إسلام ويب

وردت عدة صيغ للتكبير والتحميد والتسبيح والتهليل بعد الصلاة، الثابت منها أربع صيغ، كما وردت أحاديث عدة ذكرت جملة من الأدعية والاستعاذات والأذكار المستحبة عقب الصلاة، من هذه الأذكار قراءة آية الكرسي، وسورة الإخلاص والفلق والناس، ودعاء: (اللهم أعني على ذكرك ...) وغيرها، ولم يستحب الجمهور الجهر بهذه الأذكار خلافاً لبعض الحنابلة الذين أجازوه مع مراعاة جملة شروط.

شرح حديث أبي هريرة: (من سبح الله دبر كل صلاة ثلاثاً وثلاثين ...)

بسم الله الرحمن الرحيم

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وحبيبه وخليله، وخيرته من خلقه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً.

أما بعد:

الحديث الأول: حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من سبح -وفي رواية: من سبح الله- دبر كل صلاة ثلاثاً وثلاثين، وحمد الله ثلاثاً وثلاثين، وكبر الله ثلاثاً وثلاثين فتلك تسع وتسعون، وقال تمام المائة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، غفرت خطاياه، وإن كانت مثل زبد البحر ) رواه مسلم . وفي رواية أخرى: ( أن التكبير أربع وثلاثون ). ‏

تخريج الحديث

هذا الحديث رواه مسلم رحمه الله في صحيحه، في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب استحباب الذكر بعد الصلاة، وبيان صفته، ورواه أيضاً أبو عوانة في مستخرجه على صحيح مسلم، وابن حبان وابن خزيمة في صحيحيهما، والبيهقي في سننه، والبغوي وأحمد والنسائي في كتابه عمل اليوم والليلة، وهو جزء من السنن الكبرى، وطبع مستقلاً محققاً أيضاً وغيرهم.

شواهد الحديث

أما الرواية الأخرى: وهي قوله: وفي رواية أخرى: (أن التكبير أربع وثلاثون) يعني: سبح الله ثلاثاً وثلاثين، وحمد الله ثلاثاً وثلاثين، وكبر الله أربعاً وثلاثين، ولم يذكر فيه: ( وقال تمام المائة: لا إله إلا الله )، لم يذكر فيه هذا.

فقد جاء أيضاً في صحيح مسلم، كما هو ظاهر صنيع المصنف رحمه الله، فإن قوله: رواه مسلم، وفي رواية أخرى: قد يدل على أن الرواية الأخرى هي أيضاً في صحيح مسلم، وهو كذلك، فإن هذه الرواية موجودة في صحيح مسلم من حديث كعب بن عجرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( معقبات لا يخيب قائلهن أو فاعلهن )، وإنما سميت معقبات؛ لأنها تقال عقب الفريضة، قال تعالى: لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ [الرعد:11]، يعني: يعقب بعضهم بعضاً، يأتي بعضهم عقب بعض، والمقصود الملائكة.

فقوله: (معقبات) يعني: أنها تقال عقب الفريضة، قال: ( لا يخيب قائلهن أو فاعلهن )، هكذا في الرواية.

ثم قال: ( دبر كل صلاة مكتوبة )، وهذا دليل على أن الكلام في الصلاة المفروضة وليس في النافلة، ثم قال: ( ثلاث وثلاثون تسبيحة، وثلاث وثلاثون تحميدة، وأربع وثلاثون تكبيرة ).

فالشاهد قوله: ( وأربع وثلاثون تكبيرة )، وهو كما قلت: في صحيح مسلم من حديث كعب بن عجرة .

وله شواهد أخرى كثيرة ربما جاء بعد قليل ذكر شيء منها.

فمن شواهده وسنحتاجه في أكثر من موضع: حديث زيد بن ثابت رضي الله عنه أنه قال: ( أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أو قال: أمِرْنا )، والآمر لهم هو النبي عليه الصلاة والسلام، قال زيد بن ثابت : ( أمرنا أن نسبح في دبر كل صلاة ثلاثاً وثلاثين، ونحمد ثلاثاً وثلاثين، ونكبر أربعاً وثلاثين )، فهذا القدر من الحديث يشهد لحديث كعب بن عجرة، وما أشار إليه المصنف في الرواية الأخرى.

قال زيد بن ثابت في آخر الحديث: ( فأتي رجل في منامه فقيل له: اجعلوها -الحديث طويل، أذكر بعضه الآن- قال: اجعلوها خمساً وعشرين، واجعلوا معها التهليل، فلما أصبح الرجل أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره بذلك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: فافعلوه )، وأقر ما رآه ذلك الأنصاري.

وهذا الحديث حديث زيد بن ثابت رضي الله عنه حديث صحيح , رواه الترمذي في سننه في كتاب الدعوات، ورواه النسائي في سننه أيضاً في كتاب السهو، وفي عمل اليوم والليلة أيضاً له، وأحمد والدارمي والطبراني وابن خزيمة وابن حبان وصححاه، والحاكم في مستدركه وصححه، ووافقه الذهبي، وإسناده صحيح كما قال ذلك ابن خزيمة وابن حبان والحاكم والذهبي وغيرهم، بل رجاله رجال الصحيح، غير كثير بن أفلح وهو ثقة، ولكنه ليس من رجال الشيخين.

صيغ التكبير والتهليل ونحوهما بعد الصلاة

في هذا الحديث حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وحديث كعب بن عجرة، وحديث زيد بن ثابت وغيرها، فيها مسألة: وهي صيغ التكبير والتهليل بعد الصلوات.

وقد وردت الصيغ التي يستحب أن تقال بعد الصلاة عدة صور مر شيء منها نستذكرها معكم الآن:

الصيغة الأولى مما ثبت وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم من الذكر بعد الصلاة: سبحان الله ثلاثاً وثلاثين، والحمد لله ثلاثاً وثلاثين، والله أكبر ثلاثاً وثلاثين، وتمام المائة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، هذا جاء في حديث أبي هريرة الذي رواه مسلم، هذه هي الصيغة الأولى.

الصيغة الثانية: يسبح الله ثلاثاً وثلاثين، ويحمد الله ثلاثاً وثلاثين، ويكبر الله أربعاً وثلاثين، فيقول: سبحان الله ثلاثاً وثلاثين مرة، والحمد لله ثلاثاً وثلاثين مرة، والله أكبر يقولها أربعاً وثلاثين مرة، وهذا جاء في حديث كعب بن عجرة في صحيح مسلم، وأيضاً حديث زيد بن ثابت، الذي رواه أحمد، وأصحاب السنن، وابن خزيمة، وابن حبان، والحاكم وصححه، وإسناده صحيح، رجاله رجال الصحيح، غير كثير بن أفلح وهو ثقة، فالحديث صحيح.

الصيغة الثالثة: التسبيح خمس وعشرون، والتهليل خمس وعشرون، والتحميد خمس وعشرون، والتكبير خمس وعشرون، سبحان الله يقولها: خمساً وعشرين مرة، والحمد لله خمساً وعشرين مرة، ولا إله إلا الله خمساً وعشرين مرة، والله أكبر خمساً وعشرين مرة، فهذه خمس وعشرون في أربعة يساوي مائة، هذه الصيغة وردت في حديث زيد بن ثابت : ( أن رجلاً أتي في منامه، فقيل له: اجعلوها خمساً وعشرين، واجعلوا فيها التهليل، فغدا الرجل على النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره، فقال: فافعلوه )، فأقر هذه الرؤيا فكانت رؤيا حق، وتشريعاً أقره النبي صلى الله عليه وسلم، هذه ثلاث صيغ.

الصيغة الرابعة: التسبيح عشر مرات، والتحميد عشر مرات، والتكبير عشر مرات، هذا لم نذكره فيما أعتقد، لم نذكره، لكن الصيغة الرابعة التي ثبتت بإسناد صحيح: أن يسبح الله تعالى في دبر كل صلاة عشراً، ويحمده عشراً، ويكبره عشراً، وهذا جاء في حديث صحيح، في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( خصلتان لا يحصيهما مسلم إلا دخل الجنة، وهما يسير ومن يعمل بهما قليل: يسبح الله دبر كل صلاة عشراً، ويحمده عشراً، ويكبره عشراً )، فهذه ثلاثون، ثم ذكر بقية الحديث أنه يسبح الله تعالى ويحمده ويكبره عند النوم ثلاثين .. إلى آخر الحديث.

فهذا الحديث يدل على أنه يستحب للإنسان أن يقول عقب الصلاة: سبحان الله عشر مرات أحياناً، والحمد لله عشر مرات، والله أكبر عشر مرات، فيكون المجموع ثلاثين، ويقول عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه: ( فأنا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يعقدهن بيده ) بالإفراد، وهذا دليل على أن التسبيح يعقد باليمين، وقد جاء هذا صريحاً في سنن أبي داود من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص أيضاً، وسنده صحيح أنه قال: ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعقد التسبيح بيمينه )، رواه أبو داود والبيهقي وغيرهما وإسناده صحيح، وهو دليل على أن المشروع عقد التسبيح بالأصابع، وعقدها أيضاً باليمين دون الشمال.

قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث السابق، حديث عبد الله بن عمرو بن العاص قال: ( خمسون ومائة باللسان، وألف وخمسمائة في الميزان ) ما معنى قوله: (خمسون ومائة باللسان)، من أين جاءت الخمسون والمائة باللسان لأنها خمس صلوات، كل صلاة يقول بعدها ثلاثين، يعني: ما بين تسبيح وتحميد وتكبير، فثلاثين في خمسة مائة وخمسون؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( خمسون ومائة باللسان، وألف وخمسمائة في الميزان ).

ثم قال في بقية الحديث: ( فإذا أوى إلى فراشه سبح وحمد وكبر مائة، فتلك مائة باللسان وألف في الميزان ) فالتسبيح والتحميد والتكبير عند النوم مائة، كأنها ما بين التسبيح والتحميد والتكبير، ويكون التكبير أكثر منها، بدليل حديث أبي هريرة السابق، فيكون التكبير أربعاً وثلاثين، فهذه مائة باللسان، وألف في الميزان.

قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( فأيكم يعمل في اليوم الواحد ألفين وخمسمائة سيئة؟ قال بعض الصحابة لرسول الله صلى الله عليه وسلم: كيف لا يحصيهما؟! )؛ لأنه قال في أول الحديث: ( ومن يعمل بهما قليل، قال بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: كيف لا يحصيهما؟ قال: يأتي الشيطان أحدكم وهو في الصلاة، فيقول له: اذكر كذا، اذكر كذا، حتى يشغله، ويأتيه وهو في مضجعه، فلا يزال ينومه حتى ينام )، يعني: دون أن يقولها، وهذا الحديث حديث عبد الله بن عمرو بن العاص، رواه الترمذي أيضاً في سننه، في كتاب الدعوات، ورواه ابن ماجه والحميدي في مسنده، وعبد الرزاق وابن أبي شيبة في مصنفيهما، والنسائي في عمل اليوم والليلة، وأحمد، ورواه أيضاً أبو داود وابن حبان .. وغيرهم من طرق كثيرة، عن عطاء بن السائب عن أبيه عن صحابي الحديث الذي ذكرته قبل قليل: عبد الله بن عمرو بن العاص .

و عطاء بن السائب معروف أنه قد اختلط، لكن روى عنه هذا الحديث بعض من روى عنه قبل الاختلاط، كـحماد بن زيد .. وغيره، ولذلك صححنا إسناد هذا الحديث فهذا يدل على الصيغة الرابعة من صيغ الذكر بعد الصلاة.

هناك صيغتان ذكرهما بعض أهل العلم كالإمام ابن تيمية، والشيخ عبد الرحمن السعدي رحمهما الله وغيرهم: سبحان الله إحدى عشرة مرة، والحمد لله إحدى عشرة مرة، والله أكبر إحدى عشرة مرة، فيكون المجموع ثلاثاً وثلاثين.

وهذه لم أذكرها؛ لأنها جاءت من فهم سمي في حديث أبي هريرة، وقد استغربها جماعة من أهل العلم، ولم تأت في حديث مفرد، والظاهر أنها ترجع إلى الحديث الآخر، أن يقول: سبحان الله ثلاثاً وثلاثين، والحمد لله ثلاثاً وثلاثين، والله أكبر ثلاثاً وثلاثين، ثم يقول تمام المائة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له.

والصيغة السادسة: ...

هل جاء التسبيح ثلاثين فحسب؟ هذا لم أقف عليه، التسبيح ثلاثين فحسب لم أقف عليه.

على كل حال الشيخ ابن تيمية رحمه الله ذكر -وهذه من العجائب- ذكر الصيغ الست في الفتاوى الكبرى في موضعين، ففي موضع أسقط الخامسة وفي موضع أسقط الرابعة، فإذا وجدت النهاية وجدت هذه الصيغ التي ذكرها رحمه الله خمساً، وبإسقاط الصيغة الأخيرة التي فيها إحدى عشرة وإن كان جاءت في رواية في صحيح مسلم وغيره، لكن يظهر أنها فهم للحديث، وليست نصاً عن النبي صلى الله عليه وسلم، وجاءت في حديث آخر عند البزار، ذكره الحافظ ابن حجر في الفتح في كتاب الأذان في الذكر بعد الصلاة، وذكر أنه حديث ضعيف، ولذلك كأنه مال رحمه الله إلى تضعيف هذه الصيغة وهذه الزيادة.

فتبقى الصيغ الثابتة الواردة أربعاً. والله تعالى أعلم.

شرح حديث: (أوصيك يا معاذ لا تدعن دبر كل صلاة أن تقول: اللهم أعني ...)

ننتقل للحديث الثاني: وهو حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: ( أوصيك يا معاذ ! لا تدعن دبر كل صلاة أن تقول: اللهم أعني على ذكرك، وشكرك، وحسن عبادتك ).

تخريج الحديث

والحديث كما يقول المصنف رحمه الله: رواه أحمد وأبو داود والنسائي بسند قوي.

الحديث رواه أحمد في مسنده، وأبو داود في سننه، في كتاب الصلاة، باب الاستغفار، ورواه النسائي -كما أشار المصنف- في سننه أيضاً، في كتاب السهو، باب نوع آخر من الدعاء، ورواه أيضاً ابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما، ورواه الحاكم وقال: صحيح على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي .

أما كونه صحيحاً فنعم، أما كونه على شرط الشيخين فقد تعقبهما الحافظ ابن حجر، كما في نتائج الأفكار المخطوط، وذكر أن في رجاله من لم يرو له البخاري، وكذلك رواه الطبراني وغيرهم.

والحديث إسناده صحيح رجاله رجال الصحيح غير عقبة بن مسلم وهو ثقة، وفي أول الحديث قصة: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ بيد معاذ

، وقال له: والله يا معاذ

! إني لأحبك، فقال معاذ

: وأنا والله يا رسول الله إني لأحبك، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: لا تدعن دبر كل صلاة أن تقول: اللهم أعني على ذكرك، وشكرك، وحسن عبادتك ).

وقد قال معاذ رضي الله عنه: (وهذا للصنابحي الذي روى عنه هذا الحديث، فإن معاذاً قال للصنابحي الذي روى عنه هذا الحديث: (والله إني لأحبك، فلا تدعن دبر كل صلاة مكتوبة أن تقول..) فذكر الحديث.

وكذلك الصنابحي أوصى به أبا عبد الرحمن الحبلي الذي رواه عن الصنابحي، فإنه قال له: يا أبا عبد الرحمن والله إني لأحبك: لا تدعن دبر كل صلاة أن تقول، وذكر الحديث.

وأبو عبد الرحمن الحبلي أيضاً قاله لـعقبة بن مسلم التجيبي، قال له: يا عقبة ! والله إني لأحبك: لا تدعن دبر كل صلاة أن تقول: ... ) الحديث.

فهذا الحديث يسمى عند علماء المصطلح بالمسلسل، كل راوٍ يقول لمن أخذ عنه: (إني لأحبك لا تدعن) ولو قلبنا الإسناد الآن، نحن ذكرناه الآن من أعلى إلى أسفل، لكن لو بدأنا الإسناد من أدنى إلى أعلى كيف نقول الآن؟ أول راوٍ يمكن أن نقوله الآن على حسب ما ذكرت لكم:

عقبة بن مسلم يقول: أبي عبد الرحمن الحبلي .

يعني: يروي عنه أنه قال له: إني لأحبك، طيب، وأبو عبد الرحمن يرويه عمن؟

يرويه عن الصنابحي، والصنابحي يرويه عن معاذ، ومعاذ يرويه عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، والحديث صحيح.

ممن صححه كما سبق معنا: ابن حبان، والحاكم، والذهبي، وأيضاً ممن صححه ابن خزيمة، أحمد ، وابن حجر، ابن حجر قال هنا: بسند قوي، وهكذا صححه أيضاً ابن حجر رحمه الله في نتائج الأفكار، حيث قال: هذا حديث صحيح، وهو كما قالوا: رحمهم الله.

فوائد الحديث

الحديث فيه مشروعية هذا الذكر عقب الصلاة، وقوله: ( دبر كل صلاة ) يحتمل أن يكون قبل التسليم، ويحتمل أن يكون بعد التسليم، فلو قال الإنسان هذا في آخر التشهد كان عاملاً بالحديث، ولو قاله بعد السلام كان عاملاً به أيضاً، فقد سبق أن كلمة (دبر الصلاة) تشمل آخر الصلاة قبل السلام، وتشمل ما بعد السلام أيضاً.

ومن فوائد الحديث: أن الحب في الله يوجب النصيحة والوصية بطاعة الله تعالى وتقواه.

ومن فوائد الحديث: أنه لا قوة للعبد على طاعة الله تعالى وذكره وشكره إلا بالله تعالى؛ ولهذا شرع للعبد أن يقول: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة:6].

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( لا حول ولا قوة إلا بالله كنز من كنوز تحت العرش، أو من كنز تحت العرش )، فإنه لا قوة للعبد، ولا حول له إلا بالله عز وجل، وهكذا قال هاهنا: ( اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك ).

شرح حديث: (من قرأ آية الكرسي دبر كل صلاة مكتوبة ...)

الحديث الثالث والأخير: هو حديث أبي أمامة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( من قرأ آية الكرسي دبر كل صلاة مكتوبة، لم يمنعه من دخول الجنة إلا الموت ).

تخريج الحديث

قال المصنف: رواه النسائي وصححه ابن حبان، وزاد الطبراني : ( و قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص:1] ).

هذا الحديث ذكر المصنف هنا أنه رواه النسائي، وهكذا أيضاً ذكر المصنف في كتابه النكت على ابن الصلاح، وهو كتاب في المصطلح مطبوع في مجلدين، ذكر أيضاً نسبته إلى النسائي، وقد سبق معنا مرات أن الحديث إذا نسب إلى النسائي فالأصل أنه في أي كتاب؟ في المجتبى يعني: في السنن الصغرى.

والظاهر لي أن هذا الحديث -والله أعلم- ليس في السنن الصغرى، وإنما هو في السنن الكبرى، وفي الكتاب المطبوع عمل اليوم والليلة، وهو جزء من السنن الكبرى.

أما السنن الصغرى فيظهر أن هذا الحديث ليس موجوداً فيها، بالتتبع وملاحظة عزو العلماء أيضاً.

وهكذا في تحفة الأشراف للحافظ المزي، والنكت الظراف وغيرهما.

وقد قال الحافظ ابن حجر في النكت: أعني النكت على ابن الصلاح، قال: إن الحديث صحيح.

أما في نتائج الأفكار فإنه ذكره وعزاه إلى السنن الكبرى فحسب، فهذا يدل على أنه ليس موجوداً في السنن الصغرى .

وقد أخرجه الطبراني كما ذكر المصنف هنا بزيادة: ( قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص:1])، وهو موجود في المعجم الكبير المطبوع، وهو أيضاً موجود في المعجم الأوسط كما ذكر الهيثمي في مجمع الزوائد، وهو أيضاً موجود في كتاب الدعاء للطبراني، وهو كتاب مستقل مطبوع في ثلاثة مجلدات.

وقد صحح الحديث جماعة كثيرة من أهل العلم؛ ممن صححه، ننظر الآن من صححه؟ صححه ابن حبان كما ذكر المصنف، قال: صححه ابن حبان، أيضاً ذكرت ممن صححه ابن حجر، وقد ذكرت أنه قال في النكت على ابن الصلاح قال: رواه النسائي، وقال: إنه صحيح، فحكم له بالصحة، وممن صحح الحديث أيضاً: الضياء المقدسي، فإنه رواه في أحاديثه المختارة التي اشترط ألا يخرج فيها إلا الحديث الصحيح، وقد ذكر الإمام ابن تيمية رحمه الله: أن شرط الضياء المقدسي في الأحاديث المختارة خير من شرط الحاكم وغيره، فـالضياء المقدسي خرج الحديث في أحاديثه المختارة، فهو صحيح عنده وعلى شرطه.

والمنذري أيضاً ممن صححه في الترغيب والترهيب، فإنه قال: رواه النسائي والطبراني بأسانيد أحدها صحيح، قال المنذري : وقال شيخنا أبو الحسن : هو على شرط البخاري.

ولا يزال الكلام للمنذري، قال: وزاد الطبراني في بعض طرقه: ( قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص:1]) بين قوسين: (وهي الزيادة التي ذكرها المصنف هنا وأشار إليها)، قال المنذري: وإسناده بهذه الزيادة جيد.

وقال الدمياطي أيضاً في المتجر الرابح في ثواب العمل الصالح: وإسناد الروايتين على شرط الصحيح.

وقال الهيثمي في مجمع الزوائد : رواه الطبراني في الكبير والأوسط بأسانيد وأحدها جيد.

وهكذا ذكرت قبل قليل أن ابن حجر في النكت قال: إنه صحيح.

أما في النتائج، نتائج الأفكار في تخريج أحاديث الأذكار للمصنف ابن حجر رحمه الله، فإن حكمه اختلف بعض الشيء عن كلامه في النكت على ابن الصلاح، فعلى حين قال في النكت : إنه صحيح، فإنه قال في نتائج الأفكار : هذا حديث حسن غريب، ثم قال بعد صفحات: هو حديث صحيح أو حسن، على الشك أو على التردد.

الخلاصة: أن الحديث عند ابن حجر رحمه الله ثابت، إما حسن غريب، أو حسن، أو صحيح.

قال في النتائج أيضاً: قال: وقد غفل ابن الجوزي فذكره في الموضوعات ؛ لأن ابن الجوزي رحمه الله حصر هذا الحديث في الموضوعات، ورد عليه الحافظ ابن حجر، وممن تعقبه أيضاً وصحح الحديث ابن عبد الهادي في المحرر، فإنه قال: لم يصب أبو الفرج -يعني: ابن الجوزي - والحديث صحيح.

أما الذين ضعفوا الحديث فمنهم ابن الجوزي كما ذكرت، بل عده في الموضوعات، وهكذا الإمام ابن تيمية رحمه الله، فإنه قال في مواضع من الفتاوى الكبرى والفتاوى المصرية والمجموع قال: إن الحديث الوارد في قراءة آية الكرسي ضعيف، بل قال في بعض المواضع: ضعيف جداً، ولم يصب رحمه الله، فإن الحديث صحيح، كما قال هؤلاء العلماء، والصواب مع من صحح الحديث وأثبته من طريق أبي أمامة رضي الله عنه، وليس في إسناده مطعن يوجب تضعيفه.

شواهد الحديث

وقد جاء الحديث من طريق أخرى عن علي رضي الله عنه بنحو حديث الباب، وحديث علي رواه الطبراني في كتاب الدعاء، وحسنه جماعة من أهل العلم، منهم المنذري في الترغيب والترهيب، ومنهم الدمياطي، كما في المتجر الرابح، ومنهم الهيثمي كما في مجمع الزوائد، وقال الحافظ ابن حجر في نتائج الأفكار عن حديث علي , قال: هذا حديث غريب، وفي سنده ضعف، وقوله: وفي سنده ضعف يدل على أن الضعف ليس بشديد، وأنه قابل للانجبار.

والواقع أن إسناد حديث علي رضي الله عنه ليس كما قال المصنف رحمه الله، بل سنده لا بأس به في الشواهد إن شاء الله تعالى، فليس في رجاله ضعيف أو متروك، وخاصة إذا شددناه بحديث أبي أمامة حديث الباب.

وقد جاء الحديث الثالث أيضاً من حديث جابر، ذكره ابن الجوزي في الموضوعات، ولا عبرة بهذا الحديث.

ابن تيمية كما ذكرت لكم ضعف الحديث، بل قال: ضعيف جداً، كما في الفتاوى الكبرى، وكما في الفتاوى المصرية ؛ ولهذا يقول في بعض المواضع: روي حديث في قراءة آية الكرسي، ولكنه ضعيف؛ ولهذا لم يروه أحد من أهل الكتب المعتمد عليها، ولا شك أن عدم روايتهم لذلك ليس حجة في تضعيفه، فكثير من الأحاديث قد يكون في الطبراني، أو في مسند الإمام أحمد، أو في السنن الكبرى للنسائي .. أو غيرها، ويكون صحيحاً، مع أن قوله: لم يروه أحد من أهل الكتب المعتمد عليها، يعني: فيه نظر؛ لأن تحديد الكتب المعتمد عليها فيه نظر، فهل هو يقصد بذلك السنن فقط، فيخرج بذلك مثلاً مسند الإمام أحمد، وتخرج السنن الكبرى، وتخرج كتب كثيرة فيها من السنة والعلم شيء كثير.

إذاً: قراءة آية الكرسي دبر الصلاة ثابتة من حديث أبي أمامة، وحديث علي رضي الله عنهما.

أما قراءة: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص:1] فهي ثابتة أيضاً عند الطبراني في الكبير والأوسط، وسبق تصحيحها من مبنى كلام المنذري وغيره.

وقد جاء أيضاً حديث عن عقبة بن عامر رضي الله عنه في قراءة المعوذات: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يقرأ بالمعوذات دبر كل صلاة )، وحديث عقبة رواه أبو داود في سننه، وأحمد والنسائي وابن حبان وهو حديث صحيح.

لكن ما هي المعوذات؟

هي: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ [الفلق:1] و قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ [الناس:1]، وهذا المعنى جاء كما ذكر ابن كثير في تفسير: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ [الفلق:1] من أحاديث وطرق كثيرة، تبلغ مبلغ التواتر عند بعض أهل العلم، حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( ما سأل سائل بمثلهن ولا استعاذ مستعيذ بمثلهن )، وأمر عقبة أن يقرأ بهما، ثم كبر للصلاة صلى الله عليه وسلم وقرأ بهما إلى أحاديث أخرى كثيرة من ذلك.

فالمعوذات هي: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ [الفلق:1] و قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ [الناس:1].

فيحصل من ذلك ويتلخص منه: أنه يشرع للإنسان أن يقرأ آية الكرسي، و قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص:1]، و قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ [الفلق:1]، و قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ [الناس:1] دبر كل صلاة مكتوبة.

حكم الدعاء عقب الصلوات المكتوبة

في الحديث وما سبق من الأحاديث مسائل:

الأولى: الدعاء عقب الصلاة المكتوبة، وقد ذكر فيه ابن تيمية رحمه الله وغيره أقوالاً:

الأول: أنه يستحب الدعاء عقب صلاة الفجر، وعقب صلاة العصر فحسب، قال: وهذا مذهب طائفة من أصحاب أحمد ومالك وأبي حنيفة وغيرهم، فلم ينسبه إلى الأئمة، لكن نسبه إلى بعض أصحابهم، أنهم خصوا ذلك بهذين الوقتين، ولا دليل على تخصيص هذين الوقتين إلا النظر والاستحسان، باعتبار أن صلاة الفجر هي آخر صلاة من الليل، وأن صلاة العصر هي آخر صلاة من النهار.. أو غير ذلك.

القول الثاني: أن هذا يستحب في أدبار الصلوات كلها سراً، كما ذكره طائفة من أصحاب الإمام الشافعي رحمه الله، وقالوا: لا يجهر بذلك إلا إذا أراد التعليم كما سوف يأتي، المهم أنه يستحب له أن يذكر الله تعالى سراً عقب كل صلاة.

والقول الثالث وإن كان الشيخ لم يذكره رحمه الله، لكن ذكره في موضع آخر، وذكره غيره من أهل العلم: أنه لا يشرع للإنسان أن يجلس عقب الصلاة، ولا يدعو ولا يذكر، بل يقوم مباشرة، وهذا القول أيضاً لا دليل عليه، هذه ثلاثة أقوال.

وقد رجح الشيخ ابن تيمية رحمه الله أن الدعاء يكون قبل السلام لا بعده في موضعين، بل في مواضع من الفتاوى الكبرى والمجموع والفتاوى المصرية وغيرها، ومباحث متفرقة، قال: إن الدعاء مناسب لآخر الصلاة، قبل السلام لا بعد السلام؛ ولهذا أوجبه جماعة كما سبق: ( أعوذ بالله من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر ).. قال: فالدعاء قبل انصرافه من الصلاة مناسب، بخلاف بعد انصرافه، فإنما يناسب الذكر والثناء.

وأطال رحمه الله في تقرير هذا، والراجح -والله تعالى أعلم- أن الدعاء مستحب مشروع قبل السلام وبعده لأدلة، أما قبل السلام فقد سبق في الأدلة تفصيلاً، فلا داعي لتكراره، أما بعد السلام فنسمع منكم بعض ما مر معنا من الأدلة الواردة على مشروعية الدعاء بعد السلام، منها؟

حديث معاذ بن جبل : ( لا تدعن دبر كل صلاة أن تقول: اللهم أعني )، وهذا يحتمل بعد السلام.

الدليل الثاني: حديث ثوبان : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا انصرف من صلاته استغفر الله ) والاستغفار دعاء، أو ليس بدعاء؟

هو دعاء، وهو نص في الدعاء بعد الانصراف من الصلاة.

ومثل حديث ثوبان أيضاً حديث عائشة، سبق أن ذكرناه شاهداً لحديث ثوبان، وهو مثله أنه إذا انصرف استغفر، هذا دليل ثالث للدعاء بعد السلام. رابعاً: حديث المغيرة بن شعبة، وفيه: ( لا إله إلا الله.. -إلى قوله-: اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد )، وهذا فيه تعرض وتعريض بالدعاء، وإن لم يكن نصاً فيه.

أيضاً من الأدلة حديث سعد بن أبي وقاص: وحديث سعد مر معنا، نصه: ( اللهم إني أعوذ بك من البخل، وأعوذ بك من الجبن، وأعوذ بك أن أرد إلى أرذل العمر، وأعوذ بك من فتنة الدنيا، وأعوذ بك من عذاب القبر )، فهذا حديث سعد يحتمل أيضاً قبل السلام وبعده، ولكن بعد السلام جائز أن يدعو بهذا الدعاء؛ لما سبق من أحاديث نص فيها على الدعاء أن يقوله بعد السلام؛ لأن في بعض الأحاديث النص على الدعاء بعد السلام.

من الأدلة أيضاً الاستخارة، ما يوجد نص على أنه بعد السلام، لكن يمكن أن يستدل به، وإن لم يكن نصاً.

من الأدلة أيضاً حديث البراء، وهو في صحيح مسلم قال: ( كنا إذا صلينا خلف النبي صلى الله عليه وسلم أعجبنا أن نكون عن يمينه، قال: فكان ينصرف إلينا بوجهه، قال: فسمعته يقول: اللهم قني عذابك يوم تبعث عبادك )، فهذا قد يدل على أنه يقول هذا الدعاء بعد السلام من الصلاة.

وعلى كل حال فما دام ثبت أنه يدعو بعد السلام بمثل: ( اللهم أعني على ذكرك ) و( أستغفر الله ).. ونحوها.

وقد جاء في حديث علي أيضاً -في بعض الروايات في صحيح مسلم - أنه يقال بعد السلام، وما هو الدعاء الذي جاء في حديث علي الدعاء الوارد في حديث علي ( اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت، وما أسرفت، أنت المقدم، وأنت المؤخر، لا إله إلا أنت )، فهذا الحديث جاء في بعض الألفاظ في مسلم أنه يقوله بعد السلام، وفي بعضها أيضاً قبل السلام.

فعلى كل حال لا داعي لأن يقال: إن الدعاء بعد السلام غير مشروع، بل هو مشروع من بعد السلام كما هو مشروع قبله، وكون الإنسان قد انصرف من ذكر ودعاء وصلاة، فهذا مظنة إجابة دعائهم إن شاء الله تعالى.

حكم رفع الصوت بالذكر بعد الصلاة

المسألة الثانية: رفع الصوت بالذكر بعد الصلاة.

وقد ذهب الشافعي ومالك وغيرهما من أهل العلم إلى أنه لا يشرع للإنسان أن يجهر بالذكر عقب الصلاة، بل قال أبو الحسن بن بطال : إن عدم مشروعية الجهر بالذكر هو مذهب الأئمة المتبوعين، أو أهل المذاهب المتبوعة، وقوله هذا محمول على أغلبهم، وإلا فهو ليس مذهبهم كلهم مطلقاً، بل بعض الأئمة يرون رفع الصوت، كما هو منقول عنهم، إنما الجمهور من الأئمة المتبوعين يرون عدم الجهر بالذكر بعد الصلاة، وقالوا: إن الجهر به كان وقتاً يسيراً من أجل التعليم، ولم يداوم النبي صلى الله عليه وسلم على الجهر به، وهو قول أيضاً لبعض الحنابلة، أنه لا يشرع الجهر بالذكر.

وقد استدلوا بأدلة كثيرة، أذكر منها اختصاراً: حديث أبي موسى المتفق عليه: ( أنهم كانوا إذا علوا رفعوا أصواتهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يا أيها الناس! أربعوا على أنفسكم، إنكم لا تدعون أصم ولا غائباً، إن الذي تدعون سميعاً بصيراً ).. إلى آخر الحديث.

قالوا: فهو دليل على عدم مشروعية رفع الصوت بالذكر، وبعضهم قالوا: إنه ناسخ للأحاديث الواردة في رفع الصوت بالذكر حين ينصرف الناس من المكتوبة.

ومما يستدل لهم به أيضاً ما رواه أصحاب السنن، وهو صحيح: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج عليهم وهم يجهرون، فقال: كلكم يناجي ربه، فلا يجهر بعضكم على بعض )، فنهاهم عن أن يشوش بعضهم على بعض في القراءة والصلاة والذكر.

الدليل الثالث الذي استدل به بعضهم: قوله تعالى: وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا [الإسراء:110]، قال بعضهم: ولا تخافت بها بحيث لا تسمع نفسك، فقالوا: هي نهي عن الجهر بالصلاة والذكر والقرآن.

ومن الأدلة ما ذكره النووي وغيره : أنه لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يجهر بالذكر بعد التسليم، فالروايات ذكرت فيها صفة الصلاة، وذكر فيها التسليم لم يُذكر فيها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجهر بالذكر بعد التسليم، لا بالذكر ولا بغيره.

أما حديث ابن عباس الذي فيه الجهر بالذكر وابن الزبير، فقالوا: إنه يشمل على أنه فعل ذلك في أحيان قليلة من أجل التعليم.

القول الثاني في المسألة: أنه يُجهر بالذكر بعد الصلاة استحباباً، وهذا قول جماعة من السلف والخلف، كما ذكره في الفروع والمبدع وغيرهما، وقال به كثير من فقهاء الحنابلة.

ومن أدلتهم على ذلك حديث ابن عباس رضي الله عنه في البخاري، قال: ( كان رفع الصوت بالذكر حين ينصرف الناس من المكتوبة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال ابن عباس : كنت أعلم إذا انصرفوا بذلك إذا سمعته )، وفي رواية: ( ما كنا نعلم انقضاء صلاة النبي صلى الله عليه وسلم إلا بالتكبير )، وهذا الحديث ظاهر الدلالة على أنهم إذا سلموا جهروا بالذكر، فحصل من ذلك ارتفاع في الأصوات، يعلم به من كان في آخر المسجد، أو من كان خارج المسجد، أنهم قد سلموا وانصرفوا من الصلاة.

وفي بعض الروايات قال كما في مسلم : ومن حديث جاء من طريق عمرو بن دينار، قال: أخبرني أبو معبد عن ابن عباس .

وفي إحدى الروايات في مسلم، وخاصة الرواية التي فيها التكبير: ( ما كنا نعلم انقضاء صلاة النبي صلى الله عليه وسلم إلا بالتكبير )، هذه جاءت من طريق عمرو بن دينار عن أبي معبد عن ابن عباس هكذا في البخاري .

وفي مسلم : أن أبا معبد أنكر على عمرو بن دينار هذه الرواية، وقال: ما حدثتك، لما ذكر عمرو بن دينار لـأبي معبد : إنك حدثتني، أنكره وقال: لم أحدثك بهذا، فقال له عمرو : قد أخبرتنيه بعد ذلك، فكأنه نسي هذا، المهم أنه أنكر هذا، وهذا وإن كان عند جمهور العلماء لا يعني رد الرواية، لكنه يقدح في قوتها، خاصة وأنها انفردت بذكر التكبير من طريق ابن عباس رضي الله عنه، أما الألفاظ الأخرى ففيها الذكر، لفظ الذكر: (كان رفع الصوت بالذكر)، وقال بعض أهل العلم: لم يوجد أحد من العلماء المعروفين يرى الجهر بالذكر، وإن كنت وجدت في تبويب النسائي رحمه الله في السنن الصغرى، ما يدل على رفع الصوت بالتكبير، رفع الصوت بالتكبير وليس بالذكر.

ونقل أن بعض أمراء الأجناد كانوا يأمرون برفع الصوت بالتكبير عقب السلام، هذا بالتكبير وليس المقصود بالذكر.

المهم أن مجموع الروايات عن ابن عباس تدل على مشروعية رفع الصوت بالذكر، بغض النظر عن التكبير، حتى لو افترضنا أن رواية التكبير فيها ما فيها، فيبقى رفع الصوت بالذكر عقب الصلاة حين ينصرف الناس من المكتوبة. هذا يدل له حديث ابن عباس .

ومما يدل له أيضاً: حديث عبد الله بن الزبير الذي رواه مسلم : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في دبر كل صلاة حين يسلم: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير ) إلى قوله: ( مخلصين له الدين ولو كره الكافرون )، والحديث سبق في الجلسة الماضية.

وقوله: ( يهلل بهن دبر كل صلاة )؛ يدل على أنه يرفع صوته، فإن الإهلال أو التهليل هو رفع الصوت بهذه الأشياء؛ ولذلك سمعه ابن الزبير وغيره، وهو دليل على رفع الصوت بهذا.

ومن الأدلة أيضاً وهو الدليل الثالث: أنهم قالوا: إن رفع الصوت بالذكر عقب الصلاة من الشعائر الظاهرة التي يشرع إعلانها، فهي كالتلبية مثلاً، وكالأذان وغيرهما مما يشرع فيه رفع الصوت والإعلان، وهذا القول -القول برفع الصوت بالذكر- أولى وأقرب للصواب؛ لصحة أدلته وقوتها، ولا يعارضه حديث أبي موسى : ( أربعوا على أنفسكم )؛ لأننا نقول: لا يشرع للإنسان أن يبالغ في رفع الصوت عقب الصلاة المكتوبة، بل يرفع صوته، بحيث يكون مجموع الأصوات مختلطة، لها دوي يسمعه من كان بعيداً، وتكون هذه الأصوات ليس فيها صوت مميز يؤذي من يكون يقضي الصلاة أو غير ذلك.

ولهذا ينبغي أن يراعى في ترجيح هذا القول أمور:

أننا نقول بعدما نذكر أن في مسألة الجهر بالذكر قولين:

أولهما: أنه لا يشرع، وهذا مذهب الشافعية وكثير من الأئمة المتبوعين.

الثاني: أنه مشروع، وهو مذهب كثير من الحنابلة، ونقله في المبدع والفروع وغيرهما عن جماعة من السلف والخلف أنه يشرع رفع الصوت، نقول: الأقرب أنه يشرع رفع الصوت لحديث ابن عباس وابن الزبير وغيرهما، ولكن يراعى في هذا الترجيح أمور:

أولها: عدم المبالغة في الجهر؛ لحديث أبي موسى ؛ ولقوله تعالى: وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا [الإسراء:110]، بل التوسط في ذلك.

الثاني: أن هذا الجهر إنما هو -والله أعلم- في الأذكار التي تلي السلام؛ ولهذا عرف ابن عباس أنهم انتهوا من الصلاة بهذه الأذكار، وليس في جميع الأذكار المشروعة عقب الصلوات، إنما هي في الأذكار التي تكون بعد السلام، مثل الاستغفار، ومثل لا إله إلا الله ثلاثاً، ومثل حديث ابن الزبير .. ونحوها من الأذكار، التي تكون بعد السلام؛ ولهذا لا يشرع أن يجهر الإنسان بالسور والآيات، كآية الكرسي، و قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص:1]، و قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ [الفلق:1]، و قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ [الناس:1]، بل لم يقل أحد أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقرؤها جهراً عقب الصلاة.

بل قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله كما في الفتاوى الكبرى قال.. وقد نقلت هذا النص؛ لأني رأيت كثيراً أو بعض طلبة العلم يجهرون بآية الكرسي، ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وخلفاؤه يجهرون بعد الصلاة بقراءة آية الكرسي، ولا غيرها من القرآن، فجهر الإمام والمأموم بذلك، والمداومة عليها بدعة مكروهة بلا ريب، فإن ذلك إحداث شعار بمنزلة أن يحدث آخر جهر الإمام والمأمومين بقراءة الفاتحة دائماً، أو خواتيم البقرة، أو أول الحديد، أو آخر الحشر، أو بمنزلة اجتماع الإمام والمأموم دائماً على صلاة ركعتين عقب الفريضة، ونحو ذلك مما لا ريب أنه من البدع، فينبغي أن يراعى هذا.

الأمر الثالث الذي ينبغي أن يراعى أيضاً في هذا الترجيح: أن تكون الأصوات مختلطة، وهذا ينبه عليه في الذكر عقب الصلاة، كما ينبه عليه في قراءة القرآن قبل الصلاة، أن تكون الأصوات مختلطة غير متميزة؛ لأنه إذا تميز صوت وكان شديد الارتفاع آذى بذلك الآخرين من الذين يقرءون، فيرتفع هذا الصوت ويؤذيهم، أو ممن يكون عليهم قضاءً في الصلاة، فيقومون لقضاء الصلاة، فيشغلهم هذا الصوت.

أما إذا كانت الأصوات مختلفة، فإنه لا يتميز صوت؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم كما سبق: ( كلكم يناجي ربه، فلا يجهر بعضكم على بعض ) بحيث يؤذي بعضكم بعضاً.

وفي نفس الوقت قال عليه الصلاة والسلام كما في الحديث الصحيح قال: ( إني لأعرف منازل الأشعريين إذا نزلوا بالليل، وإن لم أكن رأيت منازلهم بالنهار؛ من أصواتهم بالقرآن )، فكان يعرف عليه الصلاة والسلام منازل الأشعريين؛ لأن أصواتهم لها دوي بالقرآن في قيام الليل، لكن هذا الدوي مختلط لا يتميز بعضه عن بعض، فيراعى هذا في ذلك، والله تعالى أعلم.

الأسئلة

التسليم عن اليسار بـ: (السلام عليكم)

السؤال: قال الألباني في الصلاة: ( وكان إذا قال عن يمينه: السلام عليكم ورحمة الله اقتصر أحياناً على قوله عن يساره: السلام عليكم )، وقال: أخرجه النسائي وأحمد في الصلاة بسند صحيح؟

الجواب: يمكن أن يراجع هذا إن شاء الله.

جعل التسبيح والتحميد والتكبير على ثلاثاً وثلاثين لكل واحد منها فقط

السؤال: هناك صيغة يذكرها بعض المشايخ: التسبيح ثلاثاً وثلاثين، والتحميد ثلاثاً وثلاثين، والتكبير ثلاثاً وثلاثين، ثم يسكت ولا يقول شيئاً، فيكون المجموع تسعة وتسعين.

الجواب: هذه أقرب.

أحاديث الموطأ من حيث الصحة وعدمها

السؤال: هل كل ما في الموطأ صحيح؟

الجواب: لا، بل كثير منه صحيح.

تصحيح الألباني وذكر بعض العلماء المتساهلين في تصحيح الأحاديث وتضعيفها

السؤال: مَن مِن العلماء المتساهل في التصحيح، ومن منهم متساهل في التضعيف؟ يلاحظ أنك لا تعزو إلى الشيخ الألباني، فهل تصحيحه وتضعيفه غير مقبول لديكم؟

الجواب: بل هو مقبول، وهو من كبار العلماء، وقل درس إلا أذكر تصحيحاً له، اللهم إلا ألا يسعفني الوقت بمراجعة بعض كتبه، نسأل الله تعالى أن يحفظه وأن يمد في عمره، ويبارك في وقته.

أما مَن مِن العلماء متساهل؟ فـالحاكم من المتساهلين، وكذلك الذهبي في تلخيصه للمستدرك، ويأتي بعده ابن خزيمة وابن حبان، ثم الترمذي وهو أقوى، وكذلك ذكرت الضياء المقدسي في المختارة، وإذا اتفق هؤلاء أو أكثرهم على تصحيح حديث تعزز هذا بهذا.

حكم رفع اليدين حال الدعاء ومصافحة المصلين لبعضهم بعد صلاة الفريضة

السؤال: كثير من المشايخ يذكرون حكم الأدعية والحركات في الصلاة، فهلا ذكرتم حكم بعض الحركات في الصلاة؟

الجواب: هذا يذكرني بأن الدعاء الذي بعد الصلاة لا يشرع فيه رفع اليد، الدعاء بعد الصلاة في الفريضة لا يشرع فيه رفع اليد يقيناً؛ لأنه لو كان النبي عليه الصلاة والسلام يرفع يده بعد الصلاة لنقل هذا عنه أصحابه رضي الله عنهم، ولم ينقل في حديث صحيح ولا حسن ولا ضعيف أن النبي عليه السلام كان يرفع يديه بعد الصلاة، وما يفعله بعض الناس من رفع اليدين عقب الفريضة فهي بدعة، وكذلك ما يفعلونه من السلام على من عن يمينهم وعن شمالهم عقب الفريضة، فهو بدعة لا أصل لها.

سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك.

والحمد لله رب العالمين.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , شرح بلوغ المرام - كتاب الصلاة - باب صفة الصلاة - حديث 344-346 للشيخ : سلمان العودة

https://audio.islamweb.net