أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
فقد اشتهر عند علماء السلف قولهم: (الالتفات إلى الأسباب قدح في التوحيد، وترك الأسباب بالكلية قدح في التشريع)، وإنما ردوا بهذه المقالة على الذين غلوا في الأسباب وجفوا عنها، فقولهم: (الالتفات إلى الأسباب قدح في التوحيد ) بمعنى: أن العبد إذا التفت إلى السبب عن المسبب؛ فقد أشرك بالله عز وجل، فقد صح عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: لو قال الرجل: لولا الكلب لسرق اللص الدار لكان مشركاً. والعبرة هنا بما يكنه قلبه، وإلا لو قال الرجل هذه المقالة، وهو يعني اختصار القول فقط، كأن يقول كما يقول علماء الأرصاد: تأتي الرياح الشرقية فتدفع السحب، فتسقط الأمطار، إذا عنى أن الرياح الشرقية والغربية هي التي ساقت الأمطار من نفسها، وأن الأمطار نزلت، فهذا هو الشرك بالله، أما إذا اختصر العبارة فقط، فقال: إن ذلك بفضل الله تبارك وتعالى وبقدرته، فهذا لا بأس به، كما قال عز وجل: (أصبح من عبادي مؤمن وكافر، فمن قال: مطرنا بفضل الله؛ فهذا مؤمن بي، كافر بالكوكب، ومن قال: مطرنا بنوء كذا وكذا؛ فهذا كافر بي، مؤمن بالكوكب).
فكثير من العباد افتتن بالأسباب، لاسيما إذا جاء السبب كاملاً، فهو يتصور أنه لابد أن يجني الثمرة طالما كان السبب كاملاً، فرد الله عز وجل هذا الاعتقاد بقصة مريم عليها السلام وهي قصة عجيبة مدهشة.
( كانت مريم عليها السلام قوية فتية في غاية صحتها، وكان يأتيها رزقها بغير أن تعمل، كما قال تبارك وتعالى: كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ [آل عمران:37]، وهي قادرة على الاكتساب، فلما ولدت ونفست وأصبحت في أضعف حالاتها -ومعروف أن المرأة بعد ما تلد تكون قد استنفدت كل قواها- قال لها: وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ [مريم:25]، فتصور امرأة نفساء ماذا تفعل بنخلة؟ بل لو جاء مائة رجل من الأشداء فهزوا النخلة ما أسقطوا تمرة واحدة منها، فكيف قال لها ذلك؟! وقد أبان الشاعر المجيد عن هذا المعنى بقوله:
توكل على الرحمن في الأمر كله ولا ترغبن بالعجز يوماً عن الطلب
ألم تر أن الله قال لمريم وهزي إليك الجذع يتساقط الرطب
فلو شاء أن تجنيه من غير هزه جنته ولكن لكل رزقٍ سبب
أراد الله عز وجل أن ينبهنا في الحالة الأولى أن الأسباب قد تكتمل على وجهها ومع ذلك لا تؤتي الثمرة، ومثل ذلك أنك ترى هذا في رجل صحيح (100%)، وامرأته صحيحة (100%)، ومع ذلك لا ينجبان، ويضع الطب تقريره أنه لا مانع إطلاقاً لا عند الرجل ولا عند المرأة، ومع ذلك يظل الرجل محروماً من الإنجاب مع اكتمال السبب.
والله عز وجل يريد أن يعلمنا أنه لا ينبغي الافتتان بالسبب إذا جاء على كماله، ويريد أن يعلمنا أيضاً أن لا نلتفت عن السبب لقول الله عز وجل: وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى [الأنفال:17]، حتى لا يفهم بعض الناس أننا ننفي تأثير الأسباب، فالمعتزلة يقولون: إن السبب لا قيمة له، ولذلك ولج من هذا الباب كثير من العاطلين الذين قالوا: إذا كان الله كتب لنا الجنة؛ فإننا سندخلها بلا عمل، وإذا كان قد كتب علينا النار، فلو عملنا كل طاعة في الدنيا لا تفيد الطاعة، فأبطلوا شرع الله عز وجل بسبب هذا.
أما نحن فنقول: إن الأسباب لها تأثير، ولكن الأسباب لا تؤثر إلا بإذن الله، كما قال صلى الله عليه وسلم: (لا عدوى) ففهم بعض الناس من قوله: ( لا عدوى ) أنه نفى العدوى مع أنه عليه الصلاة والسلام قال: (فر من المجذوم فرارك من الأسد) فهذا فيه إثبات للعدوى.
لكن كيف نوفق بين هذين الحديثين؟ الجواب: أن الجمع بين الحديثين أن نقول: لا عدوى تنتقل بذاتها، وليس بالضرورة إذا جلست بجانب إنسان عنده مرض مُعْدٍ أن تحمل نفس المرض، بل قد يحمل الإنسان المرض، ويأتي آخر فلا يحمله، وأنت ترى أن الإنسان ممكن أن تأتيه رصاصة في رأسه في موضع ما ولا يموت، ويصاب آخر في نفس الموضع فيموت، فلو كان السبب مؤثراً -لا محالة- في كل حال؛ لكان ينبغي أن يكون التأثير عاماً، شاملاً كافة الخلق، لا يتخلف ولا يميز بين إنسان وآخر.
ومما يدل على أن الأسباب لا تؤثر بنفسها وإنما بمشيئة الله قول الله عز وجل: وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى [الأنفال:17] رميت الأولى بمعنى: أصبت، ورميت الثانية بمعنى: سددت الرمية، ورميت الثالثة بمعنى: أصبت، إذاً: عندنا رميتان بمعنى الإصابة، ورمية واحدة بمعنى تسديد الإصابة، فيكون معنى الآية: وما أصبت إذ رميت ولكن الله أصاب، وهذا يدل على أن الله عز وجل هو الذي يخلق التأثير في السبب، فيكون السبب مرة قاتلاً ويكون مرة غير قاتل، مثال آخر: (النار) معلوم أن من طبيعتها الإحراق، ومع ذلك نزع الله عز وجل عنها الإحراق لما رموا فيها إبراهيم عليه السلام، فهذا يدلنا على أن الله عز وجل هو الذي يسبب الأسباب، وهو الذي يجعلها تؤثر، لكنه أمرنا بأخذ الأسباب.
وباء السببية في القرآن كثيرة، قال الله عز وجل: ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [النحل:32] الباء هنا: باء السببية، فإن قال قائل: إن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (لن يدخل أحد منكم الجنة بعمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمته)، وقال تعالى: ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [النحل:32] أي: ادخلوا الجنة بسبب ما كنتم تعملون، وهذا الحديث ظاهر التعارض مع الآية، فهل الباء التي وردت في الحديث هي باء السببية؟ أي: لن يدخل أحد منكم الجنة بسبب عمله؟
قال العلماء: لا. بل الباء في الحديث هي باء العوض والمقابلة، أي: لن يدخل أحد منكم الجنة عوضاً عن عمله، لأنه لا يوجد إطلاقاً إنسان على وجه الأرض يستطيع أن يعمل عملاً يقابل النعم التي أنعم الله تبارك وتعالى بها عليه، وقد روى الحاكم في مستدركه بسند ضعيف، ونستأنس بهذه القصة فقط، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (جاءني جبريل، فقال لي: يا محمد! إن رجلاً عبد الله في جزيرة ستمائة عام، وسأل الله عز وجل أن يقبضه وهو ساجد، فأخرج الله عز وجل له رماناً من الصخر، وأخرج له عيناً من الماء العذب بقدر الإصبع، فكان يأكل من الرمانة، ويشرب من الماء، ويصلي، فلما جاء موعد وفاته، قال الله عز وجل: أدخلوا عبدي الجنة برحمتي، قال: بل بعملي، فقال: عبدي! إنه لا يظلم عندي اليوم أحد، كما قال تبارك وتعالى: وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ [الأنبياء:47] فوضعوا نعمة البصر في كفة، ووضعوا عبادة ستمائة عام في كفة، فطاشت العبادة، ورجحت نعمة البصر، وبقيت بقية النعم فضلاً من الله عليه، لم يؤد شكرها) وقد وضع ووضع نعمة البصر في الميزان أولاً؛ لأن أعظم ما يبتلى به المرء أن يفقد عينيه، كما قال الله عز وجل في الحديث الإلهي: (إذا ابتليت عبدي بفقد حبيبتيه؛ فصبر؛ لم أجد له جزاء إلا الجنة) وفي اللفظ الآخر: (إذا ابتليت عبدي بفقد كريمتيه؛ لم أجد له جزاءً إلا الجنة)، وإنما سماها حبيبة؛ لأن المرء يحب الدنيا بها، فإذا فقدهما؛ استوى عنده الدر الثمين مع الخرز المهين، فلا قيمة لأي شيء عند الأعمى؛ لأنه لا يتمتع برؤية هذه الأشياء، ومن يحب الدنيا لا يحبها إلا بعينيه غالباً، وسماهما كريمتين أيضاً؛ لأن العبد إذا فقد عينيه احتاج إلى الخلق؛ والحاجة إلى الخلق ذل، فلا يكاد يمشي خطوة إلا وهو يحتاج إلى من يساعده.
فلذلك الإنسان إذا أنعم الله عز وجل عليه بنعمة البصر فقد أكرمه؛ لأنه عافاه من ذلك الافتقار والاحتياج للناس، فلذلك وضعت هذه النعمة نعمة البصر، ولذلك طاشت عبادة الستمائة عام، (فقال الله عز وجل: خذوه إلى النار، فجعل يستغيث ويقول: يا رب! أدخل الجنة برحمتك، فقال: أرجعوه، فقال الله عز وجل له: عبدي! خلقتك ولم تكن شيئاً أبرحمتي أم بعملك؟ قال: برحمتك يا رب! قال: من أخرجت لك رماناً من الصخر برحمتي أم بعملك؟ قال: برحمتك يا رب! قال: أخرجت لك عيناً عذبة من الماء المالح أبرحمتي أم بعملك؟ قال: برحمتك يا رب! قال: قويتك على عبادة ستمائة عام أبرحمتي أم بعملك؟ قال: برحمتك يا رب! قال: برحمتي ادخل الجنة، يا عبدي! كنت نعم العبد).
فيظهر من هذا أنه لا يستطيع إنسان أن يوفي نعمة واحدة مهما فعل، وحسبك مثالاً ما جاء في آخر الحديث: (قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل) هل وجدت أحداً تورمت قدماه من كثرة الوقوف في الصلاة غير نبينا عليه الصلاة والسلام؟ لا تكاد تعثر على رجل بمثل هذا الجد، وهو أعبد من مشى على الأرض بقدميه صلى الله عليه وسلم.
يقول: (ولا أنا) فهذا يدل على أن كل العباد الذين يأتون بعد ذلك وعملهم ناقص عن عمل الرسول عليه الصلاة والسلام لا يدخلون الجنة بأعمالهم، فالباء هنا هي باء العوض وليست باء السببية.
والذين لا يفهمون ولا يعملون للآخرة أكثر الناس اعتراضاً على الله عز وجل في باب القضاء والقدر، وبالمقابل انظر إلى الصحابة والأجيال التي أتت بعد ذلك، انظر إلى استقامة فهمهم، روى البخاري ومسلم من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: (دفنا جنازة في بقيع الغرقد، فلما دفناها كان في يدي النبي صلى الله عليه وسلم مخفرة -أي: عود- فجعل ينكت في الأرض ثم قال: ما من نفس منفوسة إلا كتب مقعدها من الجنة ومقعدها من النار، فقال رجل: يا رسول الله! ففيمَ العمل في أمر مضى -يعني: جف القلم به- أم هو مستأنف؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: بل مضى)، كما قال عليه الصلاة والسلام: (إن الله عز وجل أمر القلم أن يكتب، قال: وما أكتب؟ قال: اكتب ما كان وما يكون إلى قيام الساعة، فجفت الأقلام وطويت الصحف)، وصار الناس يعملون فيما قدر الله عز وجل لهم من سالف الأزل.
فقال سراقة بن مالك : (يا رسول الله! أفلا نتكل على كتابنا، فمن كان من أهل الشقاوة صار إلى الشقاوة، ومن كان من أهل السعادة صار إلى السعادة، فقال عليه الصلاة والسلام: اعملوا فكل ميسر لما خلق له، ثم تلا قوله تبارك وتعالى: فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى [الليل:5-10])، فأثبت الله عز وجل ضرورة العمل -وإن لم يكن هذا العلم يؤدي إلى الثمرة-؛ لأن أعمالنا جميعاً لا تُدخلنا الجنة، ومع ذلك فالإنسان مطالب بأن يعمل الخيرات والصالحات.
قال سراقة بن مالك -معلقاً بعدما سمع الجواب- (ما أجدني أجدّ على العمل مني الآن).
فانظر إلى فهم الصحابة للآيات، وانظر إلى المخالفين الذين سمعوا هذا فقالوا: إذا قدر الله عليَّ المعصية، فلِمَ يعذبني؟ ووقفوا، مع أن الصحابة لم يقولوا مثل هذا الكلام، ولا قال أحد منهم: إذا قدر الله عليَّ المعصية لِمَ يعذبني؟
وهذا الاحتجاج بالقدر في فعل المعاصي، لكن لماذا لا يقول: إذا قدر عليَّ الطاعة لِمَ يثيبني؟ لا يقول هذا، إنما هو يريد أن يعلق أخطاءه على القضاء والقدر، يريد أن يعلق عليه أخطاءه ولذلك تجده في المعصية قدرياً، يقول: أنا مسلوب الإرادة في المعصية، وإذا فعل شيئاً من الخير يقول: أنا فعلت كذا وكذا، ويعدد مآثره، أما المعاصي فيتخذ القدر شماعة يتقي بها لوم اللائمين وهو في قرارة نفسه لا يصدقها.
ولذلك قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (إنه يقبح عند أهل الملل جميعاً، وعند كل العقلاء الاحتجاج بالقدر على المعاصي)؛ لأن الاحتجاج بالقدر على المعاصي نهايته أن تسقط الشريعة بالكامل، فلو ضبطوا رجلاً يزرع حشيشاً، فقالوا له: أنت تزرع الحشيش؟ يقول: أنا ما زرعت، يقول الله: أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ [الواقعة:64] ولو شاء الله عز وجل ما أخرجه من الأرض، أنا ما عليَّ إلا أنني رميت البذرة، فلو شاء الله ما أخرجها، أنا ليس لي علاقة بالزراعة، الله هو الذي أنبتها، كذلك يأتي السارق وقد ضبطناه متلبساً بالسرقة فيقول: لولا أن الله كتب عليَّ السرقة ما كنت سرقت، وهكذا لو زنى رجل بامرأة يقول: هذا مكتوب عليَّ. إذاً بهذه الاحتجاجات تسقط جميع الحدود، ولا نستطيع أن نجلد الزاني ولا نرجمه، ولا نعزر ولا نقيم أي حد من الحدود.
يقول شيخ الإسلام : وآية ذلك أن تعكس الموقف. فمثلاً الرجل الذي ضبطته متلبساً في بيتك بالسرقة، ولو كنت أنت الذي دخلت بيته وضبطك متلبساً، فقال: ما جاء بك؟ قلت: الله كتب عليَّ ذلك، لرفضها وما قبلها منك، فلماذا هو يحتج بالقدر على المعاصي إذا فعلها، وإذا قوبل بنفس الفعل الذي فعله؛ رفضه وأبى أن يقبل منه مثل هذه الحجة؟
إذاً الاحتجاج بالقدر على المعاصي عند جميع أهل الملل وجميع العقلاء باطل لا ينبغي أن يلتفت إليه.
فالالتفات للأسباب قدح في التوحيد، ولذلك جعل الله تبارك وتعالى الواسطة بيننا وبينه -لمعرفة شرعه- الرسل، لكنه في عبادته ألغى تلك الواسطة، فقال تبارك وتعالى: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ [البقرة:219].. يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ [البقرة:189].. يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ [البقرة:217].. وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ [البقرة:222].. يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ [البقرة:215]، كلمة ( قل ) هي أمر يوجه للواسطة الذي هو الرسول عليه الصلاة والسلام، إلا في الدعاء: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي [البقرة:186] لم يقل: فقل: إني قريب، حتى يلغي الواسطة إعلاءً لجناب التوحيد وتجريداً له.
وتأمل ذلك في الناس، تصور أن هناك أميراً والأمير له (سكرتير) لئيم، فأنت تريد أن تصل إلى الأمير لحاجة، والسكرتير عقبة بينك وبين الأمير، يقول لك: لا أنا لا أوصلك إلى الأمير تقول له: يا أخي، اعمل معروفاً ووصلني إلى الأمير، وتظل تتزلف إليه في الكلام من دون فائدة فكانت هذه الواسطة ذلاً لمن يريد أن يقابل الأمير.
ولو كان بين عباد الله عز وجل وبينه سبباً لبذل العباد من الذل الذي كان يجب أن يبذلوه لله للوسائط، فيذل المرء للواسطة؛ لأنه يريد أن يوصله، فإذا امتنعت عليه الواسطة ذل وأراق ماء وجهه، فالله عز وجل حفظ جناب التوحيد، إذ لا ينبغي أن يكون الذل إلا له تبارك وتعالى، فجعل الله إثبات الوسائط من أخلاق الكافرين الذين قالوا: مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى [الزمر:3]، إذاً في العبادة لله تبارك وتعالى ألغيت الواسطة حفظاً لجناب التوحيد وحتى لا يذل المرء نفسه إلا لله تبارك وتعالى.
فالتفات القلب إلى السبب وتعلقه به من الشرك، ولقد حقق إبراهيم عليه السلام تجريد التوحيد تجريداً عظيماً جداً، فإنه لما ذكر القضايا التي يختلط فيها الفهم عند العباد؛ أكد ما اختلط فيه بضمير الرفع المنفصل، أما ما لم يختلط فلم يؤكده، فقال إبراهيم عليه السلام: الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ * وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ [الشعراء:78-81] فأكد المواضيع الثلاثة بضمير الرفع المنفصل الذي يأتي لتأكيد الكلام. ففي الآية الأولى: الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ [الشعراء:78] ومن الجائز أن يقول فلان: أنا كنت ضالاً فهداني الله عز وجل أو هداني فلان.
فأراد أن يقول: إن الهداية الحقة ليست لأحد إطلاقاً، إنما هي لله عز وجل فقال: الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ [الشعراء:78] لا غيره، وأما عند إسناد الهداية إلى العبد فالمقصود بها هداية الدلالة والإرشاد فقط، كما قال الله عز وجل للنبي صلى الله عليه وسلم: وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [الشورى:52] أما توفيق العبد وإقامته على طريق الهداية فلا تملكها إلا الله عز وجل قال سبحانه وتعالى: : إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ [القصص:56] ولو كان في مقدور أحدٍ أن يقيم أحداً على طريق الهداية لأقام النبي صلى الله عليه وسلم عمه على طريق الهداية، لكن هذا ليس له ولا غيره، وإنما هو من خصائص الله تعالى.
لذلك هذه القضية المشتركة أكد فيها التوحيد بضمير الرفع المنفصل ( هو، فقال: (الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ) وفي الآية الأخرى: (وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ) ومن الجائز أن يقول الإنسان: كنت سأموت من الجوع لولا أن فلاناً أطعمني وسقاني.
فأراد إبراهيم عليه السلام أن يقول: إن الذي يخلق الشبع والري هو الله، ليس كل آكل شبعان وليس كل شارب ريان، فقد يشرب الإنسان وتكاد بطنه تنفجر من الماء، ومع ذلك هو عطشان، وأحياناً قد يأكل أكلاً كثيراً ولا يشبع، فلو كان لابد أن يشبع بلقمة لشبع الكل بلقمة، فلماذا يتفاوتون إذاً؟
وحسبك من ذلك ما رواه الإمام البخاري وغيره: (أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وكان كافراً فقال: اسقني يا محمد، فحلب لبن شاة وسقاه، قال: اسقني، فحلب أخرى، حتى حلب سبع شياه، فبعدما شرب الرجل وارتوى، ورأى من حسن خلقه عليه الصلاة والسلام أسلم، فجاء من الغد فقال: اسقني يا رسول الله! فحلب لبن شاه فشرب، ولم يتمه، وحمد الله عز وجل، فعلق النبي عليه الصلاة والسلام على هذا بقوله: المؤمن يأكل في معي واحد، والكافر يأكل في سبعة أمعاء) أي: أنه يأكل أكلاً لو قسم على سبعة أمعاء لوسعها.
إذاً: ليست العبرة أن الإنسان يأكل فقط، مجرد دخول الأكل قد لا يدفع الجوع، إنما الله عز وجل هو الذي يخلق الشبع ويخلق الري، فلما اختلطت هذه المسألة حيث إنك قد تقول: كدت أموت من الجوع لولا أن فلاناً أطعمني وسقاني، فأراد إبراهيم عليه السلام أن يقول: الله عز وجل هو وحده الذي يخلق الشبع ويخلق الري، الذي هو أثر الطعام: (وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ) لا غيره.
وفي الآية الأخرى: (وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ) ومن الجائز أن يقول فلان: أنا كنت سأموت بسبب مرض عضال أصابني، ولولا أن الطبيب الماهر شفاني، وكثير من الناس يقول هذا، بل كثير من الناس يذهبون إلى الأطباء، ويتصورون أن كلمتهم هي الفصل، وبعض الناس يذهب إلى الخارج -والأطباء هناك لا يجاملون- فيذهب إلى الطبيب يقول له: هل هناك أمل يا دكتور؟ هو منتظر للحكم النهائي من الطبيب، فإذا قال له: هناك أمل، ومرضك هذا بسيط جداً، ولا إشكال هي علاجه، وبرؤه ممكن؛ كاد يطير فرحاً، وارتفعت نفسيته في السماء، وإذا قال له: أنت باقي من حياتك لك خمسة أيام لا تحاول ولا تتعب نفسك وتكلفها مالاً فلن تبرأ!! ثم قال لمرافقيه: أكلوه وشربوه، فإن شهيته تتلاش عن الطعام والشراب، وذلك أنه اعتبر كلام الأطباء هو الكلام النهائي، وأنه هو الذي يستطيع أن يرفع المرض.
كان هناك رجل من جيراننا -ونسأل الله عز وجل أن يعافينا وإياكم- كان مريضاً بمرض السرطان، وكان الطبيب قد عالجه لفترة طويلة، وبعد ذلك قال لأهله: شفاؤه ميئوس منه، ولم يبق من حياته كلها إلا ثلاثة أسابيع أو شهراً، دعوه يأكل الذي يشتهيه، وليذهب إلى مكة للعمرة، ليأخذ فسحة وراحة، فالرجل مر عليه الشهر الأول ثم الثاني ثم.. ثم..، والطبيب يظن أن المريض قد مات، لكن الرجل مد الله في عمره، وبعد حوالى سنتين قال له أحد أصحابه: اذهب إلى الطبيب وادخل عليه وقل له: يا دكتور! أنا ظننتك قد مت -فتقلب عليه كلامه.. أنت لا أحد يراك ولا تسأل عن أحد، بعد سنتين دخل على الطبيب، فلم يتصور أن هذا هو الشخص الميئوس من حياته بسبب مرضه العضال، واستحلفه: أأنت فلان؟ قال: نعم، أنا فلان، قال له: ما هي الحكاية؟ قال: شربت من ماء زمزم فقط، ولا توجد علة بحمد الله، قال له: لا. لابد أن أكشف عليك، هذا غير ممكن. وكشف عليه ولم يجد أثراً للمرض، وعاش الرجل بعد الأشعة والأدوية خمس عشرة سنة.
فإذاً: الكلمة الأخيرة ليست لأحد على وجه الأرض، لا أحد يملك لنفسه الخير والعافية؛ لأن الطبيب يموت بنفس العلة التي يداوي الناس منها.
ولما أن كان أمر شفاء الأمراض ملتبساً على الناس حتى تجد من يقول: كنت سأموت لولا أن الدكتور فلان شفاني؟ فأكد إبراهيم عليه السلام هذه القضية -دفعاً للالتباس- بضمير الرفع المنفصل: وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ [الشعراء:80] فهو سبحانه لا غيره يشفي عباده بما شاء ومتى شاء.
لكنه لما جاء إلى قضية البعث لم يؤكدها؛ لأنه لا نزاع إطلاقاً أن الله هو الذي يحيي ويميت، لم يؤكدها لأن هذه قضية بدهية ليس فيها شك عند أحد من العباد.
فهذا كله يؤكد أن التفات القلب إلى السبب قدح في التوحيد، كأن تلتفت إلى الطبيب لمجرد أنه لو قال لك: هناك أمل، وأنت بصحة جيدة، إن اعتبار هذا الكلام نهاية المطاف والكلمة الأخيرة؛ هذا فيه شرك؛ لأن حقيقة التوكل هي اعتماد القلب على الله عز وجل وليست الأسباب.
النبي عليه الصلاة والسلام وهو سيد المتوكلين لما أراد أن يخرج من مكة إلى المدينة اختبأ في الغار، حتى لا يراه المشركون، ولم يترك السبب ولم يقل: إن الله عز وجل يرعاني وعنايته تكلؤني، وأنا لا يضيرني أن يروني.
فهذا كله يدلنا على أنه لابد من إثبات السبب، لكن القلب لابد أن ينخلع من السبب، أي: لا يلتفت القلب في أي حال من الأحوال إلى السبب، لأنه لو التفت إلى السبب أشرك بالله عز وجل وجعل له شريكاً.
وتجد التناقض في حياة الناس، فمنهم من تجده لا يصلي ولا يزكي، ويقول لك: أنا قلبي أبيض مثل اللبن مع أن هناك أناساً يصلون وعندهم حقد وحسد، ماذا عملوا بالصلاة؟ لكن أنا لا أصلي ولا أزكي لكن قلبي أبيض ولا يفعل شيئاً، هذا في جانب الهدى.
لكن لو سألته: لماذا تعقد صفقات كل يوم؟ ولماذا تسافر إلى الخارج؟ لماذا لا تجلس في بيتك وتضع رجلاً على رجل، ولو أراد الله لك الغنى لأغناك بلا تجارة وبلا سعي، إذا قلت له هذه العبارة ينكرها عليك، وإذا قلت له: لماذا تذهب إلى البيت؟ قال: لآكل لأني إن لم آكل سأموت من الجوع، لا لن تموت من الجوع إذا كتب الله لك الحياة بغير أكل طيلة عمرك ستعيش.
فما بالهم في مسائل الهداية يهونون منها ولا يعملون، ويعتمدون على القدر، وفي مسائل الدنيا يسلكون كل سبيل ويبحثون عن كل سبب مهما كان السبب محرماً، حتى إنك تجد بعض الشباب يذهب إلى بلاد أوروبا ليعمل، تقول له: ماذا تعمل في أوروبا؟ يقول لك: أغسل الصحون في مطعم، لكن لو سألته: كيف تغسل الصحون من بقايا الخنزير وكئوس الخمر؟! وهل خطر ببالك أن تغسل طبق أكلك في بيتك؟ أبداً، هو يأكل ويترك الأطباق، وما خطر بباله أن يأخذ هذا الطبق ويذهب به إلى المطبخ ليغسله.
وبعض الناس تجد أنه يسعى في معصية الله عز وجل، فتقول له: لماذا تسعى في معصية الله عز وجل؟ يقول لك: والله أنا بحثت عن عمل فلم أجد، وقد أغلقت الأبواب في وجهي، ويأتي لك بألف عذر حتى يسلك هذا السبب الذي هو في معصية الله عز وجل.
عندنا في مصر جماعة مبتدعة اسمها الفرماوية، هذه الجماعة تنسب إلى الشيخ الفرماوي الذي هو قائد الجماعة، يقولون: إن البخاري شيوعي، لأن منطقة بخارى هي تابعه للاتحاد السوفيتي سابقاً، وفي عيدهم يحرقون فتح الباري شرح صحيح البخاري لـابن حجر العسقلاني ؛ لأنهم يكرهون البخاري ، وكل الأحاديث التي وردت من طريق عائشة أو أم سلمة رضي الله عنهما ينكرونها، وأي امرأة لها حديث ينكرونه بحجة أن صوت المرأة عورة، كأن الله خلق المرأة خرساء لا تتكلم، وهذا خطأ، صوت المرأة ليس بعورة، إلا إذا كان هناك خضوع في القول أي: ترقيق الصوت ونحو ذلك، وقد نهى الله تبارك وتعالى عن ذلك فقال: فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ [الأحزاب:32].
حتى إن بعض الدعاة الذين يسلكون مسالك الاحتياط؛ يقولون: إذا كانت المرأة صوتها ناعم وتتكلم في التلفون فعليها أن تخشن صوتها كالرجل، فنقول: لا داعي لمثل هذا الاحتياط، ونقول: إذا خلقها الله تبارك وتعالى بهذا الصوت فلتتكلم على سجيتها، لكن لا تخضع بالقول، إذ أن الله عز وجل خلقها هكذا، فلا داعي لمسألة تفخيم الصوت ولا دليل عليه إطلاقاً.
وهذه الجماعة تعتقد أن العمل شرك، وأن سلوك الأسباب يعتبر شركاً، وكأنك -أخذك بالأسباب- تتهم الله عز وجل أنه خلقك وضيعك، كونك تشتغل تكون قد اتهمت ربك ولسان حالك يقول: يا رب! أنت ما أنفقت عليَّ. إذاً: هذا اتهام لله عز وجل، وحتى تجرد التوحيد فإنك لا تعمل.
ومن العجيب أن أفراد هذه الجماعة يلبسون ثياباً على لونين، تجد منهم من يلبس ثياباً خضراً، وآخرون يلبسون ثياباً بيضاً، الذي يلبس ثوباً أخضر يكون المصحف الذي يقرأ فيه جلدته خضراء، والذي يلبس ثوباً أبيض، تكون جلدة مصحفه (بيج) أو نحو ذلك، وقد كنا في المعسكر أول ما يقومون من النوم يلعبون الرياضة ويجرون، وعندما يأتي واحد منهم يسأل عنهم، يقوم الرجل منهم يلف نفسه ببطانية وبعد ذلك يكلم صاحبه، فيقول له صاحبه: لماذا أنت لافف نفسك بالبطانية؟ يقول: الآن استيقظت من النوم، وتجده يحذرنا ويقول: أرجوكم يا جماعة! لا يقل أحدكم أنني ألعب رياضة؛ لأن الرياضة من الأسباب، لأنهم سوف يكفرونه بذلك، يقولون له: أنت تبذل سبباً تقوي به جسمك، فيخشى أنهم -بذلك- يشكون فيه فيقدحون في توحيده.
فأنا أسأله أقول له: يا فلان! أنتم تقولون بالأسباب ولا تجوزون الأخذ بها، ومع ذلك أنت خياط تخيط ثياب في بلدك، وهذه الخياطة أليست سبباً؟ قال: نعم، لكن أنا أشتغل وأصرف على الذين وصلوا إلى القمة مثل (البشوات)، نحن إيماننا ناقص، فنصرف عليهم، فصاحب الإيمان الكامل يلبس ثوباً أبيض، وصاحب الإيمان الناقص يلبس ثوباً أخضر، إذاً: الثوب الأخضر للذين يشتغلون لتأكيل الكبار.
ولو سألت صاحب الثوب الأبيض: أنت لماذا تحفظ القرآن؟ لقال لك: لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يقال لقارئ القرآن يوم القيامة: اقرأ وارق، فإن منزلتك عند آخر آية تقرؤها) قلت له: أليس الحفظ سبباً؟ ولماذا لم تترك القرآن ولو شاء الله عز وجل لصب القرآن في صدرك صباً؟ فإذا به يسكت ولا يجيب؛ لأنه خالف البدهيات التي لا يمكن لأحد أن ينكرها في حال من الأحوال وهو ما يراه في حياته العادية.
وخذ مثلاً: مفتاح الكهرباء لو ظللت مائة عام واقفاً لأجل أن يضيء لا يضيء حتى تضغط عليه.
فالمقصود من العبد أن يفعل السبب، وأن يكون مجداً في طلب الهدى كما هو مجد في إصلاح حياته وأمره، ولذلك قال العلماء هذه المقالة الجامعة: (الالتفات إلى الأسباب قدح في التوحيد) فمهما كان السبب قوياً، ومهما كانت الآلة صحيحة؛ اعلم أنك قد لا تحصل ما تنشده إلا إذا قدره الله تبارك وتعالى لك.
( وترك الأسباب بالكلية والانخلاع منها قدح في التشريع ) لأن هذا سيؤدي بنا إلى ترك كل الحدود، وستكون المسألة في غاية الفوضى بين العباد.
نسأل الله تبارك وتعالى أن ينفعنا وإياكم بما علمنا، وأن يعلمنا ما جهلنا، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، والحمد لله رب العالمين.
الجواب: نفي الأسباب أن تكون مؤثرة هذا نفي في العلم، فأي رجل يقول: إن السبب لا يؤثر، كلامه هذا فيه إزالة للوحي كله، بل الأسباب تؤثر؛ لأن الله عز وجل قال: ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [النحل:32] وباء السببية تكررت في القرآن كثيراً كقوله تعالى: فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ [النساء:160] أي: بسبب أنهم ظلموا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم وكقوله سبحانه: فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ [المائدة:13] فالله عز وجل لعنهم؛ لأنهم كفروا، فهذا أيضاً سبب، فقولنا: إن الأسباب لا تأثير لها، كأننا ألغينا القضاء والقدر، وبالتالي ألغينا الوحي بطبيعة الحال، فنفي أن تكون الأسباب مؤثرة فيه رد على المعتزلة الذي يزعمون أن الأسباب لا تأثير لها؛ لأن عقيدة الجبر موجودة عندهم هي أن الإنسان مجبور على فعله ولا اختيار له.
الجواب: نعم حديث: (الدعاء هو العبادة) ترجمة لقول الله عز وجل: إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ [غافر:60] أي: يستكبرون عن دعائي، فالدعاء هو: التضرع والانكسار بين يدي الله عز وجل وهذا هو حقيقة العبودية، معنى ( عبد ) يعني: مذلل، فلا يكون العبد عبداً إلا إذا كان ذليلاً، ولذلك قال العلماء وهم يتكلمون في مقامات التوبة قالوا: أيهما أفضل: التائب من المعصية أم الذي لم يرتكب معصية؟ فمع ترجيحهم أن الذي لم يرتكب معصية أصلاً هو أفضل، قالوا: ولكن الذي ارتكب معصية فتاب عنده عبودية ليست موجودة عند الذي لم يعص الله عز وجل وهي عبودية الذل والانكسار، فإن العبد إذا وضع ذنبه أمامه فلا يزال يخاف أن يرديه، وكلما زاد يقين العبد خاف من ذنبه، كما حدث للأنبياء في ساعة المحشر، يأتي الناس آدم فيقول: (نفسي نفسي، إن الله أمرني أن لا آكل من الشجرة فأكلت، فيذهبون إلى نوح فيقول: نفسي نفسي، إني كانت لي دعوة فدعوتها، فيذهبون إلى إبراهيم، فيذكر كذباته الثلاث، فيذهبون إلى موسى فيذكر وكزته للرجل الذي قتله، فيأتون إلى عيسى عليه السلام، فكلٌ يقول: نفسي نفسي، ولم يذكر ذنباً، حتى يأتون إلى النبي عليه الصلاة والسلام فيقول: أنا لها! أنا لها) كما في حديث الشفاعة الطويل.
فهاهم الأنبياء المقدمون على أقوامهم يذكرون ذنبهم، فكذلك إذا رسخ إيمان العبد عظم عنده الذنب العظيم، كما روى الترمذي وغيره وهو في البخاري عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: (وإن الفاجر ليعمل الذنب العظيم، فيرى كأنه ذباب نزل على وجه، فقال به هكذا، فطار) أما المؤمن فيعمل الذنب، فيرى أنه كجبل يكاد أن يسقط على رأسه، فيبين خوف المؤمن أما الكافر فيفعل الذنب العظيم جداً ويرى هذا الذنب كذبابة حطت على وجهه فقال هكذا فطارت.
وجاء عن السلف قولهم: ( رب طاعة أورثت عزاً واستكباراً، ورب معصية أورثت ذلاً وانكساراً )، فالإنسان قد يفعل الطاعة فيعجب بها ويظن أنه فعل شيئاً ذا بال، فلا يزال يظن هكذا حتى يرديه الله تبارك وتعالى، ورب معصية يفعلها العبد ستأخذ بطريقه إلى الجنة، فكلما ذكر المعصية؛ جد واجتهد، خوفاً من الله تبارك وتعالى. ولا يفهم من هذا أن المعصية أفضل من الطاعة، كما قال بعض المتصوفة لما جاء في كلمة السلف: ( ورب معصية أورثت ذلاً وانكساراً ) قالوا: وفي هذا دلالة على أن الذنب أحياناً يكون أفضل من الطاعة، وهذا تفكير مقلوب؛ لأنه لا يمكن أن يقول قائل: إن الذنب أفضل من الطاعة أبداً، لكن تأثير الذنب على العبد المؤمن يكون إيجابياً كما يقول العلماء في استثمار الصفات السلبية، فمثلاً هناك بعض الناس تجد عنده إحباطاً شديداً، لا يأكل ولا يشرب، وكل يوم يضعف جسمه، يقول: كلما تذكرت القبر وعذاب القبر والوحدة والغربة وإلى أين يصير، لا يستطيع أن يأكل ولا يشرب، وتجده لا يصلي ولا يذهب إلى المسجد، بل غالق على نفسه الغرفة، وإن هذا يدمر نفسه، والمفروض أن يكون استثمار الخوف استثماراً إيجابياً، كلما خاف جد واجتهد، لا أن يقعد، فكذلك الذنب لابد للعبد أن يستثمره، أنه يجعله رائداً بين يديه إلى الله تبارك وتعالى.
فالدعاء أصله الانكسار، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله يغضب على ابن آدم إذا لم يسأله)
الله يغضب إن تركت سؤاله وبني آدم حين يسأل يغضب
والله أعلم.
الجواب: أيها الأخ الكريم: هذا الذي ذكرته هو الذي أنا قلته تماماً، لكن أنا مضطر الآن لأن أبين بعض الإشكالات التي حصلت من كثرة ضرب الأمثلة.
قال العلماء: ( الالتفات إلى الأسباب قدح في التوحيد، وترك الأسباب بالكلية قدح في التشريع ) فلو جاء رجل فقال: أنا لن أتزوج وأريد الولد، ماذا تقول في هذا الرجل؟ تقول: إنه أحمق، ولو قال رجل: أنا أريد أن أصل بالسيارة إلى المكان الفلاني بدون (بنزين) سوف نقول: أحمق، لو قال: لو شاء الله لأجراها بدون (بنزين) نقول: نعم، الله على كل شيء قدير، لكن لابد أن تبذل السبب، بأن تضع (البنزين) في السيارة.
كذلك هناك رجل يريد أن يعيش بلا أكل، وقد قال ربنا سبحانه وتعالى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ [المائدة:3]، ثم قال عز وجل: فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [المائدة:3] قال سفيان الثوري : ( إذا اضطر فلم يأكل الميتة فمات؛ دخل النار ) لأنه أعان على نفسه، وقد أحل الله له الميتة لكي لا يموت، فلو شاء الله عز وجل لأقام العباد بدون أن يحل لهم ما حرمه، فإن ربنا سبحانه وتعالى قادر على إبدال أكلنا للميتة التي حرمها علينا، ويعطينا القوة والطاقة حتى نصل إلى الحلال، أليس ربنا على كل شيء قدير، لكن الله أباح لنا أن نأكل الميتة أخذاً بالأسباب، فمفهوم كلامي: أنه لا ينبغي لعبد أن يركن إلى الأسباب فيقول: إن الطب الحديث لازم يرفع العلة، هذا مرفوض، نقول: لا، الدواء قد يرفع العلة وقد لا يرفع العلة.
السائل: أنا أقول: إن للأسباب تأثيراً ولكني لا أعتقد أن الأسباب حتماً توصل إلى المقصود؟
الشيخ: هذا هو الكلام الصحيح.
الجواب: بالنسبة للحلف بغير الله عز وجل، كأن يقول الإنسان: والنبي أو والولي أو غيرها، فإن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الحلف بالآباء ونهى عن الحلف بغير الله تبارك وتعالى، وفي الصحيح: (أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر