أما بعد:
عباد الله: ما هذه الحياة؟ وما حقيقتها؟ ولماذا جاء إليها هذا الإنسان؟ ومتى سينقل منها بعد أن يؤدي دوره على مسرحها؟ وما هو المصير الذي ينتظره بعد أن يخرج رغم أنفه منها؟
الموت باب وكل الناس داخله يا ليت شعري بعد الباب ما الدار |
الدار جنة عدن إن عملت بـما يرضي الإله وإن خالفت فالنار |
هما طريقان ما للمرء غيرهمـا فاختر لنفسك أي الدار تختار |
أيها الإخوة في الله: هذه الحياة لغزٌ محير، حارت في فهمه العقول في القديم والحديث، وعجزت كل الفلسفات البشرية أن تحل هذا اللغز أو تقدم الإجابة الصحيحة على هذه التساؤلات، وضل الإنسان، وشقي وحار، واضطرب وتاه، وبقي سعفة في مهب الرياح في صحراء هذه الحياة، لا يدري من أين جاء، ولا يدري لماذا جاء، ولا يدري إلى أين يصير بعد هذه الحياة.
إن حصول الشقاء لهذا الإنسان هو لقاء إعراضه عن مولاه، وتحقيق لقول الله عز وجل فيه: وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى * وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآياتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى [طه:124-127].
ضل الإنسان؛ لأنه لم يتعلم من الله الذي خلقه.
إن حكمة الخلق لا يمكن أن يتعرف عليها الإنسان من عندياته، فلابد أن يتعلم هذه الحكمة من الذي خلقه، وأنت أيها الإنسان لم تخلق نفسك، قال الله: أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ * أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ [الطور:35-36] إن خالق الإنسان وخالق الكون هو الله الذي لا إله إلا هو: اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ * لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ [الزمر:62-63] .. إِنَّا خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً * إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً * إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلاسِلا وَأَغْلالاً وَسَعِيراً * إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً [الإنسان:2-5].
الأبرار: أي المستجيبين لله: إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً * عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ [الإنسان:5-6] ليسوا عباد الشهوات، ولا عباد الذنوب والمعاصي والمنكرات، ولكنهم عباد الله، أخضعوا أنفسهم في هذه الدنيا لأوامر الله، واستسلموا لشريعة الله، وآمنوا بالله، رضوا به رباً، وبدينه ديناً، وبنبيه نبياً، فعاشوا على نورٍ من الله وبرهان: عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيراً * يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً [الإنسان:6-7].
تعلموا هذه الحقيقة من الله، أنهم ما خلقوا عبثاً؛ لأن العبث محال على الله، بل العبث غير لائق بك أيها الإنسان! لو بنيت جداراً في بيتك، أو صممت عملاً في محيط اختصاصك، ثم سألك أحد الناس، وقال لك: لمَ هذا؟ فقلت: عبثاً، أليس نقصاً في رجولتك؟ أليس قدحاً في عقليتك أن تعمل شيئاً عبثاً بدون حكمة؟ نعم. والمحال الأعظم أن يخلق الله هذا الكون وهذه العوالم، سماوات وأرض، وبحار، ونجوم، وجبال وشجر، ودوابٌ وأنعام، وليلٌ ونهار محال أن يخلقها الله عبثاً.
يقول الله عز وجل: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ [المؤمنون:115-116] تعالى وتقدس أن يخلق شيئاً عبثاً: فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ [المؤمنون:116] وقال سبحانه: وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ [الدخان:38] .. لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ * بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ [الأنبياء:17-18].
ويقول الله تعالى: وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ [ص:27].
إن الله عز وجل ما خلقك عبثاً، بل خلقك لحكمة، هذه الحكمة تعرفها من قول الله عز وجل: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56] هذه حكمة خلقك، وهذا سبب وجودك: أن تعمر هذه الحياة بعبادة الله: مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ [الذاريات:58].
الرزق مكفول، والعمر محدود، والإمكانات موفرة، والمنهج واضح، والطريق مستقيم، وأنت مأمورٌ أن تسير على هذا المنهج، وأن تواصل السير على هذا الطريق المستقيم، وألا تلتف أو تنحرف؛ فإنك إن انحرفت عن هدي الله وعن طريق الله، كان المصير دماراً وعذاباً في الدنيا، ودماراً وبواراً في النار: وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً [طه:124] يعني: في الدنيا معيشة ضنكاً، والله ولو امتطى أحدث الموديلات، ولو امتلك ملايين الريالات، ولو نكح أجمل الزوجات، ولو سكن أرفع العمارات، ولو احتل أحلى وأعلى الرتب والمناصب، وقلبه بعيدٌ عن الله، فإن هذه كلها لا تزيده إلا عذاباً.
يقول شاعرهم:
جئت لا أعلم من أين ولكني أتيت ولقد أبصرت قدامي طريقاً فمشيت وسأبقى سائراً إن شئت هذا أم أبيت كيف جئت؟ كيف سرت؟ كيف أبصرت طريقي؟ لست أدري؟ ولماذا لست أدري؟ لست أدري؟ |
ووالله إن هذا لمنتهى العذاب، أن يعيش الإنسان وهو لا يدري لماذا يعيش، وهذا السبب هو الداء الذي تعاني منه البشرية اليوم، رغم أنها استطاعت أن تحقق من الإنجاز العلمي في المجال المادي ما يبهر العقول، ولكنها في الجانب الروحي والإيماني تعيش في فقرٍ روحيٍ وخواءٍ إيماني؛ فسبب لها هذا الشقاء، فتجدهم -الآن- في الغرب ينتحرون وتزعزعهم وتقلقهم الأمراض النفسية.
والطب النفسي لم يكن موجوداً، والأمراض النفسية سببها عدم القرب من الله، سببها التفكير في هذه الحياة، يفكر الواحد يقول: أنا لماذا أعيش؟ فيقول: أعيش لآكل، فيقول: حسناً! وأنا آكل لماذا؟ فيكون الجواب: إنك تأكل لتعيش، وتعيش لتأكل، وتأكل لتعيش، وهكذا تبقى في حلقة مفرغة، تأكل لتعيش، وتعيش لتأكل وبعد ذلك يجب أن تجيب بالجواب الحتمي: ثم أموت، تموت رغم أنفك، فلا يبقى لك منصب، ولا تبقى لك رتبة، إذ لو بقيت لغيرك ما وصلت إليك، ولا يبقى لك شباب إذ أن شباب هذه الدنيا إلى هرم، وعافيتها إلى سقم، وحياتها إلى موت، وقصورها إلى قبور، ونورها إلى ظلام.
هذه الأيام مطايا أين العدة قبل المنايا أين العزائم أرضيتم بالدنايا؟ إن بلية الهوى لا تشبه البلايا وإن خطيئة الأحرار لا كالخطايا قضية الزمان لا كالقضايا! ملك الموت لا يعرف الوساطة ولا يقبل الهدايا |
أيها الشاب! ستسأل عن شبابك أيها الكهل! تأهب لعتابك أيها الشيخ! تدبر أمرك قبل سد بابك يا مريض القلب قف بباب الطبيب يا منحوس الحظ اشك فوات النصيب |
لذ بالجناب ذليلاً وقف على الباب طويلاً فأنت بداء التفريط والتسويف عليلا |
يا من يجول في المعاصي قلبه وهمه يا معتقداً صحته فيما هو سقمه يا من كلما زاد عمره زاد إثمه يا طويل الأمل وقد تيقن أن اللحد عما قليلٍ يضمه استدرك العمر قبل رحيله فكيف نعظ من قد نام قلبه لا عينه وجسمه |
قال الفضيل بن عياض رحمه الله: [إذا لم تقدر على قيام الليل وصيام النهار، فاعلم أنك محروم، كبلتك خطيئتك].
فيا عباد الله! الحكمة التي خلقكم الله من أجلها هي العبادة، والذي لا يسير في هذه الحكمة ولا يمشي في هذا الخط سيعيش في عذاب، شاء أم أبى، يقول الله تعالى: وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ * وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ [الزخرف:36-37].
بالإيمان تعيش سعيداً، وبالإيمان تموت سعيداً حينما يأتيك الطلب الذي لا يستطيع أن ينجو منه أحد..
الموت قاهر الجبابرة.. قاهر العظماء.. لا يمتنع منه أحدٌ .. لا ملك بملكه.. ولا أميرٌ بإمارته.. ولا تاجرٌ بتجارته.. ولا قوي بعضلاته.. ولا عالمٌ بمعارفه.. لكن الكل يموتون: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ [الزمر:30] وهذه القضية عبر الاستطراد والاستقراء للتاريخ ما علمنا أن أحداً شذ عنها، هل سمعتم بأن إنساناً استطاع أن ينجو من الموت؟ لا.
عند الموت لا تحاسب ولا تعامل على ضوء منزلتك الاجتماعية، ولا رتبك الوظيفية، ولا أرصدتك المالية، ولا وضعك الرياضي، ولا شهاداتك العلمية، كل هذه نفعتك في الدنيا؛ لكن عند الموت يوجد مؤهلات أخرى إذا جئت بها نلت الكرامة وإذا لم تأت بها ليس لك عند الله قيمة.
ما هي مؤهلاتك في الآخرة؟
التوحيد الخالص.. الصلاة الخاشعة في جماعة المسلمين.. الزكاة المدفوعة.. الصيام الزاكي.. الحج المبرور.. بر الوالدين.. صلة الأرحام.. الدعوة إلى الله.. الأمر بالمعروف.. النهي عن المنكر.. العيش لهذا الإسلام.. الدفاع عن هذا الدين.. الحب في الله.. البغض في الله..
هذه مؤهلات تنفعك عند الموت ولو كنت في أقل رتبة، ولو كنت لا تملك ريالاً واحداً، لكن لو عندك أعلى رتبة وأعظم مال ولا تملك هذه المؤهلات فليس لك عند الله قيمة: فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً [الكهف:105] هذه موازين الدنيا، لكن موازين الآخرة تختلف عن موازين الدنيا.
مر رجلٌ على رسول الله صلى الله عليه وسلم في طمرين -طمرين يعني: ملابس رثة- باليين، وحالة رثة، وهيئة ضعيفة، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم لأصحابه: (ما ترون في هذا -يعني: ما رأيكم في هذه الشخصية- قالوا: هذا رجل ضعيف، جدير إذا خطب ألا ينكح، وإذا تكلم ألا يسمع له، وإذا دخل ألا يقام له -يعني: ليس له قيمة في المجتمع- فهز صلى الله عليه وسلم رأسه، ثم مر رجلٌ آخر على حصان -شخصية بارزة- عليه ثيابٌ عظيمة، وفي يده سيفٌ مصلت، يمتطي جواداً عظيماً، قال: وما رأيكم في هذا؟ قالوا: هذا حري إذا خطب أن يزوج - لا أحد يرده- وإذا تكلم أن يسمع له، وإذا دخل أن يقام له، فقال عليه الصلاة والسلام: والذي نفس محمدٍ بيده إن الأول أفضل عند الله من ملئ الأرض من مثل هذا)
لماذا؟
لأن الموازين هي موازين ربانية، فعند الموت لا تعامل على ضوء شيء من هذه الماديات، فانتبه لنفسك؛ لأن الله يقول: وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ [الأنعام:94] جئت إلى الدنيا واستقبلوك في خرقة، وعشت على ظهر الدنيا حتى تموت، ثم يخرجونك منها في خرقة ثانية، وأنت لما بين الخرقتين.
هل سمعتم أن إنساناً دفن في قبره ومعه دفتر الشيكات؟ أو دفن في قبره وعليه البدلة الرسمية ذات الرتب العالية؟ أو دخل في قبره ومعه أولاده أو أمواله أو أزواجه؟
لا والله ما سمعنا بهذا، بل يخرج الإنسان من الدنيا كما تخرج الشعرة من العجين، ويلف في الكفن، ويفرد في قبره، ويوضع معه العمل، فإن كان قد تعرف على العمل وعمل صالحاً؛ فأنعم به وأكرم، وإن كان غافلاً، ضالاً، تائهاً، يشبع بالشهوات ويلهو في المعاصي والمنكرات، ولا يؤدي الفرائض ولا الواجبات، لا يعرف مسجداً، ولا يقرأ قرآناً، ولا يحني رأسه لدين الله؛ فهذا إذا ضرب رأسه في القبر انتبه مثل النائم السكران، وقد أخبر الله عنه بقوله: حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ [المؤمنون:99] لماذا؟ تقول له الملائكة لماذا ترجع؟ قال: لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ [المؤمنون:100].
فلماذا لا تعمل من الآن؟ ما الذي غرك؟ تؤجل العمل حتى تدخل القبر ثم تقول ردوني أعمل صالحاً؟! كلا. لن يردوك، لم يعد هناك فرصة، فاعمل الآن قبل غد.
لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ [المؤمنون:100].
قال الله: كَلَّا [المؤمنون:100] وكلا: أداة زجر وردع وتوبيخ: كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا [المؤمنون:100] هذا المتلاعب، هذا المهمل يريد الشيء على ما يريد، ومثله كمثل طالب في المدرسة أو في الجامعة، أخذ المقررات الدراسية، وعرف الواجبات، ولكنه أهمل ولم يحضر حصةً، ولم يصغ لدرسٍ، ولم يحل واجباً، ولم يحضر المدرسة، وفي آخر العام الدراسي عُلق جدول الامتحان وقال له زملاؤه: بقي معك فرصة الامتحان بعد عشرين يوماً، أو بعد خمسة عشر يوماً، فذاكر واجتهد. قال: بلا امتحانات بلا تعقيد، دعوني أعيش بلا هم، هذا الامتحان يُعَقدني، ولما جاءت الامتحانات دعاه أبوه وجاء به غصباً ليمتحن، فدخل قاعة الامتحان، ولما قدمت له أوراق الأسئلة نظر إليها، ورأى أنه لا يعرف منها حرفاً واحداً، فقام وقال: أريد رئيس لجنة الامتحان.
فسألوه: ما بك؟
قال: أريد رئيس اللجنة، فلما حضر قال له: يا أستاذ! أرجو منك أن تعطيني خمس دقائق أو عشر دقائق لأخرج خارج القاعة أراجع هذه المواد ثم أعود وأختبر.
ما رأيكم هل يعطونه ذلك؟ لا يعطونه ذلك أبداً، يقولون: اذهب يا دجال، أنت كذاب لعاب، طيلة العام جالس على اللعب وبعد ذلك تريد أن تنجح مثل هؤلاء المجتهدين؟ لا.
فليس معك إلا الذي معك، فالذي في رأسك اكتبه، إن كان صواباً تنجح، وإن كان خطأ تسقط وترسب.
أيها الأحبة: هذه امتحانات الدنيا، وكذلك امتحانات الآخرة فذاكر من الآن، لا تهمل أوامر الله، ليس لديك إلا فرصة واحدة، وليس لديك إلا دور واحد، جنةٌ أو نار، لا يوجد بعدها فرصة أخرى، أما الدنيا إذا سقطت في الدور الأول تنجح في الدور الثاني، وإذا لم تنجح هذه السنة تنجح في السنة الثانية، وإذا لم تدرس أصلاً تعيش ولو بغير وظيفة أو بغير دراسة، لكن ليس في الآخرة إلا الجنة أو النار، ومؤهلات الجنة هي الأعمال الصالحة، تنفعك في الدنيا، وتنفعك عند القبر وعلى الصراط، وتنفعك بين يدي الله عز وجل.
أما من يرفض الدين ويستمر سادراً في غيه، عبداً لشهواته؛ فهذا ما سنبين جزاءه في الخطبة الثانية.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين، فاستغفروه وتوبوا إليه؛ إنه هو الغفور الرحيم.
أما بعد:
عباد الله: قد علمتم جزاء الذين يستجيبون لداعي الله، يقول الله عز وجل: لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى [الرعد:18] الحسنى: هي الجنة، والذين لم يستجيبوا؟ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ [الرعد:18].
إذا كان الشخص لا يريد طريق الله يُترك؛ لأن الله يقول: فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ [الزخرف:83] ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ [الحجر:3] .. كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلاً إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ [المرسلات:46] ويقول الله: إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ [الغاشية:25-26] ويقول: فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا [لقمان:23].
الذي لا يريد السير على الطريق الصحيح سوف يندم، ويعضُّ على يديه وليس على أصابعه، يأكل يديه أكلاً، كما ذكر الله القصة في سورة الفرقان، يقول عز وجل: وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ [الفرقان:27] الظالم لنفسه بالمعاصي؛ لأن الله يقول: وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ [الطلاق:1] .. وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً [الفرقان:27].
يقول: ليتني اتبعت طريق النبي وسنته وسرت على هديه: يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً [الفرقان:28] (فلان) نكرة، فلان خليل من فلان؟ فمن الممكن أن يكون زميلاً، أو شريطاً، أو كتاباً، ومن الممكن أن يكون ريالاً أو درهماً أو ديناراً، ومن الممكن أن يكون منصباً أو جاهاً، ومن الممكن أن يكون زوجة أو والداً أضله عن الله، يقول الله: يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي [الفرقان:28-29] حرفني عن طريق الله بعد أن هداني الله: وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولاً [الفرقان:29].
يعض الرجل على يديه من الحسرة والندامة، حين يرى أهل الإيمان يقادون إلى الجنان، وهو يقاد إلى النيران، يُسحب على وجهه، يقول الله: يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ [القمر:48] ويقول الله عز وجل: وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمّاً [الإسراء:97].
قالوا: (كيف يا رسول الله يمشي على وجهه؟! قال: أليس الذي أمشاه في الدنيا على قدمين قادر أن يمشيه في الآخرة على وجه؟ قالوا: بلى) الآن نرى حيوانات وزواحف تمشي على وجوهها كالسلحفاة، والحية، والعقرب، والثعبان كلها تمشي على وجهها، ويوم القيامة يُبعث الكافر يمشي مثلما تمشي الحية، يزحف على وجهه إلى النار، ويُسحب، وكذلك الفاجر والعاصي: يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ * إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ [القمر:48-49].
ولا يوجد شيء عبثاً، الله خلقك وخلق فيك العينين، والشفتين، واللسان، والأذنين، واليدين، والرجلين، والقلب، والفؤاد من أجل ماذا؟ من أجل أن تأكل وتشرب وتلعب وتنام وتداوم؟! فقط من أجل هذا؟ لا. فهذه عمل الحيوان، فلو سألت الحمار أو البقرة أو الثور ماذا يفعل؟! ليس له إلا أن يأكل ويشرب وينكح ويرقد، وأنت تريد أن تصير مثله، هؤلاء الملاحدة والكفار الذين يقولون: نحرر الإنسان من الدين، وهم في الحقيقة ينزلونه إلى مرتبة الحيوان، يجعلونه كالكلب والخنزير، والقرد والحمار.
لديه عقل لكنه لم يستعمله في طاعة الله، استعمله في المنكر والباطل وأمور الدنيا، وله عين لكنه ما استعملها في النظر إلى ملكوت الله، وإلى كتاب الله وسنة رسول الله، بل استعملها في النظر إلى النساء، ومتابعة الحرام، فيحرق قلبه ويُغضب ربه، وله أذن ما استعملها في سماع آيات الله، وبعض الناس يمر عليه الشهر ولم يسمع فيه آية من القرآن، وبعض الناس يدخل عليه الشهر ويخرج ولم يقرأ فيه من المصحف حرفاً واحداً، وإذا حمل المصحف في يوم جمعة أو في صلاة من الصلوات، قرأ من أي مكان، من غير تدبر ولا تمعن، والآن كلكم دخلتم قبل الخطبة وقرأتم القرآن، وبعد الصلاة لو وقف واحد على الباب وسأل كل واحد ماذا قرأت؟ وما هي السورة التي قرأت؟ يمكن أن تعرف السورة، ولكن ما هي المواضيع التي طرقها القرآن في قراءتك له؟
ما هي الأوامر الموجهة لك؟ ما هي النواهي المنهي عنها؟ ما هي الأخبار التي جاءت في القرآن الذي قرأت؟ يمكن لا ينجح (1%) قرأ القرآن من وقت دخوله وهو يتمتم، لكنه لا يدري ماذا يقول، فكيف تأتي الهداية؟ فالحسرة والندامة تقطع قلب الإنسان وهو يُقاد إلى النار، حينما يرى أهل الإيمان يقادون إلى الجنة، وفي الدنيا يعيش في عذاب، يعيش الإنسان في هذه الدنيا قبل الآخرة في عذاب، إذا لم يكن مسلح بالإيمان، ولذا يغالط الإنسان نفسه؛ بأن يضفي على حياته أشياء كثيرة من المسليات والملهيات، من أجل أن ينتقل من واقعه المرير؛ ليعيش في بعدٍ عن الله، إذا اشترى مجلة أول شيء يقرأه فيها الصفحة الضاحكة، يريد أن يضحك، وإذا اشترى جريدة فأول شيء يبحث عنه نكتة اليوم، وإذا علم عن فلم سارع بشرائه ليضحك، وإذا سمع بمسرحية يريدها لكي يضحك، فلماذا؟
لأن هذا الإنسان داخله في عذاب، ويريد أن يسلي نفسه عن هذا العذاب بهذه الأشياء؛ فيزيد الطين بلة، (يريد أن يكحلها فيعميها) إذا أراد أن يبعد ما في نفسه من العذاب فعليه بكتاب الله وبالتوبة إلى الله، وبالرجعة إلى دين الله، ينزع الله من قلبه القلق والحيرة والاضطراب، ويزرع الله في قلبه الأمن والطمأنينة والأمان؛ لأن هذه من ثمار الدين: الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد:28].
الله أكبر! قالوا: ربنا الله، ثم برهنوا على هذا الادعاء بالاستقامة.
ما هي الاستقامة؟ هي السير على الطريق الصحيح، وأنتم تعرفون عندما يقال: فلان رجل مستقيم، أي: يمشي على الطريق الصحيح، وفلان منحرف، أي: مائل عن الطريق، يقع في الزنا.. في الغناء.. في الربا.. في الرشى.. في الكبر.. في الغلط.. وذاك مستقيم من بيته إلى مسجده إلى عمله إلى مسئولياته، فلا تراه إلا في الحق، ولا تجده إلا فيما يرضي الله، فقدمه لا تحمله إلى منكر.. ويده لا تمتد إلى منكر.. وعينه لا تمتد إلى حرام.. وأذنه لا تسمع لحرام.. ولسانه لا يتكلم بحرام.. وبطنه لا يمكن أن يسقط فيها شيء من الحرام.. وفرجه لا يمكن أن يطأ الحرام.. والاستقامة -كما يقول الرياضيون في تعريف الخط المستقيم: إن الخط المستقيم هو أقرب الطريق بين نقطتين- وهي نقطة الدنيا ونقطة الآخرة، وأقرب طريق موصل لها الخط المستقيم.
لكن الخط المنحرف فيه منعطفات، وهذه المنعطفات توصل الإنسان إلى النار، فالله يقول: إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا [فصلت:30] ماذا يحصل لهم في الدنيا؟ قال الله: تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ [فصلت:30] أي: عند الموت: أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ [فصلت:30] لا تخافوا مما أمامكم، ولا تحزنوا على من خلفكم، أمان على الماضي والمستقبل، فالمستقبل: لا تخف، والماضي: لا تحزن، والحاضر: قال: وَأَبْشِرُوا [فصلت:30] هذا الحاضر: وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ [فصلت:30] وكأن الواحد يقول: لماذا هذا الاستقبال؟ ولماذا هذه البشرى؟ ولماذا هذه الطمأنة؟ قالوا: نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ [فصلت:31].
لما كنتم أولياء لله في الدنيا؛ نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة، ولو كنتم أولياء للشيطان، تطيعونه وتعبدونه وتسيرون في خطه، لكنا لكم أعداء؛ لأن الله سمى هؤلاء أعداء: وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ [فصلت:19] أولياء الشيطان هم أعداء الله، وأولياء الله هم أعداء الشيطان، فالذي يوالي الله تواليه الملائكة، والذي يعادي الله تعاديه الملائكة، فتقول الملائكة: نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ [فصلت:31].
كنا في الدنيا معكم نثبتكم على الإيمان، وفي الآخرة معكم.
قال الله تعالى: وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ [فصلت:31] لأنكم حجزتم أنفسكم في الدنيا عن الشهوات، يمر الشاب المسلم على الأغنية وهي تقطع قلبه مما كان يحبها في الماضي، لكنه يقارن ويوازن بين غضب الله وسخطه وبين هذه الأغنية، فيؤثر رضا الله ويترك الأغنية وقلبه يتقطع يريد أن يغني، هل تتصورون أن المهتدي والملتزم أنه لا يحب الأغاني؟ لا. بل يحبها، مثلما تحبها أنت، يمر على المرأة ويراها جميلة تؤشر له بعينها أو بيدها؛ ولكنه يغض بصره خوفاً من الله، ونوازع الشهوة في قلبه تحترق؛ لكنه يقهرها خوفاً من الله؛ فيصبر والعاقبة للصابرين.
يقوم في الليل ليصلي، ويقوم إلى المسجد في الفجر ليؤدي الصلاة، والبرد قارص، والظلام دامس، والنوم جميل، والفراش دافئ، والزوجة جميلة؛ ولكنه يسمع: الله أكبر! فيترك كل شيء ويقوم إلى الله أكبر، هذه فيها تعب؛ ولكنه أرغم نفسه على هذا، يقول الله عز وجل يوم القيامة: وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ [فصلت:31].
يبدلك الله بالزوجة اثنتين وسبعين زوجة، وبالأغنية -كما جاء في الحديث- تركب مزامير من مزامير آل داود على أوراق الجنة، ثم تعزف تلك المزامير بعد أن تهب عليها ريحٌ من تحت العرش، يقال لها: المثيرة، فتعزف بألحانٍ ما سمعت بمثلها الآذان، تغني معها الحور العين على ضفاف حضيرة القدس، يسبحن الله عز وجل بالعشي والإبكار، هذا السماع العظيم، بدلاً من (يا ليل يا عين)، تركت هذا من أجل ذاك، فنلت الدنيا والآخرة.
وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ [فصلت:31] أي: ما ترغبون وما تريدون، هذا جزاء المؤمنين، وذاك الذي لا يريد نقول له: اصبر وانتظر، يقول الله عز وجل: فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ [الدخان:59] .. وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ [السجدة:30] ويقول: ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ [الحجر:3].
لماذا؟ لأنهم استكبروا، والكبرياء خطيرة، الكبرياء هي منزلة للشيطان، تكبر فماذا حصل؟ يعني: صاحب الشهوة والمعصية يرجى له توبة، لكن صاحب الكبرياء يُخاف عليه من اللعنة، لأن آدم عصى مشتهياً فتاب وتاب الله عليه، وإبليس عصى مستكبراً، لما قال الله له اسجد: أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ [البقرة:34] فكتبت عليه اللعنة، ونحن أكثر ما نخشى من الكبر، خصوصاً على أصحاب الرتب، فأصحاب الرتب يأتيهم الشيطان ويزين لهم الكبرياء والتعالي والتعاظم على من هو دونهم في الرتب، فيحصل لهم من هذا ضلالٌ لا يعلمه إلا الله، فتواضع لله يرفعك في الدنيا والآخرة؛ لأن من تواضع لله رفعه الله، ومن تعاظم على الله، وضعه الله.
تجد مثلاً المدير أو القائد أو الزعيم أو اللواء أو الأمير، إذا تواضع (وبش) وسلَّم ورقَّ واحترم وقدر الناس، هؤلاء يحترمونه من قلوبهم.
وإذا أحيل على المعاش والتقاعد بعد ذلك فلا تذهب منزلته من قلوبهم، تبقى منزلته في قلوبهم إلى أن يموت، ويوم أن يموت ويذكر يقولون: (الله يذكره بالخير)، لكن المتكبر المتعاظم يُحترم لكن بالقوة، فإذا زالت عنه الرتبة والله لا يسلمون عليه في الشارع، لا يقولون له: السلام عليكم، لماذا؟ لأنه كان يفرض عليهم بالقوة؛ لكن لو أنه أعطاهم الاحترام بالقدوة، وانتزع منهم الحب بالتواضع؛ لتغير ذلك نحوه، فمن تواضع لله رفعه، والذين يستكبرون كما جاء في الحديث والحديث في صحيح مسلم قال: (لا يدخل الجنة من في قلبه مثقال ذرة من كبر) هذا مثقال ذرة فكيف بالذي عنده قنطار من كبر؟ يمشي وإذا مشى كأن أنفه معلق في السماء، لا يمشي وعينه في الأرض، لا. هكذا... لماذا تتكبر؟ وبماذا تتكبر؟: يَا أَيُّهَا الإنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ * الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ [الانفطار:6-7] لماذا تتكبر؟! ارجع إلى أصلك، يا بن الأربعين سنة! أين كنت قبل أربعين سنة؟ كنت نطفة مذرة، خرجت من مجرى البول مرتين، الأولى: من ذكر أبيك، والثانية: من فرج أمك، وأنت بين هذا وذاك تحمل في بطنك العذرة، ثم نهايتك جيفة قذرة، لماذا تتعاظم على الله؟ تستكبر بمالك.. تستكبر برتبتك.. تستكبر بعضلاتك.. المال مال الله.. والرتبة من الله.. العضلات من الله.. العافية من الله.. الجمال من الله.. الشباب من الله..
لماذا تتعاظم على عباد الله بما هو لله وليس منك في شيء؟! عيب عليك هذا، تواضع لخالقك، يرفعك خالقك في الدنيا والآخرة، وإذا أبى إلا أن يتكبر، قال الله عز وجل: إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا [الأعراف:40] بعض الناس تقول له: صلِ في المسجد، قال: لا يا شيخ! أنا أصلي في مكتبي، لماذا؟ قال: إذا صليت في المسجد يأتي بجانبي صاحب الرتبة الضعيفة، وأنا لا أريد أن يسقط اعتباري، أريد أن أصلي لوحدي ولا يصلي بجانبي إلا واحد مثلي، لا إله إلا الله! يسقط اعتبارك إذا أتيت في الصف الأول؟! يسقط اعتبارك إذا أتى بجانبك الجندي؟!
والله يعلو اعتبارك، ووالله ترتفع منزلتك، لماذا؟ لأنك تتواضع لخالقك الذي بيده مقاليد الأمور، من الذي قلدك هذا المنصب، من الذي أعطاك هذه الرتبة؟! إنه الله، ليس أنت، إنه خالقك ابتلاك بهذا من أجل أن تتواضع له، وتتواضع لعباده، فإذا تعاليت وتعاظمت؛ وضعك الله واحتقرك في الدنيا والآخرة: إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ [الأعراف:40].
إذا دخل البعير في خرق الإبرة؛ دخلوا الجنة، وهذا يسمونه العلماء تعليق على المستحيل، يعني: مستحيل أن يدخل الجمل في خرق الإبرة، وهؤلاء من المستحيل دخولهم الجنة: وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ * لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ [الأعراف:40-41].
ثم في القبر يذله الله، وفي النار يهلكه الله، من أجل ماذا؟ من أجل ارتكابه معصية الله، وتركه طاعة الله.
بالله يا إخواني في الله! يا أهل العقول الرشيدة! هل يسوغ لنا العقل هذا أن نضيع سعادة الدنيا والآخرة، وأن نقع في خزي الدنيا والآخرة من أجل المعصية؟! لا والله لا خيار لنا، إن الخيار الأمثل، والبديل الأفضل أن نسير في طاعة الله، والله يقول: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ [الأحزاب:36] الخيار الصحيح لك: الدين.
الكفر والمعاصي والمنكرات ليست بخيار، شبعنا والله شبعنا، لعب الناس حتى تعبوا، ورقصوا حتى انثنوا، وغنوا حتى ملوا، ثم يأتي المغني (ونمططه ونراقصة ونلاعبه) فيخرج المغني والرقاص من الدنيا وليس معه شيء، لكن إذا تعبت في طاعة الله تخرج ومعك ذهب أحمر، تخرج ومعك عمل، يقول الله: يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ [آل عمران:30].
مثله كمثل رجل غاب عن أهله، جلس في العسكرية عشر سنوات وهو غائب يجمع المال، ثم رجع إلى أهله وليس معه إلا (مشعاب وباكت دخان) وليس معه شيء، ويوم دخل؛ أين نقودك يا ولدي؟!
أنت عشر سنوات وأنت غائب، ماذا معك؟! قال: لا شيء، والله لا يوجد غير الراتب كنا نأخذه ونأكله، فما رأيكم في أهله هل يفرحون به؟ والله لا. فقد لا يصنعون له العشاء، ويطردونه من نفس البيت، (الله لا يكثر خيرك، ولا يجمل حالك) إن كنت تغيب عشر سنوات ثم تأتي بباكت الدخان، هذا لا نريده، وإذا قال: يريد أن يتزوج، لا أحد يزوجه؟! والله لا يزوجونه قط، لماذا؟ لأنه ضايع لا يحفظها.
لكن ما رأيكم في رجل غاب عشر سنوات ويجمع الريال على الريال، ولما أكمل المدة، أخذ إجازة وجاء إلى أهله محمل سيارة كاملة، الفرش، والأثاث، والثلاجة، والغسالة، والأدوات المنزلية، والهدايا، كسا أهل القرية من أولهم إلى آخرهم، ما ترك رجلاً ولا امرأة إلا أهدى له غترة أو شيلة أو ثوباً، أو بشتاً، ثم دخل على أهله وأخرج الفلوس يعطي أمه، ويعطي أباه، ويعطي إخوانه، ويعطي أنسابه، ما رأيكم في هذا؟ كيف يبيت الليلة؟ كل واحد يسلم على رأسه، وكل واحد يسلم على يده، ويذبحون الذبائح له، ويأخذه أهل القرية من طرفهم إلى طرفهم، عزائم كل يوم، وإذا تكلم، وقال: أريد فلانة؟ قالوا: الذي تريد مع الذي تريد، الله يحييك (ومرحباً ألف).
وأنت الآن خذ رجولتك من الدنيا، لا تأت إلى الآخرة بالمنكرات، لا تأت بقطع صلاة.. وقلة دين، بل جئ بإيمان وعمل صالح، يزوجك الله بالحور العين، يقول الله: وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [النمل:90].
إن متم؛ متم شهداء، وإن عشتم؛ عشتم سعداء، تعيشون عيشة الرجال، وتقفون مواقف الأبطال، تذودون عن حماكم، وعن مقدسات المسلمين، وتقفون بنحوركم على ثغور المسلمين، ولكن صححوا وضعكم مع الله، واحذروا من الذنوب والمعاصي؛ فإنها حجابٌ بين العبد وبين الله، احذر من الذنب فإنك لا تقاتل العدو، إلا بدين وإيمان ونصرة من الله، فإذا استويت أنت والعدو هو عاصٍ وأنت عاصٍ، هو زان وأنت زان، هو فاجر وأنت فاجر، إذاً: هنا تكون الغلبة للسلاح، والسلاح يمكن عنده أكثر منك، لكن السلاح الفتاك والقوة التي لا تُقهر والعدد الذي لا ينقص هو الإيمان، ووالله إن رجلاً من المؤمنين ليعدل آلاف من الكفار.
لما استنفر قادة المسلمين أرسلوا لـعمر بن الخطاب يطلبون نصرة ونجدة، فأرسل لهم القعقاع بن عمرو، وقال: إن جيشاً فيه القعقاع لا يُهزم، عده العلماء بألف رجل، ألف رجل لكن القعقاع يضعهم على جنب، بماذا؟ ما كان قوياً في جسمه، لكن قوي في قلبه، عنده قلب أقوى من الجبال، السلاح الذي يحمله قلبٌ ضعيف هذا سلاح خربان.
والله إذا وجدة قوة في قلب قوي وقلب مؤمن واثق بالله عز وجل لو ما عنده إلا عصا؛ فإن عصاه أفتك من المدفعية التي مع الإنسان الجبان الذي لا يريد الله ولا الدار الآخرة.
فنقول لكم أيها العسكريون: أنتم في بلاد الإسلام، وفي مهد الإسلام، وفي ظل دولة الإسلام، تحكمكم شريعة الله، تذودون عن حمى الله، تذودون عن مقدسات المسلمين، واجبكم عظيم تجاه دينكم، والحرص على مقدساتكم، بحفظ ما بينكم وبين الله تبارك وتعالى.
ألا وصلوا على خير خلق الله محمد بن عبد الله، فقد أمركم بذلك مولاكم، فقال: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً [الأحزاب:56] اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، وعلى الخلفاء الراشدين وعلى الصحابة أجمعين، وعن التابعين وعن تابع التابعين، وعنا معهم بمنِّك وكرمك يا أرحم الراحمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، ودمر الكفرة واليهود والملحدين وأعداء الدين، اللهم أنزل عليهم بأسك الشديد، وعذابك الأكيد، فإنهم لا يعجزونك، اللهم إنا نجعلك في نحورهم، ونعوذ بك من شرورهم.
اللهم آمنا في دورنا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، اللهم اجعل عملهم في رضاك، اللهم اهدهم إلى هداك، اللهم من أرادهم أو أرادنا في هذه الديار أو غيرنا من ديار المسلمين بسوءٍ أو شرٍ أو كيدٍ أو مكر، فاجعل كيده في نحره، واجعل تدبيره في تدميره، وأنزل عليه بأسك الذي لا يُرد عن القوم المجرمين.
اللهم آمنا في دورنا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، وارزقهم البطانة الصالحة، واجعلهم عوناً لك ولعبادك على طاعة الله، ناصرين لدين الله، اللهم ثبت أقدامهم وانصرهم على القوم الكافرين، برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم انصر عبادك المجاهدين الذين يجاهدون في سبيلك لإعلاء كلمتك في الأفغان وفي فلسطين ، وفي جميع بقاع المسلمين، اللهم ثبت أقدامهم، اللهم قوِ قلوبهم، اللهم مدهم بعونك وتأييدك، اللهم زلزل الأرض من تحت أقدام أعدائهم، واجعل أعداءهم غنيمة للمسلمين، برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم نوِّر على أهل القبور قبورهم، اللهم اغفر للأحياء ويسر لهم أمورهم، اللهم فرج هم المكروبين، واشفِ مرضى المسلمين، واقضِ الدين عن المدينين، واكتب الصحة والسلامة والعافية لنا ولكافة عبادك المؤمنين، في برك وبحرك أجمعين، برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم اسقنا وأغثنا، اللهم اسقنا غيث الإيمان في قلوبنا، وغيث المطر في بلادنا وأوطاننا، اللهم إن بالبلاد والعباد من اللأواء والشدة والضيق ما لا نشكوه إلا إليك، فلا تحرمنا يا مولانا من فضلك، ولا تؤاخذنا بما فعله السفهاء منا، إنك أنت أرحم الراحمين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر