إسلام ويب

الحياة الدنيا دار ممر لا دار قرار، ولذلك فعلى المؤمن أن يتقلل منها ما استطاع وفي جميع شئونها، ومن ذلك المآكل والمشارب، فإن الإكثار منها مذموم في الدنيا والدين، وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من كثرة الشبع والأكل، وكان عليه الصلاة والسلام لا يأكل إلا ما يقيم به صلبه، وكذلك كان صحابته وأحبابه رضي الله عنهم وأرضاهم.

التحذير من كثرة الشبع والانشغال بالبطون

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

كان أئمتنا يبينون ويقررون أن الحر والذكي والعاقل هو الذي يجوع ويشبع، ولا يدمن على الشبع؛ لئلا يصبح في نفسه من الآفات ما يعجز عن ضبط نفسه معه، أي: عندما يشبع ويكثر من ألوان الطعام.

يقول شيخ المسلمين في زمنه الإمام عبد الله بن المبارك عليه رحمة الله:

ومن البلاء وللبلاء علامةٌ ألا يرى لك عن هواك نزوع

العبد عبد النفس في شهواتهاوالحر يشبع تارةً ويجوع

نعم، إن العبد هو عبد النفس الذي يطلق لها العنان لأجل أن ترتع في الشهوات كما تريد، والحر هو الذي يضبط نفسه فيجوع تارةً ويشبع أخرى.

كم من إنسانٍ أشبع شهوته بواسطة الشبع، فخرج عن العقل وعن حدود الإيمان.

رب شهوة تعري ستره فانتهك، صاحب الشهوة عبدٌ، فإذا ملك الشهوة أضحى ملكاً.

إن الشهوة عندما تنتشر في الإنسان بواسطة الطعام والشراب والتخليط في ذلك، ويسير على حب هذه الشهوة فليس بعد هذه المهانة مهانة.

نون الهوان من الهوى مسروقةٌفإذا هويت فقد لقيت هوانا

إن الهوان هو الهوى قلب اسمهفإذا هويت فقد لقيت هوانا

فعندما يهوى الإنسان ويسير على حسب دافع الشهوة التي تأججت في جسمه بواسطة التخليط في الطعام والشراب، يحصل له أعظم الهوان في هذه الحياة وبعد الممات.

أخي الكريم! لقد ابتلاك الله جل وعلا بهذا البطن، وهذا البطن هو الذي يميز أجناس الناس، بهذا البطن يتميز الطيب من الرديء الخبيث الخسيس، بهذا البطن يتميز المؤمن عن الكافر، يتميز الصادق عن الفاجر، فالمؤمن لا يدخل إلى بطنه إلا شيئاً حلالاً بمقدار الحاجة، وغير المؤمن يدخل إلى بطنه ما تيسر له أن يدخله من أي طريقٍ كان، ثم لا يتقيد بمقدار الحاجة.

أخي الكريم! الله جل وعلا عندما جعل لك هذا البطن يسر لك ربنا جل وعلا الحلال الذي إذا أدخلته إلى هذا البطن حفظت صحتك، وقمت بالغاية التي من أجلها خلقت، وهي عبادة الله جل وعلا، وأقل شيءٍ يكفيك، والله جل وعلا لتكون عبداً له حقاً، ولتكون حراً من عبودية غيره يسر لك الطعام والشراب الحلالين من طرقٍ ميسورةٍ إذا أردت مقدار الضرورة ما تملأ به بطنك، فأنت عندما أمرك الله بعبادته، وعلم أنه عندك بطنٌ ولك حاجة يسر لك ما تملأ هذا البطن، لكن لا يشترط أن نملأ البطن من الحلويات ولا من اللحوم ولا من الخضار والفواكه، فقد يسر لك ما تملأ به بطنك من طريقٍ حلال؛ لئلا يتحكم أحدٌ من خلق الله في رزقك، يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ [العنكبوت:56].

أهم ما يحتاجه الكائن الحي في هذه الحياة هو الهواء، وهو مبذولٌ للإنسان ولسائر المخلوقات بلا ثمن، بل بلا كلفة، بل بلا شعور، أنت تأخذ الهواء وتخرج بعد ذلك غاز ثاني أكسيد الكربون عن طريق عملية الزفير والشهيق، دون عناءٍ ودون كلفةٍ ودون شعور، وهذه أعظم نعمةٍ امتن الله بها عليك من هذه النعم الحسية، الهواء هو عماد الحياة بلا ثمنٍ ولا كلفة، يليه الماء، وحاجته تأتي بعد الهواء على الترتيب، فجعله الله مبذولاً بلا ثمن، وإن كان يحتاج إلى شيءٍ من الكلفة اليسيرة، كأن تغترف بيديك، أو أن تستقي بفمك.

وأما الطعام فالبطن كما قال أئمتنا: وعاءٌ لا يُعرف، لو وضعت في بطنك ورق الشجر، ولو وضعت في بطنك الحشيش والبقل، أو وضعت فيه اللحم ما أحدٌ يميز ماذا في بطنك، وبإمكانك أن تعيش على هذا وعلى هذا، فالقوت الضروري إذا أردت أن تقتصر عليه، فهو يسيرٌ مبذول، وإن كان يحتاج إلى شيءٍ من الكلفة والجهد منك أكثر من الكلفة التي تبذلها في شرب الماء؛ لأن حاجتك إلى الماء أكثر من الطعام، فهناك بذل بلا ثمنٍ مع كلفةٍ يسيرة، أما الطعام فيحتاج إلى تعبٍ قليل تحصل القوت الضروري، وقد قال أئمتنا: من قنع بالخبز لم يستعبده أحد، ورغيف الخبز تحصيله أمرٌ يسير، فبإمكانك أن تحصل هذا الرغيف، ثم تتفرغ بعد ذلك لعبادة ربك اللطيف سبحانه وتعالى.

إذاً: ما اشتدت حاجتك إليه جعله الله مبذولاً بلا ثمن وبلا كلفة، وما قلت حاجتك إليه جعله الله يحتاج إلى شيءٍ من الكلفة، والحكمة في هذا لتكون عبداً لله حقاً، ما تيسر لك أن تملأ البطن من لحمٍ وفاكهةٍ عن طريقٍ حلال، بحيث لا تصل إلى حد الشبع، فالأمر يسيرٌ يسير، لا داعي أن تتذلل لعباد الله، وأن تدخل في وظائف تغضب الله، وهذا البطن بإمكانك أن تملأه من أي شيءٍ كان، من ورق الشجر يملأ، برغيفٍ من الخبز يملأ، تشرب بعد ذلك قدحاً من الماء وكفى، والدنيا مهما طالت ظلٌ زائل، سينتهي عما قريب، وماذا أصابك إذا أكلت ورق الشجر؟ وماذا انتفعت إذا أكلت اللحم والموت سيدركك إن أكلت هذا أو ذاك، وقد أشار أئمتنا عليهم رحمة الله إلى نعمة الله علينا في توفير هذه الحاجات الضرورية بقولهم:

سبحان من خص العزيز بعزهوالناس مستغنون عن أجناسه

وأذل أنفاس الهواء وكل ذينفسٍ لمحتاجٌ إلى أنفاسه

أنفاس الهواء جعلها الله ذليلةً بلا ثمن، وكل كائنٍ حيٍ بحاجةٍ إليها، وأما الأشياء العزيزة النادرة التي لا يحتاج العباد إليها فجعلها الله غاليةً، لا يشترط في المرأة أن تلبس الحلي والزينة إذا لم تحصل هذا من طريقٍ حلال، ولم ينقص قدرها ولا مقدارها لا في الدنيا ولا في الآخرة، فإذا كانت هذه الزينة لا تحصل إلا من طريقٍ حرام فلتدعها، فهي عزيزةٌ غاليةٌ نفيسةٌ لا تحصل إلا بثمنٍ وكلفة، وإذا أمكن تحصيل هذا من طريقٍ حلال فتتركه، وعبادة الله تتم دون أن تحصل هذه الزينة، وهكذا الإنسان ما أمكنه أن يحصل الملابس الرفيعة الذكر، ولا أن يحصل الأطعمة اللذيذة، فبإمكانه أن يحصل القوت الضروري من أي طريقٍ كان عن طريقٍ حلال، ثم يفرد بعد ذلك ربه بالعبادة فلا يتحكم أحدٌ في شئون حياته.

هذا حال المؤمن، وأما غير المؤمن فيجعل معبوده بطنه، وقد أشار أئمتنا عليهم رحمة الله في العصر الأول إلى الحالة الرديئة التي نعيش فيها في هذه الأيام.

انشغال الناس بمآكلهم ومشاربهم ونسيانهم عبادة ربهم

إخوتي الكرام! والله لو قال الإنسان: إن بالمائة تسعين من البشرية في هذا الوقت على أقل تقديرٍ يعبدون بطونهم لما بالغ، المعبود والهمة هو هذا البطن، فالرجل يسعى في الحياة كما تسعى الوحوش في البرية من أجل أن يجمع الدراهم، والنساء في البيوت من الصباح إلى المساء في زينة الدنيا والإعداد لها، والوظيفة التي خلقوا من أجلها هم عنها غافلون، التقي فيهم يصلي بمقدار لا أقول: خمس دقائق، إنما بمقدار دقيقتين، ثم يمن على الله بهاتين الدقيقتين، وبقية أوقاته يلهث وراء شهوات الدنيا وحظوظها وعروضها، لماذا أيها الإنسان؟ هذا هو المعبود الأول الذي من أجله خلقت، رحمة الله على العبد الصالح صفوان بن سليم الذي توفي سنة اثنتين وثلاثين ومائةٍ للهجرة، أدرك ابن عمر وجابر بن عبد الله ، وأنس بن مالك ، وغيرهم من الصحابة الكرام، وروى عنهم وهو من التابعين الأبرار، صفوان بن سليم ، يتحدث عن حالنا في القرن الثاني، يتحدث عن حالنا وكأن الله أطلعه على حالنا من فكرٍ رقيق، يقول: ليأتين على الناس زمان همة أحدهم بطنه، ودينه هواه، لا هم له في هذه الحياة إلا أن يملأ البطن، وأن يتجشأ بعد ذلك تجشؤ البقر، والدين الذي بعد ذلك يسيره في هذه الحياة هو ما يهواه، أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا [الفرقان:43].

تأمل كلام هذا العبد الصالح في أحوال الناس، همة أحدهم بطنه، ودينه هواه، هذا كلام صفوان بن سليم ، أخرج حديثه أهل الكتب الستة، قال عنه الحافظ الذهبي في تذكرة الحفاظ: ثقةٌ حجةٌ من أعلام الهدى، قال سفيان بن عيينة رضي الله عنه ورحمه الله وموتى المسلمين أجمعين: حلف صفوان بن سليم ألا يضع جنبه على الأرض، فمكث أربعين سنةً ما وضع جنبه على الأرض، ولا استلقى على فراش، إنما كان ينام قاعداً إذا غلبه النوم، ولما احتضر واشتد به النزع قالت له ابنته: يا أبتاه! لو استلقيت على الفراش؟ فقال: إذاً لا أوفي بنذري، لا أضع جنبي على فراشٍ حتى ألقى الله، يقول العبد الصالح الإمام المبجل أحمد بن حنبل عليه رحمة الله: بذكر صفوان بن سليم يرضى رب الأرض والسماء، وعند ذكره ينزل القطر من السماء. إذا ذكر هذا العبد الصالح فالله جل وعلا يرضى، ويغيث العباد؛ لأن محبة الصالحين وذكر مناقبهم من أجل ما يتقرب به العباد إلى رب العالمين، يقول الإمام أحمد : يستشفى بحديث صفوان بن سليم ، وينزل قطر السماء عند ذكره، ولا غرو في ذلك، فعند ذكر الصالحين تنزل الرحمة، كما قال سفيان بن عيينة كما في مسائل الإمام أحمد لـأبي داود في صفحة ثلاثٍ وثمانين ومائتين، والأثر نقله ابن الجوزي عن ابن عيينةٍ في صفة الصفوة في الجزء الأول صفحة خمسٍ وأربعين، وذكره الإمام السخاوي في المقاصد الحسنة في صفحة اثنتين وتسعين ومائتين عند ذكر الصالحين تنزل الرحمة، وذكره الإمام القاري في كتابه المسموع، وفي كتاب الأسرار المرفوعة، قال: عند ذكر الصالحين تنزل الرحمة.

هذا العبد الصالح صفوان بن سليم يتحدث عن حالنا فيقول: ليأتين على الناس زمان همة أحدهم بطنه، ودينه هواه، كان رضي الله عنه إذا دخل مسجد النبي عليه الصلاة والسلام وأراد أن يخرج يبكي، يقول: أخشى أن أخرج ولا أعود إلى مسجد النبي عليه الصلاة والسلام، ولما حج وكان في محمل، والمحمل صندوقٌ يوضع على البعير، واحدٌ في جانب والآخر في الجانب الثاني، فيجلس في كل صندوقٍ رجلٌ ليتعادل وهما على ظهر البعير، يقول الذي يجلس في المحمل الثاني: ما نام صفوان بن سليم في طريقه إلى مكة ذاهباً ولا آيباً، ولا وضع جنبه في هذا المحمل، إنما كان جالساً يذكر الله، ولما حج سليمان بن عبد الملك ، وصلى في مسجد النبي عليه الصلاة والسلام، وكان عمر بن عبد العزيز أميراً على المدينة في عهد سليمان بن عبد الملك ، فبعد أن سلم سليمان نظر في الحاضرين فرأى نور هذا العبد الصالح صفوان بن سليم فقال لـعمر بن عبد العزيز : من هذا؟ قال: هذا صفوان بن سليم ، فأعطى سليمان بن عبد الملك لحاجبه خمسمائة دينار، وقال: اذهب بها إلى صفوان بن سليم ، وأعطها إياه ليستعين بها على أمور دينه ودنياه، وكان صفوان بن سليم يصلي نافلةً، فجاء هذا الحاجب ووقف بجواره، فلما سلم قال: أنت صفوان بن سليم ؟ قال: نعم، قال: هذه خمسمائة دينارٍ أرسلها إليك الخليفة سليمان بن عبد الملك ، قال: وقد سماني؟ قال: نعم، قال: لعله أراد غيري؟ قال: لا، قال: اذهب فتأكد منه، فإذا كنت أنا المقصود أخذتها، قال: أتركها عندك حتى أسأله ثم أخبرك، قال: إذا أخذتها منك فقد أخذتها، فكيف بعد ذلك ستأخذها مني إذا لم أكن صاحبها؟ خذها معك واذهب إليه، فإذا كنت أنا المقصود أخذتها، فلما أخذ الكيس وانصرف إلى الخليفة التفت صفوان بن سليم وراءه وأسرع في الذهاب، ثم توارى في تلك الأيام، وما خرج من بيته حتى غادر سليمان بن عبد الملك المدينة المنورة.

حال النبي صلى الله عليه وسلم في معيشته في مأكله ومشربه وتركه للشبع طوال حياته

إخوتي الكرام! وإذا كان الأمر كذلك فيحسن بنا أن نستعرض حال النبي عليه الصلاة والسلام في معيشته فهو أسوتنا وقدوتنا عليه صلوات الله وسلامه وفداه آباؤنا وأمهاتنا، وأن نعرج على حالة سلفنا الكرام في معيشتهم فيما يتعلق بملء بطونهم وأكل طعامهم، ثم بعد ذلك ننظر إلى أحوالنا التي نتردى فيها، كان نبينا عليه الصلاة والسلام يأخذ من الطعام بمقدار الضرورة، وانظروا لحاله في معيشته وأكله عليه صلوات الله وسلامه، وهو خير خلق الله عليه صلوات الله وسلامه.

ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: (ما شبع نبي الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أيامٍ تباعاً من خبز حنطةٍ حتى لقي ربه)، وكان أبو هريرة إذا حدث بهذا الحديث يشير بإصبعه كما قال أبو حازم فيقول: (والذي نفس أبي هريرة بيده! ما شبع نبي الله ثلاثة أيامٍ تباعاً من خبز حنطةٍ حتى لقي ربه)، من الخبز فقط، خبزٌ ليس معه إدام، وكل ما زاد على الخبز فهو شهوة، ولذلك الضابط بين الجوع والشبع أنك إذا كنت تشتهي مع الخبز شيئاً فلست بجائع، إنما أنت شهواني، وإذا كنت تتطلع إلى الخبز لتملأ بطنك فحقيقةً أنت جائع، فما زاد على الخبز فهو شهوة.

وثبت في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه: (أنه مر على قومٍ وعندهم شاةٌ مصلية -أي: مشوية- فدعوه إلى الطعام فامتنع، فقالوا: لماذا؟ قال: والله لقد فارق النبي صلى الله عليه وسلم الدنيا وخرج منها وما شبع من خبز الشعير)، ولا تظن أن ذلك لإعوازه وعدم تيسر الأمر له عليه صلوات الله وسلامه، فلو أراد أن تكون جبال مكة له ذهباً لكانت، لكنه اختار الدار الآخرة على هذه الدار الزائلة الفانية، خرج من الدنيا وما شبع من خبز الشعير عليه صلوات الله وسلامه.

وهذا المعنى الذي يقوله أبو هريرة رضي الله عنه عن نبينا عليه الصلاة والسلام هو المعلوم من حاله، والمستقر عند سائر الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين، ففي سنن الترمذي وقال: حسنٌ صحيح، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبيت الليالي المتتابعة وأهله طاوياً -أي: لا يجدون عشاءً- وإنما كان أكثر خبزهم من الشعير)، كان عليه الصلاة والسلام يبيت الليالي المتتابعة، وأهله كذلك طاوياً، وهم طاوون، لا يجدون عشاءً، وكان أكثر خبزهم من خبز الشعير، هذا الكلام يقوله ابن عباس رضي الله عنهما، وهو ابن عم نبينا عليه صلوات الله وسلامه.

وثبت في مسند البزار بسندٍ حسن عن عبد الرحمن بن عوفٍ رضي الله عنه قال: (خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من الدنيا ولم يشبع هو ولا أهله من خبز الشعير)، عليه صلوات الله وسلامه، والله ما حجب الله الدنيا عن السلف إلا لكرامتهم عليه، ولا فتحها علينا إلا لهواننا على ربنا جل وعلا، وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فَضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ * وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ * وَزُخْرُفًا وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ [الزخرف:33-35].

(ولولا أن يكون الناس أمةً واحدةً)، على أي شيء؟ ملةً واحدةً على أي شيء؟ على الكفر، أي: لولا أن يكفر جميع الناس لأعطينا للكافر في هذه الحياة هذه النعم ليتنعم بها، فهي جنته، لكن رحمةً من الله بعباده ما أعطى الكفار هذا المقدار خشية أن يكفر صغار العقول، (ولولا أن يكون الناس أمةً واحدةً) على الكفر جميعاً، (لجعلنا) لكل كافر (لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفاً من فضةٍ ومعارج عليها يظهرون)، (ولبيوتهم أبواباً وسرراً عليها يتكئون)، (وزخرفاً): وذهباً، (وإن كل ذلك لما متاع الحياة الدنيا والآخرة عند ربك للمتقين).

فزويت الدنيا عنهم، وخرج نبينا عليه الصلاة والسلام من الدنيا وما شبع هو ولا أهله من خبز الشعير، لكرامتهم على ربنا الجليل، فصانهم من دنس الدنيا، ولهواننا على ربنا جل وعلا فتح علينا زينة الدنيا من كل جانب، حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [يونس:24].

وقد بلغ الأمر ببعض العتاة في هذا الوقت الذين يتجشئون من الحرام لا من الحلال، أنه قال: لسنا بحاجةٍ إلى الله! وهو ممن ينتسب إلى الإسلام في البلاد الإسلامية، فإن شاء أن ينزل الغيث، وإن شاء أن يحجب المطر، عندنا بترول، نحول ماء البحر إلى ماءٍ عذب، لسنا بحاجةٍ إلى رحمة الله وإلى مطرٍ ينزله علينا! هذا حال العتاة، فهل الدنيا التي جاءت للناس في هذا الوقت وحصلوا من النعيم والله ما لم يحصله فرعون وهامان وقارون ، ليس هذا لكرامتهم على ربهم، إنما هذا لهوانهم على الله عندما استعانوا بهذه النعم على معصية الله جل وعلا، وألهتهم عن الغاية التي من أجلها خلقوا، وهذا خير خلق الله عليه صلوات الله وسلامه خبز الشعير ما ملأ بطنه منه ولا أهله، وخرج من الدنيا ولم يشبع من خبز الشعير عليه صلوات الله وسلامه.

وهذا المعنى الذي يذكره أبو هريرة وابن عباس وعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه أجمعين، حيث هو واقع الأمر كذلك، فلنسأل أمهاتنا أزواج نبينا عليه الصلاة والسلام ليخبرننا عن هذه الحقيقة.

ثبت في الصحيحين عن أمنا عائشة رضي الله عنها قالت: (ما شبع آل محمدٍ صلى الله عليه وسلم من خبز الشعير يومين متتاليين)، فإذا أكلوا خبز الشعير في اليوم الثاني يكونون جياعاً لا يحصلون خبز الشعير، فما شبعوا من خبز الشعير يومين متتاليين، وفي صحيح مسلم عن أمنا عائشة رضي الله عنها قالت: (مات النبي صلى الله عليه وسلم وما شبع من خبزٍ وزيتٍ في يومٍ مرتين).

وفي الصحيحين وغيرهما تقول لابن أختها عروة بن الزبير رضي الله عنهم أجمعين: (يا ابن أختي! إن كنا لننظر إلى الهلال ثم الهلال ثم الهلال، ثلاثة أهلةٍ في شهرين فما يوقد في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم نار، ولا يطبخ طعام، فقال عروة: وماذا كان يعيشكم يا خالة؟ ماذا كنت تأكلون؟ قالت: الأسودان)، ثلاثة أهلةٍ في شهرين ما يطبخ في بيت النبي عليه الصلاة والسلام طعام، كان طعامهم الأسودين: التمر والماء، وعادة العرب إذا جمعوا بين أمرين يغلبون واحداً منهما على الثاني فيطلقون عليهما وصفاً واحداً، فتمر الحجاز أسود، والماء أبيض، فللإخبار عن هذين الأمرين يقولون: أسودان، قالت: (غير أنه كان لنا جيران من الأنصار عندهم منائح -من النوق والشياه- فكانوا يحلبونها فيرسلون لنا أحياناً من لبنها، فكنا نطعم من ذلك)، أما نحن لا نوقد ناراً في ثلاثة أهلةٍ في شهرين.

هذا حال نبينا عليه الصلاة والسلام، وحال آل بيته الطيبين الطاهرين، ولذلك ثبت في المسند وصحيح مسلم وسنن الترمذي عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما، أنه قال للصحابة والتابعين في آخر حياته: (ألستم في طعامٍ وشرابٍ ما شئتم)، تأكلون ما شئتم، وتشربون ما شئتم، والأمور توسعت، (ألستم في طعامٍ وشرابٍ ما شئتم؟ والله لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يلتوي ما يجد دقلاً يملأ به بطنه)، عليه صلوات الله وسلامه. والدقل هو رديء التمر.

وثبت في المسند وصحيح مسلم وسنن ابن ماجه عن النعمان بن بشير ، قال: ذكر عمر بن الخطاب رضي الله عنهم أجمعين ما أصاب الناس، أي: من النعيم والسعة، فقال عمر : ( لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يظل اليوم يلتوي ما يجد دقلاً يملأ به بطنه عليه صلوات الله وسلامه).

ولما سئل سهل بن سعد كما في صحيح البخاري فقيل له: (هل أكل النبي صلى الله عليه وسلم النقي؟)ـ والنقي هو لباب البر، وهو خلاف الدقيق اليوم، (هل أكل النبي صلى الله عليه وسلم النقي؟ قال: ما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم النقي من حين ابتعثه الله حتى قبضه)، صلوات الله وسلامه عليه. فقيل له: (فكيف تفعلون بالشعير؟ قال: كنا نطحنه، ثم ننفخه -فقشر الشعير يتطاير- فما طار تركناه، وما بقي ثريناه -أي: نقعناه بالماء لأجل أن يلين حتى يختمر- ثريناه بالماء ثم عجناه وخبزناه).

حال الصحابة رضي الله عنهم في مأكلهم وتقللهم من الدنيا

هذا طعام النبي عليه الصلاة والسلام، وطعام أهل بيته وطعام الصحابة الكرام، ما رأوا النقي، ولا رأوا المناخل ولا استعملوا شيئاً من ذلك رضي الله عنهم أجمعين، وكان نبينا عليه الصلاة والسلام يعطي أحياناً للصحابة قوتاً عندما يشتد بهم الجوع، والله عندما أقرأ هذا الحديث وأتأمل حال الصحابة الكرام أقول: سبحان الله! رضي الله عنهم فأمدهم بالمعونة والقوة، ونحن عندما سخط علينا حصل في قلوبنا من الهلع والجزع ما حصل، انظروا لقوت الصحابة ما الذي كان يقيتهم في اليوم الواحد؟ يعطيهم النبي عليه الصلاة والسلام هذا القوت لأربعٍ وعشرين ساعة!

ثبت في سنن الترمذي وابن ماجه بسندٍ حسنٍ عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (أصابنا الجوع ونحن سبعةٌ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأعطانا كل واحدٍ تمرةً في يومه)، تمرة واحدة غذاؤه ليوم كامل، وهذا الأمر كان يفعل مع المجاهدين في العصر الأول، يقاتلون وقوتهم في اليوم تمرةٌ واحدة، القوت تمرة واحدة، لكن القلوب عندما تكون مع الله يقويها ويطعمها ويسقيها سبحانه وتعالى.

ثبت في صحيح مسلم عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، قال: أرسلنا النبي صلى الله عليه وسلم في سريةٍ وأمر علينا أبا عبيدة بن الجراح ، وأعطانا جراباً من تمر، هذا غذاؤنا وهذا زادنا، فكان أبو عبيدة يعطي كل واحدٍ منا في اليوم تمرة، قوت المجاهد في اليوم تمرة، إي والله، إن تلك النفوس الطاهرة التي أهانت هذه الدنيا وما ركنت إليها رضي الله عنها وأعطاها الله عز الدنيا والآخرة، فماذا خسروا عندما أكلوا خبز الشعير؟ أوليس قد أفضوا إلى رضوان الله ورحمته وجنات النعيم، وأما الذين ملئوا بطونهم عندما يعرق الواحد منا يصدر نتن من عرقه بحيث يسد الإنسان أنفه، كأنها فضلاتٌ تخرج من محل قضاء الحاجة، من التخليط في الطعام والشراب ومجاوزة حد الشبع، إذا كان الأمر كذلك فالنتن سيصاحبك في الحياة وبعد الممات، وأما أولئك فقلوبهم طاهرة، وأحياناً كانوا عندما تضمر بطونهم يضع أحدهم حجراً عليها ويشد الحجر على بطنه، وهذا فعله نبينا عليه الصلاة والسلام، والحديث في الصحيح، وفعله الصحابة الكرام من كثرة الجوع البطون تضمر، وإذا ضمر البطن سيسقط؛ لأن بطنه يتجوف، والذي يحمل الرجلين هو البطن، وليست الرجلان تحملان البطن، الرجلان محمولتان بالبطن، ولذلك إذا تجوف البطن يخر الإنسان على وجهه، فلأجل ألا يخر يضع صفائح الحجارة على بطنه ويشد بطنه عليها، ليستقيم بطنه، وكانوا أيضاً يضعون الحجارة على بطونهم لأن الجائع يشعر بحرقةٍ شديدةٍ وحرارةٍ تلتهب في جوفه، فكان يأخذ الحجارة وفيها برودةٌ فيضعها على بطنه ويشد بطنه عليها، هؤلاء خير أمةٍ أخرجت للناس، فتحوا الدنيا والحجارة على بطونهم، وزاد المجاهد عندهم تمرةٌ واحدة، رضي الله عنهم ورضوا عنه، أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [المجادلة:22].

تقول أمنا عائشة رضي الله عنها في العام السابع للهجرة قبل وفاة نبينا عليه الصلاة والسلام بثلاث سنين كما في صحيح البخاري : (لما فتحت خيبر قلت: الآن نشبع)، من أي شيءٍ ستشبعين يا أيتها الأم المباركة رضي الله عنك وأرضاك؟ هل من الحلويات أو من اللحوم والشحوم؟ قالت: (لما فتحت خيبر قلت: الآن نشبع من التمر)، أما نحن الآن فكل يوم نأخذ كيساً من التمر، مع غيره من المأكولات والمشروبات، وحقيقةً بيتٌ فيه تمرٌ لا يجوع أهله، و(بيتٌ لا تمر فيه جياعٌ أهله)، كما ثبت هذا عن نبينا عليه الصلاة والسلام في صحيح مسلم ، فأمنا عائشة رضي الله عنها تتطلع بعد موقعة خيبر تقول: الآن تأتينا الخيرات ونشبع من التمر، هذا التمر الذي كان سلفنا يتمنون أن يكون عندهم ليشبعوا منه ويملئوا بطونهم على حسب الحاجة، صار عندنا مبتذلاً متروكاً نريد بعد ذلك حلوياتٍ منكرة تأتي من شرقٍ أو غرب بأثمانٍ باهظة؛ لأن القلوب غضب عليها علام الغيوب، الطعام الحلال ما صار ينفعها لا تريد إلا طعاماً قذراً نجساً، حلويات مصنوعة في بريطانيا أو في أمريكا، الكيلو بثلاثين أو بأربعين أو بخمسين ريالاً، أما التمر الذي الكيلو منه بثلاثة دراهم هذا الآن أصبح طعام الفقراء والمساكين، عنده ضيف هل يضيف الناس على تمر؟ هذا نقص ومذلةٌ أمام الناس، ينبغي أن يضيف الناس من الحلويات الشرقية والغربية؛ لأن القلوب نجسة خبيثة دنسة، ما عاد ترضى بالحلال ولا تقتصر عليه ولا تفرح به، والذي يأتي من حرامٍ ينفق في حرام؛ لأنه لما أخذ المال من غير حله سيضعه بعد ذلك في غير حقه.

وقال ابن عمر كما في صحيح البخاري : والله ما شبعنا من التمر إلا بعد أن فتحت خيبر. أما قبل ذلك ما شبعنا منه، أحياناً نأخذ تمرةً، وأحياناً لا نجدها، هكذا كانت عيشة نبينا عليه الصلاة والسلام وأصحابه، فلا بد من مراعاة هذه البطن، من ضبط بطنه ضبط دينه، صوموا تصحوا، لعلكم تتقون، الأخلاق الرديئة والأخلاق الرذيلة.

الفرق بين أكلة المؤمن وأكلة الكافر

كان نبينا صلى الله عليه وسلم يبين في أحاديثه الصحيحة أن العناية بالبطن هي أكبر فارقٍ بين المؤمن والكافر، بين المؤمن والمنافق، فاستمعوا إلى حديث النبي عليه الصلاة والسلام.

ثبت في الصحيحين وسنن الترمذي وغير ذلك من كتب الحديث عن عبد الله بن عمر وأبي هريرة رضي الله عنهم أجمعين، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (المؤمن يأكل بمعي واحد، والكافر يأكل في سبعة أمعاء)، وفي روايةٍ: (والمنافق يأكل في سبعة أمعاء)، وفي روايةٍ: (والفاجر يأكل في سبعة أمعاء)، وفي روايةٍ في الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه: (المؤمن يشرب بمعي واحد، والكافر يشرب في سبعة أمعاء)، هذا فارقٌ بين المؤمن والفاجر المنافق الكافر.

وثبت في حديث أبي هريرة كما في الصحيحين: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أضاف رجلاً نزل عليه، وكان هذا الرجل كافراً من الأعراب، فحلب له النبي عليه الصلاة والسلام شاةً ثم شاةً ثم شاةً إلى سبع شياه، فشرب لبنها، ففي اليوم الثاني أسلم فحلب له شاةً فشرب لبنها، فحلب الثانية فما استطاع أن يشرب لبنها، فقال عليه الصلاة والسلام: المؤمن يأكل بمعي واحد، والكافر يأكل في سبعة أمعاء)، وثبت الحديث من رواية ابن عمر ، وفيه عن نافع مولى ابن عمر ، قال: كان ابن عمر لا يأكل وحده، فكان إذا أراد أن يأكل يقول: يا نافع ! اطلب لي مسكيناً فقيراً ليأكل معي، يقول: فأدخلت عليه مسكيناً، فكان كلما قدم له شيئاً أكله، فبعد أن انتهى قال: يا نافع ! لا يدخل عليّ هذا مرةً أخرى، سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (المؤمن يأكل بمعي واحد، والفاجر يأكل في سبعة أمعاء)، لا أرى صفات المؤمنين في هذا الإنسان الذي عنده شراهةً في الطعام ونهم، كلما أقدم له شيئاً يأكله، وهذا الحديث له طرقٌ كثيرة رويت عن أبي موسى الأشعري وأبي سعيد الخدري وأنس بن مالك وميمونة وعن عدةٍ من الصحابة الكرام زادوا على العشرة، ومن تأمل طرقه يجزم بتواتره، فهي علامة فارقةٌ بين المؤمن والفاجر، بين المؤمن والمنافق، بين المؤمن والكافر، أن المؤمن يأكل في معي واحد، والكافر يأكل في سبعة أمعاء.

كراهة النبي صلى الله عليه وسلم للسمن وانتفاخ البطن

كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا رأى سميناً في أصحابه يغتاظ ويتغير، ويشير إلى بطن السمين ليغير هذه البطن التي انتفخت أمامه، ثبت في مسند الإمام أحمد ومستدرك الحاكم بسندٍ صحيحٍ أقره عليه الذهبي ، والحديث رواه الإمام الطبراني في معجمه الكبير عن جعدة الجشمي رضي الله عنه، وكما قلت: إن الحديث صحيح، وفيه (أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً عظيم البطن، فقال عليه الصلاة والسلام بيده إلى بطنه: لو كان هذا -أي: هذا العظم والانتفاخ- في غير هذا لكان أحسن)، أي: هذا الانتفاخ وهذا السمن وهذا الكبر لو كان في دينك، في قلبك، في عقلك، لكان حسناً، أما البطن فلا ينبغي أن تنتفخ.

والله تعالى يكره العبد السمين، وقد ورد في التوراة: (إن الله يبغض الحبر السمين) أخبر بذلك كعب الأحبار عن التوراة، وأخبر بذلك مالك بن دينار كما في الحلية، قال: قرأت في الكتاب الأول في الحكمة في التوراة: أن الله يكره الحبر السمين، وهو العالم السمين يكرهه الله ويبغضه.

وثبت في تفسير الطبري عن سعيد بن جبير : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـمالك بن الصيف ، وهو من أحبار اليهود وكان سميناً، قال له النبي عليه الصلاة والسلام: (أنشدك الله! هل قرأت في التوراة: أن الله يكره الحبر السمين؟ فقال مالك بن الصيف : ما أنزل الله على بشرٍ من شيء. فأنزل الله جل وعلا قوله في سورة الأنعام: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ [الأنعام:91]).

يقول سلمة بن سعيد ، وهو من رجال سنن النسائي ، قال عنه ابن حبان : كان من خيار الصالحين في زمانه، يقول: إن كان الرجل ليعير في العصر الأول بالبطنة كما يعير بالذنب. إذا زنى أو شرب الخمر أو سرق يعير، وكذلك إذا انتفخ بطنه يعير.

تحذير النبي صلى الله عليه وسلم من الشبع وبيانه لأضراره ومخاطره

كان نبينا صلى الله عليه وسلم يحذر من الشبع، ومن التخليط في الألوان، وإذا شعر من الصحابة تساهلاً في هذا أخبرهم أن العذاب شديدٌ شديدٌ عند الرحمن، وأن الأهوال ستستقبلهم ويشيب لها الولدان، فلا داعي للاسترسال في الطعام وفي الشراب.

ثبت في سنن الترمذي وابن ماجه وشعب الإيمان للبيهقي بسندٍ حسنٍ عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: ( تجشأ رجلٌ في مجلس النبي صلى الله عليه وسلم )، أي: من كثرة امتلائه بالطعام، وما أكثر من يتجشأ! ثم يتثاءب، والتثاؤب من كثرة الطعام والكسل الذي حصل في البدن، لما امتلأت المعدة حتماً الأبخرة المتصاعدة سطلت الدماغ وصار بليداً، فلذلك تراه يفتح فمه طولاً وعرضاً، ثم بعد ذلك يخرج هذه الأصوات المزعجة، تجشأ في مجلس النبي عليه الصلاة والسلام، فقال: (يا هذا! كف عنا جشاءك، فإن أكثركم شبعاً في هذه الحياة أطولكم جوعاً يوم القيامة)، والحديث رواه الطبراني أيضاً من رواية عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، لكن في الإسناد ضعف، وسند رواية ابن عمر في درجة الحسن، ورواه الإمام الحاكم في مستدركه لكن فيه ضعفاً، ولذلك تعقبه الذهبي والمنذري ، لكن قال الإمام المنذري : رواه البزار بإسنادين أحدهما ثقات، ورواه الطبراني في الكبير وفي معجمه الأوسط، وهكذا رواه الإمام البيهقي وابن أبي الدنيا عن وهب بن عبد الله السوائي ، قال: (أكلت ثم جئت إلى مجلس النبي عليه الصلاة والسلام فتجشأت، فقال: كف عنا جشاءك، فإن أكثركم شبعاً في هذه الحياة أطولكم جوعاً عند الله يوم القيامة).

يقول وهب بن عبد الله السوائي : والله ما شبعت بعد ذلك من ثلاثين سنة، وكنت لا آكل إلا مرةً واحدةً في اليوم، فإذا تغديت لا أتعشى، وإذا تعشيت لا أتغدى، هذا وهب بن عبد الله السوائي ، الذي كان علي رضي الله عنه يلقبه بـوهب الخير ، وكان مسئولاً على شرطة الكوفة في عهد علي رضي الله عنه.

وقد ثبت بمعنى هذا الحديث أحاديث كثيرة: منها ما رواه الطبراني في معجمه الكبير بسندٍ حسن عن ابن عباس رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن أهل الشبع في الدنيا هم أهل الجوع غداً يوم القيامة)، والحديث رواه ابن ماجه ، والإمام البيهقي عن سلمان الفارسي رضي الله عنه، وفي إسناده سعيد بن محمد الوراق من رجال الترمذي وابن ماجه ، وفيه ضعف ويشهد له الأحاديث المتقدمة، وفيه أن سلمان الفارسي رضي الله عنه أكره على طعام، أي: بعد أن شبع، فقال: حسبي ما سمعت من النبي صلى الله عليه وسلم، سمعته يقول: (إن أهل الشبع في الدنيا هم أهل الجوع يوم القيامة).

إذاً: إخوتي الكرام! الفارق بين المؤمن والفاجر، بين المؤمن والمنافق، بين المؤمن والكافر، هو هذا البطن، فالمؤمن يأكل في معي واحد، والكافر يأكل في سبعة أمعاء، فالصيام يعلمنا أن نراعي بطوننا، وأن نضبطها، ( صوموا تصحوا )، لعلكم تتقون الأخلاط الرديئة والأخلاق الرذيلة، وليحصل لكم التقوى لربكم جل وعلا.

أهل السنة يتقون الله في شهواتهم ويحذرون الأهواء والبدع

إخوتي الكرام! من علامات أهل السنة الكرام أنهم يتقون الله في شهواتهم، ويحذرون من الأهواء والبدع، ويضبطون بطونهم كما يضبطون نفوسهم، فلا شهوات في النفوس، ولا شهوات في البطون، قال الحسن البصري عليه رحمة الله كما في سنن الدارمي في المقدمة: سننكم والله بين الغالي والجافي. أي: سنن النبي عليه الصلاة والسلام التي أمرنا باتباعها بين الغالي والجافي، وإن أهل السنة كانوا أقل الناس فيما مضى، وهم أقل الناس فيما يأتي، لم يذهبوا مع أهل الترف في ترفهم، ولا مع أهل البدع في بدعهم، فما صرفوا أوقاتهم لملء بطونهم، ولا مع أهل البدع في بدعهم، بل حافظوا على الحق حتى لقوا ربهم، فكذلك فكونوا رحمكم الله. انتهى كلام الحسن البصري كما قلت في سنن الدارمي في الجزء الأول صفحة ثلاثٍ وسبعين.

فأهل السنة لم يذهبوا مع أهل الترف في ترفهم، ولا مع أهل البدع في بدعهم، بل ضبطوا بطونهم، ولم يتصفوا بشيءٍ من الأهواء والبدع، وأما من عداهم كحال بعض العباد الزاهدين في هذه الأيام إذا ضبط بطنه فقد وقع في كثيرٍ من البدع.

وهناك صنفٌ ثانٍ لعله أسوأ من هذا: ترك البدع وحذر منها لكنه شيطانٌ ماردٌ في الشهوات، فيما يتعلق ببطنه، وفيما يتعلق ببيته، فترى لسانه لا يفتر من التحذير من البدع، لكنه منغمسٌ في الشهوات والترف، ولا ينتبه إلى حاله، وهناك صنفٌ ثالثٌ جمع بين البليتين: شهواتٌ، وأهواء، وأهل السنة هم القليل القليل في كل وقت، لم يسيروا مع أهل الترف في ترفهم، ولا مع أهل البدع في بدعهم، ولذلك إذا ضبط الإنسان بطنه ضبط دينه، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:183]، الأخلاط الرديئة، والأخلاق الرذيلة، وليحصل لكم وصف التقوى، ونعم تلك الخصلة الجليلة.

وكنا قد ذكرنا حديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي رواه الإمام الطبراني في معجمه الأوسط، وأبو نعيم في كتاب الطب عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اغزوا تغنموا، وصوموا تصحوا، وسافروا تستغنوا)، وبينت قيمة هذا الحديث، والشاهد منه أن الصيام يكسب الأبدان صحةً ونشاطاً، والقلوب عزيمةً وقوة، ويجعل الإنسان كامل الإيمان.

إخوتي الكرام! وكنا نستعرض هدي النبي عليه الصلاة والسلام فيما يتعلق بأمر الطعام والشراب، وفي المنهج الذي رسمه للصحابة الكرام ولهذه الأمة إلى يوم القيامة، فاستعرضت بعض الأحاديث المتقدمة، ومنها كما في رواية الإمام أحمد ومستدرك الحاكم ومعجم الطبراني ، عن جعدة الجشمي رضي الله عنه وهو صحيح: (أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً عظيم البطن، فأشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى بطنه وقال: لو كان هذا -أي: السمن والانتفاخ والعظم- لو كان في غير هذا لكان أحسن)، ثم ذكرت بعد ذلك حديث من تجشأ في مجلس النبي عليه الصلاة والسلام وهو وهب بن عبد الله السوائي ، ويكنى بـأبي جحيفة رضي الله عنه، فقال له النبي عليه الصلاة والسلام: (كف عنا جشاءك، فإن أكثركم شبعاً في هذه الحياة أطولكم جوعاً يوم القيامة).

فضل الإقلال من الطعام والتحذير من الإكثار منه

إخوتي الكرام! ونكمل الآن بقية الأمور فيما يتعلق بالطعام والشراب لنراقب بطوننا في شهر رمضان وفي غير شهر رمضان.

ثبت في كتاب شعب الإيمان للإمام البيهقي ، والحديث رواه الإمام المنذري وذكره في الترغيب والترهيب في الجزء الثالث في صفحة ثمانٍ وثمانين ومائة، وصدره بلفظ (عن)، والإمام المنذري ذكر في ترغيبه وترهيبه أن الحديث المقبول الذي هو في درجة الحسن أو الصحة يصدره بلفظ (عن) هذا اصطلاحٌ له، والحديث الضعيف يصدره بلفظ (روي)، ويهمل الكلام عليه في آخره، فما صدره بلفظ (عن) وبين حاله بعد ذلك في نهاية الحديث إن كان حوله شيءٌ من الكلام نبه عليه، فهو مقبولٌ على حسب اشتراطه، فهذا الحديث صدره بلفظ (عن)، ثم بعد أن روى الحديث قال: فيه عبد الله بن لهيعة ، وهو من أئمة الحديث الثقات، لكن كتبه احترقت في آخر عمره فحزن عليها، فبدأ يخلط في الرواية، ولذلك ما حدث به بعد الاختلاط فحديثه مردود، وما حدث به قبل الاختلاط فحديثه مقبول، وما شككنا فيه فهو متوقف فيه، عبد الله بن لهيعة ، قاضي مصر رحمه الله ورضي عنه، ففي إسناد هذا الحديث عبد الله بن لهيعة ، ورواه الإمام المنذري -كما قلت- في الترغيب والترهيب مصدراً بلفظ (عن)، عن أمنا عائشة رضي الله عنها قالت: (رآني النبي صلى الله عليه وسلم أكلت أكلتين في يومٍ)، أكلت في يوم مرتين، فلعلها تغدت وتعشت رضي الله عنها، وماذا كان يأكل المسلمون؟ هدي المسلمين أنهم يأكلون أكلةً واحدةً في اليوم والليلة، وأما الإكثار من الأكل فهذا ليس من هديهم، ثلاث أكلاتٍ ما نسير عليه في هذه الأوقات هذا ما كان يعرفه السلف الصالحون رضوان الله عليهم، وما ساروا عليه، ولعله ما خطر ببالهم أنه سيأتي في هذه الأمة أناسٌ يوظفون لأنفسهم وظيفةٌ في الطعام والشراب كل يوم ثلاث مرات، وما نعلم لعله إذ امتدت الحياة فسيأتي بعدنا أناسٌ شرٌ منا فيأكلون أربع وجباتٍ أو خمساً، تقول أمنا عائشة رضي الله عنها: (رآني النبي صلى الله عليه وسلم أكلت أكلتين، فقال: يا عائشة ! أما تحبين أن يكون لك شغلٌ إلا في جوفك؟)، ما خلقك الله إلا لتعتني بهذا البطن، وتصرفي وقتين لملء هذا البطن؟ (أما تحبين أن يكون لك شغلٌ إلا في جوفك؟ أكلتان في النهار إسراف، والله لا يحب المسرفين).

وفي روايةٍ: (قال لها النبي صلى الله عليه وسلم: يا عائشة ! اتخذت الدنيا بطنك، أكثر من أكلةٍ في اليوم إسراف، والله لا يحب المسرفين)، والحديث -كما قلت- ليس فيه إلا ابن لهيعة ، وقد خرج حديثه الإمام مسلم وأبو داود والترمذي وابن ماجه ، وتوفي سنة أربعٍ وسبعين ومائة عليه رحمة الله، وحديثه -إن شاء الله- في درجة القبول، وهذا الحديث له شواهد كثيرة.

إخوتي الكرام! من حافظ على هذا الهدي النبوي فيأكل أكلةً واحدة يصح جسمه، وينشط بدنه، وتطرد عنه الأسقام والآفات، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: (صوموا تصحوا)، اضبطوا بطونكم فالتخليط ينتج عنه بعد ذلك بلاءٌ على الأبدان وعلى القلوب، وهذا الحديث -كما قلت- له شواهد، فمن شواهده: ما رواه البزار بسندٍ رجاله ثقاتٌ، كما قال هذا الإمام الهيثمي في المجمع في الجزء العاشر صفحة ثلاثٍ وخمسين ومائتين في كتاب الزهد، وبوب عليه فقال: بابٌ في الاقتصاد، ثم روى الحديث عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، وفيه يقول جابر : كان يقدم على النبي عليه الصلاة والسلام أناسٌ ليس لهم معارف في المدينة المنورة، فكان الرجل من الصحابة الذين يسكنون في المدينة المنورة يأخذ بيد الرجل، والرجل يأخذ بيد الرجلين، والرجل يأخذ بيد الثلاثة على حسب حاله، يأخذهم أضيافاً عنده، كان الأعراب وهكذا المسلمون يأتون إلى النبي عليه الصلاة والسلام، والوفود تأتي إليه، فمن ليس له معارف وأقرباء أخذه أحد الصحابة ليكون ضيفاً عليه، يقول جابر رضي الله عنه: فأخذ ختني في يومٍ من الأيام رجلين، فخلوت به، فقلت له: أخذت رجلين وعندك ما عندك، أي: من العيال، وأنت فقيرٌ ضيق الحال، فكأنه يعاتبه كيف أخذ رجلين؟ والختن في اللغة: هو أخو الزوجة وقريبها، سمي ختناً لأن القرابة بينها وبينه بواسطة التقاء الختانين والتزاوج الذي أحله الله بين الذكور والإناث، والناس يتوسعون في إطلاق الختن على الصهر الذي هو زوج البنت، فيقولون له: ختن، لكن أصله في اللغة هو القريب من جهة المرأة، أخوها وأبوها ونحوه، فيقول: إنه عاتب أخا زوجته عندما أخذ رجلين، فقال له: إن عندنا لرزقاً، عندنا خيرٌ كثير، وعندنا فضلٌ من الله عظيم، تعال حتى أريك، يقول: فأدخلني إلى بيته فأراني شيئاً كثيراً من بر، فقلت: من أين لك هذا؟ قال: اشتريته من العير التي قدمت إلى المدينة المنورة أمس، يقول: وأراني جِسوةً، ويجوز جَسوةً وجُسوة، بتثليث الجيم، جِسوة بعيرٍ من التمر، أي: صبرةً كبيرة مثل البعير من التمر، وأراني جرةً فيها دهنٌ وودكٌ يأتدمون به خبزهم، إذاً عنده برٌ وتمرٌ ودهن، فلذلك أخذ هذين الرجلين، يقول: فمكثا عنده فغدا بهما أو راح على النبي عليه الصلاة والسلام، فقال له النبي عليه الصلاة والسلام: (إني أرى صاحبيك حسني الحال -بدأ عليهما علامة السمن، وعلامة النعمة- فماذا تطعمهما؟ -قال له: كم تطعمهما في اليوم وجبة؟- فقلت: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم! إني أطعمهما كل يومٍ وجبتين، فقال عليه الصلاة والسلام: فهلا وجبة؟ )، لقد ظهر عليهما علامة السمن، ووجبةٌ واحدة تكفي.

والحديث في مسند البزار -كما قلت- بسندٍ رجاله ثقاتٌ أئمةٌ أتقياء، وسنده صحيح. وإذا كان الإنسان بإمكانه أن يحافظ على هذا فهنيئاً له، وإذا توسع في زماننا على حسب ضعف إيماننا وقلة يقيننا، إذا توسع فلا أكثر من وجبتين خفيفتين، أما ثلاث وجبات يواظب عليها الناس كما يواظبون على فروض الصلوات، فهذا ليس من هدي المؤمنين والمؤمنات: (صوموا تصحوا)، (ألا لك شغلٌ إلا في بطنك، أكلتان في النهار إسراف، والله لا يحب المسرفين).

تحذير النبي صلى الله عليه وسلم من الإدمان على الطعام والإكثار منه وتنشئة الجسم على النعمة

إخوتي الكرام! وقد حذرنا نبينا صلى الله عليه وسلم غاية التحذير من الإدمان على الطعام، وعلى تنشئة الجسم على كثرة الألوان، وأخبرنا أن من نشأ على ذلك فهو شر هذه الأمة، والحديث ثابت عن نبينا عليه الصلاة والسلام، ولا ينزل عن درجة الحسن بحال، بل صححه عددٌ من أئمة الحديث الكبار، ولفظ الحديث رواه الإمام أبو نعيمٍ في الحلية، عن أمنا عائشة رضي الله عنها، وهو في الجزء الثالث في الحلية، وقال عنه العراقي في الجزء الثالث صفحة تسعٍ وثمانين في تخريج أحاديث الإحياء: إسناده لا بأس به، قالت أمنا عائشة : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (شرار أمتي الذين غذوا بالنعيم، ونبتت عليهم أجسامهم).

والحديث رواه الإمام الطبراني في معجمه الكبير ومعجمه الأوسط، ورواه البزار عن أبي أمامة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (سيكون رجالٌ من أمتي)، وإذا لم ينطبق هذا الوصف علينا فما أعلم على من ينطبق؟ (سيكون رجالٌ من أمتي يأكلون ألوان الطعام، ويشربون ألوان الشراب، ويلبسون ألوان الثياب، ويتشدقون في الكلام، أولئك شرار أمتي).

ألوان الطعام أكلوها، وألوان الشراب شربوها، وألوان اللباس لبسوها، ثم بعد ذلك عندهم فصاحةٌ وتشدقٌ في الكلام، ويتكلمون في دين الرحمن، والمنافق هو الذي يصف الإسلام ولا يعمل به، (أولئك شرار أمتي)، والحديث فيه ضعفٌ وبتقوى بحديث أمنا عائشة رضي الله عنها وبالطرق الأخرى للحديث، والحديث رواه البيهقي في شعب الإيمان، وابن عدي في الكامل، عن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورواه الإمام أحمد في الزهد بسندٍ صحيح، لكنه مرسل، عن فاطمة بنت الحسين بن علي رضي الله عنهم أجمعين: (شرار أمتي الذين غذوا بالنعيم، ونبتت عليه أجسامهم).

ورواه هناد ووكيع وابن المبارك في كتاب الزهد وأبو نعيم في الحلية بسندٍ مرسلٍ جيد عن عروة بن رويم بلفظ: (شرار هذه الأمة الذين غذوا بالنعيم، ونبتت عليهم أجسامهم)؛ لأنهم عندما يفعلون ذلك سيترتب على ذلك آفات في الأبدان، وفي القلوب، وفي النفوس، وفي العقول، وفي الدين، فهؤلاء هم شر الأمة عند الرحمن.

والحديث هذا كما قلت: لا ينزل عن درجة الحسن، وله شواهد كثيرة تقدم معنا بعضها، منها: حديث الإمام أحمد بسندٍ رجاله ثقات، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـمعاذ بن جبل : (إياك والتنعم؛ فإن عباد الله ليسوا بالمتنعمين)، وقد كان الصحابة رضوان الله عليهم عندهم هذا من الأمور الواضحة الجلية، ففي صحيح مسلم ومسند الإمام أحمد : كتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى عتبة بن فرقد ، وكان أميراً على بلاد العراق وعلى بعض السرايا والجيوش يقاتل في سبيل الله من قبل عمر ، وهو صحابي من العباد الصالحين رضي الله عنه، كتب إليه يقول له: (يا عتبة ! أطعم الناس في رحالهم مما تأكل في رحلك، فإنه ليس من كد أبيك ولا كد أمك ولا من كدك، وإياكم والتنعم وزي أهل العجم)، أطعم المسلمين كما تأكل، لكن حذار حذار من التنعم؛ فعباد الله ليسوا بالمتنعمين، احذروا التنعم، واحذروا زي أهل الشرك.

عتبة بن فرقد رضي الله عنه -كما قلت- من الصحابة الأبرار، جاء إلى النبي عليه الصلاة والسلام يشكو إليه حكةً في جسمه، وقد أصابه الخراج في جلده، وأصيب بحكة، فقال له النبي عليه الصلاة والسلام: (اكشف عن قميصك، فكشف عن قميصه فقرأ النبي عليه الصلاة والسلام ما تيسر ثم تفل على بدنه، فامتلأت ريح عتبة بن فرقد رضي الله عنه طيباً)، كان عنده أربع نسوة، تقول أم عاصم : كانت كل واحدةٍ منا تتطيب له، فكان ريحه أطيب من ريحنا، فقلت له: من أين لك هذا الريح ولا تتطيب؟ فقال: أما علمت أن النبي صلى الله عليه وسلم تفل على صدري، لقد أصابني شيءٌ من ريق النبي عليه الصلاة والسلام وبصاقه الشريف عليه صلوات الله وسلامه، فكيف لا يتطيب هذا البدن ببصاق خير خلق الله عليه صلوات الله وسلامه، وبقيت معه هذه الرائحة الطيبة حتى لقي ربه، وله -إن شاء الله- من الرائحة الطيبة بعد موته أطيب مما كان يحصله في حياته.

التحذير من الشبع إلى حد التخمة

إخوتي الكرام! التنعم مذموم، وأكلتان في النهار إسراف، وعباد الله ليسوا بالمتنعمين، وشرار عباد الله الذين غذوا بالنعيم وأكلوا من ألوان الطعام، وجعلوا هذا ديدناً لهم، هذا كله إذا لم يصل إلى حد التخمة، وإلى حد البشم، إنما يحرص على الشبع من لذائذ الأطعمة، إذا كان كذلك فهذا من شرار هذه الأمة، وأما إذا كان يأكل بحيث يتجشأ ويصاب بتخمةٍ، ويصاب ببشمٍ ويتلوى كما تتلوى الحية، ويصيح: بطني بطني! ويذهب إلى طبيبٍ ومستشفى، فهو في هذه الحالة مرتكبٌ لكبيرةٍ لو مات فإلى جهنم وبئس المصير.

ولذلك ثبت في كتاب الزهد لـوكيع ، وكتاب الورع للإمام أحمد ، وكتاب الزهد للإمام أحمد بسندٍ صحيحٍ كالشمس، عن سمرة بن جندب رضي الله عنه أنه قيل له: إن ابناً لك أكل الليلة حتى بشم، أي: حتى أصيب بتخمةٍ، فما استطاع أن ينام، فقال: والله لو مات لم أصل عليه. لأنه يعتبر كمن قتل نفسه، والأثر كما قلت: في كتاب الورع للإمام أحمد في صفحة ثلاثٍ وستين، وكتاب الزهد للإمام أحمد صفحة تسعٍ وتسعين ومائة، ورواه وكيع في الجزء الأول في صفحة ثلاثمائة واثنتين، وقد قال الشيخ الألباني معلقاً على هذا الأثر في إرواء الغليل في الجزء السابع صفحة ثلاثٍ وأربعين: لم أقف عليه، وهو في هذه الكتب الستة المتقدمة -كما ذكرت- بسندٍ صحيحٍ كالشمس، فلو مات لم يصل عليه لأنه كمن قتل نفسه، فإذا أكل حتى جاوز الشبع وأصيب بتخمةٍ وبشم فيعتبر عاصياً، وإذا مات فإلى جهنم وبئس المصير فهو كمن نحر نفسه، شهيد البطن إلى جهنم وبئس المصير.

إخوتي الكرام! إني أرى على وجوه الكثير منكم الغرابة، وإذا كان يظهر الغرابة على وجوهكم فما أعلم كيف سيكون حال غيركم عندما يسمعون هذا الكلام؟! وحقيقةً نحن نشأنا في الجاهلية، وفي ظلماتٍ رديئة، ولذلك عندما ينشر الحق فإن الصالح فينا يستغرب كيف يكون هذا الأمر الذي نحن نسير على خلافه من فترة؟! ثلاث وجبات لا يجوز في النهار، ومن فعل هذا فقد خرج عن هدي الإسلام، ومن شرار هذه الأمة من يلون الطعام! نعم، وهل صدنا عن ربنا في هذه الأيام إلا بطوننا، وهل أوقعنا فيما أوقعنا فيه من المعاصي وقسوة القلوب إلا هذه البطون التي عولنا عليها وجعلناها معبوداً لنا، همة أحدنا بطنه ودينه هواه.

قيل لـعبد الله بن عمر رضي الله عنهما كما في كتاب الورع في المكان المتقدم للإمام أحمد عليه رحمة الله: ألا نحضر لك جوارشن؟ وفي رواية جوارش بحذف النون، وهي لفظةٌ أعجميةٌ المراد منها شيءٌ يهضم الطعام، فقال ابن عمر : وما الجوارش؟ قالوا: شيءٌ يقطع الطعام ويهضمه في البطن، قال: والله ما شبعت منذ أربعة أشهر، وفي روايةٍ عنه في كتاب الورع: والله ما شبعت منذ أربع عشرة سنة، وما ذاك لأني لا أجد الطعام، بل عندي خيرات كثيرة، لكنني أدركت قوماً يجوعون أكثر مما يشبعون، فإذا كان الشبع لا أصل إليه، فما الداعي بعد ذلك للمهضمات من جوارش وغير ذلك من الأمور التي تستعمل في هذه الأيام؟ ما وصلت إلى الشبع من أربع عشرة سنة، فما الداعي لمهضمات الطعام؟ وعلام يجتهد الإنسان نفسه ويشبع، ثم يقول: هاتوا ما يهضم الطعام ويذيبه؟ هذا حال السلف الصالحين رضوان الله عليهم أجمعين.

إخبار النبي صلى الله عليه وسلم أن السمن سيظهر في أهل العصور المتأخرة

إخوتي الكرام! وقد أخبرنا نبينا عليه الصلاة والسلام أن السمن والترهل وانتفاخ البطون وإقبال الأمة على الطعام سيقع في العصور المتأخرة بعد العصور المفضلة، وقد ثبت الحديث بذلك عن نبينا عليه الصلاة والسلام في الصحيحين، ففي مسند الإمام أحمد والكتب الستة باستثناء سنن ابن ماجه ، عن عمران بن حصينٍ رضي الله عنهما قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (خير القرون قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، قال عمران : فلا أدري أذكر النبي صلى الله عليه وسلم قرنين بعد قرنه أو ثلاثة قرون، ثم قال عليه الصلاة والسلام: ثم يأتي بعدهم قومٌ -بعد هذه القرون المفضلة- يشهدون ولا يستشهدون، ويخونون ولا يؤتمنون، وينذرون -بضم الذال وكسرها- ويظهر فيهم السمن)، إذا ظهر فيهم السمن حقيقةً ستقع بهم هذه الأوصاف الذميمة: سيخونون ولا يؤتمنون، وسينذرون ولا يوفون، ثم بعد ذلك عندهم فضول وشهادةٌ دون أن يطلب منهم ذلك، فإذا ظهر فيهم السمن ظهرت فيهم هذه الأوصاف الذميمة، والحديث كما قلت في الصحيحين وغيرهما.

وفي رواية الإمام الترمذي : (يتسمنون ويحبون السمن)، والمراد من ظهور السمن وتسمن من يأتي بعد القرون المفضلة على المعتمد وهو القول الحق، ما ذكره الحافظ ابن حجر ، قال: ظاهر الحديث يدل على أن المراد أنهم يتعاطون السمن، ويريدون أن تسمن أبدانهم، وأن تعظم أجسامهم.

والحمد لله رب العالمين.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , التحذير من الشبع والتخمة للشيخ : عبد الرحيم الطحان

https://audio.islamweb.net