلى صدق مع الله تبارك وتعالى، ثم بعد ذلك ليعلم كل منا أنه لن يدخل أحد الجنة بعمله؛ لأن عملك مهما عملت لا يساوي شيئاً من نعم الله عليك في الدنيا فضلاً عن الآخرة: (قالوا: يا رسول الله! ولا أنت؟ قال: ولا أنا)ما رأيكم، من منا يبلغ درجة الرسول صلى الله عليه وسلم في عبادته؟ حتى الرسول لا يدخل الجنة بعمله، قال: (حتى أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته) قدِّر يا أخي! نعمة الله عليك، ثم اعرف ما عملت، لو عبدت الله من يوم أن تخلق إلى أن تموت فهل تعدل هذه العبادة نعمة البصر؟ هل تعدل نعمة العافية؟ لا. لا تعدل أي نعمة من نعم الله عليك، ثم إذا عبدت الله وصليت؛ صليت بجسد من الذي خلقه؟ الله، العافية التي في هذا الجسد من أعطاك إياها؟ الله. إذا تصدقت بالمال، فمن أين هذا المال؟ من الله. إذا جاهدت ووضعت مالاً أو نفساً فمن من؟ من الله. إذاً: كل شيء من الله، وهو صاحب الفضل الأول والأخير: وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ [النحل:53].
فعلينا -أيها الإخوة- أن نعبد الله وأن نتوب إليه، وأن نستقيم على منهج الله، وأن نجاهد أنفسنا على طاعة الله، وأن نجاهدها عن معصية الله، وأن نسأل الله الثبات حتى نلقاه، وبعدها يعطينا الله فضلاً منه وكرماً ورحمة يعطينا الجنة وإلا فليست الجنة نظير أعمالنا، فأعمالنا قليلة، وأفضال الله علينا كثيرة.
نسأل الله الذي لا إله إلا هو أن ينصر دينه وأن يعلي كلمته، وأن يبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل الطاعة، ويذل فيه أهل المعصية، ويؤمر فيه بالمعروف وينهى فيه عن المنكر، إنه سميع الدعاء، كما نسأله تبارك وتعالى أن يوفقنا جميعاً لما يحبه ويرضاه، وأن يكتبنا وإياكم في هذه الساعة المباركة وفي هذا المكان المبارك من أهل الجنة، وأن يعتق رقابنا وإياكم ورقاب آبائنا وأمهاتنا وإخواننا وأخواتنا وجميع المسلمين من النار؛ إنه على كل شيء قدير وبالإجابة جدير.
الجواب: كل ما للرجال في الجنة فللنساء مثله، إلا مسألة التعدد، لا يوجد إلا حوري واحد فقط، لكن حوري يسد إن شاء الله، ويقوم باللازم وزيادة، أما لماذا لم يذكر الله الحور الرجال في الجنة في القرآن الكريم؟ قالوا: لأن الله ذكر النساء؛ لأنهن موضع تلذذ، فأغرى الله الرجال بهن، وإلا فإن للمؤمنة في الجنة مثلما للرجل، مما لم تر عين ولم تسمع أذن ولم يخطر على قلب بشر.
الجواب: نعم. نحن اليوم ثمانية وعشرين وغداً تسعة وعشرين وبعده ثلاثين، نطوي عاماً من أعمارنا، لا ندري ما الله عز وجل قد كتب لنا فيه من العمل الصالح، وهكذا الأيام والشهور والأعوام تمر، وسنقف في يوم من الأيام أمام نهاية أيامنا ولن يبقى معنا شيء إلا ما عملناه من عمل صالح، وأنا شبهت عمر الإنسان مثل هذا التقويم المعلق في المساجد، يعلق في أول العام وهو سمين، فيه ثلاثمائة وستون ورقة، ثم في كل يوم ننزع ورقة ورقة ورقة إلى آخر يوم من شهر ذي الحجة حيث لا يتبقى منه إلا هذا (الكرتون) فماذا نصنع (بالكرتون)؟ نرميه، لأنه لم يعد فيه ورق انتهت أيامه، وكذلك أنت، أنت سمين بالأيام التي معك، وكل يوم تنزع ورقة من عمرك، إلى أن تنتهي أوراقك ولا يبقى إلا (الكرتون)، يعني: الجسم، فأين تذهب (بالكرتون)؟ تذهب به إلى المقبرة، والأوراق هذه محفوظة، كل ورقة: (ما من يوم تغرب فيه الشمس أو تشرق إلا وملك ينادي: أنا خلق جديد وعلى عملك شهيد فاغتنمني فإني لا أعود إلى يوم القيامة) كل يوم لا يعود.
أيها الإخوة: اليوم يوافق 28/12 / (1415هـ) لا يعود هذا اليوم، وإنما يأتي يوم 28/ 12/ لكن (1416هـ) وبعده (1417هـ) وهكذا، فنحن نقطع الأعمار، وتمشي بنا الأعوام، وإنما أنت أيها الإنسان مجموعة أيام إذا ذهب يومك فقد ذهب بعضك، وفت الزمان جزءاً منك، فاحذر يا أخي! أن تُضيع حياتك، وإن كنت قد أسأت في الماضي فاستغفر الله، واستدرك ما فاتك، واحمد الله عز وجل الذي مد في عمرك، يقول عليه الصلاة والسلام -والحديث في سنن الترمذي - كان إذا استيقظ من النوم يقول: (الحمد الله الذي رد عليّ روحي، وعافاني في بدني، وأذن لي بذكره) انظروا إلى الثلاث: الحمد لله الذي رد عليّ روحي، يعني: كنت ميتاً، ثم: (عافاني في بدني) تقوم وإذا بك ما شاء الله صحيح البدن معافىً من رأسك إلى قدمك لا يوجد فيك شيء تالف، ثم: (أذن لي بذكره) يعني: أعطاك تمديد في العمر لأجل أن تذكره، كان من الممكن أن تموت ولا تقوم، كم من شخص نام ولم يقم من فراشه.
فهذا -أيها الإخوة- ما نوصي به الإخوان: بأن يتذكروا أن هذه الأيام كلها من أعمارنا وأن علينا أن نتوب إلى الله، وأن نتدارك ما فاتنا من عمل صالح.
الجواب: أنت ملتزم والحمد لله وتحتاج إلى نوع من المجاهدة؛ لأن الشيطان ابتلاك بهذه المعصية، وهذا من البلاء، وعليك أن تعالج نفسك، فأنت مريض بهذا الأمر، ويكون هذا عن طريق الجهاد والتذكر، وأن هذه النظرة تغضب الله، وأن الله ينظر إليك في تلك اللحظة، وأن هذه النظرة تفسد قلبك، وأنها تعدم دينك، وأنها لا تفيدك، هل منها مصلحة؟ ما هي فائدة النظر إلى الحرام؟ لا شيء، إنما ضرر ذلك عليك في دينك ودنياك وقلبك وكل شيء، لكن المصلحة في ماذا؟ في غض بصرك؛ لأن غض البصر راحة للقلب، كلما رأيت شيئاً التفت عنه، لكن إن رأيت شيئاً وفتحت عينك أحرقت قلبك، ولهذا يقول الناظم:
كم نظرة فتكت في قلب صاحبها فتك السهام بلا قوس ولا وتر |
يسر ناظره ما ضر خاطره لا مرحباً بسرور عاد بالضرر |
فنوصيك بالمجاهدة وبالابتعاد عن أماكن تجمعات النساء، الأماكن التي فيها نساء لا تقربها، الأسواق لا تنزلها، المسجد الحرام إذا كان عندك هذا المرض فلا تأتيه، لماذا؟ لأنك تأثم، المكان الذي يوجد فيه نساء لا تذهب إليه فترة الترويض والمجاهدة، إلى أن يعينك الله وتتغلب على هذا المرض والعياذ بالله.
الجواب: أبداً. لا يجوز الأخذ من اللحية، وليس ذلك علي والحمد لله، فأنا من فضل الله لا آخذ شيئاً من لحيتي، لكن لحيتي هكذا فماذا أفعل؟! ليس بيدي طولها؟ هل أعلق فيها ثقالة لكي تطول، الله خلقها هكذا، فمالي حق أن أذهب أطولها، وأما أني آخذ منها فلا، وأسأل الله أن يثبتني وإياكم على الإيمان.
الجواب: أولاً: لا ينبغي لمسلم أن يأتي إلى بيته (بالدش)؛ لأن معناه أنك تستمطر كل ما في قنوات السماء من شر، وتدخله على أهلك وعلى زوجتك وأولادك، وأنت مأمور بحمايتهم وإصلاحهم، ومسئول عنهم يوم القيامة، فالله يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً [التحريم:6] أو قال: أوردوهم النار؟ والذي يأتي بالدش إلى بيته هل هو يورد الخير على أهله أم يورد الشر؟ لا يوجد أحد -أيها الإخوة- يستطيع أن يقول: أنا أورد الخير على أهلي، وبعضهم يقول: إنما هي قنوات عربية فقط، فنقول: هو بعينه الشر والدعارة، وهل بعد ذلك من شر! ونقول: الباطل باطل، والمنكر منكر من أي طريق ومن أي مصدر، فعليك يا أخي! أن تتقي الله، واعلم أن عذرك هنا سيكون مردوداً عليك يوم القيامة إذا اعتذرت به بين يدي الله، وتجد بعض الناس يقول: أولادي يضيعون في الشوارع، فأنا آتي لهم بالدش من أجل أن يبقوا في البيت، يعني: كأنه يقول: أولادي يفسدون في الخارج فأنا أريد أن أفسدهم بيدي، سبحان الله العظيم! هل هذا هو الحل؟! إذا كان أولادك يضيعون في الخارج فاجمعهم في البيت على الخير، حاصر أولادك واحفظهم، أما أن تأتي لهم (بالدش) ليسمروا على ما حرم الله فلا والله.
أيها الإخوة: لقد وقع كثير من الناس في مثل هذا الشر، وبعضهم تنبه وأدرك الخطر وأبعده، وبعضهم انهزم أمام شهوة نفسه أو زوجته وأولاده، ولكن سيجر الندم فيما بعد، وما يحصل اليوم من مشاكل ومآس ومن فضائح لا يعلمها إلا الله، كلها بأسباب هذا الوباء وهذا الخطر، -والعياذ بالله- لماذا؟ لأن الشخص ينتقل إلى كل قناة في الدنيا، يجلس (والريموت كنترول) في يده وينتقل به من قناة إلى قناة، ومن مباراة إلى مباراة، ومن فيلم إلى فيلم، ومن مسلسل إلى مسلسل، حتى أن بعضهم لا يأتيه النوم إلى الفجر، فإذا جاء لينام رفضت عيناه أن تغمض، تجبست عيناه في رأسه، والأولاد لا يذاكرون الدروس، يقول أحدهم: والله الولد كان يأتي الترتيب الأول ولما دخل (الدش) في الشهر الثاني جاء ترتيبه الحادي عشر، (رجع عشر مراتب)، قلت: جيد! الشهر الثالث لن ينجح مطلقاً، وشخص آخر يقول: زوجتي أنام وهي بجانبي، وبعد أن نكمل كل شيء ونريد أن ننام، يقول: أغمّض وأفتّح وأنظر وإذا بها ليست عندي، ذهبت عند (الدش)، تريد أن تسمر.
الجواب: إن تعليم القرآن الكريم وتعلمه من أعظم الأعمال، يقول عليه الصلاة والسلام كما في الصحيحين : (خيركم -خير الأمة وأفضلها وأعظمها - من تعلم القرآن وعلمه) والله عز وجل ذكر في القرآن الكريم آية القراء، في سورة فاطر، يقول الله: إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ * لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ [فاطر:29-30].
ثم إنك -يا أخي- وأنت تقرأ القرآن تخرج ومعك ملايين الحسنات، فكل حرف بعشر حسنات، كم تقرأ يا طالب العلم! وأنت يا مدرس القرآن؟! أنت على أفضل عمل، فإذا جاءك إيحاء أو إغراء أو تشويش من قبل شياطين الإنس أو شياطين الجن بأنك معقد أو أنك ضيعت وقتك أو أن الزملاء يلعبون أو يرون المباريات، أو يلعبون بالدراجات، أو يلعبون في الحارات، وأنت فقط عاكف على القرآن، أو جاءك يا ولي الأمر إيحاء شيطاني أنك تعقد ولدك، يأتي بعض الشياطين يقول لك: ما هذا الولد! من الصباح إلى الظهر في المدرسة ومن الظهر إلى العصر غداء، ومن العصر إلى المغرب مدرسة القرآن، عقدت ولدك وضيعته، فقل: لا والله ما عقدته، والله إني حفظته.
التعقيد هو أن تضيعه في الشوارع، هو أن تتركه مع المنحرفين والسيئين، لكن إذا حفظته من مدرسة إلى مسجد إلى بيت، فهذه هي التربية الحقة، وسيكون ولدك هذا قرة عين لك في الدنيا والآخرة، وستجني ثمرة صلاحه إن شاء الله، وقد جربنا من حفَّظوا أولادهم القرآن كيف كانت ثمارهم والحمد لله.
إن القرآن له آثر في تربية الأولاد، فنقول: الله الله أيها الإخوة الشباب! وأيها الإخوة الطلاب! يا من وفقكم الله لحلقات العلم! داوموا عليها واستمسكوا بها، ولا تنصرف أنفسكم عن كتاب الله، فإنكم والله على أعظم عمل في الدنيا والآخرة.
وأسأل الله لي ولكم الثبات. والله أعلم.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر