إسلام ويب

يجب الإيمان بكل ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم عن الجنة والنار، من أنهما مخلوقتان وموجودتان الآن، ومحاجتهما في صفات من يدخلهما، وأن الله سبحانه قد أخذ على نفسه عهداً بأن لكل منهما ملأها، وغير ذلك من الأخبار التي وردت في سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم الذي لا ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى.

باب النار يدخلها الجبارون والجنة يدخلها الضعفاء

بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن والاه.

وبعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة.

أما بعد: فمع الباب الثالث عشر من كتاب: الجنة وصفة نعيمها وأهلها، وهو بعنوان: (النار يدخلها الجبارون، والجنة يدخلها الضعفاء).

شرح حديث: (احتجت النار والجنة ...)

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ حدثنا ابن أبي عمر -وهو محمد بن يحيى بن أبي عمر العدني نزيل مكة- قال: حدثنا سفيان -وهو ابن عيينة- عن أبي الزناد عن الأعرج ].

و أبو الزناد هو عبد الله بن ذكوان المدني ، والأعرج : هو عبد الرحمن بن هرمز المدني كذلك.

[ عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (احتجت النار والجنة) ].

أي: صار بين النار والجنة خصومة أو نزاع أو محاجة.

[ (فقالت هذه-أي النار-: يدخلني الجبارون والمتكبرون) ].

فمن أوصاف أهل النار أنهم جبارون: كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ [هود:59]، والمتكبرون: هم الذين يغمطون الناس ويردون الحقوق. أي: يجحدونها ولا يقرون بها.

[ (وقالت هذه -أي الجنة- يدخلني الضعفاء والمساكين. فقال الله عز وجل لهذه -أي: للنار-: أنت عذابي أعذب بك من أشاء، وربما قال: أصيب بك من أشاء، وقال لهذه -أي: للجنة-: أنت رحمتي أرحم بك من أشاء، ولكل واحدة منكما ملؤها) ]. لأن الله تعالى أخذ على نفسه عهداً أن يملأ الجنة، وأن يملأ النار، أعاذنا ألله وإياكم من النار!

قال: [ وحدثنا محمد بن رافع حدثنا شبابة -وهو ابن سوار المدائني- حدثني ورقاء -وهو المدائني كذلك- عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (تحاجت النار والجنة، فقالت النار: أوثرت بالمتكبرين والمتجبرين. وقالت الجنة: فمالي لا يدخلني إلا ضعفاء الناس وسقطهم وعجزهم ؟ فقال الله للجنة: أنت رحمتي أرحم بك من أشاء من عبادي. وقال للنار: أنت عذابي أعذب بك من أشاء من عبادي، ولكل واحدة منكما ملؤها، فأما النار فلا تمتلئ، فيضع قدمه عليها فتقول: قط قط) ]. يعني: كفى، وحسبي.

[ (فهنالك تمتلئ ويزوى بعضها إلى بعض) ].

يزوى. يعني: ينزوي وينضم ويجتمع بعضها على بعض إذا وضع الجبار تبارك وتعالى قدمه فيها.

قال: [ حدثنا عبد الله بن عون الهلالي حدثنا أبو سفيان -وهو محمد بن حميد- عن معمر بن راشد البصري عن أيوب بن أبي تميمة السختياني البصري عن ابن سيرين ].

و ابن سيرين عند الإطلاق هو محمد ، وإلا فهناك أنس بن سيرين وهو أخو محمد ، والراوي إذا حدث عنه يقول: حدثنا أنس بن سيرين .

[ عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (احتجت الجنة والنار). واقتص الحديث بمعنى حديث أبي الزناد .

حدثنا محمد بن رافع حدثنا عبد الرزاق حدثنا معمر عن همام بن منبِه -أو منبه- قال: هذا ما حدثنا أبو هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ].

وهذا الأحاديث التي يرويها همام عن أبي هريرة تسمى عند المحدثين: بصحيفة همام عن أبي هريرة أوردها الإمام أحمد في المجلد الثاني من مسنده، وهي تقريباً حوالي مائة واثنين وأربعين حديثاً. يقول فيها همام : هذا ما حدثنا أبو هريرة عن رسول الله.

[فذكر أحاديث منها: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تحاجت الجنة والنار فقالت النار: أوثرت بالمتكبرين والمتجبرين. وقالت الجنة: فما لي لا يدخلني إلا ضعفاء الناس وسقطهم وغرتهم -وفي رواية وغَرسهم أو غرسهم- وقال الله للجنة: إنما أنت رحمتي أرحم بك من أشاء، وقال للنار: إنما أنت عذابي، أعذب بك من أشاء من عبادي، ولكل واحدة منكما ملؤها، فأما النار فلا تمتلئ حتى يضع الله تبارك وتعالى رجله) ].

وفي الرواية الأولى: (حتى يضع الجبار قدمه).

[ (فتقول: قط، قط، فهنالك تمتلئ، ويزوى بعضها إلى بعض، ولا يظلم الله من خلقه أحداً، وأما الجنة فإن الله ينشئ لها خلقاً) ].

إذاً: القضية التي أريد أن أؤكد عليها وهي أنه إذا أدخل أهل النار النار وأهل الجنة الجنة يبقى في الجنة مكان، ويبقى في النار مكان، ولذلك في الحديث: (فإذا دخل أهل النار النار، قالت النار: هل من مزيد). الله تعالى يسألها: هَلِ امْتَلأْتِ [ق:30]، وتقول: هَلْ مِنْ مَزِيدٍ [ق:30]. أو ملك عن الله تعالى يسألها، هَلِ امْتَلأْتِ [ق:30]، وهي دائماً تقول: هَلْ مِنْ مَزِيدٍ [ق:30] حتى يضع الجبار تبارك وتعالى قدمه فيها فينزوي بعضها إلى بعض وتقول: قط قط. أي: قد امتلأت.

وأما الجنة فإذا دخلها الداخلون بقي فيها فضل وزيادة، فينشئ الله تعالى لها خلقاً.

ذكر الخلق الذين ينشئهم الله للجنة

وفي الحديث عدة مسائل:

المسألة الأولى: أن هؤلاء الذين أنشأهم الله عز وجل دخلوا الجنة ولم يعملوا خيراً قط، بل ولم يعملوا شراً قط، ليس لهم من الأعمال ما يؤهلهم إلى النار أو إلى الجنة، وهذه مسألة متقررة لدى أهل السنة والجماعة: أن الله تبارك وتعالى إذا عذب من لا يستحق العذاب في نظر الناس فهو يعذبه غير ظالم له؛ لأنه تعالى أعلم به من خلقه، وإذا أدخله الجنة لا يعني ذلك أنه قد استوجب الجنة ببعض العمل، ولكن دخول الجنة متوقف ابتداءً على فضل الله تعالى ورحمته، والعمل ما هو إلا سبب قد أمرنا به أمراً ونهياً، إتياناً وتركاً، لكننا لو عبدنا الله تعالى طيلة حياتنا فإننا لا نستحق بهذه العبادة تلك الجنة، وإنما يتحنن الله عز وجل على عباده الذين أطاعوه في الأمر والنهي بأن يدخلهم الجنة، ورتب على ذلك سبباً وهو طاعتهم لله عز وجل في الدنيا، فالعمل ما هو إلا سبب، لكن لو تخلف السبب فالأمر متعلق بمشيئة الله تعالى، إن شاء عذب وإن شاء غفر، فهؤلاء الخلق أنشأهم الله تعالى لأول مرة، وبغير عمل عملوه أدخلهم الجنة حتى امتلأت.

وأطفال المسلمين الذين ماتوا قبل أن يبلغوا الحلم وأن يجري عليهم القلم يدخلون الجنة بغير نزاع بين أهل العلم، إنما وقع النزاع في أطفال المشركين، والراجح من مذهب أهل السنة والجماعة: أن أطفال المشركين إذا ماتوا قبل البلوغ دخلوا الجنة كذلك لأنهم أطفال، وربما بلغ الواحد منهم الخامسة، والسادسة، والسابعة وزيادة عن ذلك، وربما أتى من الأعمال التي تتناسب مع هذه الأعمار وهي أعمال شر وسوء، لكن الله تعالى يعفو عنها ويجعلها كأن لم تكن ويدخله الجنة إذا مات قبل البلوغ، فليس بغريب أن ينشئ الله تعالى خلقاً جديداً في اللحظة فيملأ بهم الجنة.

قوله: (وأما الجنة فإن الله ينشئ لها خلقاً). أي: يبتدئ لها خلقاً جديداً، ينشئهم ويخلقهم لأول مرة لم يعملوا خيراً قط.

إذاً: دخول الجنة ليس متعلقاً بالثواب والعمل، إنما الثواب والعمل سبب لدخول الجنة، أما تخلف السبب عن المسبب فهذا أمر كلنا يعرفه، الواحد منا أحياناً يأكل ولا يشبع مع أن المقرر في الأذهان أن من أكل شبع، والواحد منا يتزوج لينجب ولا ينجب، فقد حصل السبب ولكن لم تحصل النتيجة، والواحد منا يذاكر لينجح وربما ذاكر وفي نهاية العام لم ينجح، مع أنه قد اتخذ السبب، فلا يلزم دائماً ربط الأسباب بالمسببات، لكن الله تعبدنا باتخاذ الأسباب، فلا يحل لأحدنا أن يمتنع من طعامه وشرابه ويقول: الله تعالى يطعمني ويسقيني، لا يحل له ذلك، كما أنه لا يحل له أن يتكاسل عن الجد والاجتهاد طول العام ويقول: إذا أراد الله تعالى النجاح لي وفقني إليه في آخر العام. وكذلك لا يحل لأحدنا أن يقول: أنا لا أتزوج النساء؛ لأن الله إذا شاء أن يرزقني الولد بغير زواج ولا نكاح فعل.

نحن نعتقد أن كل ذلك في مقدور الله عز وجل كما أنشأ عيسى بن مريم من أمه بغير أب، وكما أنشأ آدم بغير أب ولا أم، وكما أنشأ حواء من جنب آدم، فكل ذلك في مقدور الله تعالى، لكن هذه نواميس كونية الله عز وجل قدرها لأمور معينة، ومعجزات تجري على أيدي هؤلاء، هذا فيما يتعلق بالنسبة للجنة.

معنى قوله: (قالت الجنة فما لي لا يدخلني إلا ضعفاء الناس ...)

المسألة الثانية: (قالت الجنة: فما لي لا يدخلني إلا ضعفاء الناس وسقطهم وعجزهم). أما السقط: فهم الضعفاء والمحتقرون منهم، والبسطاء الذين لو نظر إليهم لزهد فيهم. والعجز: جمع عاجز أي العاجزون عن طلب الدنيا، والتمكن فيها، والثروة والشوكة. والغرت: معناه: أهل الحاجة والفاقة والجوع؛ لأن الغرت بمعنى الجوع. وغرتهم: أي البله الغافلون الذين ليس فيهم فتك وحذق في أمور الدنيا وهو نحو الحديث الآخر: (أكثر أهل الجنة البله).

قال: (قال القاضي عياض: معناه: سواد الناس وعامتهم من أهل الإيمان الذين لا يفطنون للسنة فتدخل عليهم الفتنة أو البدعة أو غيرهما وهم ثابتو الإيمان، صحيحو العقائد، وهم أكثر المؤمنون، وهم أكثر أهل الجنة.

وأما العارفون، والعلماء العاملون والصالحون المتعبدون فهم قليلون وهم أصحاب الدرجات).

وفي الحديث: (أهل الجنة كل ضعيف متضعف) وهو الخاضع لله تعالى، المذل نفسه له سبحانه وتعالى وهو ضد المتجبر المستكبر.

إثبات صفة القدم لله سبحانه

المسألة الثالثة: (حتى يضع الجبار قدمه فيها). وهذه من صفات الله عز وجل، مسألة القدم أو الرجل صفة ذاتية لله عز وجل، وإثبات الرجل والقدم لله عز وجل من صفات ذاته، ومنهج أهل السنة والجماعة في صفات المولى عز وجل ليس إقراراً فقط، إنما إيمان جازم يكون باللسان والجنان والجوارح.

وتعريف الإيمان: هو قول وعمل يزيد وينقص، قول باللسان، وعمل بالأركان، وكذا اعتقاد بالجنان، فلا أقول إقرار مع إمرار، أو إقرار وإمرار، وإنما اعتقاد وإمرار. ومعنى هذا: أنني أعتقد أن الرجل ثابتة لله عز وجل على الوجه اللائق به سبحانه وتعالى، ولا أخوض في كيفية الرجل، كيف هي؟ هل لها أصابع؟ هل لها أظافر؟ أعوذ بالله! فلا نعلم كيفيتها، ولا يعلم كيفيتها إلا الله عز وجل.

إذاً: أثبت النص عندي أن لله رجلاً، فيتوقف إيماني بهذه الرجل عند ثبوتها على المعنى اللائق لله تعالى، فلا أتعرض لها بالرد والإبطال، ولا أقول: ليس لله رجل؛ لأنه لو كان له رجل للزم أن تكون هذه الرجل جارحة، وإذا كانت جارحة فهي تشبه أرجل المخلوقين، هذا ضلال، كما أنه لا يصح لي أن أثبت الرجل لكني أؤولها وأصرفها عن ظاهرها. أقول: نعم إن لله تعالى رجل لكنها بمعنى القدرة، فأنا أثبت الصفة لكني أولتها، فهناك من يعطل الصفات، وهناك من يصرفها عن ظاهرها، وهناك من ينكرها وينفيها تماماً، وهناك على المقابل من يثبتها ويشبهها ويمثلها بصفات المخلوقين، وكلا الفريقين ضلا في هذا الباب ضلالاً عظيماً، أما موقف أهل السنة والجماعة من صفات الله تعالى صفات أفعاله وذاته فهو: الإيمان بها وإمرارها كما جاءت دون خوض في كيفيتها، فنثبت الرجل لله تعالى على المعنى والكيفية اللائقة به سبحانه وتعالى، هو أعلم بنفسه وذاته وأسمائه وصفاته. لكن المطلوب مني أن أومن بهذه الصفة، وألا أتوقف عندها للخوض فيها ومعرفة كيفيتها. وكثير من أهل العلم وهم جمهور المتكلمين من الأشاعرة والفلاسفة لم يهنأ لأصل ذلك فقالوا: المراد بالقدم: المتقدم. قالوا: ومعناه شائع في اللغة. ومعناه: حتى يضع الجبار فيها من قدمه إليها. وهذا التكلف حتى يهربوا من إثبات الصفة، ففسروا القدم بمعنى المتقدم، وهذا بلا شك ضلال بعيد.

والتأويل الثاني: أن المراد قدم بعض المخلوقين فيعود الضمير في قدمه إلى ذلك المخلوق المعلوم حتى يضع الجبار فيها قدمه. أي: قدم بعض خلقه.

والتأويل الثالث: أنه يحتمل أن في المخلوقات ما يسمى بهذه التسمية. يعني: يمكن واحد من الخلق اسمه (قدمه) وهذا التأويل تأويل تافه.

فقالوا: (حتى يضع الجبار فيها قدمه). أي: حتى يضع الجبار عبداً من عباده اسمه (قدمه).

وقالوا: ويجوز أن يراد بالرجل الجماعة من الناس، لأن أهل العربية يقولون لمجموعة من الناس: رجل مثل: العصابة وغير ذلك فإنه يطلق على العصابة أيضاً رجل. قالوا: المقصود بالرجل هنا العصابة من الناس، ويجوز أن يراد بالرجل الجماعة من الناس، كما يقال: رجل من جراد. أي: قطعة منه. قال القاضي: (أظهر التأويلات أنهم قوم استحقوها وخلقوا لها).

قالوا: ولا بد من صرفه عن ظاهره، لقيام الدليل القطعي العقلي على استحالة الجارحة على الله تعالى. ونحن معكم أنه تستحيل الجارحة على الله عز وجل، بمعنى أن الله تعالى لا توصف أوصافه بالجوارح، فالمخلوق صاحب جوارح، فهذه يدي جارحة، وعيني جارحة، وأذني جارحة، وأعضائي كلها جوارح، فلا يمكن أبداً أن نسمي صفات الله عز وجل بالجوارح، وإلا صرنا إلى التشبيه، وهذا بلا شك كفر وضلال.

فيقولون: لما قام الدليل القطعي العقلي على استحالة الجارحة على الله تعالى كان لابد من صرف الرجل، ومن صرف القدم.

ونرد عليهم: إذا كنتم تذهبون هذا المذهب فهل تؤمنون أن لله تعالى ذاتاً؟ لابد أنهم سيقولون: له ذات. والمخلوق ذات، وأنتم تقولون أن لله تعالى ذاتاً، فلابد أن تصرفوا ذات الله عز وجل لأنكم صرفتم الأوصاف، لأنه ما من ذات إلا وهي موصوفة بأوصاف، فإذا كنتم صرفتم هذه الأوصاف فيلزمكم أن تصرفوا الذات، وأنتم تعلمون أن صرف الذات يساوي العدم. فإن قالوا: الله تعالى عدم كفروا. وإن قالوا: أنه ذات فيلزم من ذلك أن ذاته متصفة بصفة، فلا يلزم على مذهب القاضي عياض -وكان أشعرياً جلداً- تأويل صفات المولى عز وجل وتركها عن ظاهرها؛ لاستحالة الجارحة على الله. نعم يستحيل على الله تعالى أن يوصف بالجوارح، لكننا نقول: نثبت له الصفات ونؤمن بها كما جاءت، ونمرها ولا نخوض فيها بتأويل ولا بكيفية.

شرح حديث: (لا تزال جهنم تقول: هل من مزيد ...)

قال: [ حدثنا عبد بن حميد ، حدثنا يونس بن محمد ، حدثنا شيبان عن قتادة ، حدثنا أنس بن مالك أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا تزال جهنم تقول: هل من مزيد؟ حتى يضع رب العزة تبارك وتعالى قدمه فتقول: قط قط وعزتك، ويزوى بعضها إلى بعض).

وحدثنا محمد بن عبد الله الرازي ، حدثنا عبد الوهاب بن عطاء في قوله عز وجل: يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ [ق:30]، فأخبرنا -أي: عبد الوهاب بن عطاء- عن سعيد -وهو ابن أبي عروبة البصري- عن قتادة عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا تزال جهنم يلقى فيها وتقول هل من مزيد، حتى يضع رب العزة قدمه فينزوي بعضها إلى بعض وتقول: قط قط، بعزتك وكرمك، ولا يزال في الجنة فضل حتى ينشئ الله لها خلقاً فيسكنهم فضل الجنة)].

شرح حديث: (يبقى من الجنة ما شاء الله ...)

قال: [حدثنا زهير بن حرب -أبو خيثمة النسائي نزيل بغداد- حدثنا عفان -وهو ابن مسلم الصفار- حدثنا حماد بن سلمة البصري أخبرنا ثابت -وهو ابن أسلم البناني - قال: سمعت أنساً يقول عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يبقى من الجنة ما شاء الله أن يبقى) ].

يعني: يفضل في الجنة فضلة ثم ينشئ الله تعالى لها خلقاً مما يشاء، وهذا يدل على عظم الجنة، إذا كان أدنى أهل الجنة منزلة من كان له في الجنة مثل الدنيا وعشرة أمثالها، فكيف بأعظمهم منزلة؟

قرأت أن قرية اكتشفوها لا تعلم شيئاً قط عن الرسل ولا الرسالات، ولا يوجد أحد يفهمهم نهائياً، ويتكلمون بلغتهم التي تعارفوا فيما بينهم عليها لا يعلمون شيئاً مطلقاً، ولما قرأنا هذا البحث قلنا: سبحان الله! هذا يدل على عظم قول الله تعال: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [الإسراء:15]، فهؤلاء لم يبعث إليهم رسول بمعنى: أنه لم تصلهم دعوة الرسل وهم يوم القيامة في عافية، إلا ما قد عملوه وغلب على ظنهم أنه شر، فهم يحاسبون على أنهم يعرفون أن هذا شر وقد فعلوه.

شرح حديث: (يجاء بالموت يوم القيامة كأنه كبش أملح)

قال: [ حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وأبو كريب وتقاربا في اللفظ قالا: حدثنا أبو معاوية عن الأعمش ].

أبو معاوية هو محمد بن خازم الضرير ، والأعمش هو سليمان بن مهران الكوفي .

[ عن أبي صالح ]. وهو السمان عبد الله بن ذكوان المدني.

[ عن أبي سعيد ] -وهو الخدري ، واسمه سعد بن مالك بن سنان المدني- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يجاء بالموت يوم القيامة كأنه كبش أملح) ]. أملح يعني: مليح. وزيادة في الملاحة، فالأملح أحسن من المليح، مثل فلان حسن والثاني أحسن، فلان فاضل والثاني أفضل منه.

وقد سمعت درساً في عقيقة لأحد الشيوخ وهو يقول: ليس هناك دليل قط على أن الخروف الذي يذبح أو الشاة التي تذبح لابد أن تكون قرناء ومن قال بذلك فقد ابتدع في دين الله ما ليس منه، وفي الحقيقة (النبي عليه الصلاة والسلام عق عن الحسن والحسين كبشين أملحين). فكلمة أملح توقف عندها العلماء، والكبش المليح هو الكبش النفيس، الجميل، ذو القيمة، فمثلاً: عمر أفضل من زيد في ذكائه، وفي منظره، وفي مخبره، وفي الطول، وفي العرض، وفي لون العينين، وفي لون البشرة، وتاجر الأغنام والمواشي يفضل الخروف الأقرن؛ لأن سنه أنسب من سن الآخر، ولحمه طيب، وغيره لم يكن كذلك.

وصائغ الفضة أو الذهب يعرف أن هذه السبيكة مضروبة، وأنها جيدة، أو غير ذلك، ولكنه عرف ذلك إما بلسان العرب أو أحوالهم ومقاييسهم التي يتوارثها الأجيال جيلاً بعد جيل إلى يومنا هذا وإلى قيام الساعة، فالعرب عرفت الملاحة من حيثيات متعددة، فيعدون الخروف الأقرن أفضل من غير الأقرن، فالعرب تعد الملاحة بالقرن، وهو ليس شرطاً في العقيقة، ولكنه مستحب. يعني: يستحب أن تكون العقيقة والأضحية بخروف أقرن، ولو كانت بأنثى جاز، ولو من الماعز كانت ذكراً أو أنثى جاز؛ لأنهما من فصيلة واحدة، والعرب يطلقون لفظ الشاة على المعز والضأن.

وأما كون الدليل لم يذكر في أنه أقرن ربما يكون كذلك، لكننا لا نرد أن الملاحة بالقرن؛ لأن العرب قد عدوا الملاحة في القرن، بدليل أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (يجاء بالموت على صورة كبش أملح). ولو لم يكن لدى السامعين معنى الملاحة لقالوا: يا رسول الله! ما المقصود بالأملح؟ لكنه خاطبهم بذلك لأنهم يعرفون الملاحة من غيرها.

قال: (فيوقف بين الجنة والنار). أي: يؤتى بالموت على صورة كبش، والموت عرض من الأعراض، والأعراض كلها مخلوقة، ولذلك قال الله تعالى: خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ [الملك:2]، فالحياة عرض وهي مخلوقة، والموت عرض وهو مخلوق كذلك، بخلاف من قال: إن الموت عدم يقابل الحياة. وهذا كلام الفلاسفة ولا قيمة له في الشرع، فيجاء بالموت الذي هو عرض في صورة المحسوس الذي هو الكبش الأملح.

[ (حتى يوقف بين الجنة والنار، ثم يقال: يا أهل الجنة هل تعرفون هذا؟ فيشرئبون وينظرون، ويقال: نعم هذا الموت) ].

يشرئبون. أي: يطيلون أعناقهم ينظرون إليه حتى يعرفونه ويقولون: نعم نعرفه، هذا هو الموت.

قال: [ (ويقال: يا أهل النار هل تعرفون هذا؟ فيشرئبون وينظرون، ويقال: نعم هذا الموت) ].

إذاً: أهل الجنة يعرفون الموت، وأهل النار يعرفون الموت.

قال: [ (فيأمر به فيذبح) ]. يؤمر بهذا الكبش الأملح بأن يذبح بين الجنة والنار، وهو يكون آخر من يذبح، لأنه علامة وأمارة على انتهاء أسطورة الموت، فلا موت بعد موت هذا الكبش.

قال: [ (ثم يقال: يا أهل الجنة، خلود فلا موت، ويا أهل النار خلود فلا موت، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ [مريم:39] وأشار بيده إلى الدنيا) ].

أي: كلنا في هذه الدنيا في غفلة عظيمة عن العمل الصالح، وعن تقوى الله عز وجل، وعن البر والصلة وغير ذلك فنحن في غفلة عظيمة، سنندم عليها في يوم يسمى يوم الحسرة.

وفي الحديث: (إذا أدخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار قيل: يا أهل الجنة). ثم ذكر الحديث فذلك قوله عز وجل: وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ [مريم:39]، ولم يقل ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأشار بيده إلى الدنيا.

شرح حديث: (يدخل الله أهل الجنة الجنة ... ثم يقوم مؤذن ...)

قال: [حدثنا زهير بن حرب ، والحسن بن علي الحلواني ، وعبد بن حميد قال عبد : أخبرني، وقال الآخران: حدثنا يعقوب -وهو ابن إبراهيم بن سعد المدني- حدثنا أبي عن صالح وهو ابن كيسان، حدثنا نافع أن عبد الله قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (يدخل الله أهل الجنة الجنة، ويدخل أهل النار النار، ثم يقوم مؤذن بينهم) ].

المؤذن بمعنى المنادي.

[ (فيقول: يا أهل الجنة لا موت، ويا أهل النار لا موت). أي: كل خالد فيما هو فيه.

طبعاً نحن نعتقد أن من دخل النار من عصاة الموحدين خرج منها يوماً ما حتماً ولابد، وهذا الحديث موضعه بعد آخر رجل يخرج من النار من الموحدين ويدخل الجنة.

شرح حديث: (إذا صار أهل الجنة إلى الجنة ...)

قال: [ حدثني هارون بن سعيد الأيلي وحرملة بن يحيى قالا: حدثنا ابن وهب -وهو عبد الله- حدثني عمر بن محمد بن زيد بن عبد الله بن عمر بن الخطاب ؛ أن أباه حدثه عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا صار أهل الجنة إلى الجنة، وصار أهل النار إلى النار أتي بالموت حتى يجعل بين الجنة والنار، ثم يذبح، ثم ينادي مناد: يا أهل الجنة! لا موت، ويا أهل النار لا موت، فيزداد أهل الجنة فرحاً إلى فرحهم، ويزداد أهل النار حزناً إلى حزنهم)].

شرح حديث: (ضرس الكافر أو ناب الكافر مثل أحد ...)

قال: [حدثني سريج بن يونس ، حدثنا حميد بن عبد الرحمن ، عن الحسن بن صالح ، عن هارون بن سعد، عن أبي حازم، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ضرس الكافر أو ناب الكافر مثل أحد، وغلظ جلده مسيرة ثلاث) ].

أي: ثلاث ليال، أو ثلاثة أيام. وهذا يدل على عظم النار، كما أننا قلنا عن عظم الجنة: إذا كان حظ أدنى الناس فيها عشرة أمثال الدنيا، فما بالك بنصيب الأنبياء، والصديقين والشهداء والرفقاء؟!

وكذلك النار عظيمة جداً، وعميقة جداً، ومحرقة جداً، ضرس الكافر الواحد فيها كجبل أحد، فما بالك بأضراسه بل وأسنانه وقواطعه، وإذا كان غلظ جلده مسيرة ثلاثة أيام، فما بالكم بجوارح الكافر كلها كم ستكون؟ وما بالكم بجميع الكفار والمنافقين أين يكونون وكيف يكونون في هذه النار العظيمة الذي جعل الله: وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ [البقرة:24]؟

شرح حديث: (ما بين منكبي الكافر في النار مسيرة ثلاثة أيام ...)

قال: [ حدثنا أبو كريب وأحمد بن عمر الوكيعي قالا: حدثنا ابن الفضيل عن أبيه، عن أبي حازم عن أبي هريرة يرفعه ].

ومعنى يرفعه أي: يقول فيه قال النبي عليه الصلاة والسلام.

[ (ما بين منكبي الكافر في النار مسيرة ثلاثة أيام للراكب المسرع) ].

قوله: (ما بين منكبي الكافر). أي: من الكتف إلى صفحة العنق يسمى منكباً، مسيرة ثلاثة أيام للراكب الجواد المسرع.

شرح حديث: (ألا أخبركم بأهل الجنة.. كل ضعيف متضعف)

قوله عليه الصلاة والسلام: [ (ألا أخبركم بأهل الجنة؟ كل ضعيف متضعف) ].

والمتضعف -بالفتح والكسر- معناه: من يستضعفه الناس ويحتقرونه ويتجبرون عليه لضعف حاله في الدنيا. يقال: تضعفه واستضعفه. أما المتضعف فمعناه: المتواضع المتذلل المنكسر لله عز وجل.

قال: (قال القاضي عياض : وقد يكون الضعف هنا رقة القلوب ولينها، وإخباتها للإيمان، والمراد أن أغلب أهل الجنة هؤلاء، كما أن معظم أهل النار هم القسم الآخر).

قوله: [ (مدفوع بالأبواب) ]. يعني: يأتي إليك من أجل أنه رجل فقير فتقوم بطرده من الباب؛ لأنه لا يتناسب مع حشمة الأغنياء ووجاهتهم، مع أن هؤلاء هم أتباع الأنبياء، وهم ناصرو الأنبياء، وهم أهل الإيمان حقاً، ولا يعني ذلك أن الأغنياء ليسوا من أهل الإيمان، لكن الغالب على الفقراء والضعفاء والمساكين أنهم أهل الإيمان، والغالب أن أهل الغنى يصرفهم غناهم عن الله عز وجل، وصاحب الملايين في هذا الوقت لا يمكن نراه في هذا المسجد، لأنه قد شغلته أمواله عن الحضور والتذلل والانكسار، فإذا شغلته يوماً بعد يوم وعاماً بعد عام نسي بركة هذه المجالس، ولم يتذوق حلاوتها، فكان بعيداً أو هو يبعد شيئاً فشيئاً عن حلاوة الإيمان، ولا ننفي عنه الإيمان والإسلام، وإنما نقول: إنه فقد حلاوة الإيمان، والمؤمن لا يتذوق حلاوة الإيمان إلا بطلب العلم الشرعي، وسماع كلام الله وكلام الرسول عليه الصلاة والسلام، وهذا الغني قد صرفه غناه عن سماع كلام الله، وإن كان مؤمناً لكن الفارق جوهري بين تذوق المؤمن المطيع لحلاوة الإيمان، وتذوق العاصي لحلاوة الإيمان.

قوله: (كل ضعيف متضعف) أي: متذلل منكسر لله عز وجل، لا يشمخ بأنفه إلى السماء، ويمن على الله عز وجل: يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ [الحجرات:17]، فكل واحد منا محتاج إلى مراجعة ووقفة مع الذات من أول لحظة في حياته حتى يقدم على الله تبارك وتعالى.

قوله: (لو أقسم على الله لأبره). معناه: لو حلف يميناً طمعاً في كرم الله تعالى بإبراره لأبره. وقيل: لو دعاه لأجابه. يقال: أبررت قسمه وبررته. والأول هو المشهور.

قوله: [ (وأما أهل النار: فكل عتل جواظ مستكبر) ].

أما العتل: فهو الجافي الشديد الخصومة في الباطل، وهذا يحدث معنا كثيراً جداً، الواحد لما يأتي يعد أوصاف أهل النار يجد كل الأوصاف متوفرة فيه، فهو يعرف الحق ويجادل، ويماحك، ويخاصم، وهو في نفس الوقت يعلم أنه على الباطل، فكيف يكون هذا من أهل الجنة الداخلين أولاً مع الداخلين؟

ومعنى (كل عتل) أي: كل جاف شديد الخصومة في الباطل. وقيل الجافي: هو الفظ الغليظ.

وأما الجواظ: فهو الجموع المنوع. وقيل: الجواظ هو كثير اللحم المختال في مشيته. أي: المستكبر في مشيته. وقيل: هو القصير البطين. أي: صاحب كرش. وقيل: هو الفاخر، أي: الذي يفخر بنفسه على الخلق.

وأما الزنيم: فهو الدعي في النسب، رجل انتسب إلى قوم وهو يعلم أنه ليس منهم، وشبه بزنمة الشاة.

وأما المتكبر والمستكبر: فهو صاحب الكبر، وهو بطر الحق وغمط الناس. أي: رد الحق وظلم الناس.

[ قال النبي عليه الصلاة والسلام: (ألا أخبركم بأهل الجنة! كل ضعيف متضعف لو أقسم على الله لأبره، ألا أخبركم بأهل النار كل جواظ زنيم متكبر). وفي رواية: (كل عتل جواظ مستكبر). وفي رواية في وصف أهل الجنة: (رب أشعث مدفوع بالأبواب لو أقسم على الله لأبره) ].

يعني: ربما يكون هناك من شعره أشعث من ينظر إليه لا يعبأ به ولا يحترمه ولا يقدره، وإذا طرق عليه بابه ينهره ويزجره ويطرده من الباب، وهذا الذي تراه على هذه الصفة وتلك الهيئة منزلته عند الله عظيمة بحيث أنه لو دعا الله لأجابه، فلم تدفعه؟ فلو دعا عليك لأجابه الله عز وجل.

أما من قال أن الشعث هم البله، يلزمه أن يقول أن هؤلاء المجانين هم ممن ينطبق عليهم قوله: (أشعث) لكن الأشعث هو كل ضعيف يستضعفه الناس، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام لما مر عليه رجل: (ما تقولون في هذا؟ قالوا: يا رسول الله! إنه لجدير إذا تكلم أن يسمع، وإذا نكح أن ينكح). يعني: الناس كلها تتمنى أن تزوج هذا، وأن تتكلم معه لشرفه، وبعض الناس لا يزال محتفظاً بصورة قد تصورها أيام الشقاوة مع الرئيس الفلاني، أو الأمير الفلاني، أو اللاعب الفلاني، أو الراقصة الفلانية، فهو لا يزال يذكر ماضيه ويفتخر به، مع أنه أولى به أن يطمسه تماماً، وألا يذكره، لكنه على أية حال يرى أن هذا فخر، ولو كان قد التقط تلك الصورة مع رجل ضعيف متذلل منكسر لا يسمع به الناس، يخلو بربه في الليل فيكسب من نوره سبحانه، لقال: تلك الصورة ليس لها قيمة ويتمنى ألا أحد يراها، مع أنها شرف.

شرح حديث: (إلام يجلد أحدكم امرأته ...)

[ حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، وأبو كريب قالا: حدثنا ابن نمير عن هشام بن عروة عن أبيه عن عبد الله بن أبي زمعة -كنيته أبو زمعة - قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم -: (إِذْ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا [الشمس:12]. انبعث فيها رجل عزيز عارم منيع في رهطه مثل أبي زمعة) ].

النبي صلى الله عليه وسلم يذكر أن الذي قتل الناقة كان رجلاً عارماً منيعاً في قومه وهو رجل عزيز في أهله مثل أبي زمعة ، النبي صلى الله عليه وسلم يشبه أبا زمعة بهذا الشقي الذي انبعث فقتل الناقة، فالشقي الذي انبعث فقتل ناقة صالح كان عارماً عزيزاً منيعاً ذو مكانة ووجاهة في قومه مثل أبي زمعة ، وليس معنى ذلك أنه شبه أبا زمعة بذلك الشقي.

[ ثم ذكر النساء فوعظ فيهن ثم قال: (إلام يجلد أحدكم امرأته) ].

يعني: لماذا يجلد أحدكم امرأته؟

قال: [ (جلد الأمة). وفي رواية: (جلد العبد، ولعله يضاجعها من آخر يومه). ثم وعظهم في ضحكهم من الضرطة فقال: (إلام يضحك أحدكم مما يفعل) ].

قوله في هذا الحديث: (إلام يجلد أحدكم امرأته؟) يعني: لما ذا يضربها كما يضرب أحدكم عبده أو أمته؟ فلعله يحتاجها في الليل للجماع والفراش، فإذا احتاجها وقد ضربها بالنهار فكيف يطلبها في الفراش؟!

فالذي يفعل ذلك أشبه بالحيوانات، بل الحيوانات أفضل منه، فالحيوان إذا أراد الوقوع في أنثى وكان بينهما من الخلاف والمشاجرة والرفض وغير ذلك هو يعرف أنه لا يمكن مع هذا الجو المكهرب أن ينال مراده، ولذلك هو لا يطلبها، فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (يجلدها جلد العبد والأمة ثم يطلبها في الليل). وهذا شيء بعيد جداً حتى نفسياً، أمر لا يمكن تحصيله، ومن حصله مع هذا الجو لابد أنه قد فقد كل إحساسه.

ثم قال النبي عليه الصلاة والسلام: (إلام يضحك أحدكم مما يفعل) أي: من الضرطة. وهي: خروج الهواء من الدبر بصوت، فإذا فعل الواحد شيئاً من ذلك أو فعل في حضرة قوم كان له من التعليقات الباردة السخيفة بالقول أو الفعل، وهذا في الحقيقة من سوء الأدب، والمطلوب أن الواحد إذا سمع شيئاً من ذلك من صاحبه أن يتغافل عنه، ويعتبر أن ذلك شيء لم يكن، ويزعم أنه لم يسمع شيئاً؛ حتى وإن سئل يجيب بأنه لم يسمع شيئاً، وهذا من الخلق الكريم، وصاحب الخلق الكريم لا يتوقف عند هذه التفاهات، وقد يخيل إليه أنه سمع شيئاً حتى يعلق تلك التعليقات السخيفة الباردة، وفي النهاية يتبين أن صاحبه لم يفعل شيئاً.

وفي إيطاليا سنة (87م) علمت أن من صفات هذا الشعب أنهم يفعلون ذلك بغير أدنى حرج في المواصلات العامة، وفي الشوارع والطرقات وفي كل مكان رجالاً ونساءً بدون أن يعلق واحد منهم شيئاً على الآخر، والمصريون كذلك تعلموها منهم، مع أننا لنا أخلاق وآداب تختلف عنهم، ينبغي أن نتأدب بها، ولا ينبغي أن نتكلف هذا الفعل تكلفاً ونتعمده من أجل أن نثبت للناس أننا إيطاليون.

شرح حديث: (رأيت عمرو بن لحي يجر قصبه في النار)

قال: [ حدثني زهير بن حرب حدثني جرير عن سهيل -وهو سهيل بن أبي صالح السمان- عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (رأيت عمرو بن لحي بن قمعة بن خندف أبا بني كعب هؤلاء يجر قصبه في النار) ].

النبي صلى الله عليه وسلم أخبرنا أن الله قد أطلعه على النار ورأى أهلها، وقد دخل الجنة ورأى أهلها، وهذا أمر مستقر، فإنه دخل الجنة ورأى فيها كيت وكيت وكيت، وأخبر بما رأى عليه الصلاة والسلام، واطلع على النار ورأى فيها كيت وكيت وكيت، ورأى فيها عمرو بن لحي يجر أمعاءه؛ لأنه أول من أمر أهل مكة بعبادة الأصنام، فهو الذي جلب الأصنام من الشام ووضعها حول الكعبة، وأمر أهل مكة بعبادة هذه الأصنام من دون الله عز وجل، فـعمرو بن لحي هو زعيم الشرك، وسيد المشركين، رآه النبي عليه الصلاة والسلام في النار يجر أمعاءه ويدور فيها كما يدور الحمار حول الرحى.

[ وعن ابن شهاب قال: سمعت سعيد بن المسيب يقول: إن البحيرة هي التي يمنع درها للطواغيت ].

البحيرة التي ذكرها الله تعالى في القرآن هي التي يمنع درها -أي: لبنها- للطواغيت. وهي تلك الأصنام فلا يحلبها أحد من الناس، وإنما هي وقف لهذه الأصنام.

[ وأما السائبة: فهي التي تنطلق بغير قيد لتأخذ مرعاها، وهي التي كانوا يسيبونها لآلهتهم فلا يحمل عليها شيء ].

يعني: السائبة التي ليس لها ضرع ولا لبن لا يحمل عليها شيء بل هي وقف لهذه الأصنام، وصاحبة اللبن لا يستفيد بلبنها أحد، وإنما لبنها متروك لتلك الأصنام وهذه الأوثان، فهو أول من شرع هذا الشرك وهذا الكفر.

[ قال ابن المسيب : قال أبو هريرة : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (رأيت عمرو بن عامر الخزاعي يجر قصبه في النار وكان أول من سيب السيوب).

شرح حديث: (صنفان من أهل النار لم أرهما ...)

قال: [حدثني زهير بن حرب حدثنا جرير عن سهيل عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (صنفان من أهل النار لم أرهما) ]. أي: هذان الصنفان من أهل النار لم يكونا في زمانه.

قال: [ (قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس) ].

ولا يلزم أن هذه السياط كأذناب البقر، المهم أنها كناية عن ظلم العباد.

قوله: (يضربون بها الناس). أي: بغير حجة ولا برهان ولا ذنب اقترفوه، ولذلك يقول الإمام النووي: (هذا الحديث من معجزات النبوة، فقد وقع ما أخبر به صلى الله عليه وسلم، فأما أصحاب السياط فهم غلمان والي الشرطة). هؤلاء الظلمة الذين يضربون الناس ويعذبون الناس بغير ذنب ارتكبوه، ولا جريرة اقترفوها.

قال: [ (ونساء كاسيات عاريات مائلات مميلات، رءوسهن كأسنمة البخت المائلة) ]. والبخت هي الإبل.

قال: [ (لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها) ].

والحكم النهائي أن هذان الصنفان لا يدخلان الجنة، ولا يشمان رائحتها.

قال: [ (وإن ريحها ليوجد من مكان كذا وكذا)، وفي رواية: (من مسيرة خمسمائة عام) ].

أما معنى الكاسيات العاريات ففيه أقوال لأهل العلم، أحدها: كاسيات من نعمة الله، عاريات من شكرها.

والثاني: كاسيات من الثياب، عاريات من فعل الخير، والاهتمام لآخرتهن، والاعتناء بالطاعة.

الثالث: يكشفن شيئاً من أبدانهن إظهاراً لجمالهن، فهن كاسيات في الحقيقة عاريات.

والرابع: يلبسن ثياباً رقيقة تصف ما تحتها، فهن كاسيات عاريات في المعنى.

وأما: (مائلات مميلات) فقيل: الميل هو الانحراف، والزيغ، فهن زائغات عن طاعة الله تعالى، وما يلزمهن من حفظ الفروج وغيرها، ومميلات أي يعلمن غيرهن مثل فعلهن.

وقيل: مائلات أي: متبخترات في مشيتهن، مميلات لأكتافهن.

وقيل: مائلات يتمشطن المشطة الميل وهي مشطة البغايا، معروفة لهن. مميلات: يمشطن غيرهن تلك المشطة.

وقيل: مائلات إلى الرجال، مميلات لهم بما يبدين من زينتهن وغيرها.

وأما قوله: (رءوسهن كأسنمة البخت) فمعناه: يعظمن رءوسهن بالخمر والعمائم، يعني: المرأة تضع عمامة على رأسها، والعمامة هي كل ما يعم الرأس عن الرجل والمرأة كالخمار تماماً، فهن يعممن رءوسهن بالخمر والعمائم مما يلف على الرأس حتى تشبه أسنمة الإبل، وهذا هو المشهور في التمثيل.

ويجوز أن يكون معناه: يطمحن إلى الرجال ولا يغضضن أبصارهن عنهم، ولا ينكسن رءوسهن.

واختار القاضي أن المائلات: تمشط المشطة الميلاء وهي ظفر الغدائر، وشدها إلى فوق، وجمعها في وسط الرأس، فتصير كأسنمة البخت، فتجعل شعرها كبة فوق رأسها.

ومراد التشبيه بأسنمة البخت إنما هو لارتفاع الغدائر أو الظفائر فوق رءوسهن، وجمع عقائصهن وتكسرها بما يظفرنه حتى تميل إلى ناحية من نواحي الرأس كما تميل سنام البعير، يقال: ناقة ميلاء إذا كان سنامها يميل إلى أحد شقيها.

فقد كفر بالله عز وجل واستحق الخلود في النار، فهو لا يشم رائحة الجنة أبداً ويخلد في النار، لأنه استحل ما حرم الله عز وجل بعد قيام الحجة عليه، وإذا فعل ذلك متأولاً، أو بجهل، أو بعلم أنها معصية ووقع فيها مع اعتقاده الجازم أنه عاص ويقر بذلك، فيكون معنى لا يدخلن الجنة: أي: أولاً مع الداخلين، يعني: لا يدخلن في أول الأفواج التي تدخل الجنة، ولكنهم يدخلون بعد تطهيرهم من أرجاسهم وأدناسهم في نار جهنم.

شرح حديث: (يوشك إن طالت بك مدة أن ترى قوماً في أيديهم مثل أذناب البقر ...)

قال: [ حدثنا ابن نمير حدثنا زيد -يعني: ابن حباب - حدثنا أفلح بن سعيد حدثنا عبد الله بن رافع مولى أم سلمة قال: سمعت أبا هريرة رضي الله عنه يقول: قال رسول صلى الله عليه وسلم: (يوشك إن طالت بك مدة) ].

النبي صلى الله عليه وسلم يقول لـأبي هريرة يوشك يا أبا هريرة إن طال بك زمانك أو طال بك العمر.

قال: [ (أن ترى قوماً في أيديهم مثل أذناب البقر يغدون في غضب الله ويروحون في سخط الله) ]. يعني: في الصباح والمساء، لا تفارقهم اللعنة، ولا يفارقهم الغضب والسخط، وهو غضب الله عز وجل وسخطه عليهم؛ لأنهم يظلمون العباد، ويحاربون العباد، ويقتلون العباد، ويضربون العباد بغير حجة ولا برهان، بل قامت الحجة والبراهين على أن هؤلاء مظلومون وهم أصحاب حق وأصحاب دعوة صحيحة، ومع ذلك يضربون ويعذبون، ويسحلون، ويصعقون، ويظلمهم الظالمون بغير حجة ولا برهان، فهؤلاء جزاؤهم عند الله أنهم يغدون في غضب الله، ويروحون في سخط من الله عز وجل.

[ حدثنا عبيد الله بن سعيد ، وأبو بكر بن نافع ، وعبد بن حميد ، قالوا: حدثنا أبو عامر العقدي ، حدثنا أفلح بن سعيد ، حدثنا عبد الله بن رافع - مولى أم سلمة - قال: سمعت أبا هريرة يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن طالت بك مدة، أوشكت أن ترى قوماً يغدون في سخط الله، ويروحون في لعنته) ]. واللعن والطرد يكونان من رحمة الله تعالى.

قال: [ (في أيديهم مثل أذناب البقر) ].

وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.

الأسئلة

عذاب الشيطان في جهنم بالنار

السؤال: كيف يعذب الشيطان في النار وهو من النار؟

الجواب: ابن آدم يعذب بطين وقد خلق منها، لو أخذنا في هذا الوقت حجراً نستطيع أن نهشم به رأسك وعظمك، فكيف تعذب أنت بهذا الحجر والحجر من طين وأنت قد خلقت من طين؟ إذا كان الذي خلق من طين يعذب بالطين فكذلك الذي خلق من النار يعذب بالنار.

حكم الاستعانة بالجن في علاج السحر

السؤال: ما حكم الاستعانة بالجن في علاج السحر والصرع وغير ذلك؟

الجواب: هذا أمر لا يجوز.

حكم من أفطر يوم عرفة لعذر شرعي

السؤال: امرأة مسلمة مقيمة بمصر جاءها الحيض في يوم عرفة، فهل يضيع عليها أجر صيام هذا اليوم، وماذا تفعل بعد أن تطهر؟

الجواب: لا يلزمها أن تعيد هذا اليوم، وإذا كانت بدأت الصيام فجاءها الحيض في أثناء النهار، أو لم تبدأ بالمرة ولكنها عقدت النية أنها إن طهرت صامت فلها أجر ذلك اليوم بإذن الله تعالى.

حكم قضاء الصلوات المفروضة لمن تركها شهوراً وسنين عديدة

السؤال: رجل كان تاركاً للصلاة ثم التزم، فهل يقضي الصلاة التي فاتته قبل أن يلتزم؟

الجواب: هذا مذهب جماهير العلماء، والمذهب الحق الذي أراه حقاً هو أن تارك الصلاة يلزمه التوبة، والتوبة تجب ما كان قبلها، وإنما يكثر من النوافل والصدقات إذا كان من أصحاب المال وغير ذلك، أما أن يعيد مع كل فرض فرضاً، أو فرضين أو ثلاثة فهذا وإن كان كلام جماهير العلماء لكن ليس عليه أي دليل.

المكان الذي يحرم منه من كان دون الميقات

السؤال: كنت مقيماً هذا العام في جدة قبل الحج بعشرين يوماً، وقمت بهذه المدة بأعمال العمرة وذهبت إلى الميقات، لأنني نويت التمتع، ثم في ليلة الثامن من ذي الحجة قمت بالمبيت بالحرم المكي وفي صبيحة يوم الثامن أحرمت من الحرم وذهبت إلى منى، فهل علي شيء من أجل أنني لم أحرم من جدة؟

الجواب: ليس عليك شيء، وإحرامك صحيح؛ لأنه من كانوا من دون المواقيت فإنهم يحرمون من أماكنهم حتى أهل مكة يحرمون من مكة.

حكم تشمير البنطلون وهو تحت القميص

السؤال: ما حكم تشمير البنطلون وهو لا يظهر تحت القميص؟

الجواب: لا حرج عليك فيه؛ لأن النهي فيه نهي تنزيه، وإذا كان فالأولى أن تقطع هذه الزيادة.

نصيحة في ترك مجاورة النصارى والحذر من سحرهم

السؤال: في البيت الذي أسكن فيه يوجد اثنان من النصارى، ومنذ فترة ظنت زوجتي أنهم قد يعملون لنا أعمالاً، وسبب هذا الظن أن زوجة أحدهم قد طلبت من زوجتي قطعة ملابس أطفال، ولكن زوجتي رفضت، فبم تنصحنا؟

الجواب: أنصحك في الحقيقة إما أن ترحل عن هذا المكان، وإما أن تقطع علاقتك بهم أبداً، فهم أهل سحر وأذى، وفي الحقيقة الكنيسة في هذا الزمان لها من أعمال السحر ما لم يكن لها قبل ذلك، حتى صار القساوسة أهل تخصص في مسألة السحر والحسد وغير ذلك.

حكم دفع الرشوة للحصول على وظيفة حكومية

السؤال: دفعت رشوة في حصولي على عمل تابع للحكومة، وعلمت أن ذلك ذنب، فماذا أعمل الآن مع العلم أنني سأستلم العمل في وقت قريب؟

الجواب: خلاص أنت دفعت، الذي يسأل -يا إخواني- على الشيء يسأل قبل العمل لا بعد العمل، أما وقد دفعت لا قيمة للسؤال حينئذ، لكني أنصح من لم يدفع ألا يدفع.

كيفية ذبح الكبش بين الجنة والنار

السؤال: من سيذبح الكبش الذي هو الموت بين الجنة والنار؟

الجواب: يقول الله تعالى له مت فيموت.

حكم الصلاة في مسجد به قبر، وحكم زيارة النساء للقبور

السؤال: ما صحة القراءة على الميت في القبر، وما هو الوارد في زيارة النساء للقبور، وهل يجوز الصلاة في مسجد به قبر؟

الجواب: الذي يطمئن إليه قلبي أنه لا تجوز الصلاة في مسجد به قبر، فمن صلى في مسجد به قبر يعيد الصلاة إذا كانت في الوقت.

أما الوارد عموماً في زيارة القبور فهو الدعاء، والذكر والموعظة، قال عليه الصلاة والسلام: (كنت قد نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها فإنها تذكركم الآخرة)، فهذه فائدة الزيارة.

وزيارة النساء مكروهة أو هي جائزة مع الكراهة، لحديث أم عطية الأنصارية في الصحيحين أنها قالت: (نهانا النبي عليه الصلاة والسلام عن زيارة القبور ولم يعزم علينا)، أي: ولم يؤكد النهي؛ فتبين الجواز. وأخذنا الكراهة من نهيه الأول الذي لم يؤكده: (نهانا عن زيارة القبور ولم يعزم) أي: ولم يؤكد على هذا النهي، ولو أكده لقلنا بالحرمة، ولكنه لم يؤكد فنقول بالكراهة مع الجواز.

والنبي عليه الصلاة والسلام كان إذا زار القبور قال: (السلام عليكم دار قوم مؤمنين، أنتم السابقون ونحن إن شاء الله بكم لاحقون، اللهم اغفر لنا ولهم) ويستمر بالدعاء لأهل القبور جميعاً.

وقالت عائشة رضي الله عنها كما في الصحيحين: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يبيت عندي فانسل من فراشه فأتبعته حتى جاء على البقيع ورفع يديه يدعو لأهل البقيع، فلما أراد أن ينفتل) يعني: لما أنزل يديه وأراد أن يرجع، (أسرعت الرجوع إلى بيتي، فدخل النبي صلى الله عليه وسلم علي في حجرتي فلما رآني قال: أتظنين أن يحيف الله عليك ورسوله؟ قالت: ثم لهزني لهزة أوجعتني. وقال: إن ربي أمرني أن أذهب إلى البقيع فأدعو لأهل البقيع). هذا هو الشاهد: (إن ربي أمرني أن أذهب إلى البقيع فأدعو لهم)، قال تعالى: وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ [التوبة:103]، فدعاء النبي صلى الله عليه وسلم ليس كدعاء الغير، ونحن مأمورون بما أمر به النبي عليه الصلاة والسلام.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , شرح صحيح مسلم - كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها - النار يدخلها الجبارون والجنة يدخلها الضعفاء للشيخ : حسن أبو الأشبال الزهيري

https://audio.islamweb.net