إسلام ويب

لقد فضح الله تعالى المنافقين، وكشف مكايدهم وخططهم ومكرهم في حرب الإسلام والمسلمين، ووصفهم بصفات كثيرة؛ كي يحذر المؤمنون هذه الصفات، ويبتعدوا عنها، ولا يتصفوا بها.

صفات المنافقين وأحكامهم

سبب نزول سورة (المنافقون)

بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، صلى الله عليه، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد:

فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، أما بعد:

فمع كتاب صفات المنافقين وأحكامهم.

قال النووي: (كتاب صفات المنافقين وأحكامهم).

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا الحسن بن موسى -وهو الأشيب أبو علي البغدادي قاضي الموصل- قال: حدثنا زهير بن معاوية -وهو ابن معاوية بن حديج أبو خيثمة الجعفي الكوفي، وسماعه من أبي إسحاق السبيعي في آخره، وقد اختلط، ففي سماعه من أبي إسحاق نظر- قال: حدثنا أبو إسحاق أنه سمع زيد بن أرقم رضي الله عنه يقول: (خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر أصاب الناس فيه شدة، فقال عبد الله بن أبي بن سلول زعيم المنافقين لأصحابه: لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا من حوله).

قال زهير - وهو ابن معاوية - راوي الحديث: وهي قراءة من خفض: ( حوله ) ] أي: كسر اللام في قوله: ( حولِه ).

[ وقال عبد الله بن أبي ابن سلول : لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ [المنافقون:8] ].

أي: كأنه يتوعد النبي صلى الله عليه وسلم، ويثبت في هذا القول أنه هو الأعز، ورسول الله هو الأذل، فهو يتوعد بإخراج النبي صلى الله عليه وسلم من المدينة.

قال: لَئِنْ رَجَعْنَا [المنافقون:8] أي: من سفرنا هذا، ومن غزوتنا هذه إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ [المنافقون:8].

[ قال زيد بن أرقم : (فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته بذلك) ] أي: فأخبرته بمقالة المنافق عبد الله بن أبي ابن سلول ، [ (فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم إلى عبد الله بن أبي فسأله -أي: عن هذه المقالة-: أأنت الذي قلت: لا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا؟) ] أي: حتى يتفرقوا من حوله [ (وأنت الذي قلت: لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ [المنافقون:8]؟ فاجتهد عبد الله بن أبي ابن سلول يمينه ما فعل) ] يعني: حلف أيماناً مغلظة أنه ما قال ذلك.

[فقال: (كذب زيد رسول الله صلى الله عليه وسلم) ] أي: فقال ابن أبي: كذب زيد بن أرقم على النبي صلى الله عليه وسلم بهذا، وما أراد إلا الفتنة بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين أصحابه.

قال زيد بن أرقم : [ (فوقع في نفسي مما قالوه شدة) ] يعني: لما اتهم بالكذب وقد سكت النبي عليه الصلاة والسلام عن عبد الله بن أبي، وقع في نفس زيد بن أرقم شدة، يعني: حزن وهم وغم شديد؛ لأنه صارت صورته صورة كاذب ونمام يريد أن يوقع الفساد والشر بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين أصحابه.

قال: [ (فوقع في نفسي مما قالوه شدة، حتى أنزل الله تصديقي) ].

أي: في قوله: إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ [المنافقون:1]... إلى آخر الآيات.

فهنا أثبت الله تبارك وتعالى صدق زيد بن أرقم، كما أثبت نفاق عبد الله بن أبي ابن سلول، وعبد الله لم يكن من عامة المنافقين، وإنما كان على رأس المنافقين، فهو إمام في الشر.

قال زيد بن أرقم: [ (ثم دعاهم النبي صلى الله عليه وسلم ليستغفر لهم، قال: فلووا رءوسهم) ] يعني: استنكفوا وأبوا أن يأتوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فلووا رءوسهم لي المعرض الجاحد المستغني.

وقوله تعالى: كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ [المنافقون:4] أي: هؤلاء المنافقون.

[ وقال زيد بن أرقم: كانوا رجالاً أجمل شيء ]، يعني: من جهة أبدانهم وجمال منظرهم كانوا في قمة الجمال، ولكن مخبرهم كان في قمة الفساد والضلال والنفاق والكفر.

والكفر كفران، والفسق فسقان، وكذلك النفاق منه ما هو أكبر، ومنه ما هو أصغر، والأكبر منه هو المخرج عن الملة، وهو أن يبطن الإنسان الكفر ويظهر الإسلام؛ كحال المنافقين الذين كانوا على زمانه عليه الصلاة والسلام، وحال الملاحدة والعلمانيين في كل زمان ومكان إلى قيام الساعة، الذين يقولون: نحن علمانيون، ولا مانع قط أن يجتمع الإسلام مع العلمانية، وأن يجتمع الإسلام مع الإلحاد وغير ذلك، ولا ندري كيف يكون الجمع؟ فالإسلام نور وضياء، وكل ما عداه من المذاهب هي ظلمات بعضها فوق بعض.

فالشاهد: أن النفاق الأكبر: هو إبطان الكفر وإظهار الإسلام، فصاحب النفاق الأكبر يصوم مع المسلمين، ويصلي مع المسلمين، ويحج مع المسلمين، ويجاهد مع المسلمين، ويعرض نفسه لبريق السيوف مع المسلمين، وهو في حقيقة أمره من الكافرين، وإنما قال كلمة الإسلام تعوذاً يستعيذ بها، ويدخل تحتها؛ حتى يحفظ دمه وماله وعرضه، ولكن النبي عليه الصلاة والسلام إنما أمر أن يأخذ بالظاهر، مع أن الله تعالى أطلعه أن هؤلاء من المنافقين.

ولم يقتلهم النبي صلى الله عليه وسلم مخافة أن يقول الناس: إن محمداً يقتل أصحابه، وهم في حقيقة الأمر: ليسوا من أصحابه، ولكنهم في الظاهر أمام أعين الناس من أصحابه؛ لأنهم داخلون معه في زمرته وفي صحبته، فسمى النبي عليه الصلاة والسلام هؤلاء بالأصحاب تغليباً؛ لأنهم دخلوا معه في الصحبة، وإن لم يكونوا في حقيقة أمرهم كذلك.

وأما النفاق الأصغر الذي لا يخرج به صاحبه من الملة: فهو نفاق العمل الذي لا تأثير له في أصل الإيمان ومطلق الإيمان، وهو الذي يمثله قوله عليه الصلاة والسلام: (من علامات المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان).

فالمعلوم أن الكاذب ليس كافراً، وأن خائن الأمانة ليس كافراً وغير ذلك من المعاصي التي أثبتت النصوص أن صاحبها منافق، أو فيه خصلة من خصال النفاق، فلاشك أن هذه معاص وذنوب، وربما يكون كثير منها من كبائر الذنوب، لكنها لا تبلغ بالعبد حد الإخراج من الملة، ومع هذا سماها النبي صلى الله عليه وسلم: نفاقاً؛ لأنها من نفاق العمل، أو أن صاحبها قد تخلق بأخلاق المنافقين، وأتى صفة من صفاتهم.

فمن النفاق ما هو أكبر يخرج به صاحبه من الملة كأن يعادي الإنسان شرع الله عز وجل، وإن زعم أنه مسلم وصام وصلى، لكن إن كان يبغض هذا الشرع، ويعمل لأجل طمسه وطمس معالمه، ومقاتلة ومحاربة أبنائه والداعين إليه؛ فلاشك أن هذا كفر أكبر يخرج به صاحبه من الملة، بخلاف الكفر العملي الذي اتفقنا عليه.

من صفات المنافقين إظهار الود لأهل الإسلام وإخفاء العداوة

والنبي عليه الصلاة والسلام أثبت معالم وصفات المنافقين في هذا النص، فلنأخذ من ذلك قول عبد الله بن أبي كما حكى الله عنه: لا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا [المنافقون:7] أي: من حوله.

فهذه أول صفة من صفاتهم: أنهم يظهرون الود لأهل الإسلام، ويخفون العداوة، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: (هم حرب على أهل الإسلام، سلم لأعدائه).

يعني: يسالمون أعداء الإسلام، ويودونهم ويوالونهم، لكنهم على أهل الإسلام وأبناء الإسلام حرب وعداوة قوية، فلا تكاد تمر بهم فتنة إلا وجروها إلى المسلمين.

الأمر الثاني: أنهم أحياناً يصرحون بذلك، كما صرح هذا المنافق بقوله: لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ [المنافقون:8].

فهم يتصورون باجتماعهم أنهم قوة لا يستهان بها، وأنهم لا يغلبون من قلة، وقد بين الله عز وجل هزيمتهم النفسية فقال: تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى [الحشر:14]؛ لأن القلب الذي اجتمع إلى شكله ومثله إن لم يكن هذا الاجتماع على الحب في الله، والموالاة فيه، والمعاداة لغيره، لا يمكن أبداً أن يتم الائتلاف، وإن وقع للحظات أو لأيام فإنه لا يستمر؛ لأنه ليس لله، وما كان لله دام واتصل، وما كان لغيره لابد أن ينقطع وينفصل.

وهكذا المنافقون؛ فإنهم يتهمون أهل الإيمان بما عندهم من صفات وأخلاق، ويأتون بما عندهم من كذب وسحت في آبارهم فينضحون به على أهل الإسلام، ولذلك قال عبد الله بن أبي: (كذب زيد رسول الله صلى الله عليه وسلم)، ولم يكن هكذا، فـزيد بن أرقم رضي الله عنه لم ينقل إلى النبي عليه الصلاة والسلام إلا ما كان حقيقة من عبد الله بن أبي ابن سلول لا يعلمه من قبل، والله عز وجل أخبره بالمنافقين جميعاً.

من صفات المنافقين إظهار الاستغناء عن أهل الإيمان والإعراض عنهم

الصفة الثانية: ولما دعاهم ليستغفر لهم لووا رءوسهم، فهم يظهرون الاستغناء عن أهل الإيمان بالإعراض، أو بصرف الخد، أو بالغمز واللمز، أو بالنظر الخفي الذي هو خافية الأعين، وكل هذه الصفات والعلامات إنما هي صفات وعلامات وأمارات للمنافقين.

قال: كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ [المنافقون:4] (خشب) جمع: خشبة، أي: العظيمة من الخشب مسندة إلى الحائط، وكذلك كل من لم يكن مسلماً، تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى [الحشر:14].

وربما خطر ببال أحد منكم سؤال وهو: لماذا نقل زيد بن أرقم هذا الكلام إلى النبي عليه الصلاة والسلام؟ أليست هذه من النميمة فعلاً، ونحن نعلم أن النميمة إنما هي نقل الكلام على جهة الإفساد؟

والجواب: من وجهين:

الوجه الأول: أن زيد بن أرقم إذا كان يعلم أن عبد الله بن أبي ابن سلول من المنافقين فيلزم من ذلك نقل الكلام إلى الأمين والسيد والسلطان والحاكم حتى يحذره، لغلبة الظن، ووقوع المضرة على أهل الإيمان، ولذلك زيد بن أرقم لم يخبر آحاد الناس، وإنما ذهب إلى الإمام المعظم صلى الله عليه وسلم وأخبره بما كان من أمر الجند من كلام يضر باستقامة الحال.

الوجه الثاني: إذا كان لا يعلم سابقاً أنه من المنافقين فيكون قد غلب على ظنه لما سمع منه هذا القول أنه من المنافقين، فخشي ألا يكون النبي عليه الصلاة والسلام عنده علم بنفاق هذا المنافق، فأخبره حتى يحذره الإمام.

وفي هذا مصلحة عامة للإسلام والمسلمين، ولا يمكن قط أن تدانيها أو تقاربها مضرة النميمة بين اثنين، ولذلك لما غلبت المصلحة كان يجب عليه إذا سمع هذا الأمر فيما يتعلق بالإمام أو نحوه من كبار ولاة الأمور، ويخاف الضرر على المسلمين أن يبلغ هذا الكلام؛ ليحترز منه الإمام.

كما أن هذا الكلام فيه منقبة عظيمة جداً لـزيد بن أرقم ، وأن الله تبارك وتعالى أنزل تصديقه من فوق سبع سماوات، وبين براءته من الكذب، وأنه صادق مصدق، وتصديق الله تعالى لـزيد بن أرقم دليل على محبة الله تبارك وتعالى لأصحاب نبيه، وأن محبة الله تعالى مع المؤمنين معية خاصة بالرعاية والعلم والسمع والبصر والإحاطة والنصرة والتأييد، كل ذلك إنما تم في لحظات في أثناء جهاده عليه الصلاة والسلام، وكان مع المجاهدين هؤلاء المنافقون.

سبب تكفين النبي لعبد الله بن أبي بقميصه لما مات

قال: [ حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وزهير بن حرب وأحمد بن عبدة الضبي واللفظ للأول -أي: لـأبي بكر بن أبي شيبة - قال ابن عبدة - وهو أحمد -: أخبرنا، وقال الآخران: حدثنا سفيان بن عيينة عن عمرو -إذا حدث سفيان بن عيينة عن عمرو فإنما هو عمرو بن دينار المكي - أنه سمع جابراً يقول: (أتى النبي صلى الله عليه وسلم قبر عبد الله بن أبي فأخرجه من قبره، فوضعه على ركبتيه، ونفث عليه من ريقه، وألبسه قميصه، ثم قال: الله أعلم) ].

إما أن يكون قوله: (الله أعلم) من قول مسلم ، أو من قول جابر بن عبد الله الأنصاري.

وهذا الحديث صحيح، وإن رده كثير من المؤمنين من جهة العاطفة، بمعنى أنهم ما كانوا يتمنون أن يفعل النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الكافر المنافق شيئاً من ذلك، وهذا يدل على عظيم رحمة النبي عليه الصلاة والسلام، وإن كان عبد الله بن أبي في الآخرة لا يرحم، ولا يرحم في قبره كذلك، لكن هذا العمل انطوى على حكمة عظيمة جداً في الدعوة إلى الله عز وجل، ولذلك ذهب النبي عليه الصلاة والسلام إلى قبر عبد الله بن أبي بن سلول وقد أعلمه الله أنه من المنافقين، فأخرجه من قبره -أي: بعد أن دفن، في اليوم الذي دفن فيه- ثم وضعه على ركبتيه -أي: في حجر النبي عليه الصلاة والسلام- ونفث عليه من ريقه الشريف، وألبسه قميصه صلى الله عليه وسلم، وأنتم تعلمون استحباب التبرك بآثار النبي عليه الصلاة والسلام، ولا خلاف بين أهل العلم في ذلك.

وكون أحد يلبس لباس النبي عليه الصلاة والسلام، أو يأخذ عصاه، أو شيئاً من آثاره كشعره أو ظفره، أو غير ذلك مما يتعلق به ويختص به عليه الصلاة والسلام؛ هذا شرف عظيم جداً، ولكن القضية: أن النبي عليه الصلاة والسلام إنما فعل ذلك بهذا المنافق؛ وهو يعلم أنه منافق؛ إكراماً لابنه عبد الله بن عبد الله بن أبي ابن سلول وكان رجلاً صالحاً، ففعل النبي عليه الصلاة والسلام ذلك إكراماً لولده، لا إكراماً له، هذا رأي.

الرأي الثاني: أن الذي طلب منه ذلك هو عبد الله بن عبد الله بن أبي ابن سلول ، فما أراد النبي عليه الصلاة والسلام أن يدخل الحزونة على قلب عبد الله بن عبد الله بن أبي برد طلبه، فأراد أن يكافئه على حسن إسلامه وصحبته.

الثالث: أن النبي عليه الصلاة والسلام إنما ألبس عبد الله بن أبي ابن سلول قميصه؛ لأنه كان قد ألبس العباس عم النبي عليه الصلاة والسلام قميصاً له، وكان العباس في حاجة إليه، فأراد النبي عليه الصلاة والسلام أن يكافئه في الدنيا حتى لا يبقى له في الآخرة شيء، وهذا وجه عظيم جداً من وجوه التأويل.

قال: [ حدثنا أحمد بن يوسف الأزدي حدثنا عبد الرزاق - وهو ابن همام الصنعاني - أخبرنا ابن جريج وعبد الملك بن عبد العزيز الأموي أخبرني عمرو بن دينار قال: سمعت جابر بن عبد الله يقول: (جاء النبي صلى الله عليه وسلم إلى عبد الله بن أبي بعدما أدخل حفرته) فذكر بمثل حديث سفيان بن عيينة السابق.

وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا أبو أسامة -وهو حماد بن أسامة- قال: حدثنا عبيد الله بن عمر -وهو العمري الإمام الكبير، أحد الفقهاء السبعة بالمدينة- عن نافع الفقيه -مولى ابن عمر- عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (لما توفي عبد الله بن أبي ابن سلول) وكان حقه أن يكسر ابن سلول لأنه معطوف، وإنما ضم ابن سلول لأن أمه اسمها: سلول ، ولم يكن جده بهذا الاسم، ولذلك ضم ابن قبل الاسم- جاء ابنه -أي: عبد الله بن عبد الله- إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله أن يعطيه قميصه يكفن فيه أباه، فأعطاه، ثم سأله أن يصلي عليه، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلي عليه، فقام عمر فأخذ بثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم) ] يعني: يجذبه إليه، ويمنعه وينهاه أن يصلي على هذا المنافق، وهذا يدل على اشتهار نفاق هذا بين الأصحاب.

[ فقال: (يا رسول الله، أتصلي عليه وقد نهاك الله أن تصلي عليه؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنما خيرني الله فقال: اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ [التوبة:80] ثم قال النبي عليه الصلاة والسلام: وسأستغفر له أكثر من سبعين مرة) ].

فظن النبي عليه الصلاة والسلام أو اجتهد أن العدد هنا معتبر، وفي حقيقة الأمر: العدد غير معتبر، وهذا كما يقول علماء الأصول: لا مفهوم للعدد، وهذا يدل على جواز الاجتهاد في حق الأنبياء، ولذلك فهم النبي عليه السلام أنه إن استغفر للمنافقين أكثر من سبعين مرة ربما يغفر الله تعالى لهم، ولكن هذا العدد في النص لا مفهوم له، وإنما ذكر على سبيل المبالغة في الاستغفار، فربنا أراد أن يقول: يا محمد! لو استغفرت للمنافقين استغفاراً ملء السماوات والأرض فلن يغفر الله لهم، فذكر الله تعالى السبعين مرة على سبيل المبالغة في الاستغفار.

فالنبي عليه الصلاة والسلام فهم أن هذا العدد له مفهوم، وهو في حقيقة الأمر لا مفهوم له، والمعنى: مهما استغفرت لهم يا محمد فلن يغفر الله لهم، ولذلك قال: (إنما خيرني الله)، ففهم النبي صلى الله عليه وسلم أن هذا من باب التخيير، وهو في حقيقة الأمر ليس تخييراً، بل هو تبكيت للمنافقين، وأن الاستغفار لهم ينفعهم؛ لأنهم شر من الكفار الأصليين، وشر من المشركين.

وأما قوله: وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ [التوبة:103] فالضمير في عليهم يعود على المؤمنين، والمنافق نفاقاً أكبر ليس مؤمناً ولا مسلماً، ولذلك لا تنفعه الصلاة، ولا الاستغفار، ولا غير ذلك.

قال: [ فأنزل الله عز وجل: وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا [التوبة:84] ].

(منهم) تعود على المنافقين، وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ [التوبة:84] أي: حتى الدفن لا تدفنه، ولا تقوم على قبره، فترك الصلاة عليهم صلى الله عليه وسلم، وإذا كان ترك الصلاة فمن باب أولى أن يترك القيام على قبره، وهذا بمفهوم الموافقة.

سبب نزول قوله تعالى: (وما كنتم تستترون أن يشهد عليكم سمعكم ولا أبصاركم ولا جلودكم

قال: [ حدثنا محمد بن أبي عمر المكي حدثنا سفيان - وهو ابن عيينة - عن منصور بن المعتمر عن مجاهد بن جبر المكي عن أبي معمر -وهو عبد الله بن سخبرة الأزدي الكوفي - عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: (اجتمع عند البيت ثلاثة نفر: قرشيان وثقفي، أو ثقفيان وقرشي) ].

ومعنى (ثقفي) أي: من ثقيف، وثقيف قبيلة في الطائف بجوار مكة، أما قريش فهي أصل مكة.

قال: [ (قليل فقه قلوبهم، كثير شحم بطونهم) ].

أي: من علامات المنافقين أنهم لا يكادون يفقهون نصاً؛ لأن عندهم عمى في بصيرتهم، فقد طمس الله على عيونهم، وغشى الران على قلوبهم، ومن علاماتهم أيضاً: كثير شحم بطونهم، وربنا حكى عنهم أنهم خشب مسندة.

وقد نقل الإمام النووي عن القاضي عياض رحمه الله أنه قال: وهذا فيه تنبيه على أن الفطنة قلما تكون مع السمن، وهذا يعني أن الواحد يحرص أن يتخفف في طعامه؛ لأن الإنسان إذا أكل كثيراً نام كثيراً، وبالتالي ضاع منه العلم الكثير، والعلم مرتبط بالفقر والحاجة.

ولذلك كان الإمام الشافعي يقول: لا يطلب العلم من ملك زاده، ولا يطلبه إلا من أحرق البن قلبه.

قال الخطيب البغدادي: (البن): هو طعام كانت تصنعه العرب من كيت وكيت.

والذي فهمته من تفسير (البن) أنه خبز يابس يبل بماء ثم يؤكل، بعض النساخ كتب (اللبن)، وأنتم تعلمون أن اللبن هو شراب الفطرة، وهو شراب مغذٍ جداً، فلا يستقيم أبداً أن يقول: لا يطلب العلم إلا من أحرق اللبن قلبه؛ لأن اللبن لا يحرق القلب.

[ (فقال أحد هؤلاء الثلاثة النفر: أترون الله يسمع ما نقول، فقال الآخر: يسمع إن جهرنا ولا يسمع إن أخفينا، وقال الثالث: إن كان يسمع إذا جهرنا فهو يسمع إذا أخفينا) ] يعني: الذي يسمع مع الظاهر يسمع مع الإخفاء، [ فأنزل الله عز وجل: وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ [فصلت:22]) إلى آخر الآيات ].

أي: أنزل الله عز وجل تكذيب هؤلاء؛ لأن قولهم يدور بين التردد والشك في صفات الله عز وجل، وهذا على خلاف المؤمنون الذين يعتقدون اعتقاداً جازماً لا يسعهم غيره: أن الله تعالى منزه عن كل نقص، ومتصف بكل كمال.

إن من أعبد العبادات أن تعبد الله تعالى بأسمائه وصفاته، فهؤلاء خفيت عليهم ذات الله عز وجل كما خفيت عليهم صفات الله تبارك وتعالى؛ لأنهم لو كانوا يعلمون ذات الإله حقاً؛ لعلموا أن هذه الذات متصفة بصفات الكمال، فهو يسمع ويرى.

فأحد هؤلاء الثلاثة كان عنده تردد وشك في وصف الله تبارك وتعالى بصفات الكمال والجلال، وبعضهم كأنه أيقن أن الله تعالى لا يسمع كلامهم، ولا يرى مكانهم.

قال: [ وحدثني أبو بكر بن خلاد الباهلي حدثنا يحيى بن سعيد - وهو القطان - قال: حدثنا سفيان - وهو الثوري - حدثني سليمان - وهو سليمان بن مهران الأعمش، وإذا روى الثوري عن سليمان فاعلم أنه سليمان بن مهران الأعمش، وفي الغالب لا يقال الأعمش، وإنما يقال: سليمان، فهو الأعمش عن عمارة بن عمير عن وهب بن ربيعة الكوفي عن عبد الله بن مسعود ].

ووهب بن ربيعة مقبول، ولم يوثقه غير ابن حبان ، وتوثيق ابن حبان محل نظر عند أهل العلم، والمقبول إذا توبع كان حديثه حسناً، وإذا لم يتابع فحديثه ضعيف، لكنه هنا متابع، ولذلك يروي مسلم هذا الحديث بإسناد آخر فقال:

[ وحدثنا يحيى قال: حدثنا سفيان حدثني منصور عن مجاهد عن أبي معمر عن عبد الله بنحوه ].

إذاً: فـوهب بن ربيعة تابعه أبو معمر ، وهما يرويان عن عبد الله بن مسعود في الإسناد الأول والإسناد الثاني، فـأبو معمر في نفس طبقة وهب بن ربيعة ، وأبو معمر متابع لـوهب بن ربيعة، فكلاهما يروي عن ابن مسعود، وهذه متابعة تامة، والمتابعة التامة هي اشتراك راويين في شيخ واحد.

سبب نزول قوله تعالى: (فما لكم في المنافقين فئتين)

قال: [ حدثنا عبيد الله بن معاذ العنبري حدثنا أبي قال: حدثنا شعبة -وهو ابن الحجاج العتكي البصري- عن عدي بن ثابت -وهو الأنصاري الذي تحول إلى الكوفة واستوطنها- قال: سمعت عبد الله بن يزيد يحدث عن زيد بن ثابت: أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج إلى أحد فرجع ناس ممن كانوا معنا ].

ورجوع هؤلاء كان يقدر بحوالي ثلث الجيش، وذلك في العام الثالث من الهجرة، ورجع ثلث الجيش لا يبشر بخير، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم استبشر بذلك خيراً، لأن هؤلاء في وسط الصفوف لا يخدمون أهل الإيمان، ولا يخدمون حقيقة النصر، وإنما هم شر على من معهم، ووجود هؤلاء في الصف خذلان وليس نصراً.

فكان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في شأن هؤلاء فرقتين، أي: اختلف الثلثان الذين بقوا مع النبي عليه الصلاة والسلام في الثلث المنسحب إلى فرقتين وفريقين: فبعضهم يقول: نقتلهم، والبعض الآخر يقول: لا نقتلهم، فنزلت قوله تعالى: فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ [النساء:88] يعني: فما لكم اختلفتم إلى فئتين في أمر المنافقين؟ فأثبت الله أن من رجع في هذه الغزوة كان منافقاً، وهذا شيء رائع أن يعرف المنافق، فالشيء الذي نغضب من أجله هو أنه لا يوجد وحي ينزل يقول لنا: فلان منافق، وفلان مؤمن، فالوحي انقطع بموت النبي عليه الصلاة والسلام.

فنجد في هذا العصر أن بعض الناس يقول: إن النبي عليه الصلاة والسلام لم يسحر، ويرد الحديث الذي في البخاري ومسلم.

والبعض الآخر ينكر الحديث الذي في البخاري بدعوى أنه يعارض العقل، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا سقط الذباب في شراب أحدكم فليغمسه؛ فإن في أحد جناحيه داء، وفي الأخرى دواء).

ويقول مثلاً: الصحابة بشر يصيبون ويخطئون.

فيرد عليه: بأنه يلزم على قوله أن الصحابة والأمة كلها أجمعت على الباطل في هذا التواتر الذي نقل به العلم والوحي، وأنت الوحيد الذي جئت تكتشف هذا بعقلك!

ولو كانت المسألة مسألة فهم وعقل؛ فهل عقلك وفهمك أولى من فهم أبي بكر وعمر وعثمان وعلي والصحابة أجمعين والتابعين والأئمة المتبوعين؟

وتجد بعضهم يصلي ويصوم، لكنه يؤذي الجيران، فلو مات مات على معصية، ويثبت له إيمانه، وأما إذا ترك كل الطاعات فكيف يثبت له الإسلام؟! بل كيف يثبت له الإيمان؟!

وكذلك الذي يقول: إن النبي عليه الصلاة والسلام كان في داره، وكان يغض الطرف عن عمر وهو يزني، فهذا كفر؛ لأنه اتهم النبي صلى الله عليه وسلم بذلك.

فنحن الآن في زمن ماجت فيه الفتن كموج البحر، فتجد أعمالاً ظاهرها الإيمان لكن القلوب أشد من قلب عبد الله بن أبي ابن سلول، وأنا في الحقيقة: في هذه المسائل كالصاروخ لا أتوقف، فمن أتى عملاً يكفر به فهو كافر، هذا هو دين الله تبارك وتعالى، ولم نأت به من عندنا، ومع هذا؛ نقسم بالله العظيم أننا في غاية التحري في مسائل الإيمان والكفر، ولما أقول على فلان: إنه كافر؛ وهو ليس كذلك حارت الكلمة علي، وأنا لا أتصدق بنفسي أبداً على أحد، ولا أجعل مصيري يوم القيامة هدية لأحد قط، لكن نتكلم بقال الله وقال رسوله، وفهم أئمة الدين، فإذا وقع إنسان في اعتقاد أو قول أو فعل يكفر به كفرناه، وعلى المسلم التوبة إلى الله عز وجل.

قال: [ قال الله تعالى: فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ [النساء:88] ] يعني: يا أيها المؤمنون! ما لكم اختلفتم فيمن رجع في غزوة أحد إلى المدينة ولم يشارك في الغزو معكم، اختلفتم فيه إلى فرقتين؟ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا [النساء:88] أي: والله خيب آمالهم، وأبطل سعيهم بما كسبوا، أَتُرِيدُونَ [النساء:88] أي: أيها المؤمنون أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا [النساء:88].

سبب نزول قوله تعالى: (لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا...)

[حدثنا الحسن بن علي الحلواني ومحمد بن سهل التميمي قالا: حدثنا ابن أبي مريم -وهو أبو محمد المصري سعيد بن الحكم الثقة الثبت الفقيه الإمام- قال سعيد : أخبرنا محمد بن جعفر أخبرني زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري -سعد بن مالك بن سنان- رضي الله عنه: (أن رجالاً من المنافقين في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا إذا خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى الغزو تخلوا عنه، وفرحوا بمقعدهم خلاف رسول الله صلى الله عليه وسلم) ].

يعني: يريدون أن يقولوا: نحن ضحكنا على النبي صلى الله عليه وسلم، فهو قد خرج إلى الغزوة ونحن قعدنا هنا، وفرحوا لأنهم تخلفوا عن رسول الله عليه الصلاة والسلام.

قال: [ (فإذا قدم النبي عليه الصلاة والسلام اعتذروا إليه، وقالوا: يا رسول الله! سامحنا، منعنا من الخروج معك الأولاد والعيال والمال والغيث والبيت، واعتذروا إليه وحلفوا، وأحبوا أن يحمدوا بما لم يفعلوا، فنزلت: لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [آل عمران:188]).

وحدثنا زهير بن حرب وهارون بن عبد الله واللفظ للأول، قال: حدثنا حجاج بن محمد عن ابن جريج قال: أخبرني ابن أبي مليكة أن حميد بن عبد الرحمن بن عوف أخبره أن مروان بن الحكم قال: اذهب يا رافع -لبوابه- إلى ابن عباس فقل له: لئن كان كل امرئ منا فرح بما أتى وأحب أن يحمد بما لم يفعل معذباً؛ لنعذبن أجمعون ].

أي: أخذ مروان بن الحكم هذا الكلام على ظاهره، وأجراه مجرى العموم، فالمرء يحب أن يمدح بما أتى، ويمدح بما لم يفعل، ففهم هذا على العموم فقال لـرافع : قل لـابن عباس: لو أن الواحد فينا يحب أن يمدح بما لم يفعل ويفرح بما أتى فإننا كلنا معذبون.

[ فقال ابن عباس : إنما أنزلت هذه الآية في أهل الكتاب، ثم تلا ابن عباس : وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ [آل عمران:187].

ثم تلا قوله تعالى: لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا [آل عمران:188]... الآية.

سألهم النبي صلى الله عليه وسلم عن شيء فكتموه إياه، وأخبروه بغيره، فخرجوا من عنده قد أروه أن قد أخبروه بما سألهم عنه ].

وقد ذكر ذلك عبد الله بن سلام حبر اليهود في المدينة، فقد زنى رجل من اليهود بامرأة، فجاء اليهود بهذا الزاني ملطخاً وجهه بالسواد، وكانت هذه عقوبة الزاني يفعلها أهل الكتاب في المدينة، فإذا زنى أحدهم لطخوا وجهه بالسواد، وطافوا به في المدينة ليفضحوه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما بال هذا؟ قالوا: زنى يا محمد، فقال: لمَ لم ترجموه؟ قالوا: لم نؤمر برجمه) وهذا في حضرة عبد الله بن سلام الإسرائيلي، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (هل في كتاب الله الذي بين أيديكم رجمه يا ابن سلام ؟ قال: يا رسول الله في كتابهم الرجم، قالوا: ليس في كتابنا الرجم، فأتى أحد ممن جاء بهذا الزاني بالتوراة فتلاها ووضع أصبعه على الرجم، فقال عبد الله بن سلام لرسول الله: مره يا رسول الله فليرفع يده، فلما رفع قرأ عبد الله بن سلام الرجم، فرجمهم النبي عليه الصلاة والسلام).

فقد فرحوا أولاً بما أتوا، وأن النبي صلى الله عليه وسلم إذا ما استخبرهم فإنهم يخبرونه حتى يخرجوا من عنده، فظنوا أنهم بذلك قد نجوا من بين يديه عليه الصلاة والسلام، وكتموا أمر الوحي الذي بين أيديهم، وأخبروه بغيره، فظنوا أن قد أخبروه بما سألهم عنه، واستحمدوا بذلك إليه، وفرحوا بما أتوا من كتمانهم إياه ما سألهم عنه صلى الله عليه وسلم.

عدد المنافقين في عهده صلى الله عليه وسلم

قال: [ حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا أسود بن عامر -المعروف بـشاذان- حدثنا شعبة بن الحجاج عن قتادة عن أبي نضرة -وهو المنذر بن مالك بن قطعة- عن قيس -وهو ابن عباد أبو عبد الله البصري مخضرم- قال: (قلت لـعمار : أرأيتم صنيعكم هذا الذي صنعتم في أمر علي أرأياً رأيتموه، أو شيئاً عهده إليكم رسول الله صلى الله عليه وسلم؟).

أي: أن قيس بن عباد يقول لـعمار بن ياسر : ما هي الحكاية التي بينكم وبين علي بن أبي طالب، فهل هذا الأمر هو اجتهاد منكم، أو أن هذا عهد أوصاكم به النبي عليه الصلاة والسلام؟

[ فقال: (ما عهد إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً لم يعهده إلى الناس) ].

وهذا فيه رد على الشيعة الذين يقولون: بأن علي بن أبي طالب كانت معه صحيفة خصه بها النبي عليه الصلاة والسلام، ومن باب أولى تكذيب للشيعة القائلين بأن القرآن الذي بين أيدي أهل السنة لا يبلغ ثلث القرآن الذي كان بيد فاطمة رضي الله عنها.

قال: [ ولكن حذيفة أخبرني عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (في أصحابي اثنا عشر منافقاً) ].

وإطلاق قوله عليه الصلاة والسلام: (أصحابي) ثم يذكر المنافقين هذا يدل على أن المنافقين إنما دخلوا في الظاهر في صحبة النبي عليه الصلاة والسلام، فهو ذكرهم من باب العرف أو التغليب.

[ قال صلى الله عليه وسلم: (في أصحابي اثنا عشر منافقاً، فيهم ثمانية لا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط) ].

يعني: لا يدخلون الجنة أبداً؛ لأنه لا يمكن أبداً أن يلج الجمل في سم الخياط، وسم الخياط خرم الإبرة، فهل يتصور أن يدخل البعير في خرم الإبرة؟ لا يمكن.

فقال: [ (فيهم ثمانية لا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط، ثمانية منهم تكفيكهم الدبيلة) ].

ثم فسر الدبيلة فقال: [ (سراج من النار يظهر في أكتافهم حتى ينجم من صدورهم) ] يعني يظهر ويعلم.

الدبيلة هي: عبارة عن شعلة من النار تظهر في أكتافهم من الخلف حتى تخرج من صدورهم، فربنا سبحانه وتعالى قد كفى المؤمنين شر هؤلاء.

فماتوا بهذه العلامة أمام أعين الأصحاب رضي الله عنهم، فهذا يقين أنهم من المنافقين حتى وإن لم يسموا لعامة الأصحاب، فإذا ماتوا بهذه العلامة تيقن الأصحاب أن هؤلاء من المنافقين.

قال: [ (لا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط، ثمانية منهم تكفيكهم الدبيلة) وأربعة لم أحفظ ما قال شعبة فيهم ].

وسم الخياط يقال فيه: سِم أو سُم.

وهذا الحديث هو من مسند حذيفة بن اليمان رضي الله عنه.

قال: [ حدثنا محمد بن المثنى ومحمد بن بشار واللفظ للأول، قال: حدثنا محمد بن جعفر -المعروف: بـغندر - حدثنا شعبة عن قتادة عن أبي نضرة عن قيس بن عباد قال: قلنا لـعمار: (أرأيت قتالكم أرأياً رأيتموه -أي: أهذا اجتهاد منكم؟ فإن الرأي يخطئ ويصيب- أو عهداً عهده إليكم رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: ما عهد إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً لم يعهده إلى الناس كافة).

وقال: (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن في أمتي) قال شعبة وأحسبه قال: حدثني حذيفة، وقال غندر أنه قال: (في أمتي اثنا عشر منافقاً لا يدخلون الجنة، ولا يجدون ريحها) ].

يعني: لا يشمون رائحة الجنة، [(حتى يلج الجمل في سم الخياط، ثمانية منهم تكفيكهم الدبيلة) وهي: سراج من النار يظهر في أكتافهم حتى ينجم يظهر ويعلو من صدورهم)].

أي: حتى يفضحهم في الدنيا والآخرة.

قال: [ حدثنا زهير بن حرب قال: حدثنا أبو أحمد الكوفي -وهو المشهور بـأبي أحمد الزبيري، ولا يكنى في هذه الطبقة أبو أحمد من رجال مسلم غيره، وهو أبو أحمد الزبيري الكوفي محمد بن عبد الله بن الزبير الأسدي- قال: حدثنا الوليد بن جميعجميع جده، وهو ينسب لجده؛ لكثرة الملازمة، فهو الوليد بن عبد الله بن جميع الزهري المكي الكوفي- قال: حدثنا أبو الطفيل عامر بن واثلة -وهو آخر الصحابة موتاً على الإطلاق، فقد عُمَّر طويلاً- قال أبو الطفيل : كان بين رجل من أهل العقبة وبين حذيفة بعض ما يكون بين الناس ].

العقبة اسم مكان قريب من تبوك، وقد اجتمع فيه المنافقون ليكونوا حرباً داخلية على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في غزوة تبوك، وقد كانوا خمسة عشر رجلاً، اثنا عشر منهم قد اجتمعوا على رأي واحد واتفقوا، والثلاثة الذين كانوا معهم ربما كانوا من المنافقين، ولكنهم لم يعلموا بالخطة التي وضعت، أو أنهم أصلاً ليسوا من المنافقين.

وحذيفة قد خصه النبي صلى الله عليه وسلم بمعرفة أعيان وأسماء المنافقين [فلما رأى واحداً من أهل هذه العقبة قال لـحذيفة : أنشدك بالله كم كان أصحاب العقبة؟ فقال له القوم الذين شهدوا هذه اليمين: يا حذيفة ! أخبره إذ سألك].

يعني: ما دام هو الذي سألك فلا مانع أن تخبره بذلك.

[ قال: كنا نخبر أنهم أربعة عشر رجلاً، فإن كنت منهم فقد كان القوم خمسة عشر ]، يعني: يريد أن يقول له: أنت منافق.

قال: [ وأشهد بالله أن اثني عشر منهم حرب لله ولرسوله في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد ]، وعذر ثلاثة؛ للعلتين السابقتين.

[ قالوا: ما سمعنا منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا علمنا بما أراد القوم ]، يعني: الخطة التي حبكوها لا علم لنا بها، كما أننا كنا في مكان بعيد لم نسمع المنادي ينادي للجهاد، ولذلك لم نشارك في الجهاد، فأبدوا عذرانهم، ولذلك عذرهم النبي عليه الصلاة والسلام.

لكن الذين اتفقوا على حرب النبي عليه الصلاة والسلام فهم حرب عليه في الدنيا، ويوم يقوم الأشهاد.

قال: [ (وقد كان النبي عليه الصلاة والسلام في حرة) ]، والحرة: هي الأرض الصخرية الصلبة، أي: الجبل الأسود، وهو مكان بين جبلين، [ فقال عليه الصلاة والسلام: (إن الماء قليل فلا يسبقني إليه أحد) ].

يعني: إن كنا معه فلا يسبقني إليه أحد، وذلك من أجل أن يبرك في الماء فيزيد ويكفي الجيش كله.

قال: [ (فوجد قوماً قد سبقوه فلعنهم يومئذ) ].

والنبي صلى الله عليه وسلم هنا لعن المعين؛ لأنه علم أن هؤلاء من الاثني عشر الذين لا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط، فهؤلاء كانوا على الكفر البواح، والمعاندة والجحود للنبي عليه الصلاة والسلام ولشرعه ودينه، وعلم أنهم من أهل النار لا محالة، فحينئذ لا بأس بلعنهم.

وأهل السنة والجماعة مجمعون على جواز لعن الوصف لا العين، كلعن الله الظالمين، والمنافقين، والمجرمين، والعصاة والمذنبين، واللعن: هو الطرد من رحمة الله أبداً، وهذا لا يجوز لأحد قط إلا للنبي عليه الصلاة والسلام الذي يتكلم بوحي السماء.

المنافق الذي لم يمتثل أمر النبي عليه الصلاة والسلام

قال: [ حدثنا عبيد الله بن معاذ العنبري حدثنا أبي حدثنا قرة بن خالد عن أبي الزبير -وهو محمد بن مسلم بن تدرس- عن جابر بن عبد الله الأنصاري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من يصعد ثنية المراري) ].

والثنية: هي الطريق بين الجبلين، وهي عند الحديبية، وسميت ثنية المراري؛ لأنه كان فيها شجر مر الطعم.

قال: [ (فإنه يحط عنه ما حط عن بني إسرائيل) ].

يعني: من صعد هذه الثنية فإن الله عز وجل يحط عنه الخطايا كما حطها عن بني إسرائيل، ويغفر له ذنوبه.

قال: [ (فكان أول من صعدها خيلنا -أي: خيل بني الخزرج- ثم تتام الناس) ] يعني: ثم صعد جميع الناس.

[ فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (وكلكم مغفور له إلا صاحب الجمل الأحمر) ].

وصاحب الجمل الأحمر ضاع منه جمله، فانشغل بالبحث عنه.

[ فقيل له: (تعال إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يستغفر لك، قال: والله لأن أجد ضالتي أحب ألي من أن يستغفر لي صاحبكم) ].

ويا ليت جميع المنافقين في هذا الزمن يكون عندهم شجاعة أدبية فيقولون: نحن منافقون، فيريحونا، لكن في هذا الوقت الواحد منهم يقول كلاماً يكفره به من لا يتوقع كفره، ولا يختلف عليه اثنان، ومع هذا تجد من أهل العلم من يخالف ذلك.

فتجد إنساناً يأتي بأفعال الكفر، ويتقول أقوال الكفر، ويقول كلاماً لا يبقى معه أصل الإيمان عنده، ومع هذا تجد أن بعض أهل العلم يقول: هذا رجل مؤمن، وهذا كله بسبب الجهل بقضايا الإيمان والكفر.

قال: [ (وكان رجل ينشد ضالة له) ] يعني: يطلبها، قيل: إن هذا الرجل هو الجد بن قيس المنافق.

وفي رواية: [ (من يصعد ثنية المُرار، أو المِرَار، أو المِرِار) بمثل حديث معاذ السابق غير أنه قال: (وإذا هو أعرابي جاء ينشد ضالة له) ].

المنافق الجاسوس لصالح اليهود

قال: [ حدثنا محمد بن رافع حدثنا أبو النضر -وهو هاشم بن القاسم البغدادي، الملقب: بـقيصر- قال: حدثنا سليمان بن المغيرة عن ثابت بن أسلم البناني عن أنس بن مالك قال: (كان منا رجل من بني النجار قد قرأ البقرة وآل عمران -وبنو النجار هم أخوال النبي عليه الصلاة والسلام- فانطلق هارباً حتى لحق بأهل الكتاب)، انطلق هذا الرجل وترك النبي صلى الله عليه وسلم، وترك كتابة الوحي، وذهب إلى أهل الكتاب وهم اليهود.

قال: [ (فرفعوه وشرفوه، وقالوا: هذا كاتب وحي محمد)]، وهم لا يعترفون بنبوته، وهذا -يا إخواني- مما ينبغي لكم معرفته، وهو أن اليهود لما علموا أن هذا يحفظ البقرة وآل عمران، وأنه من كتاب وحي الله الذي ينزل على محمد؛ عظموه وشرفوه، ورفعوه فوق رءوسهم، وجعلوا له مكانة عظيمة.

وهذا الموقف ينطبق تمام الانطباق مع ما يفعل بالدعاة والعلماء في هذا الزمان وفي غيره من الرفعة والتعظيم والشرف؛ بسبب دعوتهم إلى الله عز وجل، وتربيتهم للأجيال الناشئة، فالدعاة في صحة وأمان وعافية.

[ (فانطلق هارباً حتى لحق بأهل الكتاب، فرفعوه قالوا: هذا قد كان يكتب لمحمد فأعجبوا به، فما لبث أن قصم الله عنقه فيهم -يعني: مات- فحفروا له فواروه -يعني: دفنوه- فأصبحت الأرض قد نبذته على وجهها).

وكأن الله تبارك وتعالى قد جعل لها أحاسيس، فتقبل أهل الإيمان، وتلفظ أهل النفاق والكفران.

قال: [ (ثم عادوا فحفروا له فواروه، فأصبحت الأرض قد نبذته على وجهها، ثم عادوا فحفروا له فواروه، فأصبحت الأرض قد نبذته على وجهها، فتركوه منبوذاً) ].

وفي الحقيقة: أن أخلاق اليهود تختلف عن أخلاق النصارى والمشركين والمؤمنين، فالمؤمن يتجمل بمكارم الأخلاق، ومحاسن الشيم، ويتعلمها من القرآن والسنة، وأخلاق النبي صلى الله عليه وسلم الذي ضرب المثل الأعلى في الكمال البشري في كل شيء، فمهما فعلت لا يمكن أن تصل إلى خصلة واحدة مما تخلق به عليه الصلاة والسلام.

وبعض الناس يظن أن اليهود أحسن من المسلمين، ولا يدري هذا المسكين أن له عندهم دوراً إذا انتهى هذا الدور كان حذاءً يلبس في أرجلهم! فالمنافق الذي يتجسس على المؤمنين، وعلى جيوش المسلمين لصالح الكفار وغيرهم؛ لابد أن يعلم أنه في نهاية أمره نعل يلبسه شارون وغيره، ولابد أن دوره سينتهي، وهناك أكثر من جاسوس قد اتخذوه في الدول الإسلامية، ولما انتهى دوره قتلوه أو نبذوه، لأنه تعدى الحدود التي رسمت له.

وفي كتب الجاسوسية العالمية أخبار شنيعة جداً، فهم يمدحون ويرفعون الإنسان فوق السماء وفجأة يقتلونه؛ لأنه تعدى الحد.

والسبب الثاني: أن معه أخبار قد كلف بتحصيلها وقد حصلها، وهم لا يأمنون منه فيقتلونه؛ خوفاً أن تتسرب الأخبار إلى الآخرين.

فيأتي آخر فيقتل القاتل؛ مخافة أن تتسرب نفس الأخبار إلى خارج الدائرة المطلوبة انتشار الخبر.. وهكذا.

ولا يرتاح قلب المرء إلا إذا كان عاملاً بالكتاب والسنة، فإذا قتل كان شهيداً، فهو يدور بين خيرين:

إما عامل بالكتاب والسنة على منهاج النبوة، وإما شهيد، والمؤمن لا رغبة له إلا في هذين.

قال: [ حدثني أبو كريب -محمد بن العلاء الهمداني - حدثنا حفص بن غياث عن الأعمش عن أبي سفيان -وهو طلحة بن نافع الواسطي نزيل مكة- عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم من سفر فلما كان قرب المدينة هاجت ريح شديدة تكاد أن تدفن الراكب).

أي: من شدتها تكاد تدفن الراكب؛ لأنها أخذت الرمال والأتربة وغير ذلك، فكانت ريحاً شديدة وعاصفة قوية جداً حتى كادت أن تدفن الراكب على فرسه.

(فزعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: بعثت هذه الريح لموت منافق) ].

يعني أن البعض قال: إني سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ما بعثت هذه الريح إلا شماتة وفرحاً بموت فلان المنافق، وعقوبة له، وعلامة أن موته راحة للبلاد والعباد، وهذا مصداق قوله عليه الصلاة والسلام: (مستريح ومستراح منه، قالوا: يا رسول الله! ما مستريح وما مستراح منه؟ قال: إن العبد المؤمن إذا مات استراح من البلاد والعباد، وإن العبد الكافر أو المنافق إذا مات استراح منه البلاد والعباد والشجر والدواب).

فحينئذ قامت هذه الريح الشديدة لما مات أحد المنافقين، هكذا أخبر النبي صلى الله عليه وسلم في طريق السفر إلى المدينة، وهذا المنافق مات بالمدينة؛ ولذلك قال جابر: (فلما قدم المدينة فإذا منافق عظيم من المنافقين قد مات).

وهذا من دلائل نبوته عليه الصلاة والسلام.

وعيد المنافقين يوم القيامة

قال: [ حدثنا عباس بن عبد العظيم العنبري قال: حدثنا أبو محمد - النضر بن محمد بن موسى اليماني - حدثنا عكرمة حدثنا إياس -وهو ابن الصحابي الجليل سلمة بن الأكوع- قال: حدثني أبي، قال: (عدنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً موعوكاً) ].

(عدنا) يعني: زرنا (موعوكاً) يعني: مريضاً.

قال: [ (فوضعت يدي عليه فقلت: والله ما رأيتك كاليوم رجلاً أشد حراً) ].

يعني: أن حرارتك قوية وعالية جداً، وأنا طوال عمري وحياتي ما رأيت أحداً حرارته مرتفعة كحرارتك.

[ فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم: (ألا أخبركم بأشد حراً منه يوم القيامة؟ أولئك الرجلين الراكبين المقفيين، لرجلين حينئذ من أصحابه) ].

فقوله: (أصحابه) يعني: ممن دخلوا في عموم الصحبة عرفاً، لكنهم في حقيقة الأمر ليسوا من أصحابه.

فالنبي عليه الصلاة والسلام ذكر أن الرجلين الراكبين المقفيين -أي: اللذين قفاهما باتجاهنا- أنهما يوم القيامة أشد حراً من هذا. وهذا فيه بيان أن الله تعالى أطلع نبيه على المنافقين بأعيانهم وأسمائهم.

تشبيه المنافق بالشاة العائرة بين غنمين

قال: [ حدثنا محمد بن عبد الله بن نمير قال: حدثنا أبي، وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا أبو أسامة - حماد بن أسامة - قال: حدثنا عبيد الله -وهو ابن عمر العمري -، وحدثنا محمد بن المثنى -واللفظ له- أخبرنا عبد الوهاب بن عبد المجيد الثقفي قال: حدثنا عبيد الله عن نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (مثل المنافق كمثل الشاة العائرة بين غنمين، تعير إلى هذه مرة وإلى هذه مرة) ].

أي: الشاة المتحيرة المترددة بين مجموعتين من الغنم، فالمنافق عنده حيرة، فلا يستريح ولا يهنأ له قلب ولا يطمئن، وهذا المثل لتقريب المعنى، وضربه من وحي البيئة العربية، فالمنافق مثله مثل الشاه العائرة، فهو يذهب إلى أهل الإيمان مرة، وإلى أهل النفاق مرة أخرى، ولا هو قادر يستمر مع هؤلاء، ولا قادر يستمر مع هؤلاء؛ لأنه منافق.

وفي رواية ثانية: [ (تكر في هذه مرة، وفي هذه مرة) ].

والمعنى واحد، قال الإمام النووي: هي المترددة الحائرة لا تدري لأيهما تتبع؟

ومعنى: ( تعير ) أو ( تكر ) أي: تتردد وتذهب هنا مرة وهناك مرة أخرى.

فهذه بعض أوصاف المنافقين التي ذكرها الله تعالى في كتابه، وذكرها رسوله الكريم عليه الصلاة والسلام في صحيح سنته.

أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.

وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , شرح صحيح مسلم - كتاب ‏صفات المنافقين وأحكامهم - كتاب صفات المنافقين للشيخ : حسن أبو الأشبال الزهيري

https://audio.islamweb.net