إسلام ويب

سئل موسى عليه السلام عمن هو أعلم منه، فأجاب لا أحد، فأمره الله بالذهاب إلى الخضر، ومع هذا رأى موسى أموراً قام بها الخضر تخالف ما بدا له أول الأمر، فلما سأل موسى الخضر عن أفعاله تلك أجابه بأن ما فعله وحي من الله، وأن له أسباباً لم تظهر لموسى وإنما علمها الخضر بتعليم الله له، فكان هذا درساً لموسى ولكل إنسان أن فوق كل ذي علم عليم.

بين يدي قصة الخضر مع موسى عليه السلام

الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة.

من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله، فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.

أما بعد:

فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.

أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات!

إن السورة ما زالت كعهدنا بها سورة الكهف: أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا * وَأَمَّا الْغُلامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا * فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا * وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا [الكهف:79-82].. إلى آخر ما جاء في هذا السياق القرآني المبارك الكريم.

معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات!

السياق الكريم في قصة الخضر مع نبي الله موسى عليهما السلام، وهذه القصة هي آية من آيات النبوة المحمدية، إذ مثل هذه القصص لا يقصها أمي لا يقرأ ولا يكتب، ولا يتأتى له أن يأتي بهذه الأخبار عن الله عز وجل، فمحمدٌ صلى الله عليه وسلم رسول الله حقاً وصدقاً، ونفي رسالته من العيب الذي يوصم به كل من ينفيها، التكذيب بها كفر ونفيها كفر، ولكن الكافرون لا يستخدمون عقولهم ولا يفكرون، فبعضهم يكفر تقليداً، وبعضهم يكفر عن هوى، وبعضهم لم يعرف الطريق ولم يبحث عنه يوماً من الأيام حتى يهتدي، فهو كافر بطبعه.

هذه القصة أوجز القول فيما تقدم؛ لنربط السياق بعضه ببعض، ذكر لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في صحيح البخاري : أن موسى بني إسرائيل عليه السلام خطب يوماً بني إسرائيل فأجاد وأفاد، فأعجب بخطابته وبكلامه، فسأله سائل، هل يوجد من هو أعلم منك يا موسى؟! فغفل وهو البشري ولم يقل ولم يستثن، لم يقل: الله أعلم، ولكن قال: لا أحد، فعوتب، ومن هنا وجب علينا ألا نخطئ كلمة: (لا أدري) و(الله أعلم)، من أخطأ كلمة (لا أدري) و(الله أعلم) أصيب في مقاتله، فلو أن موسى عليه السلام قال: الله أعلم، لنجا، ولسلم، ولكن غفل كما غفل نبينا صلى الله عليه وسلم غفلته والتي تقدمت في سورة الكهف وعوتب بانقطاع الوحي، وقيل له: وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا [الكهف:23].

وغفل سليمان بن داود كما أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يقل: إن شاء الله، فعوتب وعوقب، فلم تحبل واحدة من جواريه من مائة جارية إلا واحدة وأتت بنصف ولد: وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا [ص:34]، ومعنى هذا أننا طلاب هدى، فلا ينبغي لأحدنا أن يسأل عما لا يعلم، فلا يقول: لا أدري والله أعلم، وإذا أراد أن يفعل في المستقبل أو يقول، يقيد ذلك بكلمة إن شاء الله، إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ [الكهف:24]، حتى إذا حلف وقال: والله لأفعلن من الخير أن يقول: إلا أن يشاء الله، فيرد الأمر إلى صاحبه، فينجو من ورطة الحنث التي يترتب عليها ذنب لا يمحى إلا بنوع خاص من كفارة خاصة.

وهنا لما قال: لا أحد، أوحى الله إليه على الفور بهذا النص الذي قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( بلى عبدنا خضر )، ومن هنا عرفنا أن هذا العبد يسمى: خضراً ، عرفناه لا من طريق بني إسرائيل، ولكن من طريق الوحي المحمدي، ( بلى عبدنا خضر )، وقد تدخل عليه الألف واللام فيقال: الخضر من باب التعريف، وإن كان عربياً فصيحاً لا يقبل هذا، فلا نقول: المكة ولا تقول العمر، العثمان، فما دام الخضر علماً يبقى خضراً ، ( بلى عبدنا خضر )، وجرى على ألسنة الناس الخضر .

التحقيق في إثبات نبوة الخضر عليه السلام

هذا العبد الرباني، حسب ما قرأنا وسنواصل الحديث أنه نبي من أنبياء الله، وكونه نبياً لا ينفي أن يكون ولياً، فالجمع هو الصواب، فهو نبي يوحى إليه بدليل قوله: ( أنا على علم من علم الله الذي علمنيه لا تعلمه أنت يا موسى! وأنت على علم من الله علمكه الله لا أعلمه أنا )، فالشرائع التي كان موسى عليه السلام ينفذها في بني إسرائيل ويطبقها ما كان يعرف الخضر عنها، وما علم الله خضراً من علوم ومعارف ما كان موسى يعرفه، فموسى رسالته خاصة لبني إسرائيل، والخضر نبي وليس برسول؛ إذ لم يرسل إلى أمة ولا إقليم ولا حتى مدينة، فهو من جملة الأنبياء الذين يوحى إليهم، ويتلقون الخبر عن الله بطرق الوحي المعروفة، لكن لم يبعث بكتاب ورسالة إلى أمة ما من الأمم، فلهذا اشتبه على بعض الناس، وقالوا: هو ولي وليس بنبي.

ولم نكرر القول ونعيد إلى الأذهان أن خضراً كان نبياً؟ ما حملنا على هذا إلا لأن الموقف خطير، فلو أنك تسلب نبياً نبوته كفرت، ولو أضفت النبوة إلى غير نبي كفرت كذلك، فالقضية ما هي بالسهولة كما ترى، هل يجوز أن ننبئ غير نبي؟ هو الكفر بعينه.

هل يجوز أن نسلب النبوة عن نبي؟ هو الكفر بعينه، لكن ظواهر الآيات شواهد على نبوته وولايته حاصلة، إذ قال تعالى: عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ [الكهف:65].

طلب موسى اللقاء به فأرشده ربه تعالى إلى أن يأتي مجمع البحرين وهناك يجد ضالته، ويحصل على بغيته فيلقى هذا العبد الذي آتاه الله رحمة وعلمه من لدنه علماً ويتعلم عنه، ويقف بنفسه على رجل هو أعلم منه.

ونحن علمنا من طريق كتاب الله، أنه: وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ [يوسف:76]، فاحذر يا عبد الله! أن تنسب العلم وتقول: انتهى العلم إلى فلان، والله لفوقه علماء وفوق العلماء من هو عليم، كذلك لا تدعي العلم، من قال: إني عالم فهو جاهل، كذا قال العلماء، ومن سئل عما لم يعلم، فليقل: الله أعلم، فليقل: لا أدري والله أعلم، وإلا تعرض لضربة قاتلة.

عوامل نهوض دولة بني إسرائيل وأسباب سقوطها وغيرها من الدول

سار موسى مع فتاه يوشع بن نون عليه السلام، وقد نبئ فيما بعد، وقاد بني إسرائيل إلى ساحات الكمال والسلام بعد نهاية محنة التيه التي دامت أربعين سنة، وتكونت بواسطته أول دولة لبني إسرائيل ذات شرف وأمجاد، وذات سلطان واسع عريض، ولما فسقوا عن أمر الله وخرجوا عن طاعته سلب الله ما أعطاهم، وتلك سنته في الأفراد والأمم والشعوب، تتمتع الأيام التي أنت مستقيم فيها، ويوم ما تنحرف آن أوان السلب بعد العطاء، ونعوذ بالله من السلب بعد العطاء: وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا [الإسراء:16].

ونشأت بعد ذلك لبني إسرائيل دولة من أعظم دول العالم على يد داود عليه السلام وولده سليمان، فملكوا الشرق والغرب، ودان لهم العرب والعجم وسادوا الدنيا، وما زالوا في ذلك النعيم وتلك العزة القعساء والسلطان الطويل العريض حتى فسق نساؤهم ورجالهم، فاستباحوا الربا، وقتل العلماء، ولبس نساؤهم الكعب العالي، وظهر فيهم الفجور، وأزاحوا الحجاب ومزقوه، وتبرجت النساء، فغضب الجبار غضبة سلبهم كل ما أعطاهم، وما زال ربنا تعالى بالمرصاد.

سئل أحدهم: قيل: أين ربك؟ قال: بالمرصاد، يعني: قول الله تعالى: إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ [الفجر:14]، أَهْلَكَ عَادًا الأُولَى * وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى [النجم:50-51]، وفرعون أغرقه وأهلكه، وهو بالمرصاد لكل من يعرض عنه سبحانه، يمهله أياماً، أعواماً، قروناً، ثم يحق عليه القول، فيسلبه ما أعطاه، هذا شأن ربنا جل جلاله، والتاريخ شاهد لا نحتاج لإقامة شواهد.

إذاً: فاحذروا يا عباد الله! أن يسلب الله ما أعطاه لكم.

بداية رحلة موسى وفتاه إلى الخضر بأمر ربه

بدأ موسى رحلته، وعانى، وقاسى، وحسبه أنه لما وصل إلى مجمع البحرين ذاك المكان المطلوب، وكانت آية خروج الحوت من المكتل ودخوله في البحر ويبوسة البحر له كأنه ثلج ودخل في طاق الوساد فكان عجباً، ويمشي موسى وهو نبي الله ورسوله وكليمه ولا يدري، فيمشي يوماً وليلة ثم ينبئه الفتى بأنه لما نام عند الصخرة الفلانية خرج الحوت من المكتل حياً: فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا [الكهف:61]، ثم رجعا على آثارهما، ووجدا خضراً مسجى في بردة، والأرض من تحته تهتز رابية خضراء، هنا نبهت إلى أن كلمة: عين الحياة، أهل العلم والتحقيق أسقطوها، حتى يأتي خبر عن أبي القاسم صلى الله عليه وسلم صريحاً صحيحاً من طريق الصحاح، التي هي مصدر هذه الشريعة.

ذكر الأدلة على أن الخضر عليه السلام قد مات

وقد نبهت إلى أن الخضر عليه السلام ما هو من المنظرين ولا المخلدين، وأدلة ذلك: الكتاب والسنة، أما السنة: فقد أعلن رسول الله صلى الله عليه وسلم بلا مواربة هنا في هذا المسجد، وقال: ( أرأيتكم ليلتكم هذه إن رأس مائة سنة لم يبق على الأرض أحد )، وهذا إعلام من الله وإخبار من رب العالمين، فلم يعش من ولد في تلك الليلة أكثر من مائة سنة، فالموجودون يموتون؛ لأن أعمارهم تنتهي، هذا بقي عليه عشر سنوات، وهذا عشرون، وهذا ثلاثون، وهذا أربعون، لكن لو ولد في تلك الليلة مواليد شاء الله ألا يجوز عمر أحدهم المائة سنة، فمن هنا الخضر مات وليس بحي.

ثانياً: قول الله عز وجل في صريح كتابه من سورة الأنبياء، واسمع النص الكريم! قال تعالى: وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ [الأنبياء:34] يا رسولنا! المبلغ عنا، الْخُلْدَ [الأنبياء:34]، والخضر كان قبل نبينا، بينه وبينه أكثر من ثلاثة آلاف سنة، فكيف نقول: خضر حي؟ ثم لولا أن القضية قد استغلت للإفساد والتضليل وتدمير عقائد هذه الأمة والتدجيل عليها، لما كان في هذا الخلاف كبير فائدة، والسكوت عنه أحسن، لكن وجب أن نتكلم؛ لأننا نواجه تضليلاً كبيراً منذ بدأ الإسلام يهبط، والناس يدجلون بكلمة خضر ، يدعون صحبته، ورؤيته، ولقاءه، وأنه أعطاهم كذا وعلمهم كذا، وآخر يقول: بات البارحة عندنا، حتى قالوا: إذا ذكر الخضر مر بين أيدينا وهذه كلها أكاذيب وأباطيل وتدجيل واستغلت به هذه الأمة، فلهذا وجب التنبيه إلى أن الخضر عليه السلام مات قبل نبينا، ولو عاصر نبينا هل يستقيم أنه لا يأتيه ولا يزوره ولا ينضم إلى صفوفه ولا يجاهد معه، وقد خاض الرسول معارك أكثر من سبع عشر غزوة تحملها بيده، والخضر يأكل ويشرب بعيداً عنه؟ وقد أخذ الله الميثاق على الأنبياء إذا بعث رسوله وعاصروه ليؤمنن به ولينصرنه.

إذاً: والذي دعا إلى هذا هو استغلال المضلين هذه الأمة بالتدجيل والكذب.

رحلة موسى والخضر عليهما السلام بعد التقائهما والأحداث المصاحبة لها

في طريق موسى والخضر إلى حيث شاء الله ركبا السفينة كما علمتم، هنا أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم، عند ركوبهما السفينة، رأوا طائراً نزل أو وقع على حافة السفينة ونقر في البحر يشرب بمنقاره والخضر وموسى عليهما السلام ينظران، فقال الخضر لموسى: (ما علمي وعلمك في جنب علم الله، إلا كما أخذ هذا الطائر بمنقاره)، حتى لا تترفع يا عبد الله! ولا ترى أنك عالم ولا أعلم منك، ماذا علمت أنت؟ علمي وعلمك إلى جنب علم الله لو قايسنا أو نظرنا لوجدنا الكمية التي أخذها العصفور بمنقاره من البحر الأحمر أو الأسود تلك الكمية ما قيمتها بالنسبة إلى البحر الأحمر، هذا من باب التمثيل والتقريب، وإلا فالله أخبرنا بأعظم من هذا، فقال جل جلاله وعظم سلطانه من سورة لقمان الحكيم : وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ [لقمان:27]، كل شجرة على حدة تبرى أغصانها وعيدانها أقلاماً، وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ [لقمان:27] يسعفه، سَبْعَةُ أَبْحُرٍ [لقمان:27]، كلها تصب فيه، وتتحول مياهها إلى مداد للكتابة مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ [لقمان:27]، ومن سورة الكهف: لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا [الكهف:109].

وسر القضية أن هذه كميات محدودة لابد وأن تنفد، أليس كذلك؟ وكلام الله لا ينفد؛ لأن الله باق لا يفنى ولا يقع عليه الزوال والفناء، فإذا قابلت ما ينفد بما لا ينفد نفد كل ما ينفد ولو كان مما نتصور، شتان بين ما هو قابل للفناء وبين ما لا يقبل الفناء.

إذاً: (ما علمي وعلمك يا موسى في جنب الله إلا كما أخذ هذا العصفور بمنقاره)، وهذا من الدروس التي تلقاها موسى؛ لأنه قال لما سئل: لا أحد، من أنت يا موسى؟!

وواصلوا الرحلة، والآن نحن مع بيان وتأويل الأحداث العظام التي تمت فيها:

أولاً: خرق الخضر للسفينة؛ لأن الأمر يتعجب منه، بل الأمر يستنكر، استنكره موسى، جماعة فقراء لهم سفينة حملونا فيها مجاناً بلا نول ولا أجرة، وبالتالي يقدم خضر عليها فيخرقها، بأخذ لوح منها ويطلع الماء فيها؟!

ثانياً: بقتل خضر للغلام، طفل زكي يلعب مع الأطفال، في شارع من شوارع المدينة، يمر به الخضر فيأخذ عنقه ويلويه ويقتله، أمر لا يطاق.

ثالثاً: لما دخلوا مدينة أنطاكية استضافا أهلها فلم يضيفوهما، وهنا يمر خضر بجدار مائل يريد أن يسقط أو ينقض فيقوم بإصلاحه وترميمه، إما بدعمه بخشب، وإما بإزالة الحجارة المتصدعة ووضع أخرى، وإما بكرامة ومعجزة بأن مسح بيده الجدار فاستقام، وهذه استعجبها موسى واستغربها وأنكرها، أناس شحاح بخلاء ما أعطونا حق الضيافة، وبتنا جياعاً ونقوم بإصلاحٍ كهذا لهم، لم ما نأخذ عليه أجراً مقابل إصلاح هذا الجدار؟ هذه جاء تفسيرها الآن، فقال الخضر عليه السلام، وما ننسى أن نبينا صلى الله عليه وسلم قال: ( يرحم الله موسى وددنا أنه لو صبر لكان الله يقص علينا علماً غزيراً ).

قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا * قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا [الكهف:75-76]، هذه كلمة موسى عندما قتل الخضر الغلام: إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلا تُصَاحِبْنِي [الكهف:76]، أي: فارقني اتركني أعود إلى أهلي، ما أطقت التعلم معك، علومك فوق ما أطيق.

لو صبر وما تعهد بالفراق وواصل الرحلة لسمعنا العجب العجاب.

فقال له الخضر عليه السلام: سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ [الكهف:78]، أي: بتفسير، مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا [الكهف:78].

سَأُنَبِّئُكَ أي: أخبرك.

بِتَأْوِيلِ أي: بما آل إليه الأمر، أو ما يئول إليه، والتأويل كالتفسير بيان عاقبة الشيء ومآله.

بذاك الذي لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا ؛ لأنك على علم وأنا على علم، فأنت في شريعتك لا تخرق سفينة يحملها أصحابها أناساً في سبيل الله، ثم ولو ما حملوهم في سبيل الله بل حملوهم بأجرة، هل يجوز للإنسان أن يفسد سفينة أناس يركب معهم؟لا يحل هذا، كيف تفعل أنت هذا؟!

إخبار الخضر لموسى عن سبب خرقه السفينة وقتله الغلام وإقامة الجدار

سبب خرق الخضر للسفينة

قال تعالى حكاية عن الخضر : أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ [الكهف:79]، قالت العلماء: كانوا عشرة رجال، خمسة زمنى مرضى لا يطيقون العمل، وخمسة يشتغلون على هذه السفينة، بالأجرة ويطعمون أنفسهم وأسرهم.

قوله: لِمَسَاكِينَ [الكهف:79]، المساكين جمع مسكين.

ثم قال: يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ [الكهف:79]، أي: بالأجرة يحملون البضائع والسلع من بلد إلى بلد، ويحملون أيضاً الركاب، بدليل أنهم أركبوا خضراً وموسى.

فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا [الكهف:79]، هذا البحر كما قدمنا، هل هو البحر الأسود أو البحر الأحمر المسمى القلزم، بحرنا هذا؟ هذا غير مهم، المهم أنهم يعملون بتلك السفينة بالبحر، قال: فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا [الكهف:79]، عن قصد وعلم وإرادة، كيف يعيبها؟ يحدث فيها عيباً حتى لا تشترى ولا تباع ولا تغتصب.

فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا [الكهف:79]، أي: أحدث فيها حدثاً يكون عيباً في السفينة ما تقبل، وعلل لذلك بقوله: وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا [الكهف:79]، بالقوة.

اختلف في كلمة: (وَرَاءَهُمْ)، بمعنى: أمامهم أو وراءهم، وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ [الكهف:79]، إذا قلنا: اللفظ على ظاهره: (وَرَاءَهُمْ)، معنى هذا: أنهم يصلون إلى الميناء الفلاني، ويعودون عائدين، وحينئذٍ يرى الملك أو رجاله السفينة فيستولون عليها، ويكون لفظ: (وَرَاءَهُمْ) على بابه، على شرط أن يواصلوا الرحلة إلى الميناء المقصود ويعودوا، وقد يطلق لفظ: (وَرَاءَهُمْ)، ويراد به أمام، وجاء في القرآن نظيره، وهذا أقرب إلى الواقع؛ لأنه عابها الآن، حتى إذا وصلوا إلى المكان الفلاني حيث يوجد رجال هذا الملك الذين يأخذون السفن يجدونها معيبة فيتركونها لا يصادرونها، إما لظروف حرب وإما لمعنى من المعاني، فـالخضر علم أن هذه السفينة لو مرت على المحل الفلاني تؤخذ كرهاً وغصباً، فلما خرقها بأخذ لوح من ألواحها وأخذ الماء يدخلها فمرت جيوش ذلك الملك ما رغبوا فيها وقالوا: هذه ما تصلح. كيف فعل خضر هذا؟ بتعليم من الله، كما سيأتي حيث قال: وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي [الكهف:82].

سبب قتل الخضر للغلام

قال: وَأَمَّا الْغُلامُ [الكهف:80]، الغلام هنا: الطفل الصغير، وكونه لم يبلغ الحنث هذا أولى كما قررنا، والذين قالوا: هو بالغ وليس بصبي، قالوا: لأنه قال: قتلت نفساً بغير نفس، ورد العلماء على أن هذا في شريعة من قبلنا يقتل الصغير بالصغير، أما في شريعتنا الصغير الذي لم يبلغ الحنث إذا قتل عمداً عدواناً لا يقتص منه ولكن تؤخذ الدية من عاقلته، كقتل الخطأ، أما إذا بلغ غير مجنون وقتل فالقصاص معلوم: النَّفْسَ بِالنَّفْسِ [المائدة:45] إلا أن يعفو أولياء الدم أو يرضوا بالدية.

هنا بعث الخوارج إلى علي رضي الله عنه يمتحنون علمه، والرواية من طريق ابن عباس رضي الله عنهما، فقالوا له: كيف يقتل خضر الغلام وهو صغير ونحن في شريعتنا لا يحل لنا أن نقتل الغلمان أولاد الكافرين وفي الحروب؟ فكيف يُقتل غلام مؤمن وفي السلم؟ هذه شبهة طرحوها على علي رضي الله عنه، فرد عليهم وقال: لو علمتم ما يحدثه هذا الغلام إذا كبر لرأيتم أن قتله هو الصواب والصحيح، لكن هل تعلمون أنتم؟ هل يوجد من الناس من يقول: هذا الولد سيفعل ويفعل إذاً نقتله؟ ممكن؟ مستحيل؛ لأنه لا يعلم الغيب إلا الله، فما دمتم لا تعلمون ما ينتج عن أولاد الكفار لا يجوز قتلهم، وما يدريكم أنهم يسلمون؟

هذا قول خضر لموسى عليه السلام وَأَمَّا الْغُلامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ [الكهف:80]، أي: أمه وأبوه.

مُؤْمِنَيْنِ [الكهف:80] أي: صالحين.

فَخَشِينَا [الكهف:80]، أي: خفنا.

أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا [الكهف:80]، أي: يكلفهما حبهما له ما يصبحان به من الطغاة الكفرة، أي: هذا الغلام حب أبويه له يترتب عليه أنه في المستقبل يحملهما على الكفر، ويكفران بسبب ولدهما، ونحن نريد أن يبقى لهما إيمانهما وولايتهما لله؛ لأن الله أراد إكرامهما وإنعامهما يوم لقائه، فصرف عنهم أسباب الكفر والطغيان، هذا الولد لو عاش بين أبويه وهما يحبانه حباً شدياً وجماً سوف يأمرهما بالخمر فيشربون، بالكفر فيكفرون، يكلفهما ما لا يطيقان ويحملهما على ذلك، فولاية الله تعالى لهذه الأسرة اقتضت أن يقتل الولد؛ حتى لا يوقع أبويه في هذه الفتنة، حتى يسبب لهما الكفر والطغيان، لا مجرد تعب أو جوع وعطش، بل يفسد عليهما أمر دينهما، وهذا واقع، لعلكم ما تعرفون هذا، كم من ولد يحمل أبويه على الضلال.

إذاً: فهذا هو المسوغ أو المبرر لقتل الغلام.

وَأَمَّا الْغُلامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا * فَأَرَدْنَا أَنْ [الكهف:80-81] (يبدَلهما) قراءة سبعية، أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا [الكهف:81]، قالت العلماء: لما قتل الغلام رزقهم الله بنتاً فتزوجت نبياً فأنجبت نبياً، ففازا بهذا الشرف، أصبح حفيدهما نبياً، بنت تزوجت من نبي فأنجبت نبياً، وكان الأنبياء يومئذ كثر كما تعرفون؛ لأن نبينا أخبرنا أن يوماً من أيام بني إسرائيل قتلوا فيه سبعين نبياً، والنبي غير الرسول كما عملتم، قد يوجد في الأسرة الواحدة عشرة أنبياء، أسرة يوسف اثنا عشر نبياً، كل أولاد يعقوب أنبياء.

إذاً: فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ [الكهف:81]، أي: من ذلك الغلام الذي سينشأ على الكفر والطغيان ويحمل أبويه على ذلك.

خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً [الكهف:81]، أي: طهارة وصلاحاً، زكاة نفس وطهارة روح وسلامة سلوك، وأقرب رحمة بوالديه من هذا الغلام، هذا مسوغ قتل الولد.

سبب إقامة الخضر للجدار

قال: وَأَمَّا الْجِدَارُ [الكهف:82]، والجدار الحائط، تقول: جدار وتقول: حائط، إلا أن كلمة حائط عند أهل المدينة النبوية يعنون بها: الحديقة؛ لأنها محاطة بالشجر أو النخيل أو بجدار، يطلقون لفظ الحائط على البستان، والحائط: الجدار.

وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ [الكهف:82]، لم قال هنا: (المدينة)، وهناك قال: (القرية)؟ لقد علمنا من القرآن الكريم أن القرية بمعنى المدينة، وليس بالمعنى الجغرافي المعاصر؛ لأن القرية مأخوذة من التقري الذي هو التجمع، فحيث يتجمع السكان ويكثرون وتكون هناك سلطة وسلطان ونظام وقانون تلك هي القرية وهي المدينة، واقرءوا: وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا [الكهف:59]، هي مدن، أعني بهذا: أن يفهم السامعون والسامعات: إذا ذكر في القرآن قرية فهي مدينة، وحسبكم: أُمَّ الْقُرَى [الأنعام:92]، من هي أم القرى؟

مكة، أم الحواضر والعواصم في العالم؛ لأنها في وسط الدنيا، لو كانت الدنيا جسم إنسان لكانت مكة هي السرة.

إذاً: وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ [الكهف:82]، المعروفة المعهودة وهي أنطاكية، ولعلها من أعمال الشام أو تركيا، والآن تسمى أنطاكية.

وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَهُمَا [الكهف:82]، كنز تحت ذلك الجدار، ما هذا الكنز؟ إذا أطلق لفظ الكنز في العربية وفي اصطلاح القرآن فيراد به الذهب والفضة، الكنز إذا أطلق ينصرف في الدلالة اللغوية على أنه الذهب والفضة، لكن القصاص وأخبار بني إسرائيل تذكر أن هذا الكنز هو عبارة عن لوح، وكانوا يكتبون في الألواح، وهذا اللوح اشتمل على حكم وعلوم ومعارف، وما دام القرآن ما أشار إلى هذا وصرح بالكنز ونبينا صلى الله عليه وسلم لم يقل: وجد فيه لوح تضمن من العلوم والمعارف كذا وكذا، فحمل اللفظ على ظاهره أسلم من الوقوع فيما لا نعلم وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَهُمَا [الكهف:82]، أي: للغلامين.

وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا [الكهف:82] وهنا نقف طويلاً، وكان وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا ، هل أبوهما بنى الجدار أو جدهما ما دام تعالى يقول: أَبُوهُمَا [الكهف:82]، فهو الأب الوالد، ولا نقول: الجد الخامس كما تقول أحاديث القصاص، لا داعي إلى هذا.

الصالح: هو عبد أدى حقوق الله تعالى كاملة، وأدى حقوق العباد كذلك كاملة، لم يطالبه الله بشيء ولم يطالبه الناس بآخر، هذا العبد الصالح، أدى ما لله عليه، من: إيمان، وحب، وطاعة و.. و..، وأدى الحقوق للناس من زوجة، إلى ولد، إلى جار، إلى قريب، إلى بعيد، إلى كافر، كل من له حق عليه يؤديه، وحق الكافر على المؤمن أن يرشده إلى الإيمان، وفي القرآن الكريم من سورة الأعراف، يقول تعالى: إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ [الأعراف:196].

إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ أي: القرآن.

وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ فما من عبد رجلاً كان أو امرأة، حراً أو عبداً، صلح، وأصبح يحمل هذا اللقب الصالح إلا والله عز وجل يتولاه، ولا يخذله ولا يتركه بحال من الأحوال؛ لأنه يتولى الصالحين.

يا عبد الله كن صالحاً تظفر بولاية الله تعالى لك.

وفي القرآن الكريم يقول تعالى: إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا [فصلت:30]، هؤلاء هم الصالحون.

قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا [فصلت:30]، على منهج الله، هؤلاء: تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ [فصلت:30] عند الموت، وأبشروا أيها الصالحون، إن يوماً تشاهدون فيه الملائكة، تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ [فصلت:30]، تحمل البرقية التالية: أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ [فصلت:30-31]، يتولونهم بعد موتهم في أزواجهم وأولادهم.

وهناك عمر بن عبد العزيز الخليفة الراشد رحمه الله تعالى ورضي عنه، وهو حفيد لـابن الخطاب رضي الله تعالى عنهما، لما حضرته الوفاة ودنا أجله ولم يعش في الخلافة إلا سنتين وبعض الشهور، لما ولي الخلافة حدث عجب، شاهد رعاة الأغنام في صحراء العراق والشام والحجاز أن الذئاب ما أصبحت تعدو على الغنم، يأتي الذئب ويدخل مع الغنم ويخرج ولا يمسها، لما مات عمر رضي الله عنه عادت الذئاب إلى عاداتها تفترس الغنم، فتساءلوا، فأعلموا أنه يوم كذا ولي الخلافة عمر فعدل في الناس، ويوم مات حصل الذي حصل، عمر رضي الله عنه لما حضرته الوفاة جاءه من يقول له: انظر إلى أولادك إنهم صبية صغار أكثر من عشرة أولاد، فأوص لهم بشيء من هذا المال، والذي قال له هكذا ناصح له، أولاد صغار تتركهم، أوص لهم من هذا المال، فقال: أولادي بين أمرين: بين أن يكونوا فاسقين، فلا أساعدهم على فسقهم أبداً، وبين أن يكونوا صالحين، فالله يتولاهم؛ لأنه يتولى الصالحين.

هذا هو الواقع، أطفالك سيكبرون بعد موتك، فإما أن يكونوا فسقة فجرة فكيف تساعدهم على الفسق والفجور؟ وإما أن يكونوا صالحين فالله يتولاهم، ما هم في حاجة إلى مالك، المال مال الله والله الذي يتولاهم، هل رأيتم هذا الدرس من عمر بن عبد العزيز ؟!

هذا عمر قبل أن يكون خليفة للمسلمين كان والياً على المدينة لعمه وصهره عبد الملك بن مروان ، إذ زوجه ابنته فاطمة ، وقد حدثتكم عن فاطمة ، وأنا أنجذب إلى هذه العجائب واللطائف، عرفتم من فاطمة هذه؟ والله لو جمعتم نساءكم الجامعيات اللائي تفاخرون بهن، واجتمعن كلهن ما كن مثل فاطمة ، جاء والدها الخليفة يحج فحج ونزل المدينة زائراً، فدخل بيت عمر ابن أخيه فسأل فاطمة : كيف عيشتكم يا فاطمة ؟! ما هو جوابها؟ قالت: عيشتنا الحسنة بين السيئتين يا أبتاه!

ما السيئتان؟ وما هي الحسنة؟ أرادت أن تقول: عيشتنا وسط بين الإقتار والإسراف؛ نظراً إلى قول الله تعالى في عباد الرحمن جعلنا الله منهم، قولوا: آمين؛ عسى الله أن يستجيب لنا، اللهم اجعلنا من عباد الرحمن، قال تعالى في وصفهم: وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا [الفرقان:67].

نعود إلى السياق الكريم، قال الخضر عليه السلام لموسى عليه السلام وهو يبين له تأويل الأحداث العظام التي تمت وما أطاقها موسى، قال: وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ [الكهف:82]، واليتيم من فقد أباه بالنسبة إلينا نحن البشر، ومن فقد أمه بالنسبة إلى الحيوان، لنفهم هذا.

وَكَانَ أَبُوهُمَا [الكهف:82]، ليس بجد ولا جد جد، إذ النص يتلاءم مع هذا، وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا [الكهف:82]، وقد عرفنا أن الصالح ما هو بالمسبحة والعمامة الخضراء فقط؛ لأنا عشنا دهراً ما نعرف الأولياء إلا صاحب المسبحة والعمامة الخضراء، وأن هذا ولي الله ومن الصالحين.

الصالح: عبد أدى حقوق الله تعالى كاملة، وأدى حقوق عباده كذلك كاملة، لا يطالبه الله بشيء ولم يطالبه إنسان: زوجة ولا ولد ولا جار ولا قريب ولا بعيد بشيء، هذا الصالح، اللهم اجعلنا من الصالحين، اللهم اجعلنا من الصالحين.

إذاً: الله تعالى راعى لليتيمين صلاح أبيهما، فأمر عز وجل الخضر أن يقيم الجدار حتى يكبر الولدان ويبلغا أشدهما بلوغ الرجولة والعقل ويستخرجا كنزهما، لا شك أن عندهما صكاً محفوظاً أيضاً في المنزل، فإذا كبرا وأصبحا رجلين هدما الجدار أو نقبا الجدار واستخرجا الكنز، وكان الناس قديماً عاصرناهم يدفنون كنوزهم تحت الجدران، أنتم أحداث ما أدركتم هذا، أعطوني أصحاب الستين يعرفون هذا، وكم من إنسان يشتري منزلاً خرباً وعندما يقوم بتجديده يعثر على كنز؛ لأنه في ذلك الوقت ما كانت توجد بنوك تحفظ الأموال، إنما كان الناس يكنزون أموالهم ويخبئونها في بيوتهم.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , قصة الخضر مع موسى عليه السلام للشيخ : أبوبكر الجزائري

https://audio.islamweb.net