إسلام ويب

الشروط في البيع منها ما هو صحيح ومشروع، ومنها ما هو غير مشروع، وعلى المتعاقدين عند إبرامهما لأي عقد أن ينظرا في هذه الشروط؛ لأن هذه الشروط إن كانت غير مشروعة فإما أن تفسد البيع بالكلية، وإما أن تلقى هذه الشروط ويبقى البيع على صحته.

الشروط الفاسدة في البيع

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد:

فيقول المصنف رحمه الله: [ومنها فاسدٌ يُبطل العقد: كاشتراط أحدهما على الآخر عقداً آخر: كسلف].

قوله: (ومنها فاسد يبطل العقد).

أي: ومن الشروط ما هو فاسد يبطل العقد، فبعد أن بيّن لنا رحمه الله الشروط الصحيحة شرع في بيان الشروط الفاسدة. والدليل على أن الشروط تنقسم إلى صحيحة وفاسدة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما بال أقوام يشترطون شروطاً ليست في كتاب الله)، فدلّ على أنه إذا وقع الشرط بين المتعاقدين أن الواجب عليهما أن ينظرا في كتاب الله عز وجل، فما كان في كتاب الله فهو مأذون به شرعاً على التفصيل الذي ذكرنا، وما كان معارضاً للشرع فإنه محرم وممنوع.

(ومنها) أي: من الشروط في البيع.

(ما هو فاسد) وهذا النوع من الشروط ينقسم إلى أقسام، منها: أن يتضمن عقدين في عقد، كأن يضم إلى البيع عقداً ثانياً كإجارة وسلف وسلم وقرض ونحو ذلك، ومنها: أن يشترط عليه شرطاً يخالف مقتضى البيع.

الجمع بين عقدين في عقد واحد

أمّا بالنسبة للنوع الأول فقد أشار إليه رحمه الله بقوله:

[كاشتراط أحدهما على الآخر عقداً آخر: كسلفٍ].

يقول له: أبيعك هذه الدار بمائة ألف على أن تسلمني أو تسلفني مائة صاع من بر من مزرعتك، فجمع بين البيع وبين عقد السلم -وسيأتينا إن شاء الله بيان عقد السلم- وهو: تعجيل الثمن وتأخير المثمن؛ والسبب فيه: أنه رفق بالمزارع؛ لأن المزارع يأتيه الموسم -موسم الزراعة- ولا يكون عنده نقد وسيولة فيحتاج إلى المال من أجل أن يشتري البذر فيزرع، والثمر في هذه الحال ليس بموجود، فحينئذٍ يشتري منه الرجل الحبَّ الذي سينتجه أو تنتجه أرضه أو مزرعته فيشتري منه مائة صاع: (من أسلف فليسلف في كيلٍ معلوم، ووزنٍ معلوم، إلى أجلٍ معلوم)، فيعطيه النقد معجّلاً على أن يعطيه الحبَّ مؤجلاً فهذا سلم، فيركب عقد البيع ويشترط معه سلماً، وهذا محرم؛ لأنه يدخل الصفقتين في الصفقة الواحدة، وإذا دخلت الصفقتان في الصفقة الواحدة فإن هذا مما يوجب الغرر ويوجب الفتنة والشحناء، وإذا حصل اللبس والفساد في أحد العقدين أدخل الفساد على العقد الآخر، ومن هنا حرّم رسول الله صلى الله عليه وسلم البيعتين في بيعة وعلى هذا فإنّه إذا أدخل السلف على البيع على هذا الوجه فإنه يعتبر شرطاً فاسداً.

قال: [كسلفٍ وقرضٍ].

كأن يقول: بعتك على أن تسلفني، أو يقول له: بعتك على أن تقرضني، أو اشتريت منك على أن تقرضني، فمثلاً: عنده سيارة عرضها للبيع فقال له: هذه السيارة قيمتها مائةُ ألفٍ، قال: ليست عندي مائة ألف، دَيِّنيّ المال وأشتري منك السيارة، قال: إذاً أبيعكها بمائة وعشرة أعطيك إيّاها وتشتريها، فحينئذٍ كأنه ذريعة إلى الربا، وأصبحت حقيقة السلعة تكون بمائة فيزيد عليها العشرة، ولا يمكن أن يبيعه إلا وهو يقرضه من أجل أن ينتفع، ثم أيضاً لو خلا من الزيادة وكانت قيمة السيارة هي هي فإنه قد استفاد من إقراضه شراء السيارة. توضيح ذلك: أنك إذا عرضت البيت أو عرضت السيارة للبيع فمن مصلحتك أن تبيع، ولا شك أنّك إذا بعت تقدر ربحاً معيناً في بيعك، فإذا جئت تعرض سيارتك للبيع ربما تعرضها بمائة ألف فأنت إذا بعتها بمائة ألف تقدّر خمسة آلاف ربحاً لك من البيع، فإذا جاءك وقلت له: أبيعك بمائة ألف، قال لك: أشتري منك بشرط أن تديّنني قيمتها، فحينئذٍ كأنه دفع له خمسةً وتسعين لقاء الخمسة التي هي الربح الناتج من البيع وهذا عين الربا، ولذلك يسمونه: الذرائع الربوية فليس ببيع ربوي محض؛ ولكنه تضمن شرطاً مفضياً إلى الربا، والفساد في عقود البيوع إمّا أن يكون بسبب تحريم عين المبيع، أو الغرر، أو الربا، أو شرط يئول إلى الغرر أو الربا. فهذا شرط يئول إلى الربا.

قال: [وبيعٍ].

كأن يشترط عليه بيعاً، يقول له: أبيعك بيتي بعشرة آلاف على أن تبيعني سيارتك بخمسة آلاف، فإنه ربما بنى غبن هذه الصفقة على ربحه في تلك الصفقة، وإذا فسدت إحدى الصفقتين دخل الفساد إلى الصفقة الثانية، وحمل بعض العلماء نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن بيعتين في بيعة أن يقول له: بعتك داري بمائة ألف على أن تبيعني أرضك بعشرة آلاف، قالوا: فإن هذا من البيعتين في بيعة، فهي بيعة واحدة ولكنها تتضمن عقدين، وإذا تضمن العقد الواحد عقدين فإنه يوجب التداخل ويوجب الغرر ويوجب الشحناء، فإذا حصل النقص في إحدى البيعتين تضررت في البيعة الثانية، وعلى هذا لا يجوز؛ لكن لو قال له: أبيعك داري بسيارتك جاز؛ لأنها بيعة واحدة، فجعل السيارة قيمة للدار أو البيت والآخر جعل البيت قيمة للسيارة، فكلاهما عوض عن الآخر، وليس هذا من العقدين في عقد.

فالشاهد: أن المحظور أن يدخل عقدين في عقد. ومن هنا بطلت الإجارة المنتهية بالتمليك، فإذا قال له: خذ السيارة سنة استئجاراً ثم تملكها بعد السنة، فمعنى ذلك أنه قد جمع بين العقدين في العقد الواحد، ثمّ هو يبيع شيئاً لا يُدرى كيف حاله بعد حلول الأجل؛ لأن البيع مؤجل إلى ما بعد السنة، وبعد السنة لا ندري حقيقة السيارة هل تَسْلَم أو تخرب فتتغير؟ أو يأتيها حادث يذهب بها؟ فهذا كله مما يوجب الغرر، فلو أن السيارة تلفت أثناء السنة هل نعتبره مستأجراً، أو نعتبره مالكاً؟ إن قلت: أعتبره مستأجراً بناءً على أنه وقت إجارة، عارضك بأنه استأجر من أجل أن يملك ومن أجل أن تكون له الرقبة، فحينئذٍ هو مستأجر من وجه مالك من وجه، وهذا شيء من التداخل، ولذلك كأن الشريعة تريد عقود البيوع عقود بيوع، وتريد عقود الإجارة عقود إجارة، ولا تريد التداخل بينهما، ولا تريد أن يحدث شيء من الغرر، ومن هنا حُرّم بيع المجهول؛ لأنه يوجب الغرر في الثمن أو المثمن أو كليهما، فأيَّاً ما كان لا يجوز تداخل العقدين في عقد واحد، ولا يقول له: بعتك هذه السيارة بمائة ألف على أن تؤجرني أرضك سنة بألف، لأن فيه بيعاً وإجارة.

إذاً: لا يجوز أن يدخل العقدين في عقد واحد، خاصة إذا أوجب الغرر، أو كان فيه شيء من التلاعب وشيء من الغبن يُقصد به جبر كسر هذه الصفقة بالربح في الصفقة الثانية.

قال: [وإجارةٍ].

وهكذا إذا جمع بين البيع والإجارة كما ذكرنا في عقود الإجارة التي تنتهي بالتمليك، سواءً قدّم البيع وأخر الإجارة، أو قدم الإجارة وأخر البيع، وسواءً فصل بينهما فجعل للبيع عقداً وللإجارة عقداً، فإنّ هذا كله مما يوجب الغرر.

قال: [وصرفٍ].

كأن يأتي الشخص ومعه خمسمائة ريال إلى صاحب البقالة ويقول له: اصرفها، يقول: لا أصرفها لك حتى تشتري مني شيئاً، فهذا صرف بشرط البيع، فمثلاً إذا اشترى بخمسة ريالات فمعنى ذلك أنه صرف له ما بقي من الخمسمائة الذي هو أربُعمائةٍ وخمسةً وتسعون لقاء المنفعة الموجودة في الصفقة، فإنه إذا اشترى من البقالة لابد وأن يربح صاحب البقالة؛ لأنه ما من شيء معروض للبيع إلا وله فيه ربح معيّن، أو مثلاً وضع التمر كحيلة فيقول لك: اشترِ وأنا أصرف لك، فهذا التمر الذي قيمته خمسةُ ريالاتٍ في الحقيقة قيمته أربعة ريالات أو قيمته ثلاثة ريالات فهو سيربح ريالين أو ريالاً.

قد يظهر ببادي الرأي أنه حينما صرف لك الأربُعمائة وخمسة وتسعين، بادلك أربعمائه وخمسة وتسعين بأربعمائة وخمسة وتسعين فلا شيء فيه؛ لأنّ الصرف وقع فيما زاد عن الخمسة ريالاتٍ التي فيها صفقة البيع، لكن في الحقيقة أنه صرف لك أربعمائة وخمسة وتسعين بأربعمائة وخمسة وتسعين بزيادة منفعة البيع فصار صرفاً بمنفعة، ولم يكن مثلاً بمثل يداً بيد، بل قال لك: لا أمد لك الأربعمائة والخمسة والتسعين حتى تشتري مني، وهذا الذي جعل بعض العلماء يقول: إنّ الإنسان قد يشيب عارضاه في الإسلام وهو يقع في الربا وهو لا يدري؛ لأن بيوع الربا الخفية التي تسمى الذرائع قلّ أن يفقهها أحد وقلّ أن ينتبه لها، والعلماء رحمهم الله نبّهوا عليها كثيراً في تداخل العقود، خاصة في الشروط التي تئول إلى الربا، كأن يقول له: أبيعك إيّاها مؤجلة بمائة ألف، فيقول: بشرط أن تقرضني على أن أشتريها منك معجلة بخمسة وتسعين، فهذا شرط يئول إلى الربا كأنه أعطاه خمسةً وتسعين معجلة في لقاء مائة ألف مؤجلة، وهكذا لو قال: أصرفها لك على أن تشتري مني بخمسة ريالات أو تشتري مني قلماً أو تشتري مني كتاباً أو تشتري مني تمراً، فالصرف المبني على شرط البيع موجب أو مفض إلى الربا بوجود المنفعة التي تضمنتها صفقة البيع.

الشروط التي تخالف مقتضى العقد

قال رحمه الله: [وإن شرط ألا خسارة عليه، أو متى نفق المبيع وإلا رده، أو لا يبيعه ولا يهبه ولا يعتقه، وإن أعتق فالولاء له، أو أن يفعل ذلك بطل الشرط وحده إلا إذا شرط العتق].

فائدة: الشروط الفاسدة في البيع تنقسم إلى قسمين:

القسم الأول: يوجب فساد البيع، وهو الذي ذكرناه سابقاً، وصفته: أن يدخل العقدين في عقد واحد، كأن يشترط سلماً أو إجارةً أو صرفاً .. إلخ، فهذه يبطل فيها الشرط ويبطل فيها البيع، فتلغى الصفقة بكاملها، وهناك وجه عند بعض العلماء أنه يصحّح البيع ويُلغي الشرط الفاسد، والأول أقوى.

القسم الثاني: أن يدخل شرطاً لم يأذن به الشرع يخالف مقتضى العقد -كما ذكرنا- ومثاله أن أقول: أبيعك هذه الأرض بشرط ألا تبيعها لأحد.. أبيعك هذه الأرض على أن تجعلها دكاكين ولا تبنيها عمارة.. أبيعك هذه الأرض على أن تجعلها للزراعة ولا تجعلها للاستغلال التجاري.. أبيعك هذه الأرض على ألا تسكنها .. فيشترط البائع شروطاً تخالف مقتضيات عقود البيع، وعلى هذا إذا تضمّن البيع مثل هذا الشرط نصحّح البيع ونبطل الشرط. لكن فيه تفصيل فأولاً: نريد أن نعرف الضابط في هذا النوع -وهو أن يشترط شرطاً يخالف مقتضى عقد البيع- وقد مثّل له المصنّف بقوله رحمه الله: (وإن شرط ألا خسارة عليه).

مقتضى عقد البيع أنك إذا اشتريت البيت وملكته ثم غلا أو رخص فلك غنمه وعليك غرمه، ويصبح البيت بيتك لا أتحمل أنا الخسارة بعد بيعه لك، وأيضاً إذا بعتك قماشاً أو بعتك تمراً أو بعتك أي شيء من المبيعات فأنت الذي تتحمل المسئولية، فيكون خراجه وضمانه عليك، فأنت الذي تأخذ نتاجه وأنت الذي تتحمّل خسارته، فمثلاً لو جاء الشاري وقال للبائع: أشتري منك هذه الأرض بشرط: أنها لو كسدت أو نزل سعرها في السوق أردها عليك، أو تدفع لي خسارة الوكس الذي يكون في القيمة، قال له: قبلت. فهذا لا يجوز، لماذا؟ لأن الأصل الشرعي يقتضي أنه إذا اشترى السلعة يتحّمل مسئوليتها كاملة غنماً وغرماً، قال صلى الله عليه وسلم: (الخراج بالضمان)، والسبب في تحريم هذا النوع من الشروط أنني إذا بعتك السيارة وقلت لي: إذا خسرت رجعت عليك، فمعنى ذلك أنك إذا ربحت أخذت الربح، وإذا خسرت رجعت عليّ بالخسارة، وهذا ظلم، والشريعة شريعة عدل. وتوضيح ذلك: أن الغنم بالغرم، وهي قاعدة من قواعد الشريعة دلّ عليها حديث عائشة رضي الله عنها في قوله عليه الصلاة والسلام في سنن أبي داود: (الخراج بالضمان)، أي: الربح لمن يضمن الخسارة، فليس من المعقول أن أتحمّل أنا البائع الخسارة وتأخذ أنت الربح، فهذا ظلم، ولو رضي البائع فقد رضي بما فيه سفه وظلم، كما لو رضي المدين أن يأخذ مائة ألف ويردها مائة وعشرة ويقول: أنا أرضى بهذا، نقول: إذا رضيت بالغبن على نفسك فالشريعة لا ترضاه، وعليه قال العلماء رحمهم الله: إنه إذا اشترط عليه الخسارة أي: قال المشتري: أشتريه، فإن ربحت فلي الربح، وإن خسرت فعليك الخسارة، فإنّه شرط باطل، لكن يبقى السؤال: هل نبطل الشرط ونبقي العقد صحيحاً، أو نبطل الشرط والعقد؟

قال بعض العلماء: إذا اشترط مثل هذا الشرط فسد العقد وفسد الشرط، وعلى هذا: يبطل البيع من أساسه فترد القيمة ويأخذ هذا السلعة -أعني: البائع- ولكلٍ ماله وحقه.

وقال بعض العلماء: إذا اشترط شرطاً يخالف مقتضى عقد البيع صحّ البيع وبطل الشرط.

والذين قالوا: صح البيع وبطل الشرط استدلوا بحديث عائشة رضي الله عنها وهي قصة حاصلها: أن بريرة رضي الله عنها كانت مولاة، فكاتبت أهلها ومواليها وعجزت عن الكتابة -والكتابة هي أن يشتري العبد أو تشتري الأمة نفسها من أسيادها- فجاءت تشتكي إلى عائشة ، فقالت لها عائشة رضي الله عنها: إن شاء أهلك أن أنقدهم الثمن نقدتهم على أن يكون ولاؤك لي -أي: أن عائشة رضي الله عنها تريد أن تعتقها ويكون الولاء لها فأبى أهل بريرة إلا أن يكون الولاء لهم، مع أن الذي سيعتقها هي عائشة رضي الله عنها، فاشترطوا شرطاً ليس في كتاب الله عز وجل، وكان الأصل يقتضي أن من أعتق فله الولاء، لقوله عليه الصلاة والسلام: (إنما الولاء لمن أعتق)، فجاءت بريرة واشتكت لـعائشة أنهم يصّرون على أنّ الولاء لهم، فأمرها النبي صلى الله عليه وسلم أن تشتريها وأن تشترط الولاء، ثم رقى المنبر وقال: (ما بال أقوام يشترطون شروطاً ليست في كتاب الله، كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل، وإن كان مائة شرط، قضاء الله أحق، وشرط الله أوثق؛ وإنما الولاء لمن أعتق)، (قضاء الله أحق) أي: هو الذي ينفذ وهو الثابت الذي لا يُبدل ولا يُغير (وشرط الله أوثق)؛ لأنه مبني على العدل والإنصاف، (وإنما الولاء لمن أعتق)، فجاءت من النبي صلى الله عليه وسلم هذه الجُمل الثلاث فقرر بها العقد وهو عقد البيع وألغى بها شرط الولاء، فاستنبط بعض العلماء: أنَّ مَن اشترط شرطاً فاسداً أنه يبطل الشرط الفاسد ويصحّح العقد، وقالوا: على هذا إذا اشترط عليه وقال له: أبيعك هذه الدار بمائة ألف بشرط ألا تبيعها لأحد، نصحّح البيع ونلغي الشرط؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم صحح بيع عائشة رضي الله عنها وألغى شرطها.

قال رحمه الله: [أو متى نفق المبيع وإلا رده].

(أو متى نفق) أي: في السوق، وهذا ما يسمى في عرفنا ببيع التصريف، والنوع الأول: الذي هو أن يشترط ألا خسارة موجود إلى الآن، فمثلاً بعض الثلاجات تباع ويقولون: خذها ونضمن لك ألا تخسر فيها، أو نعطيك هذه الثلاجة بشرط أن تؤجرها علينا، ففي هذا النوع قد تأتي الشركة وتقول: نبيعك هذه الثلاجة بخمسمائة ألف شرط أن تؤجرها علينا خمس سنوات، وفي بعض الأحيان يقولون: تؤجرها علينا خمس سنوات ونضمن لك أنك لا تخسر، وبعد خمس سنوات إن شئت رددنا لك نفس القيمة وإن شئت أخذت الثلاجة. فهذه كلها شروط فاسدة، فإن قال له: بشرط أن تؤجرها علينا فقد بطل البيع من أساسه؛ لأنه جمع عقدين في عقد واحد وصفقتين في صفقة واحدة فكانت كبيعتين في بيعة. وأمّا إذا قال له: نبيعك على ألا تخسر فهذه تكون صورة حاضرة لما جمع بيعاً بشرط عدم الخسارة.

ثم انتقل إلى نوع ثانٍ من الشروط الفاسدة وهو ما يسمى (ببيع التصريف)، يأتي ويشتري منه البضاعة ويقول له: ما نَفَقَ منها أعطيتك قيمته وما لم ينفق أرده عليك، وهذا يقع في المواد الغذائية.. يقع في السيارات.. يقع في الثلاجات.. يقع في الأقمشة، وهذا لا يجوز؛ لأن الأصل يقتضي أنه يشتري منك إن ربح كان له ربحه وإن خسر تحمّل الخسارة؛ لأن فيه ظلماً على البائع، والشرع لا يأذن بالظلم ولو رضي به صاحبه؛ لأنه نوع من السفه، والسفيه محجور عليه في تصرفه؛ لأن الله سبحانه وتعالى لا يرضى للمسلم أن يدخل الضرر على نفسه باسم عقد شرعي، وهذا ليس من العقود الشرعية، وعلى هذا فما الحل؟ نقول: أفضل شيء في هذا أن تقول الشركة في المواد الغذائية أو غيرها: خذ هذه السلع واعرضها للبيع وكل مادة غذائية تبيعها لك فيها كذا وعلى هذا يصبح العقد عقد إجارة، فما نفد منها أخذت الشركة الأصلية أصل المبلغ الذي تريده وأعطت التاجر قدر الإجارة المتفق عليه، فهذا مخرج شرعي وليس فيه إشكال، وهو مثل بيع التصريف، إلا أنه في بيع التصريف يعقدونه بيعاً، والشرع لا يأذن به، فليعقدوا إجارة لكي يخرجوا من الإشكال، يقول له مثلاً: خذ هذه الخمسين سيارة واعرضها في المعرض، فما مشى منها فالحمد لله ولك في كل سيارة خمسمائة ريال، أو النوع الفلاني من السيارات إن بعته فالسيارة الواحدة لك فيها أجرة بقيمة معينة لما تقوم به من العرض ولتكن خمسمائة ريال، وأمّا الثمن الأساسي فتأتي به إلى صاحب المؤسسة أو صاحب الشركة، فهذا عقد إجارة إذا استوفى شروط الإجارة في تحديد الأجل أو تحديد طريقة البيع، أمّا لو قال له: خذ هذه الكتب وبعها على التصريف، أبيعك الكتاب بعشرين، ويأخذ صاحب المكتبة الكتاب ويبيعه بثلاثين ثم يعطيه عشرين فيأخذ الربح، مع أن الذي ضمن الخسارة هو البائع الأول، فيكون صاحب المكتبة ظالماً لمالك السلعة الأساسية من هذا الوجه فقد أخذ ربح ما لم يضمن، وعلى هذا فلو أن المكتبة احترقت سيقول صاحب المكتبة: أنا لم أشتر منك فأنت الذي تتحمل هذه الخسارة، يقول له البائع: لا، إنمّا تحمّلت لك خسارة ألا يباع ولم أتحمل لك خسارة التلف، فتقع بينهما الخصومة، ويصير من باب تداخل العقود، فلا تستطيع أن تقول: إنه بيع على الحقيقة، ولا تستطيع أن تقول: إنه ليس ببيع، فالعقد بينهما بيع ولكنه ليس على الصورة الشرعية، فأوجب الغرر وصار من العقود المشبوهة التي لا يأذن الشرع بها لوجود هذا الغبن.

قال: [أو لا يبيعه].

أي: أن يبيعه الشيء على ألا يبيعه، كأن يقول: أبيعك هذه السيارة على ألا تبيعها لأحد، فالبيع صحيح والشرط باطل.

قال: [ولا يهبه ولا يعتقه].

كقوله: أبيعك السيارة على ألا تهبها لأحد.. أبيعك هذا القلم على ألا تعطيه لأحد، فهذا كله لا يجوز؛ لأنه يخالف مقتضى العقد؛ لأن مقتضى عقد البيع أن صاحب السلعة حرٌّ فيها، إن شاء باعها وإن شاء وهبها أو تصرف فيها بالمعروف.

قال: [ولا يعتقه، أو إن أعتق فالولاء له].

كقوله: أبيعك هذا العبد على ألا تعتقه، فإن أعتقته فالولاء لي، فيكون قد ظلمه من وجهين:

أولاً: قال له: أبيعك هذا العبد على ألا تعتقه، فرفع يده في شيء مَلَّكَه الشرع أن يتصرف فيه، فَحَرَّمَ عليه البيع مع أن الله أذن له أن يبيع ما اشترى.

ثانياً: منعه من الولاء، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (ما بال أقوام يشترطون شروطاً ليست في كتاب الله)، وعلى هذا فإنّه يعتبر شرطاً فاسداً، فيلغى الشرط ويصحح العقد -كما ذكرنا-.

قال رحمه الله: [أو أن يفعل ذلك: بطل الشرط وحده، إلا إذا شرط العتق].

قوله: (أو أن يفعل ذلك) أي أن يقول: أبيعك هذا العبد بشرط أن تعتقه، (أن يفعل ذلك) أي: يفعل العتق، فإذا قال له: أبيعك هذا العبد على أن تعتقه.. أبيعك هذه السيارة على أن تبيعها.. أبيعك هذه الأرض على أن تبيعها، فإنه يبطل الشرط ويصح البيع.

قال: (بطل الشرط وحده).

أي: في جميع الصور الماضية، أبيعك على ألا تبيع.. أبيعك على ألا تهب.. أبيعك على أن تضمن الخسارة.. أبيعك على أن تعتق.. أبيعك على أن تعتقه ويكون الولاء لي، بطل الشرط وصّح البيع. لكن الإشكال في العتق فإنه لا يبطل؛ لأنه إذا أمضى العتق وأعتقه لا يمكن رّد العتق، فالعتق إذا وقع فإنه يمضي، وحينئذٍ يصح البيع ويمضي العتق على الصورة التي ذكرناها؛ لأنه مما لا يمكن تلافيه.

قال رحمه الله: [وبعتُك على أن تنقدني الثمن إلى ثلاثٍ وإلا فلا بيع بيننا. صحَّ].

كقوله: بعتك على أن تدفع المال في خلال ثلاثة أيام، فإذا لم تدفع المال في خلال الثلاثة الأيام فلا بيع بيننا، فالبيع هنا يصح؛ لأنه شرط فيه منفعة لأحد المتعاقدين ولا يتضمن غرراً ولا يتضمن رباً ولا يتضمن محظوراً شرعياً، فإذا قال له ذلك فإنّ البيع يكون معلّقاً على إحضار القيمة في هذه المدة، فإن أحضرها خلال هذه المدة صحّ البيع ولزم.

وقال بعض العلماء: إنّه لا يصح على هذا الوجه؛ لأن البيع يكون متردداً بين الإمضاء وعدمه، وقد يملك الثمن ولا يريد أن يمضي البيع، ولكن يجاب بأنّه خيار شرط، وخيار الشرط جائز كما دل عليه حديث حبّان بن منقذ ، وسيأتي إن شاء الله بيان ذلك في باب الخيار.

حكم بيع الرهن والعربون

قال رحمه الله: [وبعتك إن جئتني بكذا أو رضي زيد. أو يقول للمرتهن: إن جئتك بحقك وإلا فالرهن لك. لا يصح البيع].

[وبعتك إن جئتني بكذا].

وهذا كما ذكرنا أدخل شرطاً زائداً على مقتضى العقد، فهذا يعتبر من موجبات الغرر، ويكون فساده من جهة كونه تَضَمَّن شرطاً يوجب الغرر، وقلنا: إنه إذا تضمن عقد البيع ما يوجب الربا أو يوجب الغرر فإنه يوجب الفساد.

قال: [أو رضي زيد].

وهكذا إن رضي زيد فلا ندري أيرضى أو لا يرضى؟ فأصبح مما فيه غرر.

قال: [أو يقول للمرتهن: إن جئتك بحقك وإلا فالرهن لك، لا يصح البيعُ].

يعطيه الرهن ويقول له: (إن جئتك بحقك وإلا فالرهن لك).

كأن يأتي شخص إلى بائع عنده سيارة أو عنده أرض... إلخ، فيقول له: بكم هذه الأرض؟ قال: بمائة ألف، قال: أنا أريد أن أشتريها، قال له: أنا لا أضمن، قال: إذاً أعطيك رهناً على أنني أريد أن أشتريها، فسأذهب وأُحْضِر المال ثم تعطيني الرهن ونتم الصفقة، فإن لم أُحْضِر لك المال فالرهن لك، فهذا من أكل أموال الناس بالباطل؛ لأن الرهن لا يوضع إلا من أجل ضمان الحق في البيع المؤجل. فإذا ملكت السلعة وعجزت عن السداد قام المالك الحقيقي ببيع الرهن وتسديد ماله، على ظاهر آية المداينة في آخر البقرة، فأصل الرهن للاستيثاق أن حقك يُضْمَن كبائع، فإذا جاء يقول لك: إنني أذهب وأُحْضِر المال فالبيع بيع معجل وليس بمؤجل، وليس على صورة الرهن الشرعي، فإن لم آتك بالنقد فالرهن لك، وأصبح الرهن يُعطى بدون مقابل، وبناءً على ذلك يكون من أكل المال بالباطل، قال صلى الله عليه وسلم في حديث أنس في الصحيح: (أرأيت لو منع الله الثمرة عن أخيك فبم تستحل أكل ماله؟!!)، وبناءً على ذلك كأنه يأخذ هذا الرهن بدون مقابل. فمثلاً: قال لك: هذا القلم قيمته عشرون، أو هذه الساعة قيمتها خمسون، تقول: أنا أرغب أن أشتريها، قال: أعطني الخمسين، قلت: ليست عندي الآن ولكن أذهب وأحضرها، قال: لا أضمن، فقلت: إذاً خذ هذا القلم رهناً حتى أحضر لك الخمسين، فإن لم أحضر الخمسين فالقلم لك، فأصبح يأخذ القلم بدون مقابل، وهذا شيء لا يجيزه الشرع: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ [النساء:29]، هذا الرهن لقاء ماذا؟ ليس له مقابل، فأصبح يأكل مال أخيه بدون حق، والشرع لا يجيز هذا، ثم إنّ هذا يُربّي في نفوس المؤمنين الأنانية بالتعامل المادي. فيصبح الشخص لا يتعامل إلا مادياً مع أخيه، فإذا قال لك أخوك: أحضر المال وجاءه ظرف أو جاءه شيء فإما أن تقيله أو تطالبه بأصل العقد الذي بينك وبينه، أمّا أن تأخذ منه شيئاً بدون حق فلا، ولك أن تقول له: أطالبك بإمضاء البيع فهذا من حقك؛ لأنه إذا اشترى منك وقال لك: سأحضر لك المال فقد أوجب البيع وافترقتما، فالبيع واجب والرهن ساقط تأثيره في حال العجز، فيبقى عقد الصفقة الأول -الذي هو البيع والشراء الذي تمّ بينك وبينه- ترفعه إلى القضاء وتطالبه بحقك، أمّا أن تأخذ الرهن بدون مقابل فهذا من أكل مال الناس بالباطل، ويدخل في هذا بيع العربون، وبيع العربون فيه قولان مشهوران للعلماء رحمهم الله، وربما يأتي إن شاء الله الكلام عليه. والصحيح: أنه لا يجوز، وهو مذهب طائفة من السلف رحمهم الله؛ لأنه من أكل المال بالباطل، فإذا جئت تشتري سيارة ودفعت عربوناً ألفاً أو ألفين أو ثلاثة آلاف ثم عجزت عن دفع الباقي فالأصل الشرعي أن المالك البائع من حقّه أحد أمرين: إمّا أن يسامحك ويقبل العذر ويرّد لك ما قدّمت من العربون، وإمّا أن يطالبك بإمضاء البيع، يقول لك: البيع لازم، ومن حقه شرعاً أن يطالبك، فتأخذ الصفقة على ما أتممتها من بيع ثم تبيعها مرة ثانية، أمّا أن يأخذ البائع الخمسة آلاف أو العشرة آلاف والتي ربما لا يراها البعض شيئاً، ولكن تكون من كدّ الإنسان، فربما يكون المشتري قضى سنوات وعرق جبينه دهراً طويلاً ليحصل هذا المبلغ، ثم العربون إذا قلت بمشروعيته في مائة أو خمسين أو عشرين أو ألف فما تقول حين يكون بالملايين؟ لأنك إذا أجزت العربون تجيزه في جميع الصور؛ لأنه إذا أعطاه عربوناً بمليونين أو ثلاثة ملايين وأخذها البائع فبأي حق يأخذ هذه المبالغ الكبيرة التي لا موجب لها. قد يقول قائل: فَوَّتَ السوق عليه، نقول: لم يفوته، إن شئت تقول له: خذ الصفقة وتلزمه بالدفع؛ لأن هذا من حقك شرعاً، فالبيع الأول تام ووجب. أمّا أن تتّخذ العربون بديلاً فهذا من أكل المال بالباطل، ويصدق عليه بدون شك قوله تعالى: لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ [النساء:29]، والنبي صلى الله عليه وسلم أشار إلى هذا في بيع الثمار: (أرأيت لو منع الله الثمرة عن أخيك -مع أن الصفقة هنا لقاء شيء- فبم تستحل أكل ماله؟!!) فالعربون هذا -الخمسة آلاف والعشرة آلاف- لقاء أي شيء؟ إن قلت: فوّت عليّ السوق فحينئذٍ أمض الصفقة وطالبه أن يدفع لك المال كاملاً لا تَظْلِمه ولا تُظلم، ثم هو يتصرف؛ فلو جاءك وقال: أشتري منك هذه الدار بمائة ألف وأعطاك عربوناً عشرة آلاف فإنّه ملزم شرعاً أن يتم الصفقة؛ لكن لو جاءك وقال: عندي ظروف أو كذا تقول له: أنا أيضاً عندي ظروف، فإن كانت ظروفك أنت تسمح لك أن تساعده ساعدته، وإن لم تسمح فحينئذٍ ليس لك من شأن في ظروفه، وأنت شرعاً تدفع الضرر عن نفسك بعقد شرعي صحيح، وهو الذي غَرَّر بنفسه؛ لأنه لو ربحت الصفقة لأخذها، كذلك إذا خسرت، وعلى هذا: يلزم بدفع المبلغ كاملاً ويكون العربون ساقطاً ومحسوباً من أصل القيمة، أو يجب ردّه إلى صاحبه إن لم يوجبا البيع ولم يلزمه بإمضائه.

شرط البراءة.. صورته وأنواعه وحكمه

قال رحمه الله: [وإن باعه وشرط البراءة من كل عيبٍ مجهولٍ: لم يبرأ].

ذكر المصنف رحمه الله جملةً من الشروط التي يتفق عليها البائع والمشتري، وقسَّم هذه الشروط إلى: ما اعتد به الشرع واعتبره وهي الشروط الجائزة الصحيحة، وإلى نوعٍ حرمه الشرع ومنعه وهي الشروط المحرمة.

وقد بيَّنَّا ما يترتب على الشرط الصحيح، وما يترتب على الشرط الفاسد.

وهناك نوع من الشروط يشترطه البائع على المشتري في بعض صور البيع، وهو الذي يسمى بشرط البراءة، والمراد بشرط البراءة: أن يتخلى البائع عن الالتزام بالعيوب الموجودة في السلعة، كأن يعرض أرضاً للبيع أو سيارةً أو طعاماً ويقول: أنا بريء من كل عيب فيها، وهذا النوع من الشروط موجودٌ في زماننا، حيث إن الناس يتعاملون به في بيوعاتهم، وكثيراً ما يقع في بيع المزاد العلني في السيارات -مثلاً- فإنه إذا بيعت السيارة صيح عليها أنها كومة حديد، أو نحو ذلك من العبارات التي يقصد منها أن يتخلى البائع عن المسئولية.

وقبل الدخول في شرعية هذا النوع من الشروط أو عدم شرعيته ينبغي أن نقرر القاعدة الشرعية التي عليها الحكم بجواز الشرط وعدم جوازه.

فالأصل أن المسلم إذا باع لأخيه المسلم أن ينصح له وألاَّ يغشه وأن يمحضه البيان الذي لا تدليس فيه. والأصل في هذا قوله سبحانه وتعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [الحجرات:10]، فمن مقتضى أخوة الإيمان أن يرضى المسلم لأخيه المسلم ما يرضاه لنفسه، وأن يكره له ما يكرهه لنفسه، كما قال صلى الله عليه وسلم: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)، قال بعض العلماء: وهذا يدل بالمفهوم على أنه لا يؤمن حتى يكره له ما يكرهه لنفسه، فالمسلم بطبيعته لا يرضى أن يغشه أحد في سلعة يشتريها أو عقار يشتريه، ولا يرضى أن يكتم عنه عيباً موجوداً في السلعة، بل ولا يحبه ويكره من يعامله بهذه المعاملة، وهذا هو الأصل؛ لأن النفوس جُبِلَت على حب النصح وكراهية ضده، وأكد النبي صلى الله عليه وسلم هذا المعنى فقال: (الدين النصيحة، الدين النصيحة، الدين النصيحة -ثم قال في آخر الحديث-: ولأئمة المسلمين وعامتهم)، فمن النصح أن ينصح لعامة المسلمين، فإذا باع لهم شيئاً بيّن لهم ما في ذلك الشيء من العيوب.

وأكده عليه الصلاة والسلام حينما بيّن أن بركة البيع مقرونة ببيان العيوب. والدليل على هذا: قوله عليه الصلاة والسلام كما في الصحيحين من حديث حكيم بن حزم وغيره: (البيعان بالخيار ما لم يتفرقا، فإن صدقا وبيّنا بورك لهما في بيعهما، وإن كذبا وكتما محقت بركة بيعهما)، فالله يمحق البركة من المال ويمحق البركة من الخير الذي يجنيه البائع أو المشتري من السلعة التي يبيعها أو يدفع الثمن لقاءها إذا كتم عيباً في الثمن أو المثمن، فالنصوص واضحة في الدلالة على أنه ينبغي النصيحة، وثبت في حديث جرير رضي الله عنه وأرضاه: أنه اشترى فرساً فأعجبه، فلما ركبه وجده يستحق قيمةً أكثر من القيمة التي اشتراه بها، فرجع إلى البائع وزاده في الثمن، ثم ركب الفرس مرة ثانيةً فأعجبه فرجع ثانيةً وزاد في القيمة، ثم ركبه مرةً ثالثة فأعجبه فرجع إلى البائع مرةً ثالثة وزاده، فكأن البائع ظن أن بـجرير بلاءً أو خبلاً أو خفة فقال له جرير : (بايعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة، والنصح لكل مسلم)، فجعل هذا من النصيحة، وهو أنني لا أرضى أن أقتطع حقاً لأخي المسلم بدون وجه حق.

وتوضيح ذلك: أن السلعة إذا كان ظاهرها السلامة والبائع يعلم أن فيها عيباً لو علمه المشتري لما اشتراها، أو يكون ظاهرها السلامة وفيها عيب لو كان المشتري على علم به لأنقص الثمن، كأن تكون القيمة المتفق عليها عشرين ألفاً، وهذا العيب يُنقص ثمن السلعة إلى خمسة عشر ألفاً أو إلى عشرة آلاف، بل قد ينقصها ثلاثة أرباع القيمة فلا تستحق إلا خمسة آلاف، فكونه في هذه الحالة يعلم بهذا العيب ويكون على إلمام بوجوده وتأثيره بالسلعة ويسكت على ذلك، لا شك أنه خلاف النصيحة.

ثم المشكلة ليست هنا، بل إن سكوته يفضي إلى أكل المال بالباطل، وتوضيحه: أن السلعة بسبب هذا العيب تكون قيمتها عشرة آلاف، وبدون العيب تكون القيمة عشرين ألفاً، فمعنى ذلك أن العشرة آلاف الزائدة تؤكل بالباطل، وعلى هذا لا يجوز أن يعرض سلعةً يعلم فيها عيباً ويكتمه عن البائع؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم بيّن أن قيام الدين على النصيحة، وأن من لوازم الإسلام أن ينصح المسلم لأخيه المسلم، فيحب له ما يحب لنفسه ويكره له ما يكره لنفسه.

ومن هنا اختلف العلماء رحمهم الله فيما يسمى ببيع البراءة، واختلفت صور بيع البراءة على هذا الأصل، فإن كان البائع قد برئ من عيب سماه للمشتري، فلا إشكال، وإن كان قد برئ من عيب لم يسمِه للمشتري فهذا فيه الإشكال، فأصبح بيع البراءة على حالتين:

الحالة الأولى: أن يبرأ البائع من عيب يسميه للمشتري.

الحالة الثانية: أن يبرأ البائع من العيوب مطلقاً ولا يسميها ولا يذكرها للمشتري.

فأمّا إذا برئ البائع من عيب يسميه للمشتري فلا يخلو المشتري من حالتين:

الحالة الأولى: أن يعلم العيب ويراه بالاطلاع، كأن يقول له مثلاً: بعتك سيارتي الفلانية، وأنت تعلم أن بها العيب الفلاني، فهذه براءة من عيب معلوم من الطرفين، وهذا يقع خاصة مع الأصدقاء والإخوان والأقارب فإنهم يعلمون عيوب السلع؛ لأن المداخلة وقرب بعضهم من بعض يوجب اطلاع بعضهم على عيوب السلع الموجودة عند البعض، فإذا برئ له من عيب سمّاه وعلمه المشتري فبالإجماع يكون البيع جائزاً.

الحالة الثانية: أن يسمّي له العيب ولا يعلمه المشتري، ولا يعرف ما هو هذا العيب، كأن يقول له: بعتك هذه الساعة وفيها عيب كذا، ويكون المشتري جاهلاً بهذه العيوب وتخفى عليه، فالواجب على المشتري ألا يغرر بنفسه، وألا يقبل بالبراءة حتى يطلع أهل الخبرة ويرجع إليهم ويسألهم عن هذا العيب، فإن تقحم ورضي بذلك فقال بعض العلماء: إنه يلزم بالبراءة، فلو جاء يشتكي بعد ذلك وقال: هذا العيب أنا ما كنت أظن أنه بهذه الصفة، أو ما كنت أظن أنه بهذه المثابة؛ فإنه لا يقبل عذره؛ لأنه هو الذي فرّط وهو الذي قصر، والبائع قد برئت ذمته حينما سمّى له العيب وبيّنه له.

وقال بعض العلماء: بل يبقى له الخيار، على تفصيل سيأتي في خيار العيب. وهذا بالنسبة إذا سمى له عيباً لا يعرفه المشتري.

أمّا الحالة الثانية وهي: أن يبرأ له من العيوب ولا يسميها، كأن يقول له: هذا البيت أنا بريء من أي عيب فيه، سواء كنت أعلمه أو لا أعلمه، أو يقول له: هذا البيت أبيعكه كأرض تراب -أي ليس فيها شيء- فلا تلزمني غداً بعيب في البناء ولا بعيب في المنافع الموجودة في البيت، فأنا بريء من كل هذه العيوب وكما يقال في السيارات: (كوم حديد)، أو يقال في الخشب: (كوم خشب) أو نحو ذلك، وكل هذا يقصد منه التخلص من المسئولية، فهذا النوع من البيوع اختلف العلماء فيه على قولين:

قال بعض العلماء: إذا برئ براءة مطلقة من العيوب لا يجوز ولا يصح البيع؛ لأنه من أكل أموال الناس بالباطل، فلا يجوز ولا يصح هذا الشرط ولا يلزم به؛ ولأنه يفضي إلى الغرر، فأمّا كونه أكلاً لأموال الناس بالباطل؛ فلأنه يشتري السلعة وهي تستحق القيمة، فلما ظهر فيها العيب نقصت قيمتها فأُكل الفرق بالباطل، كما لو كانت قيمة السلعة عشرين ألفاً بدون عيب، وبالعيب تصبح عشرة آلاف، فتؤكل عشرة آلاف زائدة بدون وجه حق.

وأما أنه غرر، فالنبي صلى الله عليه وسلم ثبت عنه في الحديث الصحيح أنه: (نهى عن بيع الغرر)، فأنت حينما تشتري قلماً من أجل أن تكتب به فإذا به عيب يمنع من الكتابة، فبمجرد أن تطلع على هذا العيب لا تستطيع أن تنتفع بهذا القلم إلا إذا أصلحته، وقد يكون هذا العيب لا يمكن إصلاحه أو يكلف مالاً كثيراً لا تستطيع أن تقوم به فتعطلت منافعك، فأنت تغرر وتخاطر بنفسك، والبائع يغرر بالمشتري ويخاطر به، خاصة إذا نظر إلى المبيعات الغالية والمبيعات التي تتعلق بها مصالح الناس أو ترتبط بها أرواح الناس كأجهزة العلاج أو نحوها، فهذه أمور ليست بالسهلة حينما يبرأ البائع من كل عيب فيها ويخاطر المشتري بنفسه ويقبل بهذا الشرط ثم يلزم به شرعاً، ولا شك أن ما ذكروه صحيح، وبناءً على هذا: فإن هذا القول -أعني: المنع والتحريم- هو الصحيح؛ لأن الذي قال بالجواز استدل بقوله عليه الصلاة والسلام: (المسلمون على شروطهم)، ولكن يرد هذا الاستدلال بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما بال أقوام يشترطون شروطاً ليست في كتاب الله)، وتوضيحه: أنه إذا اشترط البراءة فمعناه أنه سيسقط حق المشتري في الرجوع بالأرش (أرش العيب)، والثابت في الصحيحين من حديث أبي هريرة : أن المشتري له حق في العيب كما قال صلى الله عليه وسلم: (لا تصروا الإبل والغنم، فمن ابتاعها فهو بخير النظرين بعد أن يحلبها: إن رضيها أمسكها، وإن سخطها ردها وصاعاً من تمر)، فهذا النوع من الشروط يسقط لتعارضه مع ما ثبتت به السنة وهو خيار الرد، وحينئذٍ يكون من الشروط التي تعارض كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، إضافة إلى أنها تورث الأحقاد وتنزع الثقة بين المسلمين، فإن الإنسان إذا اشترى من أخيه شيئاً بهذه الصفة ثم وجد فيه عيباً يمنع من الانتفاع به لا شك أن هذا سيؤثر عليه فيكرهه أو يبغضه ويوجب ذلك القطيعة بين المسلمين، وقد حرم الله عز وجل بيع المسلم على بيع أخيه؛ لأنه يفضي إلى القطيعة، فلا شك في أن هذا النوع من البيوع وهذا النوع من الشروط يفضي إلى هذه المفاسد الدينية والدنيوية، وبناءً عليه: فليس من حق البائع أن يبرأ إلا من عيب معلوم يسميه للمشتري ويكون منه على بصيرة من أمره، إن شاء أمضى الصفقة وإن شاء ألغاها.

خيار العيب وحكمه

قال رحمه الله: [وإن باعه داراً على أنها عشرة أذرع فبانت أكثر أو أقل: صح].

قوله: (وإن باعه داراً على أنها عشرة أذرع فبانت أكثر) كأن تبين خمسة عشر أو عشرين أو ثلاثين، (أو أقل) أي: لو باعه إياها على أنها عشرة فأصبحت تسعة أو ثمانية فإن البيع صحيح في أصله، ونركب الخيار للمشتري. فنقول له: أنت بالخيار إن شئت أن ترضى بهذه الدار بهذه الصفة وتأخذ أرش النقص -كما سيأتي إن شاء الله في خيار العيب- وإن شئت رددت الصفقة، وعلى هذا فهو بين أمرين:

الأمر الأول: أن يمتنع لفوات غرضه.

الأمر الثاني: أن يمضي ويأخذ الأرش.

ففي الحالة الأولى: أن يمتنع لفوات الغرض. مثال ذلك: لو اشتريت أرضاً في مخطط على أن مساحتها تساوي أربعمائة متر مربع مثلاً، فتبين أن المساحة أقلّ من ذلك، فتقول: لا أستطيع إمضاء البيع؛ لأن الشيء الذي من أجله اشتريت هذه الأرض لابد وأن يكون بهذه المساحة، فإذا قلّ عنها فات غرضي من البيع، فلو أننا ألزمنا المشتري في هذه الحالة لكان فيه ضرر وفيه إجحاف، فحينئذٍ نقول له: لك الخيار أن تأخذ الثمن ثم ترد الأرض وتشتري ما شئت مما يتفق أو يعين على تحقيق غرضك.

وأما في حالة العكس كأن تكون الأرض أكثر وأكبر من المساحة التي اتفق على شرائها. فمثلاً: لو كانت الأرض المتفق عليها أربعمائة متر فتبين أنها خمسمائة متر، فالمائة الزائدة ترد إلى البائع، وإذا أراد المشتري أن يشتريها فيشتريها بعقد جديد، وتكون مضافة إلى الأصل، ولا تصبح تابعة للبيع الأول.

قال رحمه الله: [ولمن جهله وفات غرضه: الخيار].

قوله: (ولمن جهله وفات غرضه) أي: من جهل هذا العيب الموجود في السلعة -كما ذكرنا- في بيع البراءة أنه قال له: بعتك هذه السيارة على أنني بريء من عيب كذا وسماه، وهذا العيب يجهله المشتري فله الخيار. أو (فات غرضه) كأن يكون اشترى الأرض -كما ذكرنا- بأربعمائة متر ليبني عليها شيئاً، ولابد من وجود هذه المساحة للبناء عليها فبان أقلّ، فمعنى ذلك أن الغرض سيفوت، مثلاً: لو اشترى الأرض من أجل أن يأخذ عليها قرضاً، والقروض تشترط مساحة معينة، فاشترى الأرض على أن مساحتها تعادل مائتي متر مربع، وتبين أن مساحتها دون المائتين، فحينئذٍ غرضه أن يقترض ويبني، فلما نقصت مساحة الأرض فات غرضه الذي من أجله اشترى، فمن حقه -وله الخيار- أن يقول له: أعطني مالي وخذ أرضك، ثم يشتري ما يحقق أو يعين على غرضه الذي من أجله يشتري السلعة.

الأسئلة

الفرق بين الشروط الصحيحة والفاسدة

السؤال: مر معنا سابقاً جواز اشتراط المشتري على البائع كون العبد مسلماً وكاتباً، أفليس هذان شرطان في البيع، أثابكم الله؟

الجواب: باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.

أما بعد:

فقد قلنا: إنه يجوز أن يشترط أن يكون العبد مسلماً، أو كاتباً، أو يكون عنده صنعة كالحجام ونحوه من أجل أن يستفيد ربُّ أو سيد العبد بعد شرائه، وبيّنا علة ذلك، والمصنف رحمه الله ذكر هذا في الشروط الصحيحة، ومسألة أن العبد فيه صفتان أو ثلاث صفات فهذا ذكر العلماء رحمهم الله أنها قد تكون شرعية، مثل اشتراط الإسلام يُقصد منه معنىً شرعي، كما لو أنه اشترط أن تكون الأمة مسلمة من أجل أن يُسَهِّل نكاحها من الغير؛ لأنها لو كانت وثنية فإنه لا يستطيع أن يتزوجها عبد مسلم، فهذا يكون فيه معنىً شرعي، ويكون المقصود منه مقصوداً شرعياً، ليس بمتمحض المنفعة مثل مسائلنا التي ذكرناها في عقود الصفقات حينما يجمع بين منفعتين أو بين شرطين في عقد البيع، وعلى هذا يجوز أن يقول له: أشترط أن يكون العبد كاتباً، ثم إن هذا يرجع إلى الصفات وليس بشرط زائد عن العقد، فالشرطان في البيع -كما تعلمون حسب الشرح الذي شرحناه- أن يقول له: أبيعك هذا الحطب على أن تكسره وتوصله، فـ(الحطب) الذي هو العين موجود أو مفقود؟ موجود، والتكسير سيوجد، والحمل سيوجد، وللتكسير قيمته وللحمل قيمته؛ لكن إذا قال له: أشترط أن يكون العبد مسلماً، فهذا شرط البيع أصلاً، أي: قائم في صفة المبيع بذاته وليس بشرط زائد عن البيع كعقد إجارة مثل أن يكسره ويحمله، كما لو قال: أشترط أن يكون الكتاب لونه أخضر، وأن تكون صفحاته من لون كذا؛ لكن لماّ تعقد البيع وتأتي بشرط زائد عن البيع فلا ترضى بالحطب مثلاً كما هو وتقول: أريد أن يكون مكسراً، ولا ترضى باللحم كما هو وتقول: أريد أن يكون مكسراً أو مفصولاً عن العظم، فحينئذٍ أدخلت الصفات على المبيع؛ لكن صفة الكتابة موجودة في العبد منذ أن تشتريه، وصفة الإسلام موجودة في العبد منذ أن تشتريه، ويقصد منها المعنى الشرعي، فهو يقصد الإسلام لمعنى شرعي، ويقصد الكتابة من أجل الرفق في نفس المبيع الذي يريد أن يشتريه، وعلى هذا ليس هذا من هذا، والبابان مختلفان، ولذلك لا تعارض بين الصفقتين في هذا البيع ولا في هذا البيع، والله تعالى أعلم.

الجوائح وتأثيرها في العقود

السؤال: في بيع السلم هل يجوز أن يشترط البائع على المشتري عدم رد المال إليه إن أصابت الثمار جائحة، أثابكم الله؟

الجواب: السلم -سيأتينا إن شاء الله-؛ لكن بالنسبة للذي يشترط ألا تكون هناك جائحة، الجوائح موضوعة، وحكم الجوائح لا إشكال فيه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بوضع الجائحة، وبناءً على ذلك إن أصابت الجائحة المال فللعلماء وجهان:

فبعضهم يرى: أنه يلزمه إحضار عين كالعين المعقود عليها، فلو اتفق معه على مائة صاع وأصاب هذه الأرض التي زرعها إعصار يعطي له مائة صاع من غيره، ويكون هذا من باب الانتقال إلى المعاوضة لوجود العذر الحسي؛ لأن الأعذار الحسية تمنع من نفاذ العقود وحينئذٍ لا يلزم صاحب الأرض؛ لأن الأرض أخرجت شيئاً وهلك فليس بوسعه أن يخرجها مرة ثانية في نفس الوقت المتفق عليه؛ لأنه قال: (إلى أجل معلوم)، فعقد السلم إلى أجل معلوم، وحينئذٍ يلزمه إذا فات منه أن يأتيه بمثل المتفق عليه من غيره، مثل الإجارة فإنه إذا قال: أريدك أن توصلني إلى مكة وتعطلت سيارته، يلزمه أن يستأجر سيارة مثلها في نفس الصفات فإن كانت هذه مثلاً مكيفة تكون هذه مكيفة، وكانت هذه تحمل الأغراض هذه تحمل الأغراض، ويستأجرها له من الموضع الذي فسدت فيه سيارته من أجل أن توصله إلى المكان المتفق عليه، وهكذا لو استأجره فأصابه عذر أقام غيره مقامه، وهذا أصل ذكره العلماء، وسيأتي معنا في باب الإجارة، والبيع في حكم الإجارة كما لا يخفى. والله تعالى أعلم.

حكم اشتراط المرأة عدم الزواج عليها في عقد النكاح

السؤال: إذا اشترط الولي على الزوج ألا يتزوج على ابنته زوجة ثانية، فهل هذا الشرط معتبر، أثابكم الله؟

الجواب: قد تشترط المرأة أو يشترط وليها أنه لا سابقة ولا لاحقة، ولا بأس أن يشترطوا؛ لكن: (كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل)، وهذه المسألة اختلف فيها السلف رحمهم الله. فبعض العلماء يرى أنه لو اشترطت ألا سابقة ولا لاحقة، أي: لا تكون له زوجة؛ لأنه في بعض الأحيان يخفي الزوج أمر زواجه، ويتزوج على زوجته القديمة فتشترط: (لا سابقة ولا لاحقة)، فهذا الشرط للعلماء فيه وجهان:

فبعض العلماء: يقول: الشرط ماضٍ، فإذا وُجد عنده امرأة سابقة فإنه من حقها أن تفسخ النكاح، ويكون المهر لها، ويمضي العقد على الوجه الذي تمّ بينهما، وليس من حقه أن يبقيها، وتكون طلقة بائنة بينونة صغرى ولا تحل له إلا بعقد جديد.

وقال بعض العلماء: إن اشترطت: (لا سابقة ولا لاحقة) فإن الشرط باطل والعقد صحيح، وهذا هو الذي تطمئن إليه النفس -ونسأل الله أن يتمم بخير-، وإن كان هذا لا يرضي النساء؛ لكن هذا حكم الله سبحانه وتعالى، فالله عز وجل أخبرنا على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم أن: (كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل)، والذي في كتاب الله: فانكحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ [فاطر:1]، فالله يندب ويحبب ويرغب؛ لأن هذا من الرفق بالنساء، فالمرأة قد تكون عانسة، أو مطلقة، أو مات عنها زوجها فتضم إلى بيت من البيوت تحت رجل يستر عرضها، ويقوم على شأنها ويرفق بها، فإذا جاءت هذه تقول له: لا سابقة ولا لاحقة، آذت المسلمين وأضرت بهم، ثم أيضاً أضرّت به هو فهو قد يقع في الحرام، وهذا موجود في بعض البيئات التي يرون نفاذ هذا الشرط فإنها تقع مصائب عظيمة، فالرجل يتزوج المرأة وتشترط عليه: لا سابقة ولا لاحقة ثم تنجب له عشرة أبناء، وقد يذهب جمالها فيخاف على نفسه الحرام وقد يصيبها شيء من العاهات والآفات فيخاف على نفسه الحرام، فلا يستطيع أن يطلقها ولا يستطيع أن يتزوج عليها؛ لأنه إذا تزوج عليها طلقت طلقة بائنة فذهب عليها أولادها، وإذا بقي ربما يقع في الحرام، فهذا الشرط لا شك أنه يضر بالزوج ويضر بالمرأة ويضر بالنساء، فمن باب الرفق بالجميع أنه لا يعتبر هذا الشرط ولا يعتد به، وهذا هو الذي تميل إليه النفس، وإن كان هناك من خالف، لكن الصحيح: أن هذا الشرط يخالف شرع الله. وأما من قال: إن هذا الشرط مشروع لقوله عليه الصلاة والسلام: (إن أحق ما وفيتم به من الشروط ما استحللتم به الفروج) ، فنقول: نعم بشرط أن يكون موافقاً لشرع الله لا معارضاً له، فمثلاً: تشترط عليه أن يكون لها بيت داخل المدينة، فهذا شرط استحلّ به الفرج فلابد أن يفي لها، أو يشترط وليها فيقول: أشترط أن تؤثث بيتها من الفراش الفلاني، أو أن تكون لها شقة، فيشترط شروطاً في كتاب الله وفيها رفق بالمرأة، وفيها أيضاً رفق بالزوج، فإذا كان على هذا الوجه فهذا من كتاب الله وموافق لشرع الله؛ لكن إذا اشترطت عليه: لا سابقة ولا لاحقة ويبقى على امرأة واحدة؛ فقد لا يأمن على نفسه الحرام إن حاضت، أو إن حملت، أو إن نفست، فهذا لا شك أن فيه ضرراً، وهو يخالف شرع الله؛ لأنه يفضي إلى تحريم التعدد عليه، وعلى هذا: فالذي تطمئن إليه النفس أن الشرط لاغٍ والعقد صحيح وتام. والله تعالى أعلم.

حكم بيع التقسيط والزيادة فيه

السؤال: ما الدليل على جواز الزيادة في بيع التقسيط؟ وهل يجوز للبائع إذا أتى موعد السداد وعجز المشتري عن السداد أن يزيد عليه في القسط، أثابكم الله؟

الجواب: أما المسألة الأخيرة وهي أن يزيد عليه في القسط فهذا ربا، فلو قال له: إما أن تسدد في الوقت فإذا لم تسدد في الوقت فعليك زيادة (6%)، فهذا عين الربا بإجماع العلماء رحمهم الله؛ لكن لو أنه اشترى منه بالتقسيط أو إلى أجل وزاد في القيمة فهذا لا بأس به؛ وذلك أولاً: لعموم قوله تعالى: وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ [البقرة:275]، فإن بيع المؤجل قيمته ليست كالمعجل، وقد جعل الله لكل شيء قدراً، فإنك إذا بعت السيارة حاضرة قيمتها مائة ألف؛ لكن إذا بعتها إلى أجل تضررت بتأخر القيمة فجعلت القيمة المؤجلة غير القيمة المعجلة وزدت فلا بأس.

وأما مسألة تقسيط الثمن فإن الشرع قد أذن بتقسيط الثمن كما في بيع المكاتب، فإن المكاتب يدفعها أقساطاً، وقد قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها لـبريرة : (إن شئت نقدتك إياها) أي: نقدتك الأقساط المؤجلة، وبيع التقسيط بإجماع العلماء ليس فيه حرج.

أما حديث: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيعتين في بيعة) فإنه لا ينطبق على بيع التقسيط إلا في صورة واحدة وهي أن يقول له: أبيعك هذه السيارة بمائة ألف نقداً وبمائتي ألف إلى نهاية السنة، ويفترقا ولا يحددا، أما لو حدد أنه اشتراها حاضرة أو اشتراها إلى أجل فليست من بيعتين في بيعة، فإذا قال له: اشتريت بمائة بالتقسيط فقد تمت صفقة واحدة ولم تتم صفقتين، ولذلك ابن عباس رضي الله عنهما حبر الأمة وترجمان القرآن الذي دعي له بالفقه في الدين فسّر الحديث على هذا الوجه: أنه إذا أوجب إحدى الصفقتين فليس من بيعتين في بيعة، وروى عبد الرزاق في مصنفه، وابن أبي شيبة في مصنفه عن طاوس وعن جماعة من السلف وعن ابن سيرين أنه حكى عن جماعة من التابعين أنهم لا يشكُّون ولا يختلفون أنه إذا أوجب إحدى البيعتين فليس ببيعتين في بيعة؛ إنما المحرم أن يقول له: اشتريت. ولا يحدد هل اشترى نقداً أو اشترى إلى أجل، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (فله أوكسهما -أي: أوكس القيمتين- أو الربا)، فجعله حائزاً إما على القليل أو حائزاً على الربا، وهذا إذا لم يحدد إحدى البيعتين؛ لأنه إذا حدد إحدى البيعتين لم يقع في التخيير ولم يقع في الربا، وعليه: فإن هذا -أعني: بيع التقسيط- جائز ومشروع، وحكى بعض العلماء أنه لا خلاف بين أهل العلم في جواز بيع الأجل -أي: المقسط- الذي يوضع على الشهور أو يوضع على السنوات. والله تعالى أعلم.

حكم البراءة من العيوب التي يعلمها المشتري

السؤال: إذا اشترطت على من يشتري السيارة أن يأخذها لأهل الخبرة كمهندس ونحوه ثم أبرأ بذلك عند ذكر العيوب التي يعرفها، فهل هذا جائز، أثابكم الله؟

الجواب: باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.

أما بعد:

فإذا عرض السيارة للبيع وقال للمشتري: خذها إلى من له خبرة ينظر فيها ويبين لك عيوبها، فأخذها ومضى بها إلى مهندس ونحوه فاكتشف أن بها عيوباً، وجاء إلى البائع وقال: وجدت فيها العيب الفلاني وسمى العيوب، فقال له البائع: أنا بريء منها، فإن البراءة صحيحة والبيع صحيح إذا أنعما وأطلع البائع المشتري أو مكّن المشتري من الاطلاع عليه على هذا الوجه، وهكذا لو قال له: هذه الأرض، وهذه مواصفاتها وهذا ما فيها فاذهب إلى أهل الخبرة فإن وجدوا بها عيباً فأخبرني، ثم لما وجدوا فيها عيباً أو عيوباً ذكرها له فبرئ منها وأوجب الصفقة على ذلك صح هذا؛ لأن المشتري يكون على بينة من أمره وليس فيه غرر ولا غبن. والله تعالى أعلم.

مدى صحة قولهم: (البضاعة لا ترد ولا تستبدل)

السؤال: بعض المحلات تشترط ويُكتب في الفاتورة: البضاعة لا تردّ ولا تستبدل، هل هذا الشرط صحيح؟ وهل يؤثر في العقد، أثابكم الله؟

الجواب: هذا الشرط يقصد منه أحد أمرين:

الأمر الأول: إما أن يقصد صاحب المتجر أن البضاعة إذا خرجت من المحل فإني لا أردها ولا أستبدلها إذا جاءت كاملة بنفس الصفة، كأن تكون تبيع أطعمة أو تبيع ملبوسات أو أقمشة فتقول: من خرج من دكاني لا أردّ شيئاً مما اشتراه، من حيث الأصل الشرعي: من فارقك وقد اشترى منك شيئاً يُلزم بالصفقة وليس من حقه أن يرجع، فإذا رجع وطابت نفسك أن ترد له فهذا لك، ففي هذه الحالة إذا قُصد من قوله: (البضاعة لا ترد ولا تستبدل) دفع إحراج الناس، كأن يشتري منك نوعاً من القماش ثم يرجع بعد ساعة فيقول: أريد النوع الفلاني الثاني أو الثالث، وهذا يُحْدِث عندك ربكة ويحدث عندك تعطيل العمال ويضر بعملك ولا تريد إلاَّ أن تكون أعمالك منظَّمة مرتبة، بحيث إذا أخذت المال تستطيع أن تنتفع به وتستطيع أن تشتري به، خاصة بالنسبة للأشياء التي لها قيم غالية، فإنه يأخذ بيد ويشتري بيدٍ أخرى ولربما النصف ساعة هذه التي يملك فيها العشرة آلاف والعشرين ألف قد يشتري بها صفقة ثانية فإذا جاءه هذا يريد أن يستبدل أو يرد فإنه يضر به، فهذا النوع من الاشتراط، وهو أنه إذا رد لك السلعة كاملة ولا تريد أن تردها، فعندها من حقك أن تقول: لا أُقيل، وهذا يسمى الامتناع من الإقالة، وهو من حقك؛ لأن الله يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ [المائدة:1]، فإذا أخذ الصفقة كاملة وليس فيها عيب يلزمه أن يمضي البيع.

الأمر الثاني: أن يُقصد من هذه العبارة أنه حتى لو وُجد عيب فليس من حقك أن ترد وليس من حقك أن تستبدل، فهذا باطل، وليس من حق البائع أيّاً كان أن يشترط على المشتري أنه إذا وجد العيب ليس من حقه أن يرد، وهذا ما سميناه ببيع البراءة المطلقة؛ لما فيه من أكل أموال الناس بالباطل، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في الحديث الصحيح: (لا تصروا الإبل والغنم، فمن ابتاعها فهو بخير النظرين) (ابتاعها) أي: اشتراها.

ومعنى الحديث أنهم كانوا في القديم يأخذون الناقة ويحبسون اللبن في ضرعها يوماً أو يومين فينتفخ الضرع، فمن رأى ضرع الناقة ظن أنها حلوب وزاد في السعر ورغب في الشراء، فلا ينكشف هذا العيب إلا بعد ثلاثة أيام؛ لأنه يحلبها في اليوم الأول الحليب المخزّن فيها فإذا به كثير، ثم في اليوم الثاني ينقص، وفي اليوم الثالث تتجلى الأمور في الناقة وفي الشاة أنها ليست بحلوب، فالنبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الغش فقال: (لا تصروا الإبل والغنم، فمن ابتاعها) أي: اشترى هذا النوع من الصفقات المبنية على الغش (فهو بخير النظرين: إن رضيها أمسكها) إن أعجبته فأمسكها فلا إشكال، كأن تشتري الناقة وإذا بها مصراة وأنت تريدها للحم، فتقول: كونها حلوباً أو ليست بحلوب لا يهمني؛ لأنني أريدها أضحية أو غير ذلك فلا يضرك كونها ليست بحلوب، إذاً: فهذا العيب لا يضرك فتمسكها (إن رضيها أمسكها، وإن سخطها ردها وصاعاً من تمر) فقوله عليه الصلاة والسلام: (ردها) أثبت الرد بالعيب، فلما يكتب على الفاتورة: (لا ترد ولا تستبدل) ليس من حقه الامتناع مع وجود العيب، فإذا كان فيها عيب فمن حقك أن ترد ومن حقك أن تستبدل إلاَّ في بيع العين -كما سيأتي-، فمن قال: أي سلعة تخرج من المحل لا ترد ولو كانت معيبة، نقول له: هذا باطل.

وبناءً على ذلك: كلمة: (البضاعة لا ترد ولا تستبدل) فيها تفصيل: إن قُصد منها إسقاط الحقوق في العيوب، فباطلة وليست بشرط معتبر؛ لأنه ليس من الشروط التي في كتاب الله، وإن قُصد منها إمضاء البيوع مع تمام الصفقات وعدم وجود العيوب فيها فإنه شرط صحيح؛ لأنه يوافق مقتضى العقد، وهذا يندرج تحت القسم الثاني من الشروط وهو -كما ذكرنا- أن يوافق مقتضى العقد؛ لأن مقتضى العقد إتمام الصفقة، فإذا قال لك: لا ترد ولا تستبدل فمعناه أنه يريد أن يتم الصفقة، والأصل في البيع أن تتم صفقته ولا تنقض، وأن تمضي ولا ترد، وعلى هذا فهو شرط شرعي صحيح إذا كانت السلعة مستوفية لصفاتها التي بيعت عليها. والله تعالى أعلم.

الفرق بين (الفساد) و(البطلان)

السؤال: هل هناك فرق بين لفظ (الفساد) ولفظ (البطلان) وذلك في العقود، أثابكم الله؟

الجواب: يعبر العلماء رحمهم الله بفساد البيع ويعبرون ببطلانه ولا يفرقون بين الفساد والبطلان على مذهب الجمهور، لكن عند الحنفية رحمهم الله تفريق بين الباطل والفاسد، فيجعلون الباطل ما لم يشرع بأصله ولا وصفه، والفاسد ما بطل بوصفه دون أصله، فيكون البيع في أصله مشروعاً؛ ولكن صفة البيع والطريقة التي تم بها البيع هي التي أوجبت فساده؛ ولكنها لا توجب بطلانه من أصله، فمثلاً بيع الخمر والميتة والخنزير هذه يقولون: بيع باطل؛ لأن الشرع لم يجعل لقاء الخمر قيمة، ولم يجعل لقاء الخنزير قيمة، ولم يجعل لقاء الميتة قيمة، لقوله عليه الصلاة والسلام: (إن الله ورسوله حرَّم بيع الميتة والخمر والخنزير والأصنام) فهم يفرقون بين الباطل والفاسد من هذا الوجه، والصحيح مذهب الجمهور، وهو أنه لا فرق، وعند طائفة من العلماء أن الخلاف لفظي؛ لأن النتيجة واحدة والثمرة واحدة، ولكنه خلاف مصطلحات، وأيّاً ما كان فمن ناحية الحكم فإن الحكم واحد عند المذهبين؛ لكن الجمهور لا يفرقون بين الباطل ولا الفاسد، فيرون أنهما بمعنى واحد. والله تعالى أعلم.

وصلى الله وسلم وبارك على عبده ونبيه محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , شرح زاد المستقنع باب الشروط في البيع [2] للشيخ : محمد مختار الشنقيطي

https://audio.islamweb.net