إسلام ويب

إن الله مع الصابرينللشيخ : سعيد بن مسفر

  •  التفريغ النصي الكامل
  • الصبر خلق قويم وأساس مهم، لا يصل الإنسان إلى مراده، ولا يتجاوز الأخطاء إلا به. وعندما تستحكم الأزمات، وتتعقد الأحوال، وتتوالى المحن ويطول ليلها، يقوم الصبر بدوره الجميل في تثبيت النفس وإحياء آمالها. ولم يؤت الأولون والآخرون شيئاً خيراً من الصبر، فعلى المسلم احتساب أجر الصبر على هذه الحياة بجميع ما فيها من منغصات.

    1.   

    الصبر من أرفع الأخلاق وأعظمها

    الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

    هذا اليوم هو يوم السبت الموافق (13/محرم/1411هـ) وفي مسجد أبي بكر الصديق بمدينة أبها يلقى هذا الدرس.

    والإنسان وهو يعبر رحلة الحياة، يحتاج إلى تربية وتهذيبٍ وتأديب، حتى يتجاوز عقباتها، وينجو من مخاطرها وآفاتها، ويصل إلى ساحل النجاة.

    وحين يسير الإنسان في خط عشوائي من غير دليل يدله، ولا هادٍ يهديه، يقع ضحية التضليل، ويسقط في مهاوي الردى، ولا يصل إلى النجاة لا في الدنيا ولا في الآخرة.

    أما حين يهتدي الإنسان بهدى الله، ويسير على منهج الله، ويتأدب بالآداب التي جاءت في كتاب الله وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فإنه يعبر الحياة ويتجاوزها بسلامٍ وأمان، ويصل إلى ساحة النجاة وساحلها في دار الخلد والجزاء، نسأل الله جميعاً من فضله.

    وهناك آداب جاء الإسلام ليربي الإنسان عليها، ويرتقي إلى قمتها، وإلى أعلى درجات الفضائل، فيها أدب عظيم، يغفل عنه الناس، وهو أساس مهم وخلقٌ قويم لا يصل الإنسان إلى مراده، ولا يتجاوز الأخطار إلا به، والناس في غفلةٍ عنه إلا من رحم الله، وهذا الخلق: هو الصبر.

    وعنوان الدرس (إن الله مع الصابرين) ويكفيك شرفاً أن يكون الله معك، إذا كان الله معك فما يضرك؟!

    من الذي يكيدك في الدنيا والله معك؟!

    ومن الذي ينفعك إذا الله ضرك؟!

    ومن الذي يضرك إذا الله نفعك؟!

    ومن الذي يمنعك إذا الله أرادك؟!

    ومن الذي يريدك إذا الله منعك؟!

    ومن الذي يحييك إذا الله أماتك؟!

    ومن الذي يميتك إذا الله أحياك؟!

    ماذا بأيدي الناس أيها الإخوة؟! الرزق.. الحياة.. الموت.. الصحة.. المرض.. الإعطاء.. المنع.. كل شيءٍ بيد الله.

    فليتك تحلو والحياة مريرة      وليتك ترضى والأنام غضاب

    وليت الذي بيني وبينك عامـر     وبيني وبين العالمين خراب

    إذا صح منك الود فالكل هين     وكل الذي فوق التراب تراب

    إذا وجدت الله وجدت كل شيء، وإذا فاتك الله فاتك كل شيء، ويكفيك يا صابر أن الله مع الصابرين.

    فليرض عني الناس أو فليسخطوا      أنا لم أعد أسعى لغير رضاك

    ذقت الهوى مراً ولم أذق الهوى     يا رب حلواً قبل أن أهواك

    دنياك غرتني وعفوك غرني     ما حيلتي في هذه أو ذاك

    إذا وجدت الله وكان الله معك فلن تضرك الدنيا كلها، يقول الله في الحديث القدسي: (وعزتي وجلالي ما اعتصم عبد من عبادي بي فكادته السماوات والأرض إلا جعلت له منها مخرجاً، وعزتي وجلالي ما اعتصم عبد من عبادي بمخلوق دوني إلا أسخت الأرض من تحت قدميه، وقطعت عنه أسباب السماء، ثم لم أبالِ في أي أودية الدنيا هلك) ماذا ينفعك يا أخي! إذا تخلى الله عز وجل عنك؟!

    فيجب أن يكون تركيزك واهتمامك على أن يكون الله معك وأعظم حالة تداوم عليها ويكون الله معك فيها: أن تكون من الصابرين.

    لأنه عندما تستحكم الأزمات وتتعقد الحبال وتتوالى المحن ويطول ليلها، يقوم الصبر بدوره الجميل الجليل في تثبيت النفس، وفي إحياء آمالها، ولذا نادى الله عز وجل عباده المؤمنين بالنداء الأزلي الحبيب: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ [البقرة:153] والمعنى: يا من آمنتم بالله! لأن لفظة (يا أيها الذين آمنوا) فيها إشعال للقلوب، وفيها إلهاب للعواطف، أنتم مؤمنون فلماذا لا تستجيبون؟! ولهذا إذا سمعت: (يا أيها الذين آمنوا) فافتح نظرك وارع سمعك واعلم ماذا يريد الله منك؟

    يا من آمنتم بالله: استعينوا على إقامة دين الله بفعل الطاعات وترك المعاصي، والصبر على أقدار الله المؤلمة، بماذا؟

    استعينوا على ذلك بالصبر الجميل، والصلاة المصحوبة بالخشوع والطمأنينة والإخلاص.

    1.   

    ضرورة الصبر

    إن الصبر ضرورة، إذ لا يمكن أن يعيش الإنسان بغير صبر، إذاً فهو ضرورة لازمةٌ للإنسان، فمن صبر ظفر، فلولا الصبر ما حصد الزارع زرعه، أليس كذلك؟

    فالمزارع عندما يضع الحب يلزمه أن يصبر أربعة أشهر، يصبر وهو يحرث، ويصبر وهو يبذر، ويصبر وهو يسقي، ويصبر وهو يحمي، ويصبر وهو يحصد، ويصبر وهو يدوس، ويصبر وهو يكيل، ويصبر وهو يخبز، ثم يأكل، متى جاء الأكل؟ جاء بعد مراحل متعددة، لكن لو لم يصبر، وقال: لا والله لا أتعب، أظل أحرث وأضع الحب وأنتظر أربعة أشهر؟! لا والله بل نتركها، ماذا يحصل له؟ هل سيجد حباً؟ لا.

    فلولا الصبر ما حصد زارعٌ ثمراً، وما جنى غارسٌ جنياً، عندما تفكر بعين العقل وتقول: أنا الآن سأغرس شجرة وعمري أربعين سنة، الشجرة هذه عمرها عشر سنوات، متى أحصد منها؟! لا تفكر في ذلك، بل اغرسها وتوكل على الله.

    مر رجلٌ على غارس شجرٍ وعمره أكثر من السبعين سنة، فقال له: كيف تغرس هذه وأنت ستموت قريباً؟ قال: نغرس ليأكل أبناؤنا؛ لأن آباءنا غرسوا قبلنا فأكلنا.

    وهكذا لا بد من الصبر، ولولا الصبر ما جنى غارسٌ ثمراً، ولولا الصبر أيضاً ما حصل طالبٌ على شهادة، يمر الطالب أثناء العام الدراسي بمراحل مريرة من المعاناة والتعب، ويصبر على ألم قيام الصبح وهو يقوم الساعة السادسة والنصف، في البرد القارس، ومع كثرة النوم يذهب إلى المدرسة، وكأنه يمشي على وجهه، لكنه يصبر، ويدخل على المقعد البارد أمام المدرس الجافي أو المدير الغليظ الشديد، وأمام المناهج المعقدة التي كأنها حيات وعقارب يراها، لكنه يغصب نفسه ويصبر، ولو أنه قعد ونام إلى الساعة العاشرة كل يوم، هل سيأخذ شهادة ويحقق مرتبة ومنصباً؟ لا.

    لكن بالصبر حصل ذلك، فما يحصل الطالب على الشهادة إلا بالصبر، ولا يحصل الموظف على المنصب أو الرتبة إلا بالصبر، ولا يحصل التاجر على الربح في البضاعة إلا بالصبر، المهم أن كل الناجحين في الدنيا إنما حققوا آمالهم بالصبر، وكل الفاشلين في الدنيا إنما فشلوا بعدم الصبر.

    انظر وتأمل تجد أن الصبر سبب كل نجاحٍ في الدنيا، وأن عدم الصبر سبب كل فشلٍ فيها، فالفاشل في دراسته لم يصبر، والفاشل في زراعته ما صبر، والفاشل في تجارته ما صبر، والفاشل مع زوجته ما صبر، والفاشل مع أهله وأمه وابيه ما صبر، ولكن بالصبر تنال أعلى الدرجات في الدنيا يقول:

    إني رأيت وفي الأيام تجربةً      للصبر عاقبة محمودة الأثر

    وقلَّ من جد في أمر يحاوله     واستصحب الصبر إلا فاز بالظفر

    ما من شخص جد في طلب شيء واستصحب الصبر إلا فاز بالظفر، يخبرني رجل قال: كنت أعمل جندياً، حارساً في محكمة، وكان الكتَّاب والموظفون وبعض القضاة يرسلونني لأحضر لهم الفطور، فأحضر لهم الخبز في الصباح، إنه عمل متعب ومضني، فشعرت بذلة في نفسي، فطلبت العلم ليلاً وحصلت على الشهادة الابتدائية، ثم دخلت المعهد العلمي، وكان راتبي آنذاك وأنا في الجندية (150)، وفي المعهد العلمي (210)، وتركت الجندية والتحقت بالمعهد، وحَصَلْتُ على شهادة الثانوية العامة، ثم دخلت كلية الشريعة وحصلت على الشهادة، ثم أخذت الماجستير، ثم أخذت الدكتوراه، وإذا بهؤلاء كلهم يتوسطون بي.

    فهذا الرجل لو بقي جندياً إلى أن يموت فسيلعق آلام الذلة طوال حياته، لكن عندما صبر على التعلم ومعاناته حقق له مستقبلاً طيباً، وهكذا -أيها الإخوة- لا بد من الصبر، وإذا كان هذا في أمر الدنيا فكيف لا يكون مهماً في أمر الآخرة.

    إذا كانت الدنيا الدنيئة التافهة التي لا تزن عند الله جناح بعوضة، وهي بالنسبة لما خلق الله في هذا الكون شيء بسيط، ومع ذلك لا تحصل المقصودات ولا تنال المطالب فيها إلا بالصبر، فإنه لا يمكن أن تنال الآخرة العالية والجنة الرفيعة، بحورها وقصورها ونعيمها، وما أعد الله فيها، لا يمكن أن تنال إلا بالصبر.

    وليس كصبر الدنيا، ليس كصبر الطالب على الدراسة، ولا كصبر التاجر على التجارة، ولا كصبر الزارع على الزراعة، لا. إنه صبرٌ من نوعٍ آخر، إنه صبرٌ من الصبر، وهو مشتق من الصَّبِر الذي له مرارة متناهية.

    - والصبر: هو حبس النفس على الشدة والضيق وما تعانيه مع الألم والمعاناة، وهو صبرٌ وتصبرٌ واصطبار، أوله الصبر ثم التصبر ثم الاصطبار، وهو صبرٌ على طاعة الله، وصبرٌ عن معصية الله، وصبرٌ على أقدار الله المؤلمة.

    لا شك أن طالب الدنيا لا بد له من الصبر، وكذلك طالب الآخرة لا بد له من الصبر، وقد حمل الأمانة التي ناءت بحملها السماوات والأرض والجبال: إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً [الأحزاب:72] الله أكبر!

    (وأشفقن منها) أشفقت السماوات والأرضين والجبال، وجئت أنت أيها الإنسان لتحمل الأمانة.

    قال لي أحد الناس يوماً من الأيام: أنا ما حملت الأمانة.

    قلت: كيف؟

    قال: أنا والله ما أذكر يوماً من الأيام أني تحملتها فوق ظهري.

    قلت: لا، أنت حملتها وأنت لا تدري.

    قال: كيف؟

    قلت: أليس عندك القدرة على أن تطيع الله وتعصيه؟

    قال: نعم.

    قلت: هذه الأمانة، هل عند السماوات قدرة على أن تعصي الله ؟

    قال: لا. هي مسخرة، قال الله: وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ [لقمان:29] وقال: وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ [الجاثية:13].

    فسحب القدرة وجعل المخلوق هذا لم يحمل أمانة، أصبح إنساناً (ميكانيكياً) في العبادة، لكن عندما أعطاه الله القدرة على أن يسلك طريق الخير والشر، حمل الأمانة، أمانة ماذا؟

    أمانة الاختيار الصحيح، فأنت الآن تستطيع أن تعصي الله؟

    قال: نعم.

    قلت: وتستطيع أن تطيعه؟

    قال: نعم.

    قلت: إذاً أنت حملت الأمانة، بينما السماوات والأرضون لم تستطع، وأشفقت منها، وحملها الإنسان إنه كان ظلوماً لنفسه، جهولاً بحق ربه ومعرفته بالله عز وجل.

    فما دام أنك حملت الأمانة وعندك القدرة على الاختيار بأن تسلك سبيل الخير أو سبيل الشر، فلا خيار لك في أن تطيع الله تبارك وتعالى.

    1.   

    اقتران الصبر بالقيم والمبادئ الإسلامية دليل عظمته

    إن المتتبع للمواطن التي ذكر الله عز وجل الصبر فيها في القرآن الكريم يتبين له عظمة الصبر ومنزلته عند الله عز وجل؛ فمنها: أن الله عز وجل قرن الصبر بجميع القيم والمبادئ العليا في الإسلام، فما من مبدأ في الإسلام كريمٍ إلا والصبر معه، إذ لا يمكن أن يحقق هذا المبدأ إلا بالصبر.

    علاقة الصبر باليقين

    قرن الله الصبر باليقين، واليقين هو قوة الإيمان، قال الله عز وجل: وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ [السجدة:24].

    لأن الإنسان في هذه الدنيا يتسلط عليه شياطين الإنس والجن عن طريق الشهوات والشبهات، شهواتٍ تورث تقديم الهوى على طاعة الله، وشبهاتٍ تورث شكاً في دين الله، فلا يتغلب على الشهوات إلا بالصبر، ولا يتغلب على الشبهات إلا باليقين.

    وكما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية : ولهذا لا تنال الإمامة في الدين إلا بالصبر واليقين، قال عز وجل: وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً [السجدة:24] متى جعلهم الله أئمة يهدون بأمر الله، ويدعون إلى الله، ويوجهون الناس إلى الله، ويدلون الخلق على خالقهم، ويحببون الله إلى خلقه، والخلق إلى الله؟ هذه وظيفة ليست سهلة: وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا [السجدة:24] متى؟ لَمَّا صَبَرُوا [السجدة:24] أي: بعد أن صبروا: وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ [السجدة:24].

    فهذه من أعظم الكماليات أن يكون عندك يقين، ومن أعظم الدرجات العليا أن يكون في قلبك تصديق، ولا يمكن أن يكون إلا بالصبر واليقين: لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ [السجدة:24].

    وأصحاب الشهوات المضللون الذين يخدعون البشرية بما يضعون لها من شحوم الشهوات، حتى ينزلقوا عليها إلى النار -والعياذ بالله- هؤلاء يريدون للإنسان العنت، يقول الله: وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ [النساء:27] ماذا؟ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً [النساء:27] الله يريد أن يتوب وأن يغفر لكم، وأن يفتح ميادين الرحمة لكم، ولكن المضللون الذين يتبعون الشهوات، يريدون أن تميلوا إلى شهواتهم، ليس ميلاً يسيراً وإنما ميلاً عظيماً.

    أما الشبهات وهي التي يزرعها الشيطان في قلب الإنسان وفي عقيدته من شكوك وأوهام، مثل هذا الرجل الذي قال لي: أنا لم يأخذ الله عليَّ الأمانة، هذه شبهة، وهي كفيلة بأن تنسف عقيدته من أسفلها، فإذا شك في هذا فمعنى ذلك أنه كفر بالقرآن، ولو صلى وصام، فهذه شبهة.

    فما تنال الإمامة إلا بإبعاد الشبهة، والقضاء عليها عن طريق اليقين الصادق.

    علاقة الصبر بالشكر

    أيضاً قرن الله عز وجل الصبر في القرآن الكريم بالشكر، وهو ضد الصبر، يعني: نقيض له. الصبر يكون على الآلام، والشكر يكون على المنح والهدايا والعطايا من الله، ولكن الله جعل الصبر والشكر في آيات أربع معاً، لماذا؟

    لأن الإنسان لا ينفك في كل أحواله من نعمةٍ أو محنة، أو عطية أو بلية.

    فتجد في نفس اللحظة تأتيك رحمة من الله، تصور أنك تمشي في الطريق فيصطدم بسيارتك رجل ما، فهذه فتنة ومصيبة، ثم تنزل وتلقى الرجل ليس فيه شيء، هذه رحمة من الله، هذا حادث كفيل بأن يموت هذا الرجل فيه.

    فالله ابتلاك بفتنة فتصبر عليها، وفي نفس الوقت أكرمك بأن نجاك منها، وذلك بنجاة هذا الإنسان ولم يصب بشيء، تنقلب سيارتك وتنزل منها، وترى السيارة، ومن يراها يقول: لم يبق فيها أحد سليم، ولكن الله سلمك، ينكسر الحديد ويتحطم ولا ينكسر فيك عظم، هل أنت أقوى من الحديد؟!

    إنها منحة من الله عز وجل، فالله قرن الصبر والشكر معاً فقال عز وجل: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآياتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ [إبراهيم:5] وصبار هنا صيغة مبالغة، ليس صابر فقط، بل صبار يعني: على كثرة البلايا يصبر على قضاء الله وقدره.

    يقول عز وجل: أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آيَاتِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ [لقمان:31] وقال عز وجل عن قوم سبأ الذين جاءتهم المصيبة من الله تعالى، بعد أن كفروا وأعرضوا وبدلوا نعمة الله كفراً، فأرسل الله عليهم سيل العرم، وبدلهم بجنانهم -التي كانوا يأكلون منها من كل نوعٍ وفاكهةٍ- جنتين ذواتي أكلٍ خمطٍ وأثل وشيء من سدرٍ قليل، قال عز وجل: ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ [سبأ:17] ثم قال: فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ [سبأ:19].

    علاقة الصبر بالتقوى والحق والرحمة

    - وربطه الله عز وجل بالتقوى، وجعله قرين لها، قال عز وجل: وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ [آل عمران:186] وربطه بالحق قال عز وجل: وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ [العصر:3] وربطه بالرحمة فقال عز وجل: وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ [البلد:17].

    علاقة الصبر بأخلاق الإسلام كلها

    يشتمل الصبر على أخلاق الإسلام كلها، إذ لا أمر ولا نهي إلا والصبر أساس فيه، وانظر إلى جميع الأوامر التي أمر الله بها.

    - الصلاة مثلاً: ما الذي يعينك عليها؟

    الصبر، كونك تقوم من بيتك، ومن عشائك أو من فراشك وتذهب وكذلك تترك عملك، أو تغلق دكانك، وتتوضأ في البرد وتذهب إلى المسجد وهو بعيد، وتأتي فهذه تحتاج إلى أطنان من الصبر.

    - والزكاة حينما تخرجها: ما الذي يجعل حب المال يخرج من قلبك، ويستعلي عليه حب الله ورسوله؟ الصبر.

    - والحج: حينما تخرج من بيتك، وتقطع الفيافي والقفار وتقف في عرفات ، وترمي الجمرات، وتدخل في الزحام، وتعرض نفسك للموت أكثر من مرة أو مرات هذا كله بالصبر.

    - الصيام: حينما تصبر عن الطعام، وعن شهواتك، وعن زوجتك -وأنت تعاني هذا كله- بالصبر.

    برك لوالديك، صلتك لأرحامك، صبرك على الناس، كل هذه الأوامر تأتي بها عن طريق الصبر على دين الله عز وجل.

    بعد ذلك الشهوات كلها: كالعفة: ما هي العفة؟

    عندما نقول: فلان رجلٌ عفيف، أو فلانة امرأة عفيفة، فالعفة: هي الصبر عن شهوة الفرج، وشهوة الفرج موجودة في كل إنسان، لكن يوجد رجل ينهزم أمام شهوته، وتوجد أنثى تنهزم أمام شهوتها فتمارس الجريمة، وتقع في لعنة الله وغضبه، وأخرى تترفع عن شهوة فرجها، وتتعفف وتلتحق بأهل العفة والطهر والنقاء، فتصبح عفيفة أو يصبح عفيفاً، لكن بماذا؟ بالصبر، فالعفة سببها الصبر.

    - والشجاعة: كأن تقول: فلان شجاع، فما هي الشجاعة؟

    - الشجاعة صبرٌ في موطن الموت، سئل عنترة -وهو مضرب المثل في الشجاعة- فقيل له: كيف صرت شجاعاً؟ فقال: ضع إصبعك في فمي، وأنا أضع إصبعي في فمك، قال: عض إصبعي وأنا أعض إصبعك، فلما عض كل واحد إصبع الآخر نزعها ذلك يوم عضها عنترة ، قال: والله لو صبرت قليلاً لنزعت إصبعي قبلك ولكن كلما أردت أن أنزعها صبرت وصبـرت، فالشجاعة صبر ساعة.

    فالجبان لا يصير شجاعاً؛ لأنه لا يصبر، ولا يستطيع، بينما الشجاع يصبر فيثبت، فكل الأعمال والكمالات والفضائل تأتي عن طريق الصبر.

    - كذلك الحلم، والحلم: هو صبر على دوافع الانتقام والغضب، تجد اثنين يحصل لهما مواقف تستثيرهما، فواحد صابر ضبط أعصابه، ووضعها في ثلاجة، وآخر لم يصبر بل يشتعل، ويحرق الناس، وبعد ذلك يندم على تهوره، وذاك لا يندم على صبره، ففي الحديث: (ليس الشديد بالصرعة، ولكن الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب).

    هذا هو الشجاع، وهذا هو البطل الذي يتحكم في عواطفه، ويملك مشاعره عند الغضب، أما كونك عادياً في الحالات العادية، فليست هذه بدرجات كمال فيك، ولا يعرف الشيء إلا بضده، ولا يعرف حلمك إلا عند الغضب. وفي الحالات العادية تكون حليماً طبيعياً فأنت حليم بطبيعتك، لكن متى يعرف حلمك؟

    عند استثارتك، فالحلم: صبرٌ على كتم دوافع واستثارات الغضب والانتقام.

    أيضاً سعة الصدر: يقال: فلان منشرح صدره.. واسع صدره.. عنده صبر عندما يضيق الصدر، لكن عندما يأتي شخص يدخل بيته يضيق صدره من أقل غلطة يراها، أو يضيق صدره من ضيف، أو من ولد، أو من زوجته، أو من مدير مدرسته، أو من مدرس أو موظف عنده، فهذا ضاق صدره، لكن إذا جاء بالصبر وسعة الصدر تجده يضيق صدره على امرأته فيوسعه، يقول: هذه أم أولادي، وهذه زوجتي، وإذا لم أصبر عليها فعلى من أصبر. ويضيق صدره على ولده، فيأتيه الصبر ويقول: هذا ولدي ومن يوسع صدره له إذا لم أوسعه أنا، وهو أحسن من غيره، وأصبر عليه، وأوجهه، ويضيق صبره على موظفه فكذلك، وهكذا ..

    فعملية سعة الصدر، وتحويل الأمور من رأسٍ إلى عقب، ومن عقبٍ إلى رأس يأتي ثمرة للصبر.

    كذلك القناعة: خلق كريم وهو صبر عن الكفاف، فالكفاف: رزق يكفيك لا لك ولا عليك، أي: قوت لكي لا تموت، وهذه منزلة القناعة التي تقنع بها، لكن إذا لم تكن عندك قناعة أيها الإنسان! وأنت تعيش مرتبة الكفاف فأنت تعيش في عذاب، تظل تنظر في كل شيء، وتتمنى كل شيء، ونفسك تستشرف كل شيء، ولا يحصل لك شيء، وإنما يحصل لك العذاب في نفسك، بينما بالقناعة تصبح زاهداً، وتصبح غنياً وإن لم يكن بيدك شيء، وتنظر إلى الناس فتقول: ما هذا؟ تنظر إلى الدنيا .. بماذا؟ بالقناعة.

    والقناعة كنزٌ لا يفنى، لا ينقص منه شيء ودائماً يزيد، فكلما قنعت زادك الله عز وجل في كنزك، وكذلك ضبط النفس والرضا بالقضاء، والزهد في الدنيا، هذه الأمور كلها لا تأتي إلا بالصبر.

    فغض البصر عن النظر المحرم صبر، عندما ترى امرأة متبرجة في الشارع فتغض بصرك، بماذا غضضت بصرك؟ بصبرٍ عن المحرم.

    - صيانة أذنك عن سماع الأغاني: جاءت نتيجة الصبر على طاعة الله، وصبرٌ عن معصية الله، فالمهم أن جميع أعمال الإسلام من الأوامر أو النواهي لا تنال إلا بالصبر.

    الصبر قاسم مشترك وقاعدة مهمة في حياة المسلم، ولذا قال الله عز وجل: إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ [البقرة:153] لماذا الله معهم ويؤيدهم وينصرهم؟ لماذا الله يكتنفهم برعايته ومحبته؟ لأنهم معه، يصبرون له، ويصبرون به، ولا يصبرون عنه.

    يقول ابن القيم رحمه الله: الصبر ثلاثة أقسام من حيث نهايته: صبرٌ لله، وصبرٌ بالله، وصبرٌ عن الله.

    فصبرٌ لله: بترك معصيته.

    وصبرٌ بالله: بفعل طاعته.

    وصبرٌ عن الله: وهو أسوأ أنواع الصبر، أن تصبر عن الله بفعل المعاصي، وكثير من الناس الآن يعملون المعاصي من أجل ماذا؟ يقول: أريد أن أشرح صدري وأستريح، وهو يحاول أن يغطي ما في قلبه من العذاب بالمعاصي ليصبر عن الله، ومن هو الذي يصبر عن مولاه، إلا من لا يحب الله.

    هذا -أيها الإخوة- ما يتعلق باقتران الصبر بالمراتب العليا والكمالات التي جاء الإسلام ليربي الناس عليها.

    1.   

    أمور لابد أن تتوفر في الصابر الصادق

    لا يكون الصابر صابراً إلا إذا توفرت فيه أمور، فليس كل صبر ينال عليه صاحبه ثواباً بل، لا بد من أشياء توجد في هذا الصابر ومعه:

    الإخلاص

    لابد أن يكون الصبر لله، لأن الصبر أمر مشترك عند كل الناس، حتى الكافر يصبر مضطراً، فيصبر على الدراسة، والحيوانات تصبر فالشاة تذبحها وهي صابرة.

    ومثال ذلك الرجل الذي ضيف رجالاً وهو لا يريد أن يضيفهم، فأخذ تيساً من غنمه وذبحه فصاحت الذبيحة فيقول للتيس: اصبر والله إنك مغصوب وأنا مغصوب -يقول: ليس بإرادتي أن أذبحك ولكن ماذا نصنع فكلانا مغصوب-.

    فالصبر أمر مشترك بين الإنسان والحيوان، وبين الكافر والمسلم، كل الناس لا بد أن يصبروا، لكن من هو الذي له الأجر؟

    إن الذي له الأجر هو الذي يصبر لله قال الله عز وجل: وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ [المدثر:7] ليس لشهواتك، ولا لمرادك، وهواك، وإنما لخالقك ومولاك، وقال عز وجل: وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ [الرعد:22] الذين يصبرون ابتغاء وجه الله، ويريدون بهذا الصبر ما عند الله عز وجل: وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلانِيَةً [الرعد:22].

    لقد مدحهم الله وأثنى عليهم؛ لأنهم صبروا ابتغاء وجهه، وأنت عندما تصبر على ألم الدراسة لكنك لا تصلي؟ صحيح أنك صبرت حتى نلت الشهادة، ولكنك مقطوع الصلة بالله، هل صبرك هذا من أجل الله أم من أجل الشهادة؟ إنه من أجل الشهادة، فعندما حصلت على الشهادة هل تنال عليها أجراً؟ لا.

    لكن لو أنك استصحبت النية الصالحة وكنت عبداً لله طيباً، ودرست هذه الدراسة من أجل طلب العلم، ومن أجل احتلال منصب ووظيفة، لأجل نصرة الحق، أو من أجل المشاركة في بناء وطنك، لكانت دراستك هذه وصبرك عليها صبراً لله.

    فالمزارع الذي يزرع ويريد بهذه الزراعة جلب أقوات المسلمين، ويحتسب عند الله ما يأكله الطائر، وما يشرب من البهيم، وما يأخذه الغريب، وما يتصدق به على المسكين، فهذا يصير صبره على الزراعة صبراً لله، لكن من يصبر على الزراعة، ويضع عليها بيوتاً محميةً من كل اتجاه، ولا يدع عليها طائراً يأخذ منها حبة واحدة، ويكمم العنب بالصناديق، ويجعل عليها عمالاً لكي لا يمر أحد من عندها، ثم لماذا هذا كله؟ قال: أريد أن أبيعها.

    وإذا جاء وقت جني الثمرة لا يحمل معه للبيت شيئاً، ولا يهدي لجاره ولا لصديقه حبة، وإنما في الصندوق هذا صَبَرَ، ولكن لماذا صبر؟ من أجل الأموال، وقد حصل على المال ولكن صبره هذا ليس لله عز وجل.

    فالصبر لله يجب أن يكون خالصاً، ومصحوباً بالنية السليمة من أجل نيل ما عند الله من الثواب، ولهذا قال الله عز وجل: وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ [الرعد:22].

    الشكوى لله فقط

    - ثانياً: ألا يكون مع هذا الألم والصبر شكوى لغير الله، وهذا معنى الصبر الجميل، يقول يعقوب عليه السلام عندما أخبروه أن ولده ليس موجوداً وقد أكله الذئب: فَصَبْرٌ جَمِيلٌ [يوسف:18] قيل: الصبر الجميل: هو الذي لا شكوى فيه ولا جزع، لا يجزع من قضاء الله، ولا يشكو إلى أحدٍ غير الله تبارك وتعالى، والذي يشكو الناس أو يشكو الله إلى الناس، هذا لم يعرف الله عز وجل، يقول:

    وإذا عرتك مصيبة فاصبر لها           صبر الكريم فإنه بك أعلم

    وإذا شكوت إلى ابن آدم إنما          تشكو الرحيم إلى الذي لا يرحم

    أي: تشكو الرحيم تبارك وتعالى إلى الذي لا يرحم، لا تشكو إلى أحد وإنما اشك إلى الله، ولهذا كان يقول: إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ [يوسف:86] تشكو بثك وحزنك وما تجده من لوعةٍ في قلبك إلى الله عز وجل، ولا تشك إلى أحد غيره، فإنك إن شكوت إلى الناس فالناس لا ينفكون عن رجلين:

    رجلٌ يحبك، ورجلٌ يبغضك، فإن شكوت إلى الذي يحبك آلمته؛ لأنه يعاني معك، وإن شكوت إلى الذي يبغضك سررته وفرح، ولو هز رأسه لك، وقال: أنا آسف والله المستعان.

    ولكن في السر يقول: يستحق، لماذا؟ لأنه يكرهك ويتمنى أي شيء يقع عليك، فلا تشتك إلى أحد، ولا تُحزن الذي يحبك، أليس الذي يحبك تحب ألا يحزن؟

    إذاً لا تحزنه بشكواك إليه، ثم ماذا تتصور أن يعمل من أجلك هذا الذي شكوت إليه؟ شكوت إليه المرض.. فهل عنده عافية؟! شكوت إليه الفقر.. هل عنده أموال يعطيك؟! شكوت الهم.. هل عنده فرج؟! ليس عنده شيء، إنما تشكو إلى من؟ إلى الله الذي لا إله إلا هو.

    كان الواحد من السلف إذا أتاه شخص وهو مريض وفي أشد المرض يقول له: كيف حالك؟

    قال: الحمد لله.

    قال له: من ماذا تشتكي؟

    قال: أشتكي من ذنوبي -لا يشتكي من ربه بل يشتكي من ذنبه- لأنه يعرف أن المرض لم يأته إلا بذنب.

    قال: ماذا تريد؟

    قال: أريد رحمة ربي.

    قال: هل جاءك الطبيب أو نأتي به؟

    قال: قد جاءني.

    قال: وماذا قال لك؟

    قال: يقول: أنا الفعال لما أريد.

    هذه حياتهم رضي الله عنهم وأرضاهم، فأنت حاول باستمرار ألا تشكو إلا إلى الله، فإن شكواك إلى الله عبودية، وشكوى ربك إلى الناس والعياذ بالله عدم معرفة بالله، وبجلاله عز وجل.

    الصبر عند الصدمة الأولى

    أيضاً أن يكون الصبر في مكانه، وفي وقته وأوانه، فمتى يعرف الصابر؟ (إنما الصبر عند الصدمة الأولى) أما بعد ذلك فستصبر غصباً عنك، إذا ماتت أمك أو أبوك أو لدك ثم بكيت وصحت ونحت وفعلت كل شيء وفي النهاية، ماذا تفعل؟ تصبر، ذلك اسمه صبر الاضطرار.

    وهذا لا أجر لك فيه ولا ثواب، ولكن متى يكون الصبر لله، ويكون خالصاً لوجه الله؟ يكون عند الصدمة الأولى، عندما يأتيك الخبر وهو جديد وأنت تقول: لا إله إلا الله، إنا لله وإنا إليه راجعون، الحمد لله على كل حال، هذا هو الصابر الصحيح.

    لكن جاءك الأمر والخبر وقمت وصحت، وشققت جيبك، ورفعت صوتك، ونتفت شعرك، وبعد أيام وليالٍ صبرت، لم يعد لك شيء فيه. وفي البخاري ومسلم من حديث أنس يقول: (مر عليه الصلاة والسلام على امرأة عند قبرٍ وهي تبكي بكاءً حاراً، وهذا الولد الميت ولدها قد قطع قلبها -ومعذورة مسكينة ولكن قد زادت في البكاء- فقال لها الرسول صلى الله عليه وسلم: يا أمة الله! اتقي الله واصبري، قالت: إليك عني فإنك لم تصب بمثل مصيبتي).

    وهي لم تعرفه، ما يدريك من هذا الذي أبكي عليه، فليس ولدك حتى تنصحني، هذا ولدي، أنت لا تعرف ما أعرف وما أعاني منه، فقيل لها لما تركها النبي صلى الله عليه وسلم: إنه رسول الله صلى الله عليه وسلم.

    كيف تردين عليه بهذا الكلام، هذا رسول الله يأمرك بتقوى الله ويأمرك بالصبر وتردين عليه بهذا الرد؟! فقامت ولحقت بالنبي صلى الله عليه وسلم وأتت إلى الباب وقالت: يا رسول الله لم أعرفك وأنا الآن سأصبر، قال: (إنما الصبر عند الصدمة الأولى).

    انتهى وقت الصبر، وهذا ما يسمونه بصبر الاضطرار وهو صبر أهل النار في النار، لكن هل معهم مخرج غيره، يقول أهل النار: سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ [إبراهيم:21].

    ويقول عز وجل لهم: اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [الطور:16].

    ولا بد -أيها الإخوة- في الصبر من ثلاثة أمور:

    - أولاً: لا بد أن يكون لله عز وجل.

    - ثانياً: ألا يكون معه شكوى لغير الله.

    ثالثاً: أن يكون عند الصدمة الأولى.

    فإذا حصلت هذه كنت -أيها الإنسان- من الصابرين.

    1.   

    الصبر على المصائب تنقية وترقية إلى مرتبة الكمال

    بعض الناس يتصور أن البلايا والمصائب -التي تأتي في هذه الدنيا- عبث، وأنها تعذيب، وأنها من الله عز وجل شيء فيه ضرر، لا. هذه المصائب التي تأتيك في الدنيا عملية تنقية وترقية لك في مجالات الثواب عند الله عز وجل، إذ لا يمكن أن يعطيك الله ثواباً وأنت على النعمة، فالصبر على ماذا؟

    على الرز واللحم والعافية؟! لا. لا بد من شيء تصبر عليه، وتعاني منه، ولهذا الله تبارك وتعالى يقول في سورة العصر: وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْأِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ [العصر:1-3].

    يقول أحد العلماء: إن هذه عجلات أربع لا يسير دين العبد إلا عليها -ما رأينا سيارة تمشي على ثلاثة (إطارات)- وكذلك الدين لا يمشي إلا على أربع عجلات: عجلة الإيمان، وعجلة العمل الصالح، وعجلة التواصي بالحق، وعجلة التواصي بالصبر، وكيف نتواصى بالصبر من غير بلاء؟ لا بد أن يأتيك بلاء ومصيبة، لكي تُمتحن وتعرف هل أنت من أهل الصبر، فيتم لك دينك، وتصبح من أهل الكمال، أم لا، فتسقط والعياذ بالله.

    1.   

    من ميادين الصبر : الصبر عند المصائب

    ميادين الصبر كثيرة، منها: الصبر على مصائب الدنيا، لأن الإنسان لا يسلم من الآلام والمصائب والأمراض في النفس، وفي البدن، وفي فقدان الأحبة، وفي خسران المال، وفي ضياع بعض المقدرات، والله عز وجل يقول: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ [البقرة:155] وهنا مؤكد بعدة مؤكدات بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ [البقرة:155-156].

    وهذه العبارة من أعظم ما يبرد القلوب على المصائب، إذا أردت أن تضع على قلبك المشتعل بالمصيبة ماءً وثلجاً يبرده فقل: إنا لله وإنا إليه راجعون.

    مات ولدٌ لامرأة هو أكبر أولادها والموظف الذي يصرف عليهم، وما عندهم في الدنيا إلا الله ثم هذا الولد، فمات في حادث مروري، وهي ضعيفة البنية مريضة الجسد، وقالوا: إذا أخبرناها أنه مات ستموت، فقالوا: لا تخبروها، وأُخبر أحد الصالحين عنها وهو قريبٌ لها فجاء إليها، ولما دخل عليها أحست أن الوضع قد تغير، ورأت حركة غير طبيعية في البيت، رأت أناساً يدخلون وأناساً يخرجون فتوقعت وقالت: أين فلان؟

    قالوا: موجود لم يحدث له شيء، قالت: أين هو، ما الذي حدث له؟

    فقال لها هذا الموفق: قولي: إنا لله وإنا إليه راجعون.

    فقالت: مات؟ يقول: لو قلت لها مات ستموت هي، وستنطفئ روحها، لكن ما قلت لها مات، وإنما قلت لها: قولي: إنا لله وإنا إليه راجعون.

    فقالت: أخبروني هل مات؟ قلت لها: قولي (إنا لله وإنا إليه راجعون)، يقول: فما زلت أكرر عليها (إنا لله وإنا إليه راجعون)، وهي تقول: مات أخبروني، حتى قالت في نفسها: إنا لله وإنا إليه راجعون. يقول: فلما قالت -وهي تكاد تشتعل من الجزع والحزن-: إنا لله وإنا إليه راجعون، هدأت وسكنت. فكررتها مرة ومرتين وثلاثاً وأربعاً، ولكن يقول: ما أخبرتها بأنه مات، لكن تكراري للعبارة يدل على أنه مات، إذ لا تُقال هذه الكلمة إلا عند الموت.

    ولكن جئت إليها بالخبر عن طريق آية تبرد قلبها: الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ [البقرة:156-157] الله أكبر كيف يأتي الثناء من الله، صلوات، أي: تثبيت من الله وثناء ورحمة منه سبحانه: وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ [البقرة:157].

    فلا تتوقع أن تعيش سالماً، لا بد في هذه الدنيا من مصائب وعجائب وهي مثل العجلة، أناس فوق وأناس تحت، ثم الذين تحت يصيرون فوق والذين فوق ينزلون تحت، وما تترك أحداً إلا ودقت بابه، ولا يوجد أحد في الدنيا سليم منها أبداً، اليوم تجد في هذا البيت زواجاً وفي البيت الآخر عزاء، وبعد سنتين أو ثلاث ترى العزاء في بيت الزواج، والزواج في بيت العزاء، ما يبقى أحد على حال واحد إلا الله عز وجل.

    فاصبر لكل ما يأتيك به القضاء من الله وتحمل.

    1.   

    نماذج من صبر الأنبياء

    البلاء يصيب القلوب، ويصيب البطون بالجوع، ويصيب الأجسام بالمرض، والأموال بالسرقة، والأولاد والزوجات بالمرض والموت، ولا بد من الصبر، وكان لا بد -في هذا المجال- من قدوة، فذكر الله عز وجل في القرآن الكريم الأنبياء، باعتبارهم النماذج البشرية الرائدة التي يقتدي الناس بهم.

    قال عز وجل للرسول صلى الله عليه وسلم: فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ [الأحقاف:35] وقال: أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ [الأنعام:90] فالله هدى أنبياءه ورسله إلى جميع الأخلاق الفاضلة، ثم جمع كل أخلاقهم في محمد صلى الله عليه وسلم، فما من كمالٍ إلا وهو فيه، حتى قال الله فيه: وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم:4].

    فالله عز وجل ابتلى الأنبياء من أجل أن يكونوا قدوة لغيرهم.

    صبر أيوب عليه الصلاة والسلام على المرض الذي حل به

    ابتلى الله أيوب عليه السلام بالمرض في جسده، وعانى منه معاناةٍ لا يعلمها إلا الله، ومكث ثماني عشرة سنة وهو يعاني من ألم المرض، وقالت له رحمة بنت يوسف -وهي زوجته-: إنك نبي مستجاب الدعوة فاطلب من الله أن يرزقك العافية.

    قال لها: كم لي مريض؟

    قالت: لك ثماني عشرة سنة -من يصبر منَّا ثماني عشرة دقيقة أو ثماني عشرة ساعة، أو ثماني عشر سنة؟ لم يقل: يا رب! أعطني العافية- قال: وكم لي معافى من قبل؟

    قالت: ثمانون سنة.

    قال: إني أستحي أن أطلب من ربي العافية حتى تبلغ مدة بلائي مدة عافيتي.

    يقول: إذا وصلت إلى ثمانين سنة أعلميني فأقول: يا رب أعطني العافية، ونحن الآن ليس فقط نطلب العافية من الله لا بل نطلبها من غير الله.

    كثير من الناس من حين يأتيه المرض فإنه يذهب إلى غير الله، يذهب إلى الكاهن، وإلى الطبيب العربي، ويذهب إلى المشعوذ، ولا يصبر، ولا يتداوى بالأدوية المشروعة، وليس هناك مانع من التداوي فإن الله أمر به، ولا ينافي التوكل بل هو مشروع، ولكن الصبر طيب، وحتى وأنت تتداوى يجب أن تصبر، وتعرف أن العافية من الله، وأن هذه الأسباب لا تجلب لك العافية إلا بإذن الله تبارك وتعالى.

    فأيوب صبر صبراً عظيماً وقد شهد الله له بذلك، فقال: إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ [ص:44] متى استحق هذه الشهادة يا إخواني؟! الله أكبر! بعد ثماني عشرة سنة، يقول بعض العلماء: إنه ما طلب العافية إلا عندما دخلت دودة من الدود التي كانت تأكل لحمه دخلت في قلبه، والثانية دخلت في لسانه؛ لأنها لم تجد فيه شيئاً، فما بقي إلا اللحم والعصب والعروق، فوجدت لحمة محروسة بالذكر وبالشكر، فتحرشت بها وقرصتها فصاح وفزع إلى الله وقال: أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ [الأنبياء:83].

    قال العلماء: إن الضر الذي شكاه أيوب ليس ضر المرض، فهو فيه من ثماني عشرة سنة، ولكن ضر التعطيل عن ذكر الله وشكره، يقول: يا رب! لا أستطيع أن أعيش بغير ذكرك وشكرك، وإذا دخل عليَّ هذا البلاء في لساني تعطل لساني عن ذكرك، وتعطل قلبي عن شكرك، وهذا هو الضر، فكيف بمن يعيش مدى حياته لا يذكر الله، ولا يشكره؟! لا إله إلا الله! كيف تتحول حياة الناس حينما يبتعدون عن الله عز وجل.

    أيوب ابتلاه الله عز وجل في بدنه وماله وأهله حيث فقدهم فصبر، ولما صبر نجح وأخذ الشهادة الأزلية التي تتلى إلى يوم القيامة: إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ [ص:44] ثم أعطاه الله عز وجل كل ما أخذ منه، قال: وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ [ص:43].

    خرجت زوجته من عنده وهو في بيت خرب بعيد عن الناس لأنهم يسمونه مبتلى، ولا يقعد معهم من أجل العدوى، وكانت تفرش له الرماد ولا يوجد فرش إلا الرماد يقعد عليه؛ لأنه لا يتحمل شيئاً، فقال له الله عز وجل: ارْكُضْ بِرِجْلِكَ يعني: اركض الأرض بقدمك، فانفجرت تحت قدمه عينان: واحدة مغتسل، والأخرى شراب بارد: هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ [ص:42].

    فشرب من الأولى فأذهب الله ما به من الأدران، واغتسل من الثانية فأذهب الله ما به من الأمراض الخارجية، ثم كساه الله حلة من الجنة، وأُتي له بكرسي من ذهبٍ من الجنة، وجلس عليه كحالته يوم مرض في عز شبابه، وعندما جاءت زوجته ومعها كسرة من العيش عملت لأجلها طوال اليوم، ولما لم تجده في المكان بحثت عنه فما وجدته؟

    ظنت أن الكلاب قد أكلته، فجاءت إليه وقالت: يا رجل! أسألك بالله: هل رأيت هذا المبتلى أين ذهب؟

    قال: أي مبتلى؟

    قالت: أيوب.

    قال: أنا أيوب.

    قالت: أتهزأ بي؟

    قال: لا، وإذا به أيوب يوم عرفته. متى حصل على هذا؟ إنه بعد الصبر الطويل.

    صبر يعقوب عليه السلام

    ابتلى الله عز وجل يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم أبو يوسف، ابتلاه الله عز وجل بفقدان أولاده، فكان يبكي حتى عمي؛ لأن البكاء الذي يأتي من حرارة يعمي العين، وما جمع الله بينه وبين بنيه إلا بعد أربعين سنة، عندما قال له ولده يوسف: يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقّاً [يوسف:100].

    ثم سأله فقال: يا أبت لم تبك هذا البكاء؟ أما كنت تعلم أننا إذا لم نلتق في الدنيا التقينا في الجنة؟ قال: نعم إني أعلم ذلك ولكن خشيت أن تسلك طريقاً غير طريقي فلا ألقاك لا في الدنيا ولا في الآخرة.

    انظروا كيف كان بكاؤهم يا إخواني، ليس بكاء عاطفة -أريد ولدي من أجل أن يجلس معي- لا. بل يريد ولده لكي يربيه على الإيمان والدين ويكون مثله في الرسالات والنبوة ويجتمع به في الدنيا.

    يقول: لا أبكي من أجل الدنيا لكني بكيت خشية ألا تسير في الطريق الذي سرت فيه -وهو طريق الإيمان والدين- فتسلك طريقاً آخر لا ألقاك فيه لا في الدنيا ولا في الآخرة.

    صبر يوسف عليه السلام

    أيضاً: صبر يوسف عليه السلام صبراً عظيماً في البئر، وصبراً عظيماً في السجن، وصبراً عظيماً عندما عرضت عليه الفتنة عن طريق امرأة العزيز، ولكن كان يقول: مَعَاذَ اللَّهِ [يوسف:79] صبر حتى أخرجوه من السجن، ويقول: ارجع إلى ربك -الآن السجين إذا أخرجوه لا يقول شيئاً، بل يكبر ويصيح ويخرج يريد الفرج- والله ما أخرج إلا ببراءة، اتركوني مكاني مدى الحياة، لماذا؟ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ [يوسف:50].

    فلما سألهن، قلن: نعم حصحص الحق، والله إنها راودته عن نفسه، وما علمنا عليه من سوء، وأخذ بها شهادة وخرج عليه الصلاة والسلام، يقول عليه الصلاة والسلام: (رحم الله أخي يوسف) أي: لو كان غيره لكان خرج بدون أن يسأل؛ لأنه مكث في السجن بضع سنين ليس يوماً ولا شهراً ولا سنة، بل بضع سنين وهو جالس في السجن والمعاناة، ولكنه صابر صلوات الله وسلامه عليه وعلى سائر الأنبياء.

    صبر إبراهيم الخليل وابنه إسماعيل عليهما السلام

    - أيضاً: صبر إبراهيم عليه السلام وهو يعاني من التكذيب والرد والرفض والضرب والإبعاد والإخراج والإحراق عن طريق الكيد الكبير: قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ [الأنبياء:68].

    وبدلاً من أن يحرقوه بحزمة من الحطب أو بعود كبريت وينتهي ويموت، لا. جمعوا من الحطب مثل الجبال الرواسي، وقالوا للنساء: أي امرأة لا تشارك في حمل الحطب عليه سوف ينقطع نسلها ولن يأتي لها أولاد، فجاء النساء والرجال يحملون الحطب مثل الجبال، ثم أشعلوا النيران، ولما أشعلوها كانت تشوي الطير في كبد السماء من شدة الحرارة، ولما أرادوا أن يحرقوه عجزوا أين يضعونه، فهم لا يستطيعون أن يقربوا من النار؛ لأن وهجها ولهيبها يطردهم على مسافة الأمتار البعيدة، وهم لا يريدون أن يضعوا له طريق في طرف النار وإنما يريدونه في وسط النار.

    قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ [الأنبياء:68] فماذا صنعوا؟ اخترعوا المنجنيق وأتوا به ثم كتفوه وربطوه ثم قذفوه بالمنجنيق وضربوا به وسط النار، وهو صابر يقول: حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ [آل عمران:173] هذه الكلمة قالها إبراهيم وهو يلقى في النار، وقالها النبي صلى الله عليه وسلم وهو يعذب ويسجن في شعب أبي طالب ، قال الله: الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ [آل عمران:173-174].

    فإبراهيم عليه السلام صبر، ثم بعد ذلك صبر على أمر الله أن يخرج سراً بزوجته هاجر وابنه إسماعيل ابن ليس كالأبناء، جاءه على كبر، ثم من خيرة الرجال، وجعل يسافر به من بيت المقدس إلى أن يضعه في مكة المكرمة ويتركه لوحده، من يصبر على هذا؟

    صعب جداً أن يترك الإنسان ولده في وادٍ غير ذي زرع، ويقول بعدها: رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ [إبراهيم:37].

    ولما ولى بدأت عواطف المرأة تضغط عليه وتقول: يا إبراهيم! أفي مثل هذا الوضع تتركنا؟ لمن تتركنا يا إبراهيم؟ وهو يسكت لا يرد عليها بكلمة خشية أن يعتذر لها أو يبرر لها موقفه، وينفذ أمر الله وهو ساكت، بدون أي مراجعة، فعرفت أن هناك سراً وقالت له: آلله أمرك بهذا؟ أي: تركتنا هنا بأمر الله؟ قال: نعم، قالت: إذاً لا يضيعنا.

    وفعلاً لم يضيعهم ربي، رغم أنه تركهم في (وادٍ غير ذي زرع)، حجارة صلداء، الموت الأحمر يشب منها، لا يوجد ماء ولا مرعى ولا أكل، حتى الطير لا يوجد في السماء.

    وعندما انتهى الماء الذي في الدلو الذي معها -الذي فيه الماء- وبدأ الولد يتلهب عطشاً وانفجر قلبه من العطش، وبكى وصاح، فقامت تبحث ولم تقطع الأمل في الله، تصعد إلى المروة ثم تنزل إلى الصفا ، وإذا نزلت بطن الوادي أسرعت وهرولت ثم تعود، وتطلع وتنزل، وتدعو الله، وإذا بها ترى الولد والماء من بين يديه ينبع ويمشي فتزمه وترده.

    يقول عليه الصلاة والسلام: (رحم الله أم إسماعيل لو تركت زمزم لكانت عيناً معيناً) لكانت نهراً يجري ويغرق الدنيا كلها، لكنها زمتها وبقيت، وهاهي الآن تروي الملايين من البشر ولا ينقص فيها (سنتيمتراً) واحداً بأمر الله، من أين أتت؟ وأين البحار التي تنبع منها؟

    من وسط الجبال الصلد، لا إله إلا الله! فهذا صبر إبراهيم.

    ثم صبر إبراهيم على ذبح ولده، حيث جاءته الرؤيا -ورؤيا الأنبياء وحي- أن يذبح ولده، والولد لا يُذبح، لكنه كان يحبه، يقول ابن القيم : إن إبراهيم كان يُحب إسماعيل حباً عميقاً لطاعته، ولمشاركته له في بناء الكعبة، ولبره، ولنبوته، ولرجولته وفتوته.

    حتى أنه أمره أن يطلق امرأته فما قال: لا. والله ما أقدر على أن أطلقها، والنساء غاليات وأنت لا عقل عندك، لا. بل مباشرة، وبكلمة واحدة، جاء يزورهم من بيت المقدس ولما دخل عليهم ودق الباب، أجابت المرأة، فقال: كيف أنتم؟ -وكانوا في أحسن حال- قالت: في شر حال -لأن بعض النساء حتى ولو كنت في أحسن حال، تجعل حسن الحال شر حال؛ لأن قلبها شرير والعياذ بالله-

    قال: إذا جاء زوجك، فقولي له: أتى شيخ إلى هنا وقال: غيِّر عتبة دارك.

    المرأة يعبر عنها بعتبة الدار؛ لأنها أول ما تنظر إذا دخلت البيت، وفي عتبة الباب تبدأ المرأة تدعو عليك وتنكبك على رأسك، وإذا كانت العتبة سهلة فكل يوم تستقبلك وتفتح قلبك وتبش في وجهك، وتجعل حياتك كلها أنس، ولهذا فالمرأة عتبة؛ إما عتبةً سيئةً أو عتبةً حسنةً، قال: غيِّر العتبة -هذه العتبة ليست حسنة- فلما عاد من الصيد، قالت: جاء شيخ يقول: غيِّر عتبة الدار، فقال: اذهبي إلى أهلك، فطردها بدون مراجعة.

    وبقي فترة، ثم تزوج بأخرى، وكانوا في وقت شدة وجوع وقحط وليس عندهم شيء؛ لكن هذه المرأة صاحبة دين وخير، فجاء إبراهيم فقال: أين زوجك؟

    قالت: في الصيد.

    قال: كيف حالكم؟

    قالت: في أحسن حال.

    انظر إلى بعض الزوجات عندما تدخل عليها وليس عندها في البيت شيء، ولكن عندها إيمان، ومعك ضيف فتدخل وتقول: عندكم عشاء؟ تقول: نعم. كل خير موجود، وهي ليس عندها شيء، ولكن تريد أن تفتح قلبك، هذه الكلمة كأنها عشّت الضيف، وبعد ما تقول لك: نعم أبشرك، فكل شيء جيد، ثم تدعوك بعد وقت، وتقول: ما رأيك أن تأتي لنا بخبز ولبن وهكذا...

    عن طريق المشاورة، فأنت رأساً تقول: نعم. نأتي بكذا وكذا؛ لأنها قد فتحت قلبك، لكن بعض النساء قد تجد بيتها مليئاً بالخيرات، وإذا دخل زوجها بضيف واحد فقط، قالت: لماذا تأتي به؟ تريده أن يأكل عشانا، تريد أن تظهر أمام الناس، اذهب وأحضر أكلاً، والله لا يذوق عندنا لقمة، أعوذ بالله من بعض النساء! ما هذه الأخلاق؟!

    فهذه المرأة الصالحة، قالت له: نعم نحن في أحسن حال، فقال لها: قولي لزوجك أن يثبت عتبة داره؛ أي: لا يترك هذه المرأة.

    ولما بلغ معه السعي وأصبح رجلاً: قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى [الصافات:102] يقول المفسرون: إن إبراهيم لم يخير إسماعيل -يعني: لم يقل له: ما رأيك نذبحك أم لا؟- لا. لم يقل: انظر ما هو رأيك؟ وإنما قال: فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى [الصافات:102] أي: كيف ننفذ أمر الله، تريد أن أذبحك وأنت قائم، أو أذبحك وأنت جالس، أو أذبحك وأنت على جنبك، أو أذبحك وأنت على بطنك؟ وتريد أن أذبحك بالسكين، أو أذبحك بالرمح؟ أي وسيلة المهم ماذا ترى في تنفيذ أمر الله؟

    لكنه ليس رأياً: تنفذ أم لا، فقال إسماعيل عليه الصلاة والسلام: قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ [الصافات:102] لا إله إلا الله! ما أعظم هذا الموقف أيها الإخوة! الولد يستسلم، والأب يستسلم، ويخضعون لأمر الله، وقد كان هذا رؤيا لكن قوة الإيمان: فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ [الصافات:103] تله للجبين: أي وضعه على الأرض وأهوى على حلقه بالسكين من طريق جبينه، فنظر إلى عينيه والعينين تنظر إلى الولد، والولد ينظر إلى السكين، وكلاهما مستسلمان لله، فتعبر الرحمة الموجودة في قلبه بولده، أن السكين لا تذبح، ولا تقطع؛ لأن الله عز وجل سلبها القدرة، لأن الذي أعطاها القدرة سلبها القدرة، والذي أعطى النار القدرة سلبها القدرة.

    فهو يخلق ما يشاء ويختار، فيذبح بالسكين فلا تقطع، فيقول الولد لأبيه: كبني على وجهي لكي لا تنظر إلى حتى تنفذ أمر ربي عز وجل، وبينما هو في هذا الوضع وإذا بالفرج يأتي من الله عز وجل قال: وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ * وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ [الصافات:104-107] هذا صبر الأنبياء وهم أفضل خلق الله، وكذلك غيرهم من الصالحين، والله يقول: فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ [الأحقاف:35] في ميادين الابتلاءات العادية.

    1.   

    من ميادين الصبر: الصبر عن شهوات النفس

    النفس حبب إليها الشهوات، قال الله: زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ [آل عمران:14] كل هذه النعم الناس يحبونها مزينة، لكن فيها حلال وفيها حرام: زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ [آل عمران:14].

    يوجد في النساء حلال وهن الزوجات، ويوجد في النساء حرام وهن الباغيات والزانيات، ويوجد بنون تحبهم لأنهم يعينوك على طاعة الله، ويوجد بنون يجب أن تبغضهم لأنهم يصرفونك عن طاعة الله، ولا يسيرون معك في خط الله عز وجل.

    كذلك المال: يوجد من المال الحلال ويوجد من المال الحرام، فالحلال يحبه الله، والحرام يبغضه الله، فعليك في ميادين الصبر أن تصبر عن شهوات النفس إذا أخذت الدنيا زخرفها، وأقبلت وتزينت، وظننت أنك قادرٌ عليها، فاحذر من أن تقدر على شيء حرمه الله، فقد تسقط في هذا الميدان، لأنه شهوة، والشهوة تحبها النفس، والشهوة منزلق تنزلق فيه النفس، ولا مصير إلا النار، والله يقول: وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً [الأنبياء:35] ويقول عز وجل: وَلا تَمُدَّنَ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى [طه:131].

    ثم لا بد أن تعرف أيها القانع بما رزقك الله أن الله عز وجل لا يعطي المال لأصحاب المال، ولا المناصب لأصحاب المناصب، بناءً على حبه لهم، فقد يعطيهم وهو يبغضهم، يقول الله: أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ * نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ [المؤمنون:55-56].

    والله يبتلي بالمال كما يبتلي بالفقر، والمال يعطيه الله من يحب ومن لا يحب، ولا يعطي الدين إلا من يحب، فلا تحزن إذا لم يعطك الله مالاً، ولا تحزن إذا لم يعطك الله منصباً ولا سؤدداً، وعليك أن ترضى بما قسم الله لك، وأن تعرف أن هذه قسمة الله تبارك وتعالى.

    قارون عندما خرج على قومه في زينته قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ [القصص:79] فقال أهل الإيمان والعلم بالله في الدنيا والآخرة قالوا: (ويلكم) دعوا عليهم بالويل، وقالوا: وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً وَلا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ [القصص:80].

    فخسف الله بقارون وقومه فهو يتجلجل في بطن الأرض إلى يوم القيامة.

    والذين قالوا: يَا لَيْتَ لَنَا [القصص:79] قالوا: وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ * تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ وَلا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [القصص:82-83].

    1.   

    من ميادين الصبر: الصبر بعد العمل

    عليك بعد أن تعمل عملاً أن تصبر ولا تنظر لنفسك بعين العجب والرياء والاستكبار، وتتظاهر بأنك عملت وأنك صنعت، فتأتيك السمعة، لأنه جاء عنه صلى الله عليه وسلم أن (من راءى راءى الله به، ومن سمّع سمّع الله به).

    وبالتالي يحبط عملك، ويبطل أجرك، وتخسر دنياك وآخرتك، ولم تربح شيئاً، بل عليك بعد العمل أن تكون أضعف منك حالاً قبل العمل، ولهذا شرع الله لنا الاستغفار بعد الصلاة، وشرع لنا الاستغفار في قيام الليل: كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ [الذاريات:17-18].

    وشرع لنا الاستغفار بعد يوم عرفات ، قال عز وجل: ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [البقرة:199] إذا أفضت من عرفات وقد غفر الله ذنبك فعليك أن تستغفر الله، لماذا؟

    لكي لا يأتي عجب، وتقول: أنا الآن غفر الله ذنبي فأنا لم يبق عليَّ شيء، سأعمل ما أعمل، لا، قد لا يغفر الله ذنبك، فعليك أن تستشعر باستمرار صبرك على العمل وطلب القبول من الله عز وجل حتى لا يحبط عملك.

    1.   

    من ميادين الصبر : الصبر في الدعوة إلى الله

    إن الدعوة إلى الله وظيفة الأنبياء، وهي ظيفة المسلم في هذه الحياة، ولا يختص بها نفر دون نفر، ولا يتصور أحد أن الدعوة هي وظيفة من يخطب، أو يقول الكلام الطيب للناس، لا. هي وظيفة كل مسلم، الذي يجب أن يكون داعية. وتتفاوت مراتب الناس ودرجاتهم بحسب إمكانياتهم وقدراتهم، ولكن لا بد أن يكون داعية؛ لأن الله يقول: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ [يوسف:108] لا بد من كل من اتبع الرسول أن يكون داعية إلى الله عز وجل، والذي يدعو الناس إلى الله فإنه يتعرض لآلام ومتاعب، لماذا؟

    لأن الداعية يطلب من الناس أن يطلقوا ويتركوا أهواءهم، وينتصروا على شهواتهم وأن يقفوا عند حدود الله أمراً ونهياً، وأكثر الناس لا يحب هذا النمط، ولا يحب القيود، بل يحب أن يكون طليقاً كالدابة أو الحيوان، يأكل ويمشي ويبقى على لذته، وبالتالي يتخذ من الدعوة والدعاة موقفاً مغايراً وعداءً مستحكماً، هذه سنة الله في خلقه منذ أول نبي إلى يوم القيامة.

    إن الذي يأمر الناس وينهاهم لا يستجيب له الناس كلهم، فمن هنا كان لا بد من الصبر واليقين على هذه البلايا والمصائب.

    يقول الله عز وجل حكاية عن لقمان وهو يعظ ابنه: يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ [لقمان:17].

    وهذا الداعي أيضاً مأمور بصبر خاص، صبر حينما يعرض الناس عن دعوته؛ لأن من الناس من يتصدى لدعوة الآخرين، ثم لا يجد قبولاً، وهذا امتحان من الله واختبار له، هل يثبت ويستمر، أم يقل: والله لا يوجد أحد أطاعني؛ إذاً انتهى كل شيء؟

    لا. اصبر، أنت عليك أن تدعو إلى الله، وتجلب بضاعة سماوية إن اشترى الناس منك فالحمد لله، فاجلب البضاعة والتوفيق بيد الله تبارك وتعالى، ولا شيء أثقل على النفس من إعراض أهل الباطل عن الحق، هذا صعب جداً، حتى إن نوحاً قال لربه: قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَاراً * فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائي إِلَّا فِرَاراً * وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَاراً [نوح:5-7] ثم عدد ونوع أشكال الدعوة: دعاهم سراً، ودعاهم جهاراً، ودعاهم جماعة ودعاهم نفراً، بكل أسلوب، ثم بعد ذلك رفضوا دعوته، فقال: رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً [نوح:26].

    والنبي صلى الله عليه وسلم أيضاً كان يتألم لرفض دعوته فيقول: كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * بَشِيراً وَنَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ * وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ [فصلت:3-5] ولكن قال الله: وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ * إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ [النحل:127-128].

    1.   

    من ميادين الصبر : الصبر على الزوجة والأولاد

    هناك ميادين الصبر في البيت، ولا بد من الصبر، وإذا لم تصبر وتعالج أمورك بالحكمة والصبر فشلت، وإذا فشلت فلن تجد امرأة كاملة، من أراد كمالاً في المرأة فذلك في الجنة، والمرأة خلقت من ضلعٍ أعوج، وإن أعوج ما في الضلع أعلاه، فاستمتعوا بهن على عوجهن، فإذا وجدت عوجاً في المرأة فعليك أن تصبر، وتعالج الأمور بالحكمة وبالتي هي أحسن، إلا عوجين لا صبر لك عليهما؛ عوجاً في الدين: كأن تكون لا تصلي، أو كافرة، أو قليلة دين.

    أو عوجاً في العرض: كأن تكون خائنة لعرضك، هذان العوجان لا صبر عليهما، وإنما الصبر في غيرها، كأن لا تجد طعاماً مطهياً، ولا ثوباً مغسولاً، ولا ولداً نظيفاً، ولا بيتاً مرتباً، أو لم تجد عبارة حلوة، أو لم تجد فراشاً طيباً، وإنما وجدت مشاكل، فاصبر فإنك إن لم تصبر تعبت.

    وكذلك أولادك عليك أن تصبر عليهم؛ لأن الله يقول: وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ [الأنفال:28].

    1.   

    من ميادين الصبر: الصبر على الإخوان في الله

    الأخوة في الله رابطة من أعظم الروابط الإيمانية، أن تحب في الله وتبغض في الله، ولكن الإنسان من طبيعته النقص والنسيان والغفلة فلا يوجد أحد كامل، ولذلك قد يصدر من بعض إخوانك فعلٌ يؤذيك، فعليك ألا تقابل هذا الفعل بشر، وإنما عليك أن تقابله بتحمل، وباحتمالٍ طيب، وأن تحمله محملاً حسناً، وأن تغض الطرف عنه، لأنك إذا أخذت إخوانك على هذا المنوال، فكلما أخطأ عليك أخطأت عليه، وكلما أخطأ عليك غضبت عليه وقاطعته، لن تجد في يوم من الأيام معك أحداً، ستبقى وحيداً في الحياة لا تجد من يخاللك؛ لأن الناس كلهم فيهم نقص، ولكن اصبر والله عز وجل يأمر بهذا ويقول: وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ [فصلت:34-35].

    فطوبى لمن ألجم نفسه بلجام الحلم، وكبح جماحها، وصبر على الإخوان، وحرص على دفع شرورهم وأذاهم عن طريق الصبر والرحمة والسلوك الجميل، وبهذا يحقق له كثرة من الإخوان، ويحقق له محبة في قلوب الناس أجمعين.

    1.   

    من ميادين الصبر: الصبر في طلب العلم

    يشكو كثير من إخواننا ويقولون: لنا الآن سنوات ماذا نعمل؟ لم نتعلم شيئاً، ولم نتلق علماً؟! لا. اصبر قد تظل سنوات.

    صبر ابن حجر في طلب العلم

    جلس ابن حجر خمس سنوات وهو ملازم للمشايخ لم يتعلم حرفاً واحداً، وجاء إلى شيخه يوماً فقال له: أتدري؟ قال: نعم. قال: هذا حبل وهذه عصا، اذهب واحتطب أو ارعَ لك غنماً، أما العلم فليس لك، أنت في تطلب العلم منذ خمس سنوات وما تعلمت شيئاً.

    فذهب ابن حجر ولما مر في طريقه على بئر والناس يتعبون في إخراج الماء، لاحظ أن الحبال قد قطعت الحجر، فتعجب وقال: الحبل يقطع الحجر! الحبل الذي من القطن يقطع الحجر الصلب؟! فقالوا: على الدوام يقطع الحبل الحجر، قال: وعلى الدوام يقطع العلم ابن حجر ، وقطعه رضي الله عنه وأرضاه، وأصبح الإمام الحافظ، صاحب فتح الباري ، الذي قال فيه العلماء: لا هجرة بعد الفتح. يعني: في طلب العلم، من عنده فتح الباري كأن في بيته نبي، فالعلم كله مجموع في فتح الباري ، لأنه شرح صحيح البخاري ، وأتى بالعلم كله من أوله إلى آخره، من أين أتى بهذا؟ بالمداومة والمرابطة، فلا بد من الصبر عند طلب العلم.

    صبر موسى عليه السلام في طلب العلم

    - وفي قصة موسى عليه السلام عظة وحكمة، فقد وقف موسى خطيباً في بني إسرائيل وقال: ما على وجه الأرض أعلم مني، فأوحى الله إليه وقال: لا. يوجد في الأرض أعلم منك، وكان قد نسي أن يقول: إلا الله، فدله الله على عالم في أقصى الأرض، في طنجة في مجمع البحرين، في ملتقى البحر الأبيض المتوسط بالمحيط الأطلسي، في مضيق جبل طارق، الذي بين أسبانيا والمغرب، وقد كان موسى يعيش في أطراف مصر بالقرب من فلسطين، فانظر كيف قطع هذه المسافة عبر مصر ثم ليبيا ثم تونس ثم الجزائر ثم المغرب . رحلة طويلة، فأخبره الله، وشد رحله وأخذ صاحبه وفتاه وخرج.

    وقال: يا رب! كيف أعرف هذا الرجل؟ أريد علامة، قال: معك هذا الحوت الميت المحنط المملح إذا عادت الروح إلى هذا الحوت فانظر الرجل هناك.

    ثم مشى حتى وصلا إليه، ولما وجده قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً [الكهف:66] قال له: أريد أن أمشي معك فعلمني، قال: إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً [الكهف:67] العلم يتطلب صبراً، وأنت رجل تريد العلم في يوم وتعود، ليس عندك صبر فلا تصلح، قال: سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِراً وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً [الكهف:69] انظروا أدب طالب العلم، إني إن شاء الله صابراً، وبعض الناس يريد طلب العلم في ليلة، قال: حضرنا ندوتين وثلاث، وما وجدنا إلا كلام. إن العلم يريد منك أن تعطه كلك ويأتيك بعضه. : وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً [الإسراء:85].

    ومن قال: إنه قد علم فقد جهل، فقال له: قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِراً وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً * قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ [الكهف:70] كن مؤدباً، طالب العلم لا يسأل، إلا إذا قلت لك وعلمتك فاسأل: حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً [الكهف:70] فمشوا وركبوا في السفينة، ولما ركبوا قام الرجل وأخذ المخراق والمطرقة وقام يخرق السفينة ويدق فيها، يريد موسى أن يسكت وهو نبي، والنبي بعث للإصلاح وليس للإفساد.

    ونظر أن هذا إفساد وتخريب للسفينة، والسفينة هذه لمساكين وليس معهم إلا هي، وكيف تخربها ونحن ساكتون ونغرق وتغرق، فقال له موسى: أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً [الكهف:71] ولم يصبر: قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً [الكهف:72] ألم أقل لك: لا تسأل؟! قَالَ لا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً [الكهف:73] يقول له: اعذرني فقد نسيت. فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلاماً فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً [الكهف:74] دخلوا في قرية ووجدوا الأطفال يلعبون، فأمسك بواحدٍ من الأطفال، أخذ برأسه فذبحه وفصل رأسه عن جسده، فغضب موسى.

    فقال: ما هذا الرجل الذي عنده علم وهو يذبح الناس؟! أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً [الكهف:74] هناك قال: لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً [الكهف:71] وهنا قال: لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً [الكهف:74] يعني: هذا منكر ولا نصبر عليه، قال له: أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً [الكهف:75] هناك قال: أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ [الكهف:72] وهنا قال: أَلَمْ أَقُلْ لَكَ * قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلا تُصَاحِبْنِي [الكهف:75-76].

    قال: أعطني فقط فرصة أخيرة، ودائماً العالم من شأنه ألا يغضب على طالبه من أول مرة ويطرده، انظر أعطاه المرة الأولى والثانية والثالثة، وبعد الثالثة لم يقبله أبداً، قال له: امض، فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا [الكهف:77] وكان أهلها بخلاء، فلم يعطوهم شيئاً ولم يضيوفهم، وإذا بجدار سيسقط، فبنى الخضر الجدار، فتعجب موسى وقال: عجيب أمرك، هؤلاء لا يضيفوننا وأنت تبني جدراهم، على الأقل خذ عطية على هذا: لَوْ شِئْتَ لَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً * قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً * أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً [الكهف:77-79] فيقول: أنا خرقتها لا لأغرقها ولكن خرقتها لتنجو، ولئلا يأخذها الملك الذي كان يأخذ كل سفينة غصباً، فالخرق هنا فيه مصلحة، ولكن هذه المصلحة يعرفها الخضر ولا يعرفها موسى، رغم أن موسى نبي، لكن عند الخضر علم ليس عند موسى.

    قال: وَأَمَّا الْغُلامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ [الكهف:80] وقد علم الله من هذا الولد أنه ضال وفاجر، وسوف يرهقهما طغياناً وكفراً: فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْراً مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً [الكهف:81] يقول: نقتله حتى لا يكون سبباً في كفر والديه.

    قال: وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً [الكهف:82].

    يقول عليه الصلاة والسلام: (رحم الله أخي موسى لو صبر لقص علينا الله من خبرهما ما شاء) يقول: لو صبر لأراه الله من الخضر الشيء العظيم، لكن لم يصبر واستعجل، وقال: هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ [الكهف:78] ثم لما أراد موسى أن يرجع دعاه -والحديث في البخاري - الخضر فقال: يا موسى! قال: نعم، وقد نظر إلى المحيط الأطلسي وفيه طائر من عصافير البحر يقف على طرف البحر، يركز منقاره في الماء ثم يأخذ له قطرة ثم يرفع رأسه لكي تنزل هذه القطرة.. قال: أترى هذا العصفور ينقص من البحر؟

    قال: لا، قال: والله ما علمي وعلمك وعلم الناس أجمعين بالنسبة لعلم الله إلا كما ينقص هذا العصفور من هذا البحر.

    والله يقول: وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ [لقمان:27]، قال تعالى: قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي [الكهف:109] لو أنه مداد أي: حبر بكلمات الله لانتهى البحر ولم ينته ما عند الله عز وجل: مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ [النحل:96].

    وفي هذه القصة أحكام وفقه نذكره:

    - أولاً: على طالب العلم أن يتواضع، فلا يرفع رأسه ويقول: أنا عندي شهادة، وعندي (ماجستير)، وعندي (دكتوراة)، والناس يسمعون كلامي، وأنا عالم، وصاحب مركز، .. لا. عليك أن تتواضع وإلا سقطت من عين الله عز وجل، وإذا سقطت من عين الله سقطت من كل عين؛ لأن قلوب العباد بيد الله، هذا موسى قال: ليس في الأرض أعلم مني. ونسي أن يقول: إلا الله، فأراه الله أن في الأرض من هو أعلم منه.

    - ثانياً: على طالب العلم أن يصبر ويصابر ويتأدب، ولا يتعجل على استعجال العلوم من العالم.

    - ثالثاً: يجب أن يلتزم العقد الذي شرط عليه الشيخ، فإذا كان الشيخ قد قال له: لا تسألني عن شيء حتى أحدث لك منه ذكراً، إذا قال لك الشيخ: لا تأتي إلا بعد العصر، لا تأتني إلا بعد المغرب، لا تظل تنازعه، تقول: لا والله بعد المغرب عندي عمل، اذهب إلى عملك ما عليَّ منك، أنا أعطيك؛ لأن العالم إذا أعطيته قلبك أعطاك علمه، وإذا أعطيته صلفاً، طردك، فيجب أن تكون متأدباً بكمال الأدب مع العالم.

    وكذلك يجب على العالم أن يراعي ضعف تلميذه، وألا يغضب عليه وألا يرده، بل عليه أن يتحمله حتى لا يأخذه بأول غلطة.

    1.   

    أمور تعين على الصبر

    هناك أمور تعينك على الصبر لا بد أن يعرف كل عاقل أن الصبر مأخوذٌ من الصَبِرِ وأنه مر المذاق، ليس من العسل، ولا بد لهذه المرارة من معاناة، أنت تصبر على مرارة الدواء، وتصبر على وخز الإبرة، وتصبر على ألم العملية طمعاً في العافية والثواب، وهناك أمور تعينك على الصبر:

    - أولاً: معرفة طبيعة هذه الدنيا، أنها دار بلاء ومصائب، ليست دار جزاء، وليس فيها نعيم، بل جبلت كلها على كدر: لَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ فِي كَبَدٍ [البلد:4] في معاناة وتعب، فإذا أرادت أن تكون على غير ما أرادها الله، لا تستطيع.

    أنت لست الذي خلقها، الله الذي خلقها، فوطن نفسك على أن تعتبرها دار بلاء ومصائب، فكلما أتت مصيبة وأنت مستعد لها وإذا بها خفيفة، لكن إذا لم توطن نفسك على المصائب، تأتيك المصائب فتتعبك، يقول:

    إن لله عباداً فطناً     طلقوا الدنيا وخافوا الفتنا

    نظروا فيها فلما علموا     أنها ليست لحي وطنا

    جعلوها لجة واتخـذوا     صالح الأعمال فيها سفنا

    والله يقول: لَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ فِي كَبَدٍ [البلد:4].

    ويقول الناظم الرندي رحمه الله:

    لكل شيءٍ إذا ما تم نقصان     فلا يغر بطيب العيش إنسان

    هي الحياة كما شاهدتها دول      من سره زمن ساءته أزمان

    ليعلم العبد أنه يتقلب بين النعيم والعذاب، وبين المصائب والمنح، وبين الفتن والعطايا، وبين النعم والبلايا، فإذا أتت البلية فاصبر لها، وإذا أتت المنحة والهدية فاحمد الله واشكره عليها.

    - ثانياً: مما يعينك على الصبر أن توقن بالجزاء على المصيبة: لأن الله عز وجل يجزي كل إنسان بعمله إلا الصابر فيجزيه بغير حساب، قال الله عز وجل: إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ [الزمر:10] وقال عز وجل: وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [النحل:96].

    فيوم أن تشعر أنَّ على هذه المصيبة ثواباً تفرح، وتقول: الحمد لله، وهذا مما يعينك على الصبر.

    ثالثاً: معرفة نفسك: اعرف نفسك أيها الإنسان! والمال الذي يذهب هو مال الله، والولد الذي جاءك ومات من الله عز وجل، وأنت نفسك إذا مت ومرضت أنت نفسك من الله، فما دام كل شيء من الله فهو ملكه يتصرف فيه كيف يشاء؛ فلماذا الغضب؟

    وفي هذا حديث في البخاري ومسلم وهو حديث أم سليم زوجة أبي طلحة رضي الله عنها، وهذه زوجة عظيمة مثالية ما أظن في الدنيا مثلها في مثل هذا الموقف، الله أكبر!

    مات ولده ولما مات قالت لأهل البيت: اسكتوا ولا تخبروه، أنا سوف أخبره، فلما دخل قربت له العشاء، وأكل وشرب، ثم تصنعت له وتجملت وتعطرت، ثم جاءت إليه، فقال لها: ما صنع الغلام؟

    قالت: هو أهدأ ما يكون، أي: مستريح وهي صادقة لأنه قد مات في أهدأ ما يكون، ثم لا زالت به حتى أتاها وواقعها، فلما رأت أنه قد شبع واستراح معها، قالت له: يا أبا طلحة -انظروا كيف العقلية يا إخواني، هذه ليس عندها (ماجستير) ولا (دكتوراه)؟!! انظروا كيف يجعل الإيمان من هذه النماذج قمماً في الحياة- قالت: يا أبا طلحة ! أرأيت لو أن قوماً أعارونا عارية -ماعوناً أو أي شيء- ثم طلبوها -طلبوا عاريتهم- ألنا أن نمنعهم؟ -إذا أعطونا دلواً، أو فأساً، أو سيارة، وقضينا بها حاجتنا والآن طلبوها، أيجوز لنا أن نمنعهم؟

    قال: لا.

    قالت: فاحتسب ابنك عند الله فإنه عارية الله طلبها.

    وما المال والأهلون إلا ودائع      ولا بد يوماً أن ترد الودائع

    فغضب أبو طلحة رضي الله عنه غضباً على هذا الموقف، وقال لها: تركتيني حتى تلطخت -أي: لم تخبريني إلا بعدما عملت، أعلمتني بولدي- ثم انطلق إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره بما كان فقال عليه الصلاة: (بارك الله لكما في ليلتكما) فحملت تلك الليلة، ووضعت ولداً، حنكه النبي صلى الله عليه وسلم بيده بالتمر، وسماه عبد الله ، الذي رزق تسعة من الولد كلهم حفظوا القرآن بأسباب المرأة الصالحة، التي عرفت أن هذا الولد من الله عوضها الله في الدنيا والآخرة.

    لكن لو أنها صاحت ووجلت مثل النساء وبكت ماذا سيصير؟

    هل سوف يحيا ولدها؟

    لا. ستخسر ولدها وتخسر ثواب الله عز وجل، فلا بد من أن نستعين بمعرفة أنفسنا، وأننا لله الذي لا إله إلا هو.

    أيضاً نستعين بالله على المصاب، إذا جاءتك مصيبة في ولدك أو زوجتك أو سيارتك أو في أي شيء، قل: إنا لله وإنا إليه راجعون، استعنا بالله، فالله يقول: وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ [البقرة:45] والله يقول: اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا [الأعراف:128] فلا بد أن تصبر.

    وأيضاً أن تتأسى بأهل العزائم، وأهل الصبر الذين صبروا مثل الأنبياء والرسل؛ لأن الله يقول: وَكُلّاً نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ [هود:120] ويقول: مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ [الحديد:23].

    - أيضاً مما يعينك على الصبر على المصيبة: أن تعلم أنه مهما كانت فإن هناك أعظم منها، لا يوجد مصيبة في الدنيا إلا ويوجد أكبر منها، وإن الله اختار لك هذه المصيبة، وأنه يوجد أعظم منها، وأن الله عز وجل يثيبك عليها، واعلم أن أعظم مصيبة وقعت بك هي مصيبتك في محمدٍ صلى الله عليه وسلم.

    اصبر لكل مصيبة وتجلد     واعلم بأن المرء غير مخلد

    وإذا دهتك مصيبة فاصبر لها      واذكر مصابك في النبي محمد

    هل هناك أعظم على المسلم من مصيبته في رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ لا والله.

    1.   

    أمور تحدث عند الحزن لا تنافي الصبر

    هناك أمور يعملها الواحد منا ولا تنافي الصبر، وهي: بكاء العين وحزن القلب، فإن الإنسان بشر وليس بحجر، فإذا مات ولدك أو ماتت زوجتك، ودمعت عينك أو حزن قلبك، فهذا مباح؛ لأنه من طبيعة البشر، والنبي صلى الله عليه وسلم لما مات ولده إبراهيم، ذرفت عيناه صلى الله عليه وسلم وقال: (إن العين لتدمع، وإن القلب ليحزن، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، إنا لله وإنا إليه راجعون، وإنا لفراقك يا إبراهيم لمحزونون).

    فقال عبد الرحمن لما رآه: وأنت يا رسول الله؟! أنت تبكي يا رسول الله وأنت تنهانا عن البكاء، قال: (يا ابن عوف! إنها رحمة لا بد أن تكون في قلب الإنسان) والذي لا يبكي بكاء الرحمة فقلبه قاسٍ، والقلب القاسي بعيدٌ عن الله عز وجل.

    فلا ينافي الصبر إذا دمعت عينك؛ لكن لا تدمع عينك مع رفع صوت، ولا مع ندب، ولا مع شق جيب، ولا مع نتف شعر، أو اعتراض أو شيء من السخط، إنما تدمع عينك ويحزن قلبك وتشكو أمرك إلى الله عز وجل.

    وأيضاً هناك شيء لا ينافي الصبر وهو الشكوى، لكن إلى الله: إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ [يوسف:86].

    حسبنا الله ونعم الوكيل، إذا قلتها فرج الله همك، اللهم إني أشكو إليك ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس، اشك إلى الله؛ لأن الله بيده الأمور، بيده الخفض والرفعة، بيده المنع والإعطاء، فكل شيءٍ عنده، فاشك إليه.

    أسأل الله الذي لا إله إلا هو أن يرزقنا وإياكم الصبر عند البلاء، والشكر عند الرخاء، إنه ولي ذلك والقادر عليه، والله أعلم.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718746

    عدد مرات الحفظ

    766704804