إسلام ويب

إن أعلى مقامات الحب هي العبودية، ولا تنبني العبودية إلا على أصلين عظيمين هما: كمال الحب، وتمام الذل، ولا ينبغي صرف هذين الأصلين إلا لله سبحانه، وإن أكبر ثمرة من ثمار هذا الحب هي موالاة الله ورسوله والمؤمنين، والبراءة من الكافرين والمنافقين، ولقد كانت أهم قضية تناولها القرآن بعد نبذ الشرك وتقرير التوحيد هي قضية تقرير عقيدة الولاء والبراء، ولقد ضرب لنا الصحابة في ذلك أروع الأمثلة، ولعل من أبرز ثمار هذه العقيدة قيام الجهاد في سبيل الله، وهو الباب الذي فرطت فيه الأمة في هذا العصر، حتى وصلت إلى ما وصلت إليه.

العبودية أعلى مقامات الحب

إن الحمد لله تعالى نحمده، ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].

يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1] .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].

أما بعد:

فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

لا زال الحديث موصولاً عن علامات الحب، وآخر علامة نقف عليها اليوم، ثم نصل إلى الثمرة العظمى من هذه الدروس وهي: أن أعلى علامات الحب قاطبة هي العبودية، وقد درج بعض الناس -لاسيما بين الرجال والنساء- إذا أراد أحدهما أن يعبر عن شدة حبه للآخر، وأنه ليس له بعد الحب مذهب، يقول أحدهما للآخر: أنا أعبدك. هكذا يقولون، والعبادة لا تكون إلا لله عز وجل، مستحق الحمد وحده ومستحق العبودية وحده، لكنهم يعرفون أن أعلى علامات الحب هي العبادة، وحقيقة العبادة تنبني على أصلين عظيمين: الأصل الأول: هو كمال الحب، والأصل الثاني: هو تمام الذل، فلا ذل إلا بحب، ولا حب إلا بذل.

فإذا وصل العبد إلى درجة العبادة لا يرى لنفسه اختياراً قط؛ لأن هذا ينافي الذل وينافي الحب

اخضع وذل لمن تحب فليس فيحكم الهوى أنف يشال ويعقد

ليس لك أنف وأنت محب؛ لأنك إذا تحسست أنفك -الذي هو مناط النخوة- فهذا يضاد الحب، والمحب لا أنف له يتحسسه.

المستحق للعبادة وحده هو الله عز وجل؛ لأنه وحده هو الذي يحب لذاته، ومن دونه يحب لقربه من الله، لا يحب لذاته لا ملك مقرب ولا نبي مرسل، إنما نحبهم لقربهم من الله؛ ولأن الله اصطفاهم؛ لذلك أحببناهم وقدمناهم.

العبودية مفتاح النصر

والسنوات القادمة لعلها تتمخض عن حرب فاصلة بيننا وبين اليهود، فما هي عدتنا لهذه الحرب، إننا سنغلب اليهود في أول جولة إذا حققنا شيئاً واحداً: إذا كنا عباداً لله عز وجل.. فقط.

فالعبودية لله.. سلاحنا الوحيد، واقرأ مطلع سورة الإسراء يتبين لك هذا الأمر: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ * وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا * ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا * وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إسْرائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا * فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا * ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا [الإسراء:1-6] .

انظر! السورة بدأت بالعبودية، وكررت العبودية مرتين: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ ، ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا ، فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا .

كلمة (عباد) في القرآن عندما تأتي مضافة بالياء -ياء الإضافة- وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [الإسراء:53] ، أو بنون الإضافة إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ [يوسف:24] ، تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا [مريم:63] ، ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا [فاطر:32] لما تأتي كلمة (عباد) في القرآن مضافة على الله عز وجل، فهي في الغالب تأتي إضافة تشريف، بخلاف كلمة (العبيد) فلم تأت قط إضافة تشريف، وإنما جاءت لوصف العبودية العامة الشاملة على العباد، عبودية القهر، وأن الكل يحتاج إلى الله عز وجل، لكن عبودية التشريف لا تأتي (بعبيد) تأتي (بعباد) فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا [الإسراء:5].

وقلت: إن (عباد) إذا جاءت مضافة إنما تعني إضافة التشريف غالباً؛ لأنها قد تأتي مضافة وليس للتشريف، وإنما للقهر أيضاً، كقوله عز وجل: وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ [الأنعام:18] وهذه ربوبية شاملة على العباد.

فالله عز وجل سيبعث على هؤلاء عباداً له قاموا بحق عبوديته، ولا يمنع أن يسلط عليهم من هو أرذل منهم، كما قال تبارك وتعالى: وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ [الأعراف:167] ، سواء كان مؤمناً أو كافراً. واستحضروا في العصر الحديث ما فعله هتلر النازي باليهود، حتى إنهم في المؤتمر الأخير طالبوا الرئيس الأمريكي أن يعتذر عما فعله هتلر رسمياً، مع أن الرئيس الأمريكي لا علاقة له بما فعله هتلر ، ولكن هي الآن: ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ [الإسراء:6] ، لماذا؟ لم يعودوا عباداً، فرجعت الكرة عليهم مرة أخرى!

ثم حذرهم وقال لهم: إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ [الإسراء:7] إذا ضللتم عباداً سيظل لكم الغلبة والنصر، وتظفرون على عدوكم، وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا [الإسراء:7] ترجع الكرة عليكم مرة أخرى.

:فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا * عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا [الإسراء:7-8] أيضاً، إذا سكرتم بخمرة الانتصار، وتجاوزتم حدود الله عز وجل، وعدتم للطغيان بعد أن أظفرناكم على بني إسرائيل؛ عدنا أيضاً لإذلالكم، وعاد بنو إسرائيل ليظهر عليكم مرة أخرى.. وهكذا.

وشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله كان يقول: (إن الله لينصر الدولة الظالمة إذا كانت عادلة، ويخذل الدولة المسلمة إذا كانت ظالمة) فإن الله لا يحابي أحداً من عباده: إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا [الإسراء:7] ، انظر! مع أن المناسب أن يقال: (وإن أسأتم فعليها) وليس (فلها) لكن هذا نوع من التبكيت، كقول الله عز وجل: (فبشرهم بعذاب أليم)، والبشرى لا تكون إلا بالخير، فهذا نوع من التبكيت: أن توضع البشرى مكان النذارة والعكس (وإن أسأتم فلها).

سلاحنا في مقاومة كل أعدائنا: أن تكون عبداً لله عز وجل، كثير من الناس يسمع هذا الكلام وينفعل، ولكنه لا يغير في بيته شيئاً، ومع ذلك يصرخ في كل مكان، وينادي بالخلافة، وينادي بالحكم.. فمن غير المعقول أن يعجز الرجل عن ضبط بيته ثم يحكم دولة، هذا ليس بالإمكان..! عاجز أن يأمر امرأته أو ابنته بلبس الحجاب الشرعي، أو هو عاجز أن يأمر ولده بالصلاة، ثم يريد أن يحكم دولة.. هيهات،!!هو عن حكم الدولة أعجز.

إذاً العبودية هي مفتاحنا إلى النصر، وسلاحنا الوحيد. وإنني أطنبت وطولت في الكلام على علامات العبودية لكي أصل إلى الثمرة المرجوة من هذه الدروس وهي: الولاء والبراء، ولأن أكثر أهل الأرض أدعياء، والناس أربعة: مؤمن وكافر ومنافق وعاص.

ولاؤك لمن

فولاؤك لا يكون إلا للمؤمنين، وبراءتك لا تكون إلا من الكافرين والمنافقين، والعاصي يكون ولاؤك له بقدر إيمانه بالله، وبراءتك منه بقدر معصيته. فإذا راقبت علامات المحبة في الناس عرفت من توالي ومن تعادي،ومن الذي تلقي إليه بالمودة ومن الذي تتبرأ منه.

الولاء والبراء في القرآن الكريم

القرآن الكريم يدور في أغلب محاوره على تقرير التوحيد ونبذ الشرك، والمعنى التالي مباشرة لهذا المعنى هو: الولاء والبراء، وعقيدة الولاء والبراء: أن تتولى الله ورسوله والمؤمنين، وأن تتبرأ من الكافرين والمنافقين والعصاة بالقيد الذي ذكرته في العصاة، واعلم أن من ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه، ومتى كانت المحبة في القلب كاملة كان الإيمان كاملاً، أما فعل الجوارح فبقدر الاستطاعة.

الإيمان: اعتقاد وعمل.. قول وعمل، وهو: قول باللسان، واعتقاد بالجنان، وعمل بالأركان، إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ [البقرة:277]، (آمنوا): هذا عمل القلب، و(عملوا الصالحات): عمل الجوارح، فالإيمان اعتقاد بالقلب وعمل بالجوارح، فلابد أن يكون عقد القلب كاملاً لا نقص فيه، كل نقص في عقد القلب يعد نقصاً في الإيمان، بخلاف عمل الجوارح، فهذا بقدر الاستطاعة: إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ [النحل:106] (أكره): عمل الجوارح.

مر رجل على قوم يعبدون الأصنام، فقالوا له: لن تمر حتى تقرب لإلهنا قرباناً، وإلا قتلناك، فقرب قرباناً لآلهتهم وهو كاره.. فهذا لا يضره شيء، لأن عقد القلب كامل، ولا يتصور نقصه في عقد القلب؛ لأن في مقابله نقص في الإيمان، والذي يحب الناس لمحبته واعتقاده فيهم إنما يحبهم بالهوى، ينبغي أن تكون محبته لله عز وجل، قد يسيء إليك أخوك ولكنك تحبه، لما فيه من الإيمان برغم إساءته لك، هذا هو الإيمان.

الإيمان اعتقاد بالقلب، ولذلك الرسول عليه الصلاة والسلام قال: (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وليس وراء ذلك مثقال حبة خردل من إيمان) لماذا؟ لأنه لا يتصور الإكراه في عمل القلب، لأنك تستطيع أن تظهر غير ما تعتقد وأنت آمن؛ لأنه لا يشق عن قلبك، فلذلك جعل الإنكار باليد والإنكار باللسان بحسب الاستطاعة؛ لأنه ظاهر، أما القلب فلم يعذر فيه؛ لأنه لا يتصور عقد القلب إلا كاملاً، والنقص فيه يساوي النقص في الإيمان.

إذاً كلامنا على علامات المحبة حتى تعرف من توالي ومن تعادي يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [المائدة:51] فالذي لم يكن مؤتمناً على عبادة ربه كيف يولى منصباً؟!.

ذكر ابن القيم رحمه الله في كتاب أحكام أهل الذمة حكاية عجيبة: أن الملك الصالح كان عنده مستشاراً نصرانياً، وكان هذا المستشار شجاً في حلوق المسلمين، كان يقرب النصارى ويبعد المسلمين، وفي يوم من الأيام جلس الملك الصالح مع هذا النصراني في مجلس، فتطرق الكلام إلى الكلام على النصارى واعتقاد النصارى، فالملك الصالح ذم النصارى، وذكر حكايات عن النصارى فقال: إنهم لا يحسنون الحساب، لأنهم جعلوا الثلاثة واحداً والواحد ثلاثة! جسم الأب والابن والروح القدس إله واحد! فخطر على بال الملك الصالح أنه يفتش وراء هذا الرجل، فإذا كان خان الله في التوحيد فماذا يفعل في الخزينة؟! فأكتشف أنه يؤدي إلى السلطان ديناراً ويأخذ دينارين على مذهبه، فهم ثلاثة، خان الله عز وجل في التوحيد أفنجعله أميناً على الخزنة؟!! أميناً على الجباية!!

ومع أن الأدلة صريحة في القرآن، فأهم معنى بعد التوحيد ونبذ الشرك هو الولاء والبراء: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ * قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ [التوبة:23-24] ، هذه الأشياء التي ذكرها الله عز وجل هي مدار حياة الناس كلها، هذه الأشياء هي التي يوالون عليها ويعادون، الآباء والأبناء والإخوان والأزواج والعشيرة والتجارة والمساكن، هذه هي حياة الناس، قال الله عز وجل: فَتَرَبَّصُوا [التوبة:24]، (تربصوا): يعني انتظروا فاقرة، وانتظروا عقوبة تنزل بكم حتى يأتي الله بأمره، ثم فسقهم جميعاً.. فسق هؤلاء الذين يحبون هذه الأعراض على الله ورسوله وعلى الجهاد في سبيل الله عز وجل.

نماذج من حياة الصحابة في تقرير عقيدة الولاء والبراء

الصحابة الأوائل ضربوا أروع الأمثلة في عقيدة الولاء والبراء، فقد خرجوا من ديارهم وتركوا كل شيء جمعوه في حياتهم فداءً لله ورسوله، إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوا وَنَصَرُوا أُوْلَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجَرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا [الأنفال:72] آمن لكنه لم يهاجر، وكانت الهجرة علامة على الولاء لله عز وجل، فبرغم أنه مؤمن إلا أنه قال: (لا توالوهم حتى يهاجروا)، فالصحابة لما خرجوا من ديارهم وتركوا كل شيء، تركوا آباءهم وأبناءهم وأموالهم لله عز وجل، حتى إن بعض هؤلاء كان رجلاً كبيراً بلغ من الكبر عتياً، فوق الثمانين عاماً، ولكنه آمن وكره أن يعيش في برودة المجتمع الكافر، فخرج يقاوم سنه، ويقاوم قلبه وجوارحه، وخرج من مكة إلى المدينة ماشياً، فبينما هو في الطريق إذ أدركه الموت، فضرب كفاً بكف، وقال: اللهم هذه بيعتي لك، اللهم هذه بيعتي لنبيك، فأنزل الله عز وجل قوله: وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ [النساء:100] .

اعمل لله ومت حيث شئت أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ كِفَاتًا * أَحْيَاءً ?وَأَمْوَاتًا [المرسلات:25-26] أي: جمعناهم على ظهرها ونجمعهم في بطنها، فكن عبداً لله ومت حيث شئت، كن في جوف سبع، كن في جوف بحر، ستصل إلى الله عز وجل.

وها هو صهيب الرومي رضي الله عنه، وكان قد جمع مالاً طائلاً وخبأه تحت جدار، ثم خرج هارباً بالليل، فعلم به المشركون فخرجوا وراءه، فأدركوه في الطريق، فقالوا له: جئتنا صعلوكاً لا مال لك، ثم تريد أن تخرج بالمال. قال: أرأيتم إن أعطيتكم مالي تخلون بيني وبين وجهي؟ قالوا: أجل. قال: فإن المال في مكان كذا. فلما قدم على النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره بما حدث، قال له: (ربح البيع أبا يحيى) ربح البيع.. لماذا ربح البيع؟ لأن الله عز وجل اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة.

عقد بيع ينتظر توقيعك فقط، المشتري مضمون، لا ينكث أبداً، عقد بيع ينتظر توقيعك أنت فقط، فهل توقع؟ إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ [التوبة:111]، لذلك قال له: (ربح البيع أبا يحيى) .

وهذا سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه وكان أبر الناس بأمه، حتى كان يضرب المثل ببره، فلما أسلم قالت: (لا آكل ولا أشرب حتى تكفر بدينك، لا آكل ولا أشرب حتى أموت فتعير بي، فيقال: يا قاتل أمه).

وظلت يومين أو ثلاثة لا تأكل، حتى كانوا إذا أرادوا أن يطعموها فتحوا فمها بالعصا، قال: فجئتها فقلت لها: (والله يا أمي! لو كان لك مائة نفس فخرجت نفساً نفساً ما كفرت بديني، كلي أو دعي).. هذا هو الولاء والبراء، هذا هو الولاء لله عز وجل، كامل المحبة كامل الولاء، وولاؤك بقدر محبتك.

وذكر ابن هشام في سيرته أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه لما بعث النبي صلى الله عليه وسلم ضرب ضرباً شديداً حتى كان يهذي، بسؤال واحد: ماذا فعل رسول الله؟ يسكتونه ويهدئون من روعه، وهو لا يكف عن هذا السؤال، حتى جاءت أم جميل بنت الخطاب وقد استدعوها: تعالي، طمئنيه، وهو لا يفتأ يقول: ماذا فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقالت: هو بخير. قال: أين هو؟ قالت: في دار الأرقم .

أيها المسلمون: لقد عجز كثير من المسلمين أن يكونوا مثل امرأة مسلمة، لما مات أبوها وأخوها وزوجها، ثم لا تأبه بكل ذلك وتقول: وما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالوا: هو بخير. قالت: أريد أن أراه. فلما رأته قالت: كل المصائب بعدك جلل.. لا قيمة لها..!

ضياع عقيدة الولاء والبراء في واقعنا المعاصر

عقيدة الولاء والبراء لأنها متصلة بالله مباشرة؛ حرص أعداؤنا على تمييعها وتضييعها، فظهرت مصطلحات الأخوة الإنسانية، حتى من بعض الذين ينسبون إلى الدعوة يقولون: إخواننا من النصارى، إخواننا الأقباط، هذا قدح في الإيمان، وقدح في عقيدة الولاء والبراء، لقد كفرهم الله عز وجل وهذا يقول: أخونا في الوطن، إخواننا النصارى أو إخواننا الأقباط..!! هذا حرام لا يجوز، لأن الله كفرهم، فلا يحل لمن كفره الله وأهانه أن تكرمه.

وإذا أردت أن تعرف عقيدة الولاء والبراء أنها ضاعت فاسمع التجار الذين يتعاملون مع المستوردين، وانظر إلى إكرام التجار لهؤلاء الكافرين، وكيف أنه لا يجلس على الكرسي إلا إذا أجلسه، ويتودد إليه، وأن هذا الكافر قد يعقد صفقة محرمة، وقد يفعل شيئاً أو قد يقول شيئاً محرماً، ثم يبتسم هذا المسلم، ولا يغضب لله عز وجل!

انظر أيضاً إلى الدرجات العلمية في الجامعات لما يأتي مستشرق، انظر إلى تكريمه في الجامعات! فضيلة المستشرق الفلاني، وقد جاء وهو عبقري وعلامة وفهامة... إلى آخر هذه الألفاظ.

جون بولكلتر الوجودي أول ما جاء هنا هو وعشيقته دخلوا الجامع الأزهر وأنا رأيته بعيني، وأنا في الأزهر ذات مرة كان هناك رجل فراش أعطوه خُمر، فأي واحدة متبرجة أجنبية تريد أن تتفرج وتدنس المسجد بقدميها -انظر الورع الكاذب والبارد!- يقول لها: البسي هذا الخمار .. طيب هي لابسة (شورت!) لبِّسها جلباب..! امرأة لابسة خمار وشورت في الجامع الأزهر!

فأنا داخل المسجد فوجدت هناك مجادلة بين المرأة والفراش، وهو يحاول أن يعطيها الخمار وهي ترفض، هل تعلم ماذا كانت النتيجة..؟ أخرجت جنيهاً من جيبها وأعطته في يده، فلم يلزمها بوضع .. وهذا يحصل في بيوت الله!

لماذا يدخل الكفار المسجد الأزهر؟ ما هي المصلحة؟ هل المسجد الأزهر أثر؟ أهو هرم؟ أهو أبو الهول؟ هذا بيت الله عز وجل، وبيت الله عز وجل لا يدخله كافر إلا إذا دخله ليسأل عن شيء، وفيه أحكام كثيرة، كما كان الكفار يدخلون على النبي صلى الله عليه وسلم، يدخل لأجل أن يسأل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان له الغلبة، وكان له القهر والسلطان، فأي مشرك يدخل المسجد يدخل لعلة أو لمصلحة، لكن يدخل ليتفرج والمرأة متبرجة ويدخلون في مساجدنا؟!

الآن أنا أقرأ في الجرائد منذ سنة (1974م) مقالات لمستشار يقول فيها: إن اليهود والنصارى والمجوس والمسلمين في الجنة، مستشار يكتب من سنة (74م) حتى الآن، وكتبها هذه السنة أيضاً أن المسلمين واليهود والنصارى والمجوس والصابئين في الجنة كلهم.

ويسمح لمثل هذا أن يكتب، وينشر، ولو كان مضاداً لعقيدتنا التي تمتهن بحجة حرية التعبير وحرية الرأي.

المشاركة في أعياد الكافرين، وتسهيل المسألة، ولا تكن متزمتاً ولا تكن متعصباً، كل هذا ضرب لعقيدة الولاء والبراء في مقتل، وصار الذين يملئون ويعمرون أعياد الكافرين هم المسلمون، من الذي يملأ أعياد الكافرين يوم (شم النسيم) غير المسلمين، وبكل أسف أرى أصحاب لحى، وأرى صاحبات نقاب يتنزهون، وخرجوا يشمون الهواء، أقول في نفسي: هل غيب هؤلاء؟ هل نسي هؤلاء أنهم مصنفون كإرهابيين على كل الموائد الدولية؟ هل نسي هؤلاء هذا الأمر؟ هل نسي هؤلاء أن كل حرب تعقد في بلاد من بلاد العالم إنما هي عليهم..؟!

يخرجون يعمرون مشاهد الكافرين! ليلة رأس السنة من الذي يزني، ومن الذي يعاشر النساء ويشرب الخمر غير المسلمين؟! ويدفعون ألوف (الجنيهات) في الفنادق، والذي له واسطة يجد تذكرة دخول، من الذي يفعل ذلك غير المسلمين في ديار المسلمين؟! وهذا على مرأى ومسمع، ثم بعد كل ذلك يطلبون النصر من الله عز وجل.

إن بقاء هذه الأمة على وجه الأرض مع كل هذا الخبث معجزة، إننا نستدل على أننا سننتصر على عدونا ببقائنا، بقاؤنا مع كل المخالفات معجزة وآية من آيات الله عز وجل، نستدل بها أننا سننتصر، كل هذا ولم يخسف بنا.

إن الله تبارك وتعالى نهانا أن نسكن في مساكن الذين ظلموا، مع أن الأرض لله، والأرض لا تقدس أهلها، ولا تصبغ إلا بصبغة الساكنين عليها.

مكة -التي هي أحب البلاد إلى الله- كانت في يوم من الأيام دار كفر، وهي أحب البلاد إلى الله، إنما الدار بساكنيها. الآن الدار دار إسلام غداً تصير دار كفر، فالأرض لا علاقة لها بالكفر والإيمان، ومع ذلك نهانا أن نسكن في مساكن الذين ظلموا مع أن الأرض لله.. لماذا؟ هذا داخل في عقيدة الولاء والبراء، فكثرة مشاهدة آثار الذين ظلموا تؤثر على القلب، ويزعمون أنهم أتوا ليروا أبا الهول والأهرام..!

فكثرة مشاهدة آثار الظالمين يؤثر على عمل القلب، ولذلك النبي صلى الله عليه وسلم لما مر على الحجر من ديار ثمود، أين ثمود من الرسول عليه الصلاة والسلام؟ تفصله عنهم سنين طويلة، ومع ذلك أول ما مر على الحجر من ديار ثمود تقنع، واستحث الراحلة أن تسرع، وقال: (إذا مررتم بديار الذين ظلموا فأسرعوا؛ خشية أن يصيبكم ما أصابهم) ، وهؤلاء موتى لا يؤثرون، فكيف بالأحياء؟

إذاً يقول لك: إذا مررت على قبر ميت أسرع، وبعد ذلك تتعامل مع الكافر فهل هذا كلام معقول! وقد أمرك بالإسراع بجانب قبر الميت منهم، فيحرم عليك أن تجامع المشرك، قال صلى الله عليه وسلم: (من جامع المشركين فهو منهم)، ألا يكفي هذا رادعاً؟ فيجب علينا أن نخرج العادات والتقاليد البالية التي أخذناها من بلاد الكفر كالتقاليد البالية في الأفراح.

بالأمس كان هناك فرح.. سبحان الله! هؤلاء الناس ليس عندهم حياء، المرأة متبرجة والديوث يتأبطها، والذي لا يشتري يتفرج، في الشارع! حتى قال مؤذن الفجر: الله أكبر.. فسكتوا وذهبوا ليناموا.

أليس هؤلاء أولى بالعقوبة؟! أليس هؤلاء أولى بالعقوبة شرعاً وعرفاً؟!

بعض الناس كانوا يشتكون من المحاضرات المعلنة في المساجد، وذات مرة نزل أحدهم ممن لم يصل الفجر في المسجد، ونسي القائمون على المسجد أن يطفئوا (الميكرفونات) الخارجية، وكنت أقول تذكرة عشر دقائق، فتطوع هذا ونزل من بيته ودخل على المسجد كأنه كتلة نار، وقال: هناك أناس نائمون، وهناك طلبة يذاكرون.. واستدار. وأنا أكمل الجملة، قلت: أكملها في دقيقة، فهو قال هاتين الكلمتين واستدار ذاهباً إلى باب المسجد، وبينما أنا أكمل الجملة استدار وشتم وخرج.. فهل يستطيع هذا إذا كان الفرح تحت بيته أن يتكلم؟ لا يستطيع، ولا ينصره لا عرف ولا سلطان.

فهذه أمثلة! وفي سنة ثمانية وسبعين حين كان أحدهم وزيراً للأوقاف، ساكنو حي المهندسين اشتكوا من الأذان في (الميكرفونات) وقالوا: إن الأذان يزعجنا، وصدر قرار بإغلاق الميكرفونات العلنية في حي المهندسين، وقامت وقتها ضجة وثورة، وتكلم الدعاة عليها كلاماً طويلاً، وقالوا: الأذان لا يزعج أحداً، بل المريض وهو يتقلب في مرضه إذا سمع (الله أكبر) قال: رب أنت أكبر من المرض، فعافني، إذا سمع الله أكبر استبشر؛ لأنه لا ناصر له إلا الله في هذه الحالة، فهل تقوم تحرمه أن يسمع الأذان، وتقول الأذان يزعج! لا يزعج إلا البطالين الكسالى الذين شربوا الخمر إلى الأذان ثم يريدون أن يناموا.

إذاً عقيدة الولاء والبراء هي والإيمان بالله لا ينفصمان، إذا وجد أحدهما وجد الآخر، وإذا رحل أحدهما رحل الآخر.

وأيضاً -لخطورة عقيدة الولاء والبراء؛ ولأنها أخطر وأطول في الكلام من علامات المحبة- سنذكر أيضاً ضوابطها وعلاماتها، وأن بعض الصور تخرج من مسألة الولاء والبراء مثل المبايعة مع الكافر: أن تتعامل مع الكافر في البيع والشراء.. هذه الأفعال غير داخلة في عقيدة الولاء والبراء إلا إذا انضاف إليها أشياء، وسنذكر كل شيء بضوابطه.

نسأل الله عز وجل أن يرد المسلمين إلى دينه رداً جميلاً. اللهم اغفر لنا ذنوبنا، وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين.

اللهم اجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر. اللهم قنا الفتن ما ظهر منها وما بطن.

اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولاتسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك ولا يرحمنا.

رب آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها.

اللهم اغفر لنا هزلنا وجدنا، وخطأنا وعمدنا، وكل ذلك عندنا.

عسى الله أن يأتي بالفتح

إن الحمد لله تعالى نحمده، ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

أما بعد:

فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين، إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين، إنك حميد مجيد.

في قول الله عز وجل: فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِم يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ [المائدة:52] ما هو الفتح؟ وما هو الأمر؟ وهل بينهما فرق؟ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ .

(أن يأتي بالفتح): أن نظهر عليهم، ونستبيح بيضتهم، فإن لم يكن هذا الفتح، أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ يدمرهم مكانهم بغير كسب منك، كما فعل الله عز وجل فيهم يوم الأحزاب وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا [الأحزاب:25] أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ : يعني: ما خطر لك على بال، ولا دخل في حسابك. والفتح: كسب منك، والله عز وجل يظفرك به ويظهرك عليه.

وإذا نظرت إلى حال الصحابة الأوائل، وجدت أن كلا الأمرين قد تحقق، الصحابة خرجوا من ديارهم وأموالهم.

وقصة جالوت وداود وطالوت، لما اشتكوا لنبيهم ماذا قالوا له؟ قالوا: وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا [البقرة:246] ولو كانت وأبناؤنا (بالضم) يعني: نحن وأولادنا خرجنا وتركنا المال والديار، لكن انظر! يقول: أخرجنا من ديارنا وأخرجنا من أبنائنا، فانظر إلى فداحة المصيبة! أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا [البقرة:246] .

الولد قرة عين الوالد، فهؤلاء الصحابة لما قيل لهم: اخرجوا، تركوا ما بذلوه طيلة أعمارهم من المال والدار وراءهم، وذهبوا إلى مستقبل غير معروف، الصورة غير معروفة على الإطلاق، والنبي صلى الله عليه وسلم لما دعاهم إلى الله لم يضمن لهم أكلاً جيداً ولا ملبساً جيداً، وما تكلم عن هذه قط، ولكنه وعدهم الجنة، فإذا بذلت نفسك لله وخرجت من ديارك وخرجت من مالك وخرجت من ولدك أنا لا أعدك بشيء في الدنيا، فلا أعدك بتمكين ولا أعدك بمطعم وشراب بارد، وإنما أعدك إذا مت أن تدخل الجنة، هذه هي دعوة الرسول عليه الصلاة والسلام.

إذاً: وقود البذل والتضحية هو الإيمان.. لماذا؟ لأن هذه جنة..! إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ [التوبة:111] لم يقل: بأنه يمكن لهم، ولذلك من الغبن الشديد في حقنا: أننا نستعجل التمكين ونستعجل النصر، الرسول عليه الصلاة والسلام قال له الله عز وجل: فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ [هود:112] ، أما مسألة أن يمكن لك أو يمكن لابنك أو يمكن لحفيدك أو لا يمكن إلا للجيل القادم بعد زمن طويل.. هذه مسألة في علم الله عز وجل، المطلوب منك أن تستقيم، أما الوعد بالتمكين فلا، لا نعد بالتمكين إلا إذا أقمنا العبودية، فإن الله عز وجل وعدنا بذلك، لكن لا تقل: أنا فعلت، فلم لم يمكن لي؟!

الصحابة لما خرجوا وتركوا أموالهم، ما الذي حصل؟ الله عز وجل أباح لهم رافداً إلى يوم القيامة، نحن نعيش على خيره لو رجعنا إلى الجهاد، كم أُخذ منهم من المال تقريباً؟ جازاهم بأن أباح لهم الغنائم إلى يوم القيامة، والجزاء من جنس العمل، فعندما ترك الصحابة مالهم لله؛ أباح لهم رافداً لا ينضب، فأباح لهم الغنائم في وقعة بدر، والرسول صلى الله عليه وسلم قال: (إن الغنائم لم تحل لسود الرءوس غيركم).

تضييع الأمة لفريضة الجهاد

ونذكر هنا قصة يوشع بن نون المشهورة، وهذه القصة وإن كنا تكلمنا فيها وفي فوائدها ولكن أذكرها لأن هذا وقتها، وقت الجهاد والفداء، وليستشعر الذين كانوا يثبطون الدعاة ويكتبون ضدهم حينما كانوا يدعون إلى الجهاد، فقد ظهر شخص على أعلى مستوى دبلوماسي في مؤتمر صحفي يقول: كلام الجهاد والعنتريات هذا ولى وانقضى، الآن زمان السلام. الكلام هذا كان بمدريد. فالسياسة لا دين لها، والدعاة لم يغيروا كلامهم أبداً، فهم ينادون دائماً بضرورة تعبئة الأمة للجهاد في سبيل الله، وصارت كلمة الجهاد سبّة، وعوقب من ينسب إليها ولو زوراً!

بعدما قتلت هذه الروح في الجماهير وهجم علينا أعداؤنا، من يدفع الضريبة ومن يدفع الثمن؟ بعدما قتلوا هذه الروح الفتية في نفوس الجماهير، من الذي سيدفع هذا الثمن، ويدفع ثمن هذا الجرم العظيم في حق الأمة؟ فالجهاد مصطلح إسلامي خالص لا يعرف في أي ملة، يعرف القتال.. الكفاح.. النضال.. أي شيء من هذا الكلام، لكن (الجهاد) كلمة إسلامية خالصة، لم تعرف إلا عن المسلمين.

أحد الملوك مرة قال: الجهاد! فاهتزت العروش، وأرسل الأمريكان والإنجليز ليسألوه: ماذا تقصد بهذه الكلمة؟ وضح مرادك..!

لماذا كلمة (الجهاد) مرعبة؟

لأنها أولاً: مصطلح إسلامي.

ثانياً: لا يعلم استخدام هذه الكلمة من قبل المسلمين إلا مع الكافرين، فعندما تقاتل أخاً لك مسلماً فليس اسمه جهاداً: وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا [الحجرات:9] فقال: اقتتلوا ولم يقل جاهدوا، وقوله: (إذا قاتل أحدكم أخاه فليجتنب الوجه)لم يقل: إذا جاهد.

فلما نحيي كلمة الجهاد مرة ثانية، وندرس أبواب الجهاد وأحكام الجهاد، فأنت تجهز نفسك لمن؟ نحن نعرف أن الجهاد للكفرة فقط.

عواقب ترك الجهاد

فنحن في زمان الجهاد، وقد أظلنا زمان الجهاد، والجهاد في سبيل الله متعة، والصحابة كانوا يتسابقون إليه، وما الفقر الذي نحن فيه إلا بسبب ترك الجهاد، ولو نغزو كل سنة مرة أو مرتين أو ثلاث، ألم يكن سيسلم أناس كثيرون في الأرض؟ والذين سيرفضون هذه الدعوة ويحولون بيننا وبين دعوة الناس ألن نقاتلهم، ونغزوا أولادهم وأموالهم ونساءهم، وكل هذه عبارة عن أموال، وكل مجاهد كان يرجع من الجهاد ومعه أموال كثيرة والسبي من النساء والأولاد، ولو ذهب ليعمل صفقة تجارية في بلاد الغرب ما حصَّل هذه الأموال أبداً، وإذا احتاج إلى المال يبيع من السبي، وليس هذا فقط، بل هؤلاء منهم من سيسلم، فيكون هو أدخل أناساً آخرين في دين الله عز وجل وظهرت كلمة الله عز وجل.

فكتاب أحكام الذمة لـابن القيم كتاب من أمتع الكتب في هذا الباب، وقد نشره رجل محقق واعترض على ابن القيم في أشياء كثيرة بسبب الذل المضروب على المسلمين.

مثلاً: ابن القيم يقول: إن النصارى واليهود لابد أن يعطوا الجزية وهم صاغرون.. فهذا شرط، يعني: لا يدفع الجزية إلا وهو ذليل منكس رأسه ويقول: خذ الجزية.. وهذا شرط مذكور في الآية.

فهذا يرد على ابن القيم ويقول: هذا الكلام هذا غير صحيح، ويكفي أن نأخذ الجزية، وما صاغرون هذه..؟ وهذا الكلام غير صحيح.. وإنما هذا المحقق يتكلم من وضع الضعف والهوان الذي يراه ويعيش فيه!

الرسول عليه الصلاة والسلام قال: (لا تبدءوا اليهود ولا النصارى بالكلام).

وصح عن عبد الله بن عمر أنه سلم على رجل فعلم أنه يهودي فجرى وراءه، وقال له: رد علي سلامي -هكذا بمنتهى العزة- فقال له: رددت عليك سلامك؛ لأن عز الفرد من عز أمته ودولته، وذله من ذل أمته ودولته.

وقفات مع قصة يوشع بن نون ومقارنتها بالواقع

فالرسول عليه الصلاة والسلام لما ذكر قصة يوشع بن نون، قال: (غزا نبي من الأنبياء -صلوات الله وسلامه عليهم- فقال: لا يتبعني أحد ثلاثة نفر: لا يتبعني رجل بنى بامرأة ولما يدخل بها، ولا يتبعني رجل بنى بيوتاً ولم يرفع سقوفها، ولا يتبعني رجل له خلفات ينتظر نتاجها) ، أي إنسان من هؤلاء أنا في غنى عنه: رجل تزوج ولم يبن -أي: لم يدخل بالمرأة- فهذا يجلس بجانبها.. لماذا؟ لأن الرجل يتمنى أن يتزوج، و(يعيش في ثبات ونبات ويخلف صبيان وبنات)، فهذا أول ما يرى بارقة السيف تلمع يفر كالجبان.. هذا لا ينفع.

(ورجل بنى بيوتاً ولم يرفع سقوفها)، رفع الجدران وما زال السقف والدور الثالث والرابع والخامس، هذا الرجل يتمنى أن يرجع ليتمم ما بنى، فهذا يقعد.

(ورجل له خلفات ينتظر نتاجها) له غنم، وهو ينتظر الغنم تلد، فبدل أن يكون لديه رأس غنم واحد يكون عنده رأسان وثلاثة وأربعة ويمني نفسه بالغنى.

وهذا يذكرني بالرجل الفقير الذي كان له (قلة) سمن، وهذا الفقير كان في كل سبت يذهب ليبيع قلة السمن هذه ويشتري بطتين، ثم يبيعها ويشتري وزتين، فيوم من الأيام رأى بطاً ووزاً، فقال: هذا البط سأبيعه وآتي بشياه، ثم أبيع الشياة وأتي بخرفان، ثم أبيع الخرفان وآتي ببقر وجواميس، وبذلك سأصير غنياً جداً، وأبني قصراً منيفاً، وأتزوج أجمل امرأة في البلد، وأخلف من هذه المرأة ولداً جميلاً أربيه وأؤدبه..

وهذا الرجل كان يمشي على عكاز، انظر إلى هذه الأحلام كلها!

وهو يمشي على عكاز ويحمل القلة، وهو ذاهب إلى السوق ليبيعها ويرجع، وهو مستغرق في أحلامه: وهذا الولد لابد أن أحسن تربيته -وهو في ذلك الوقت كان قاعداً والعكاز بجانب السرير- وأنا لا أحب الحال المشين ولا الكلام الفارغ، لابد أن أجعله ولداً جيداً، فإذا قال لي: لا؛ سأضربه هكذا.. فضرب على القلة فكسرها.. وانتهت أحلامه!

فهذا رجل له خلفات ينتظر نتاجها ويقول: إن شاء الله تلد وسوف نبني ونترك ونفعل... فالقلب هو الذي يعطي قوة الجارحة، فإذا أدبر القلب سحب تأييده للجارحة، وإذا أقبل أعطاها القوة، فلما يكون الإنسان يتمنى أن يرجع فهل يريد أن يموت؟!! ولذلك أحسن هذا النبي الكريم صلى الله عليه وسلم غاية الإحسان حينما استثنى هؤلاء، فخرج بالجيش وكان ذاهباً إلى حرب العماليق، وليس الجبناء هؤلاء.

بالمناسبة! الجيش الأمريكي جيش ضعيف، ولم ينتصر في معركة دخلها قط، واسألوا فيتنام، فالجيش الأمريكي ليس لديه أي انتصار مشرف يستطيع أن يقول: أنا انتصرت، وكما هو معلوم فإن اللص (الفتوة) إنما يرعب الآخرين بقوته وفتوته، والأمريكان يعيشون هكذا.. (فتوات) فقط.

وفي حرب الخليج لو أن العرب تنحوا عنها أكان بإمكان أمريكا أن تدخل وتنتصر؟ أبداً والله، ولذلك أدخلوا العرب في الحرب البرية، وهم شاركوا في الطيران فقط، ولكن الحرب البرية التي هي حرب المواجهة الحقيقية، فالذي يريد أن يقول: أنا غلبت، وأنا قوي، وأنا شجاع يدخل الحرب البرية، فالحرب البرية قدموا فيها العرب، حتى يكونوا -أي: العرب- هم الذين يطهرون الأرض أماهم في الألغام.

فيوشع بن نون عليه السلام أخذ جنوده، وكان ذاهباً لمحاربة العماليق، ويذكرون في الإسرائيليات أن العماليق هؤلاء الواحد منهم كان طويلاً جداً، وكانت خلقتهم عظيمة.

يقولون: من ضمن الحكايات أن واحداً من جيش يوشع بن نون ذهب إلى بستان حتى يتجسس على العماليق ويأتي بأخبارهم، مع العلم أن هذا الجندي ربما كان طوله كطولي مرتين -فالخلق ما زال يتناقص إلى يوم القيامة- فجاء أحد العماليق ودخل البستان فوجده مختبئاً في جذع شجرة، فأخذه ووضعه في كمه -الرواية تقول هكذا- وذهب به للأمير وقال له: وجدت هذا.

فتخيل جماعة هذه صفتهم وذاهبون لمحاربة عماليق! أنا أقول هذا الكلام لتعرف أن الجبان لا ينتفع بالقنبلة في يده، الجبان يسلم لك مباشرة لو أنك أجرأ منه قلباً، فالرءوس الذرية التي يتحدثون عنها والتي يمكن لها أن تحرق الشرق الأوسط كله من أوله إلى آخره.. لا تهب قوتها ولا تخف منها؛ لأن الله عز وجل ناصرك، فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ [المائدة:52].

ومثلاً: دولة مبتدعة مثل إيران، والذي حصل في صحراء إيران أيام الرهائن الأمريكان معلوم عند الكثيرين، والرئيس الأمريكي غُلب بسبب هذه المسألة، فقام الأمريكان في صحرائهم فبنوا سفارة مثل سفارة أمريكا في إيران تماماً بنفس المداخل والمخارج، ووضعوا رهائن داخلها وأحضروا قوات (كوماندوز) ليخلصوا الرهائن.. ولعبوا هذه اللعبة! فهم مخترعو (السينما) في العالم، وتنظر فتجد عمارة مكونة من ستين دوراً وإذا بأحدهم يقفز منها.. كيف نزل سليماً؟ فهم أصحاب (هوليود).

فيقول لك: نحن لابد أن نبين قوة أمريكا.. فأعدوا هذه التمثيلية لمدة ثلاثة إلى أربعة شهور، يأتي الطيران فينزل جنود (الكوماندوز)، ولكنهم نسوا شيئاً مهماً، نسوا أن الرجل مهما كان يمثل لا يمكن أن يتقمص شخصية الخصم.

المهم تدربوا على هذه المسألة مرة ومرتين وأربع مرات وعشر مرات حتى تيقنوا مائة بالمائة أنهم سينتصرون؛ لأن (الرادارات) الموجودة في إيران كلها صنع أمريكي، وهم يعلمون كيف يشوشون على هذه (الرادارات)، ويعرفون أقصى مدى لها، وأنا قرأت في مذكرات بعض القادة العسكريين التي نشرت في السنوات الأخيرة أن أي دولة تصنع السلاح لا يمكن أن تعطي كل أسرار السلاح للدولة المستوردة، فتترك بعض أشياء معينة وكفاءات خاصة لا تستخدمها إلا الدولة المصنعة نفسها، فأنا لدي رادار مثلاً، وهذا الرادار أقول لهم: أقصى مدى له إذا الطائرة أتت على ارتفاع -مثلاً- سبعين متراً، وممكن (الرادار) هذا يكشف الطائرة وهي على بعد أكثر من ذلك، ولكن أنا معطل لهم هذه الخاصية ، فلا يستطيعون أن يستخدموها.

فطارت الطائرات الأمريكية على ارتفاع منخفض جداً وأفلتت من رقابة (الرادارات)، وربضت في صحراء إيران، وإيران ليس عندها علم بأن هناك طائرات أجنبية على أرضها، واستعدوا للدخول إلى السفارة وتخليص الرهائن حتى يعرِّفوا العالم أن أمريكا لا تغلب، وبينما هم يطيرون اصطدموا ببعضهم، هذا لو أنه مازال يتعلم ما فعل الخطأ البسيط هذا، فاصطدموا مع بعضهم..

أحياناً وأنت تمشي على الطريق السريع ترى حوادث سيارات لا يعملها طفل صغير، والذي فعلها إنسان يسوق السيارة منذ سنين طويلة. والحادثة أنت إذا وصفتها فستقول: طفل صغير لا يعملها، وتنكشف المسألة بحدوث حريق في الصحراء، ما هذا الحريق؟ قالوا: الطائرات اصطدمت ببعضها، والرجل ظهر واعترف.

لماذا هؤلاء لم يضعوا الله عز وجل في حسبانهم؟ نسوا الله فنسيهم، وهؤلاء مبتدعة، فما بالك إذا كنا نحن على عبودية لله كاملة، إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ [محمد:7] .

فخرج يوشع بن نون عليه السلام هو والجيش صباح يوم الجمعة -كما في مستدرك الحاكم- وظلوا يقاتلون العماليق قتالاً عنيفاً إلى أن غربت الشمس ولم يفتح لهم، حينئذ قال يوشع عليه السلام للشمس: (إنك مأمورة وأنا مأمور اللهم ردها علينا) فرجعت الشمس كما كانت، فظل يقاتل حتى فتح له، وغلب وانتصر.. لماذا؟ لأن معه رجالاً، والأزمة الموجودة في أمتنا الآن: أزمة رجال، وليست أزمة موارد ولا أزمة سلاح ولا أزمة خطط، وإنما أزمة رجال فقط.

فلما جمعوا الغنائم كانت العادة أن النار تنزل من السماء فتحرق الغنائم، فهذا يدل على أن الله تقبل غزوهم، فلما نزلت النار لتأكل الغنائم لم تطعمها وارتفعت مرة ثانية، فمباشرة يوشع عليه السلام قال: (فيكم غلول)، هناك لص في الجيش سرق شيئاً وغل مالاً، فمن يعترف؟ لم يعترف أحد.. إذاً: (فليبايعني من كل قبيلة رجل أو رجلان)، وكان من علامة (الغال) آنذاك أن تلتصق يده بيد النبي، فالتصقت يد رجل أو رجلين بيده فقال: فيكم الغلول؛ فأخرجوا من رحالهم مثل رأس البقرة من ذهب، فلما أرجعوه نزلت النار من السماء فأحرقت الغنائم.

من ثمار الجهاد

هذه القصة عقب عليها الرسول عليه الصلاة والسلام وقال: (فلما رأى الله عجزنا وضعفنا أباحها لنا) التي هي الغنائم (لما رأى عجزنا وضعفنا أباحها لنا) مع الحديث الآخر: (إن الغنائم لم تحل لسود الرءوس غيركم) إذاً نحن الأمة الوحيدة المتفردة بحل الغنائم، فنكون قد ضيعنا على أنفسنا خيراً كثيراً على المستوى الاقتصادي بضياع كل هذه الغنائم.

الغنائم أباحها الله لنا بعد قصة مطاردة أبي سفيان لما هرب بالعير، والرسول عليه الصلاة والسلام أراد أن يأخذ عير قريش جزاءً وفاقاً، أيأخذون أموال الصحابة، ويحرمونهم من مالهم ونتركهم؟! لا، فعلى الأقل نأخذ هذه العير في مقابل ما أخذوه من مال.

فلما هرب بالمال عوضهم الله عز وجل خيراً من هذه الصفقة برافد إلى يوم القيامة، والتي هي الغنائم، تطبيقاً لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه) ، فالشيء الذي نتركه لله محضاً وخالصاً يعوضنا الله خيراً منه

فلا تظنن بربك ظن سـوءفإن الله أولى بالجميـل

ونحن نقرأ في هذه الآية: فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أننا نغلب وننتصر، ونظهر عليهم، ونستبيح بيضتهم، وفي ذلك شفاء لصدور المؤمنين.

إن الله يعين عباده المجاهدين بما يسلطه على أعدائهم من العذاب

أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ [المائدة:52] وأنا ربما حدثتكم قبل ذلك عن الفيضان الذي ضرب ولاية فلوريدا الأمريكية، وكانت الخسائر المبدئية اثنين وأربعين مليار دولار، وبعد حوالي شهر ضرب أيضاً البحر -بإذن الله عز وجل- مدينة هاواي الأمريكية، وهي مركز من مراكز الدعارة العالمية، فكانت الخسائر المادية خمسة مليارات دولار، ففي ثلاثين يوماً كانت الخسائر سبعة وأربعين مليار دولار وأنت لا تدري ما الذي جرى، مع هذه المخالفات التي في ديار المسلمين، خسر الأمريكان سبعة وأربعين مليار دولار في شهر، ولو أنك تمتلك أقوى جيش في العالم ودخلت في حرب معهم فلا يمكن أن تخسرهم سبعة وأربعين مليار دولار في شهر واحد.

إذاً السلاح الماضي لنا هو العبودية.. بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ [الإسراء:5].

بختنصر الذي ظهر على اليهود أول مرة، دخل مرة على البلد فوجد أن هناك دماً يفور على كومة من القمامة، فقال: ما هذا؟ قالوا له: وفق عقيدة ورثناها عن آبائنا فإن هذا الدم سيظل يفور حتى نرويه من دم أعدائنا، هل تعلم أنه لكي يطفئ هذا الدم -كما تقول الروايات- قتل سبعين ألف يهودي وصب دمهم على هذا الدم، قالوا: حتى إنه لم يبق أحد يقرأ التوراة، وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ [الأعراف:167] فإذاً لا يعذبهم بعباده المؤمنين فقط، بل بكل الناس.

حتى هتلر النازي كان يشويهم في الأفران شيّاً، وقد ذكرت قبلاً أنهم طلبوا من الرئيس الأمريكي أن يعتذر عما فعل هتلر .. لماذا؟ لأنهم لم ينسوا ضحاياهم، وهم يتحركون بهذه العقيدة، فهل نحن نتحرك بهذه العقيدة، نحن نسينا أن اليهود أعداؤنا، ونسينا أن النصارى أعداؤنا، ونسينا أن المجوس أعداؤنا... كل هذا لأن الجذوة التي تتقد منها عقيدة الولاء والبراء ذهبت، وهذه الجذوة هي الإيمان بالله عز وجل، ونحن على يقين أننا سننتصر؛ إذا فعلنا ما أمرنا به من تحقيق العبودية لله عز وجل قال تعالى : إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ [محمد:7]..

نسأل الله أن يردنا إلى دينه رداً جميلاً، إنه ولي ذلك والقادر عليه.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , الولاء والبراء[1] للشيخ : أبو إسحاق الحويني

https://audio.islamweb.net