إسلام ويب

للنصر أسباب يجب علينا الأخذ بها لتحقيقه، كما أن للهزيمة أسباباً ينبغي تجنبها، وبجملة تلك الأسباب أخذ المظفر قطز رحمه الله، فانتصر على التتار، وحرر بلاد الشام، وكان لانتصاره هذا آثار عظيمة على الإسلام والمسلمين.

أسباب تسلط التتار على المسلمين قبل موقعة عين جالوت

أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم

بسم الله الرحمن الرحيم

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، إنه من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

أما بعد:

فهذه هي المحاضرة الحادية عشرة من محاضرة قصة التتار: من البداية إلى عين جالوت.

في المحاضرة السابقة تحدثنا عن موقعة عين جالوت، تلك الموقعة التي غيرت فعلاً من خريطة العالم، ومن جغرافية الأرض.

والتعليقات على هذه الموقعة لا تنتهي، والدروس والعبر والفوائد والعظات لا تحصى، فكل خطوة من خطوات الجيش المسلم، وكل خطوة من خطوات الملك المظفر سيف الدين قطز رحمه الله تحتاج إلى وقفات طويلة؛ لأن موقعة عين جالوت سقط فيها الجيش التتري، الذي أفسد في الأرض إفساداً عظيماً، والله عز وجل لا يصلح عمل المفسدين، مع كون هذا الجيش جيشاً مفسداً إلا أنه سلط على المسلمين فترة طويلة من الزمان، مدة أربعين سنة متصلة، عاشها المسلمون في قهر وتعذيب وبطش وإجرام من التتار، وهزم فيها المسلمون في عشرات بل مئات المواقع الحربية، ثم دارت الأيام وتمت المعركة الهائلة عين جالوت، وانتصر المسلمون انتصاراً مبهراً حقاً، يقول ربنا في كتابه الكريم: وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ [آل عمران:140].

وهنا يبرز سؤالان: ولابد لمن يتوسع في هذه الأحداث أن يخطر على ذهنه هذان السؤالان، وهذان السؤالان لهما إجابة واحدة:

السؤال الأول: كيف سلط جيش التتار الفاسد المفسد على أمة الإسلام وهي خير منه، فمهما خالفت أمة الإسلام منهجها، ومهما بعدت وقصرت في واجباتها فهي ما زالت أمة الإسلام، فلماذا يسلط الله عز وجل أمة التتار المفسدة على أمة الإسلام؟

السؤال الثاني: لماذا انتصر جيش التتار على المسلمين في كل المواقع السابقة، ثم هزم في موقعة عين جالوت وهو نفس الجيش؟ فلماذا انتصر سابقاً ثم هلك بكامله بهذه الصورة العجيبة في موقعة عين جالوت؟

إن الإجابة على السؤالين نجدها في خطاب أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه الصحابي العظيم الملهم إلى سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه وأرضاه، الذي كان يقود الجيوش الإسلامية المتجهة لحرب فارس في موقعة القادسية الكبرى، فقد قال له: فإني آمرك ومن معك من الأجناد بتقوى الله على كل حال، فإن تقوى الله أفضل العدة على العدو، وأقوى المكيدة في الحرب، وآمرك ومن معك أن تكون أشد احترازاً من المعاصي منكم من عدوكم، فإن ذنوب الجيش أخوف عليهم من عدوهم، وإنما ينصر المسلمون بمعصية عدوهم لله، ولولا ذلك لم تكن لنا بهم قوة؛ لأن عددنا ليس كعددهم، ولا عدتنا كعدتهم، فإن استوينا في المعصية كان لهم الفضل علينا في القوة، وإلا ننصر عليهم بفضلنا لن نغلبهم بقوتنا، واعلموا أن عليكم في سيركم حفظة من الله عز وجل يعلمون ما تفعلون، فاستحيوا منهم، ولا تعملوا بمعاصي الله وأنتم في سبيل الله، ولا تقولوا: إن عدونا شر منا، فلن يسلط علينا.

أي: كما نقول: إن التتار شر من المسلمين، فلن يسلطوا على المسلمين، أو نقول: إن اليهود شر من المسلمين، فلن يسلطوا على المسلمين، أو نقول: إن الأمريكان شر من المسلمين، فلن يسلطوا على المسلمين، أو نصف أي عدو من أعداء الله عز وجل بأنه شر، ولن يسلط على المسلمين.

ثم قال: فرب قوم سلط عليهم من هو شر منهم، كما سلط على بني إسرائيل لما عملوا بمساخط الله كفار المجوس، فجاسوا خلال الديار، وكان وعداً مفعولاً.

فاليهود لما أفسدوا في الأرض وعملوا ما يسخط الله من المعاصي، وابتعدوا عن شرعه عز وجل، سلط الله عليهم المجوس عباد النار، واليهود أهل كتاب، ومهما عصوا فهم أفضل من المجوس، ومع ذلك سلط الله عز وجل المجوس، كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه.

ورسالة الفاروق عمر رضي الله عنه وأرضاه هذه من أنفس ما قال رضي الله عنه، ومن أعظم الرسائل مطلقاً، والرسالة طويلة، وقد درسناها بالتفصيل في فتوح فارس، ودراستها في منتهى الأهمية في بناء الأمة الإسلامية.

ومن هذا الجزء الذي ذكرناه من الرسالة يتضح أنه إذا عمل المسلمون بمعاصي الله، فإنهم يهزمون ويسلط عليهم الكفار من أهل الأرض.

وإذا التزم المسلمون بتقوى الله عز وجل، وساروا على منهج ربهم، ومنهج رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم، انتصروا على الجيوش التي طالما انتصرت عليهم؛ فهم لا ينتصرون على هذه الجيوش بقوة الجسد، أو بكثرة العدد، أو بكفاءة العدد، وإنما ينتصرون عليهم بارتباطهم بربهم، وبعد أعدائهم عن رب العالمين سبحانه وتعالى.

ومن هنا نفهم سبب تسلط جيش التتار أربعين سنة على المسلمين في الأرض، ثم سبب انتصار المسلمين في عين جالوت على هذا الجيش الذي دوخ بلاد المسلمين، وبلاد الأرض جميعاً عشرات الأعوام، وأيضاً نفهم أحداثاً كثيرة جداً تتكرر في التاريخ وفي الواقع.

فإذا رأينا ضعفاً وخوراً وجبناً واستكانة في جيوش المسلمين، وتبعية للغرب أحياناً وللشرق أحياناً أخرى، وإذا رأينا هواناً في الرأي وسقوطاً للهيبة الإسلامية، وذلة في معظم أحوال المسلمين، وموالاة لمن سفك دماءهم، وتحالفاً مع من دمر ديارهم، وصداقة مع من شردهم من ديارهم، واستعانة بمن خرب اقتصادهم، ثم رأينا أن الأمة العظيمة الكبيرة الكثيرة قد أصبحت لا تساوي شيئاً في أعين أعدائها، وأنه قد تطاول عليها أخس أهل الأرض من إخوان القردة والخنازير، وعباد البقر والبشر والملحدين، فلنعلم علماً يقينياً أن الأمة تعمل بمعاصي الله عز وجل، ولا تتبع شرعه عز وجل، وأنها قد سقطت من عينه عز وجل، وأنه عز وجل هو الذي يسلط عليها الفاسدين من اليهود والصليبيين والهندوس والشيوعيين.. وغيرهم.

وإذا رأينا كل ذلك فإنه لا يجوز أن يكون داعياً لنا إلى الإحباط واليأس، بل إلى التفكر والتدبر، والاستفادة من التاريخ، ثم العمل، وعين جالوت بين أيدينا، وهذه هي الفائدة من دراسة الأحداث التاريخية التي مرت عليها قرون وقرون، حتى نرجع إلى ديننا، وعندها تحل جميع قضايانا.

والعودة إلى الله عز وجل ليست مستحيلة ولا صعبة، فمهما غرقت الأمة في معاصيها وابتعدت عن كتاب ربها وضلت طريقها، فإنها تعود إلى الله عز وجل في لحظة واحدة إذا أرادت أن تعود وأن تعيش، بل إذا أرادت أن تسود وتقود وترفع رأسها وتعز شأنها.

وإننا مهما ابتعدنا عن الله إلا أنه سبحانه وتعالى يقبلنا إذا عدنا إليه، بل ويفرح بنا إذا عدنا إليه، فقد روى البخاري عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لله أفرح بتوبة عبده من رجل نزل منزلاً وبه مهلكة، ومعه راحلته عليها طعامه وشرابه، فوضع رأسه فنام نومة، فاستيقظ وقد ذهبت راحلته حتى اشتد عليه الحر والعطش أو ما شاء الله، فقال: أرجع إلى مكاني، فرجع فنام نومة، ثم رفع رأسه فإذا راحلته عنده). كيف ستكون فرحة هذا الرجل، وقد أنقذ بعد أن أيقن بالهلكة، فالله عز وجل أشد فرحاً بعبده الذي يعود إليه بعد معصية، من هذا الرجل براحلته، فما علينا إلا أن نعود إلى الله عز وجل، والعودة إليه قد تكون في لحظة واحدة، وإذا عدنا إليه عز وجل فسنرى عين جالوت، وألف عين جالوت.

والتأصيل الشرعي للانتصار وللهزيمة في الإسلام: أن المسلمين ينتصرون بارتباطهم بربهم، ويهزمون ببعدهم عنه عز وجل، فالله عز وجل لا يظلم الناس شيئاً، ولكن الناس أنفسهم يظلمون.

وأسأل الله عز وجل أن يردنا إلى ديننا رداً جميلاً، وأن يعز الإسلام والمسلمين.

تحرير دمشق من التتار

نرجع لـقطز رحمه الله، وللجيش الإسلامي العظيم بعد الانتصار الرائع في عين جالوت، فإن مهمة قطز رحمه الله وجيشه لم تنته، فما زال هناك تتار في بلاد الشام في دمشق وفي حمص وفي حلب.. وفي غيرها من المدن الشامية، وكذلك ما زال هناك تتار في العراق وتركيا وفارس.. وغيرها من بلاد المسلمين، وليست لحياة قطز رحمه الله راحة أبداً مع كثرة الشهداء والجراح والآلام.

ومع الإرهاق الشديد والمعاناة القاسية التي كان يعاني منها الجيش المناضل البطل، الذي عبر صحارى سيناء بكاملها في شهر يوليو، وحارب في غزة، ثم اجتاز فلسطين بكاملها من جنوبها إلى شمالها حتى وصل إلى عكا، ثم عاد بعد ذلك إلى عين جالوت، والذي خاض المعركة الهائلة مع أقوى جيوش الأرض في زمانه في عين جالوت، ثم في بيسان، إلا أن الخطوة التالية المباشرة لـقطز رحمه الله بعد انتصار عين جالوت هي الاتجاه مباشرة ودون أدنى راحة إلى دمشق في الشمال، فدمشق هي أول المحطات الإسلامية التي تقع تحت سيطرة التتار، بينها وبين عين جالوت (150) كيلو متر تقريباً، ولابد من تطهير هذه المدينة العظيمة من دنس التتار، واستغلال فرصة الانكسار الرهيب لجيش التتار لتحرير دمشق وغيرها، قبل أن تأتي أمداد التتار من فارس أو من أوروبا أو من الصين.. أو من غيرها، فأراد قطز رحمه الله القائد المحنك أن يهيئ الفرصة العظمى لجيشه؛ لينتصر على قواد التتار في دمشق، وقد كان يعلم أن جيش التتار بكامله قد فني في عين جالوت، ولا يوجد أحد ينقل الأخبار إلى دمشق بأن جيش التتار قد فني، فقام هو رحمه الله بهذا الدور، فأرسل رسالة إلى دمشق يخبر فيها أهلها بأن المسلمين قد انتصروا انتصاراً هائلاً في عين جالوت، وأن الجيش التتاري قد دمر بكامله في هذه الموقعة، فوصلت الرسالة لتخلق جواً جديداً تماماً على دمشق، فارتفعت معنويات المسلمين إلى أقصى درجة، وهبطت معنويات التتار إلى أدنى درجة، وقام المسلمون في دمشق -الذين كانوا تحت سيطرة التتار لا يتحركون ولا يقاومون- يدافعون عن أنفسهم بعد أن وصل إليهم الكتاب، وكان الكتاب قد وصل في (27) أو (28) من رمضان في سنة (658هـ)، فقاموا بثورة كبيرة جداً في دمشق، وانقلبوا على الحامية التتارية وقتلوا منها ما قتلوا، وأسروا منها ما أسروا، وفر الباقون إلى الشمال. وسبحان الله! فالشعب هو الشعب، والتتار هم التتار! ولكن الوضع تغير بسماع الأخبار المفرحة التي جاءت من عين جالوت، فقد اكتشف الشعب أنه قادر على المقاومة والدفاع والحرب في سبيل الله، لما رأى القدوة التي كانت في عين جالوت، وأما التتار الذين كانوا يسيطرون على الموقف فقد سقطت هيبتهم تماماً، وما استطاعوا من قيام وما كانوا منتصرين.

وانتهى الاحتلال في دمشق في لحظات، لدرجة أن قطز رحمه الله لما وصل إلى المدينة في يوم (30) رمضان، يعني: بعد يومين أو ثلاثة من وصول الرسالة، لم يبق في دمشق تتري واحد، فقد انتهت الحامية التترية التي كانت تسيطر تماماً على الوضع قبل انتصار عين جالوت، وكان انتصاراً مهيباً.

دخول قطز والجيش المصري دمشق

دخل قطز رحمه الله دمشق في يوم (30) رمضان كما ذكرنا، وعلقت الزينات في الشوارع، وخرج الرجال والنساء والأطفال يستقبلون البطل المظفر ، وكانت بالفعل أشد لحظات الفرح للمسلمين منذ أربعين سنة، وهذه هي الفرحة الحقيقية، قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ [يونس:58] فهي فرحة النصر بدين الله عز وجل، وفرحة الرفعة للإسلام والعزة للمسلمين، وهذه الفرحة لا تقارن أبداً بفرحة الطعام والشراب والمال والجاه والسلطان، وكل أنواع الفرحة في الدنيا، فهي فرحة عزة للإسلام، لا تقارن بغيرها من الأفراح.

دخل الجيش المملوكي دمشق، واستتب الأمن الحقيقي بسرعة عجيبة، ولم يكن الوضع مثل ما يحدث عند دخول المستعمرين البلاد من عموم الفوضى، وترك الحبل على الغارب، وانتهاك الحرمات أمام الأعين، وانتهاب المحلات والديار، فلم يحدث شيء من هذا، وإنما استقر الوضع حقيقة وبسرعة، بل أمن النصارى واليهود على أرواحهم وأموالهم.

تولية القاضي نجم الدين أبو بكر بن السني قضاء دمشق

قام قطز رحمه الله بعزل ابن الزكي قاضي دمشق الذي عينه التتار، وكان موالياً لهم، وعين مكانه نجم الدين أبو بكر بن السني ، وبدأ القاضي الجديد يفصل في القضايا ويحكم في المخالفات التي تمت بين المسلمين والنصارى، وذلك حتى لا يظلم نصراني في بلاد المسلمين، هذا مع كل ما فعله النصارى بالمسلمين وقت احتلال التتار للمدينة.

تحرير بلاد الشام من التتار وتوحيدها مع مصر

في اليوم التالي مباشرة لدخول قطز رحمه الله إلى دمشق كان عيد الفطر، وكان أعظم عيد مر على المسلمين منذ أربعين سنة، فلم يكن عيداً للفطر فقط، بل كان أيضاً عيداً للنصر والتمكين، وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [التوبة:40]. ولم يضيع قطز رحمه الله وقتاً، بل أرسل مقدمة الجيش بقيادة الظاهر بيبرس رحمه الله لتتبع الفارين من التتار، وتطهير المدن الشامية الأخرى من الحاميات التتارية، حتى وصلت القوات الإسلامية إلى حمص، واقتحمت على التتار معسكراتهم ففروا مذعورين، وانقلبت الصورة تماماً، وأطلق المسلمون آلاف الأسرى المسلمين، وانطلقوا خلف التتار، فقتلوا أكثرهم وأسروا الباقين، ولم يفلت من التتار إلا الشريد، وهكذا حررت حمص بسرعة، واتجهت القوات الإسلامية إلى حلب، ففر منها التتار كالفئران المذعورة، وانطلق المسلمون خلفهم يقتلون ويأسرون، وسبحان مغير الأحوال!

ما بين طرفة عين وانتباهتها يغير الله من حال إلى حال!

طهر المسلمون بلاد الشام بكاملها في غضون أسابيع قليلة جداً، وعادت من جديد أرض الشام إلى ملك الإسلام والمسلمين، ونسأل الله عز وجل لها ولسائر بلاد المسلمين دوام التحرر والعزة.

ثم جاءت بعد ذلك خطوة هامة من أعظم خطوات قطز رحمه الله، فقد أعلن قطز رحمه الله بعد هذا الانتصار المهيب توحيد مصر والشام من جديد في دولة واحدة تحت زعامته، وذلك بعد عشر سنوات كاملة من الفرقة والشتات، منذ وفاة نجم الدين الصالح أيوب رحمه الله في سنة (648هـ)، حيث انفصل في ذلك الوقت الشام عن مصر، حتى عاد الآن قطز رحمه الله ليوحدهما.

والشام يضم سوريا ولبنان وفلسطين والأردن، فضم الشام إلى مصر، وأصبحا دولة واحدة، وخطب لـقطز رحمه الله على المنابر في كل المدن المصرية والشامية، حتى خطب له في أعالي بلاد الشام، وفي المدن التي حول نهر الفرات، وعاش المسلمون أياماً من أسعد أيامهم.

تعيين قطز للأمراء على بلاد الشام

بدأ قطز رحمه الله يوزع الولايات الإسلامية على الأمراء المسلمين.

ومن حكمته رحمه الله أنه أرجع بعضاً من الأمراء الأيوبيين إلى مناصبهم؛ وذلك ليضمن عدم حدوث فتنة في بلاد الشام، ولاشك أن هؤلاء لهم أتباع من المسلمين، وقطز لا يخشى الآن من خيانتهم؛ لأنه تبين لهم جداً أنهم لا طاقة لهم بـقطز رحمه الله وبجنوده الأبرار، فأعطى رحمه الله إمارة حمص للأشرف الأيوبي الذي كان موالياً للتتار، ولكنه أظهر الندم والانكسار والتوبة وعاد إلى صف المسلمين، بل وانكسر بين أيديهم في موقعة عين جالوت كما أشار بذلك صارم الدين أيبك في الرسالة التي تحدثنا عنها في الدرس السابق، وأعطى قطز رحمه الله إمارة حلب لـعلا الدين بن بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل الذي كان والده بدر الدين لؤلؤ من أشد الموالين للتتار، ومات منذ شهور قليلة ولكن ابنه علاء الدين أظهر الولاء والانقياد لـقطز رحمه الله، وأظهر الحمية للإسلام، فلم يجعل قطز رحمه الله التاريخ الأسود لأبيه حائلاً عن تقليده علاء الدين إمارة حلب، فقد كان يقدر كل رجل بقدره، وأعطى إمارة حماة إلى صاحبها الأسبق الأمير المنصور ، الذي قاتل مع القوات الإسلامية المشتركة في عين جالوت، واشترك منذ بداية الإعداد مع قطز رحمه الله، وعين الأمير جمال الدين آقوش الذي قتل كتبغاً كما فصلنا في الدرس السابق على فلسطين وغزة.

وأما دمشق فقد عين عليها الأمير علم الدين سنجر الحلبي ، وهكذا استقرت الأوضاع تماماً في بلاد الشام وفلسطين وقويت شوكة الإسلام، واختفى كل تهديد يمس المسلمين من النصارى أو اليهود.

واستمر هذا الإعداد والترتيب قدر حوالي (25) يوماً، وفي يوم (26) من شهر شوال سنة (658هـ) يعني: بعد حوالي شهر كامل من يوم عين جالوت، بدأ السلطان قطز رحمه الله رحلة عودته إلى عاصمته القاهرة في مصر، فكثير من الأوضاع السياسية هناك تحتاج إلى استقرار وإدارة، وأصبحت دولة قطز رحمه الله تمتد من الفرات إلى حدود ليبيا، ولابد من إعادة تنسيق كثير من الأوراق.

ولا ننسى أن قطز رحمه الله لم يمض عليه في الحكم حتى ذلك اليوم إلا أحد عشر شهراً فقط، فقد تولى الحكم في (24) من ذي القعدة سنة (657) من الهجرة، وها هو يعود في أواخر شهر شوال سنة (658) من الهجرة، فما زالت تنتظره آلاف الأعمال في مصر.

وهكذا تم النصر المبين على التتار، واستيقظ المسلمون من الكابوس المزعج الذي آلمهم في كل السنوات الماضية.

آثار معركة عين جالوت

مع أن موقعة عين جالوت هذه كانت موقعة واحدة، وتمت في يوم واحد، إلا أن آثارها كانت من القوة بحيث لا يتخيل أصلاً، فقد كانت من الكثرة بحيث لا تحصى، وكانت آثارها في غاية الأهمية، ولا نستطيع في هذه العجالة أن نمر عليها كلها، ولكن سنمر على طرف بسيط منها.

وعلى الدارسين والمحللين أن يبحثوا في هذه الآثار بمزيد من التفصيل والدراسة، فالموضوع فعلاً في غاية الأهمية، وسنقص هنا بعض هذه الآثار لموقعة عين جالوت الخالدة:

النصر قرين الإيمان

الأثر الأول والأهم: عودة المسلمين إلى الله عز وجل أثناء التحضير والإعداد لهذا اللقاء، وأثناء المعركة وبعدها ولمدة طويلة من الزمان؛ فقد وضحت المعادلة جداً في أذهان الناس، فالمسلمون عندما ابتعدوا عن الله عز وجل تمكن التتار من رقابهم، ولما عادوا إلى الله تحقق النصر الذي اعتبره كثير من المحللين معجزة حقيقية، وفي الحقيقة أن هذا النصر ليس بمستغرب، فإن النتيجة الطبيعية لعودة المسلمين إلى الله عز وجل أن يتم نصرهم على أعدائهم.

وتبين المسلمون أيضاً بعد موقعة عين جالوت أن الحرب دينية في المقام الأول، فقد تحالف كثير من النصارى كما رأينا مع التتار أكثر من مرة، مع أن مصالحهم على المستوى البعيد كان مع المسلمين وليس مع التتار، فالتتار لا عهد لهم، بينما يحترم المسلمون عهودهم جداً؛ لأن هذا الاحترام للعهود أصل من الأصول في دين الإسلام، وواقع المسلمين يشهد بذلك في معظم فترات التاريخ، والمخالفات الإسلامية للعهود قليلة جداً في التاريخ، ومع ذلك آثر النصارى أن يتحالفوا مع التتار ضد المسلمين، ولذلك استقر في نفوس المسلمين تماماً بعد انتصار عين جالوت، أن الحروب التي دارت بينهم وبين التتار والنصارى لم تكن حروب مصالح فقط، كما يصورها كثير من الغربيين والعلمانيين على أن المحرك الرئيسي للحروب أبداً هو الاقتصاد، أو يجعلون الأغراض العسكرية أو الإستراتيجية هي الهدف الأساسي، فنحن لم نر هذا في قصتنا هذه، بل رأينا في هذه القصة الواقعية أن الدين هو المحرك الأساسي للنصارى في حرب المسلمين، وكان له كذلك أكبر أثر في تحريك المسلمين أنفسهم لحرب التتار والنصارى في هذه الموقعة الخالدة، والله عز وجل نبهنا إلى ذلك في كتابه مراراً أكثر من مرة، قال سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ [البقرة:120]. فجعل الرضا عندهم مقروناً باتباع الملة، وليس مقروناً ببقاء المصالح.

وكذلك قال ربنا في كتابه الكريم: وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا [البقرة:217]. فوضح أن القتال سيستمر حتماً إلى أن يترك المسلمون دينهم، وأما قبل ذلك فالحرب لن تتوقف، ولن يكتفي اليهود والنصارى والتتار والمشركون والهندوس في أي وقت من أوقات الدنيا بالسيطرة على الديار والأموال والبترول والناس.. وغير ذلك أبداً، فسيظل الهدف الأسمى لهؤلاء هو السيطرة على الدين الإسلامي، أو إن شئت فقل: محو الدين الإسلامي.

وما نراه الآن من متابعة لكل الحركات الإسلامية والتوجهات الدينية، ومحاولات تغيير مناهج المسلمين الدراسية، وحرب في وسائل الإعلام المختلفة، كل هذا ما هو إلا صور للتعبير عن شدة الكراهية لبقاء الدين، وليس لبقاء القوة أو الحدود، فالمعركة في أصلها هي معركة وجود أساساً، فهم لا يقبلون بوجود الدين الإسلامي على وجه الأرض، ولذلك فالحرب لن تنتهي أبداً؛ لأن دين الإسلام لن ينتهي أبداً بإذن الله.

وهكذا لا يصلح كما ذكرنا قبل ذلك مراراً أن يكون السلام خياراً إستراتيجياً أبدياً مهما تغيرت الظروف، وأنت إن تنازلت عن كل شيء في مقابل السلام، فهم لن يقبلوا إلا أن تتنازل عن الدين بوضوح.

إذاً: فقه المسلمون بعد موقعة عين جالوت أن الصراع ديني في المقام الأول، ومن ثم إذا أردت أن تنتصر في هذا الصراع الديني فلابد أن تكون مستمسكاً تماماً بهذا الدين.

كان هذا هو الأثر الأول الخالد والهام جداً من موقعة عين جالوت الخالدة، وهو عودة المسلمين إلى الله عز وجل عودة كاملة، ليس في مصر والشام فقط، بل وفي كثير من بقاع العالم الإسلامي آنذاك، ولمدة عشرات السنين بعد ذلك، فالحقيقة وضحت تماماً أمام أعين الناس، فما لم تكن مستمسكاً بالدين فلا تبحث عن النصر.

انتصار المسلمين على الهزيمة النفسية التي أصابتهم من التتار

الأثر الثاني لموقعة عين جالوت: انتصار المسلمين في عين جالوت على الهزيمة النفسية البشعة التي كانوا يعانون منها، والتي فصلنا ذكرها في أول المحاضرات، فقد خرج المسلمون من حالة الإحباط الشديدة التي كانت تسيطر عليهم، وعلموا أن الأمل في الله عز وجل يجب ألا ينقطع أبداً، وأنه مهما تعاظمت قوة الكافرين فإنها ولا شك إلى زوال، وفقهوا حقيقة قول الله عز وجل: لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ [آل عمران:196-197].

وأدرك المسلمون بوضوح أنهم يستطيعون الانتصار بأنفسهم دون أن ينتظروا جيش المهدي أو جيش غيره، ويستطيعون أن يصنعوا النصر بأيديهم إذا عادوا إلى الله عز وجل، فالله عز وجل هو الذي ينصر ويؤيد ويمنح العزة والتمكين، ولكن لابد أن يقدم المسلمون شيئاً.

واستمع إلى قول الله عز وجل في سورة التوبة حيث يقول سبحانه وتعالى على لسان المؤمنين: وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا [التوبة:52].

هكذا فقه المسلمون هذه الحقيقة الواضحة في أنهم لابد أن يصنعوا النصر بأيديهم، ولابد أن يتحركوا بأنفسهم ويعملوا، ثم ينزل الله عز وجل نصره على من يشاء من عباده.

فظهر للمسلمين بوضوح بعد عين جالوت أن الله عز وجل قادر على كل شيء، وأنه لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، وهم وإن كانوا يعلمون ذلك علماً نظرياً قبل عين جالوت، فإن موقعة عين جالوت جاءت كالدرس العملي التطبيقي الذي لا يبقي شكاً في قلب أحد. وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [يونس:107].

عودة الهيبة للأمة الإسلامية

الأثر الثالث: عودة الهيبة للأمة الإسلامية بعد غياب دام أكثر من ستين سنة، فبعد أن كانت الأمة الإسلامية في أواخر القرن السادس الهجري في درجة عظيمة جداً من درجات النصر والفخر والسيادة، وذلك بعد انتصاري حطين في المشرق في فلسطين، والأرك في المغرب في الأندلس، حدث بعد ذلك انكسار شديد في حالة الأمة الإسلامية، وضاعت هيبتها، حتى بدأت الكلاب تنهش في جسدها، والأفاعي تجول بأرضها، ولكن بعد عين جالوت ألقي الجلال والمهابة على الأمة الإسلامية، حتى إن هولاكو الذي كان يستقر في تبريز في فارس، ومعه عدد ضخم جدًا من القوات التترية لم يفكر في إعادة احتلال بلاد الشام مرة أخرى، بل أقصى ما فعله هو إرسال حملة انتقامية أغارت على حلب، وسفكت دماء بعض أهلها كنوع من إثبات الوجود، والانتقام لقائده الشهير كتبغانوين ، لكن هيبة الأمة الإسلامية وقرت في صدره، فلم يشأ أن يلقي بجيشه في مهلكة جديدة، وما فكر مرة ثانية في احتلال الشام، وهيبة الأمة لا تعود إلا بعين جالوت أو أشباهها، وصدق الخليفة الراشد العظيم عثمان بن عفان رضي الله عنه حين قال: إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن.

القضاء على التتار في بلاد الشام

الأثر الرابع من آثار عين جالوت: فناء قوة التتار العسكرية في منطقة الشام وتركيا وفلسطين كما فصلنا، ولم يسمع عن التتار في هذه المنطقة لمدة عشرات السنين بعد ذلك، فقد اختفى القهر والظلم والبطش والتشريد، وأمن الناس على أرواحهم وأموالهم وأرضهم وأعراضهم، ولم يروع الناس أحد في هذه المناطق إلا بعد عين جالوت بأكثر من مائة وأربعين عاماً، حين دخل السفاح التتري الجديد تيمورلنك بلاد الشام، فاجتاح حلب ودمشق سنة (804) هجرية، وهذا الكلام إن شاء الله سنتكلم عليه بالتفصيل عند الحديث عن دولة المماليك في مجموعة خاصة بها من المحاضرات، وعند الحديث أيضاً عن الخلافة العثمانية العظيمة، ولكن ما يهمنا في هذا المجال هو أن موقعة عين جالوت الخالدة أمنت المسلمين (146) سنة كاملة.

إعطاء الشرعية لدولة المماليك

الأثر الخامس لموقعة عين جالوت: إعطاء شهادة الميلاد الحقيقية لدولة المماليك العظيمة، فقد حملت هذه الدولة العظيمة راية الإسلام لمدة (270) سنة، وقد كانت بداية حكم المماليك منذ سنة (648) هجرية عند ولاية شجرة الدر ، أي: قبل موقعة عين جالوت بعشر سنوات، ثم زوجها الملك المعز عز الدين أيبك المملوكي ، ولكن عين جالوت هي التي أعطت الشرعية أمام جميع المسلمين لدولة المماليك، فقد حقق المماليك في غضون عشر سنوات انتصارين هائلين على أعداء الإسلام:

الانتصار الأول: انتصار المنصورة وفارسكور على جيوش الصليبيين بقيادة لويس التاسع ملك فرنسا.

الانتصار الثاني: انتصار عين جالوت، ولئن كانت القيادة العامة لجيش المسلمين في موقعة المنصورة ثم في موقعة فارسكور قيادة أيوبية، فإن الجيش كان معتمداً في الأساس على المماليك، أما في عين جالوت فالانتصار كان مملوكياً خالصاً، فكانت القيادة مملوكية والجيش مملوكي، ولذلك شعر الجميع أن هؤلاء المماليك هم أقدر الناس على قيادة الأمة، فسلموا لهم.

وهكذا نشأت الدولة المملوكية، وحملت على عاتقها صد هجمات أعداء الله عز وجل من تتار أو صليبيين، وكانت دولة جهادية في معظم فتراتها.

ومع أن دولة المماليك حاولت أن تضفي شرعية على وجودها بصورة أكبر بعد ذلك حين استضافت أبناء بني العباس في القاهرة ابتداءً من سنة (659) هجرية بعد سنة من عين جالوت مباشرة، وفي عهد الظاهر بيبرس رحمه الله، إلا أن دولة المماليك لم تكن تمثل الخلافة الحقيقية للمسلمين؛ لأنها لم تكن في أقصى اتساعها تسيطر إلا على أجزاء محدودة من العالم الإسلامي، فكانت تسيطر على مصر والشام والحجاز واليمن وأجزاء من العراق وأجزاء من ليبيا، وأما بقية العالم الإسلامي فكان موزعاً بين طوائف شتى، ولم يجد المسلمون معنى الخلافة الحقيقية الجامعة لكل المسلمين، إلا بعد قيام الخلافة العثمانية العظيمة التي أعادت جمع المسلمين بعد سنوات من التفرق.

وعلى العموم فدولة المماليك كانت أقوى دول المسلمين في فترة وجودها، وكانت أكثرها جدية، وأعظمها هيبة، ولذلك كثيراً ما يطلق المؤرخون على العهد الذي عاش فيه المماليك العهد المملوكي، متجاهلين بذلك كثيراً من الممالك والدول الصغيرة التي عاشت إلى جوار دولة المماليك.

إذاً: فدولة المماليك ولدت ميلاداً حقيقياً بعد عين جالوت، وحملت راية الإسلام حوالي (270) سنة، إلى أن جاءت الخلافة العثمانية الكبرى، لتحمل راية المسلمين بقوة بعد دولة المماليك.

توحد مصر والشام

الأثر السادس وهو أثر في منتهى الأهمية: عودة الوحدة العظيمة بين مصر والشام، حيث كونت تحالفاً إستراتيجياً صلباً مثّل حاجزَ صدٍ رائع ضد الهجمات الأجنبية، فمصر والشام بما فيها فلسطين يمثلان قلب العالم الإسلامي إستراتيجياً وسياسياً وجغرافياً وثقافياً وتاريخياً، واتحادهما يمثل عامل أمان كبير جداً لكل المنطقة، كما أنه يقلل كثيراً من أطماع الطامعين في العالم الإسلامي، ومعظم أعداء الإسلام يركزون تفكيرهم على منطقة مصر والشام، وذلك لأسباب دينية واقتصادية وعسكرية.. وغيرها، ومن هذا يتضح لنا أنه لا نجاة لهذه المنطقة إلا بوحدة شاملة بين كل الشام، بما فيه سوريا وفلسطين والأردن ولبنان وبين مصر؛ ليكوّنا كياناً واحداً، وهذا هو ما فعلته دولة المماليك الناشئة، وفعله من قبل نور الدين محمود وصلاح الدين الأيوبي رحمهما الله، وفعلته بعد ذلك الخلافة العثمانية القوية، وصدق الله عز وجل إذ يقول في كتابه: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا [آل عمران:103]. وقد شاهدنا في كل لحظات التقدم والتفوق في تاريخ المسلمين الوحدة بين المسلمين، وبالذات بين منطقة مصر والشام.

انتهاء حكم الأيوبيين

الأثر السابع وهو أثر ملحوظ جداً: اختفى معظم الأمراء الأيوبيين، الذين كانوا أقزاماً في ذلك الزمن الذي لا يعيش فيه إلا العمالقة، والذين فرطوا تماماً في حمل الأمانة الثقيلة التي خلفها لهم جدهم العظيم صلاح الدين الأيوبي رحمه الله، ولم يكن لهم من هم إلا الصراع على السلطة وجمع المال وتوريث الأبناء، وعاشوا حياتهم في مؤامرات ومكائد، وداسوا على كل الفضائل والمكارم في صراعاتهم، حتى اشتهر بينهم موالاة النصارى تارة، والتتار تارة أخرى، بل واستعانوا بهم في حرب إخوانهم من المسلمين، وأحياناً في حرب إخوانهم الأشقاء، وظلّ هؤلاء الأقزام يُذيقون شعوبهم الألم والظلم والقهر والخيانة، ويقاومون أي مشروع للوحدة تحت راية واحدة؛ لأن كل واحد منهم يريد الحكم لنفسه، وظلوا يقاومون الحكم المملوكي في مصر سنوات طويلة، ويتعاونون مع الصليبيين لإسقاطه، إلى أن حدثت موقعة عين جالوت الخالدة، فكشفت هذه الزعامات الوهمية الفارغة أمام شعوبها وسقطت، وعرف كل زعيم منهم قدره الحقيقي، ورضي بما يناسب حجمه، فإما أن يرضى بإمارة بسيطة تحت حكم قطز العظيم رحمه الله كما رضي بذلك الأشرف الأيوبي كما فصلنا منذ قليل، وإما أن ينخلع من مكانه ويترك المكان للأقوياء العظماء، فقد حفظت عين جالوت الأمة وحمتها من أعدائها التتار، وحمتها كذلك من شر أبنائها، من أمثال هذه الزعامات الفارغة.

تحرير بلاد الشام من الإمارات الصليبية

الأثر الثامن: وهو في منتهى الأهمية، ويحتاج إلى تفصيل طويل، وسنتكلم عليه إن شاء الله عند الحديث عن الحروب الصليبية في مجموعة أخرى من المحاضرات، وهذا الأثر هو نتيجة الوحدة بين مصر والشام، واختفاء الأمراء الأيوبيين الأقزام من على الساحة، وظهور الدولة المملوكية القوية، والطبيعة الجهادية لدولة المماليك، والنشأة الإسلامية والحمية الدينية والفقه العالي الرفيع لهذه الدولة، حدث أمر هائل عظيم، فقد أخذ المماليك على عاتقهم بعد عين جالوت: مهمة تحرير بلاد الشام وفلسطين من الإمارات الصليبية التي ظلت تحكم هذه المناطق منذ سنة (491) من الهجرة، أي: مدة (166) سنة، وهذه الإمارات الصليبية كانت قد عاشت وتمركزت في هذه المناطق في الشام وفلسطين ولبنان وسوريا وتركيا، ولكن بعد عين جالوت بدأ المسلمون يتفرغون لهذه الإمارات الصليبية، ومع أن عماد الدين زنكي ونور الدين محمود وصلاح الدين الأيوبي رحمهم الله قد بذلوا جميعاً جهوداً مضنية لتحرير هذه المناطق إلا أنه بقي كثير منها لم يحرر، كما فرط أبناؤهم في بعض الولايات المحررة، فتنازلوا عنها من جديد للصليبيين.

ولذلك فبعد عين جالوت وبعد استقرار المماليك في الحكم بدءوا يوجهون جيوشهم الواحد تلو الآخر لتحرير هذه البلاد الإسلامية العظيمة في كل هذه المناطق.

فبدأ الظاهر بيبرس رحمه الله الذي تولى الإمارة بعد قطز رحمه الله منذ سنة (659) من الهجرة يعني: بعد عين جالوت بشهور قليلة في إرسال الحملات الواحدة تلو الأخرى لتحرير هذه الإمارات الصليبية، وبعد جهاد مضن بدأت الإمارات الصليبية في التساقط في أيدي المسلمين في سنة (664) هـ، -يعني: بعد عين جالوت بخمس سنوات، وحرر المسلمون عدة مدن فلسطينية، فقد حرروا قيسارية وحيفا وحصن أرسوف، وفي سنة سنة (665) حررت صفد في الشمال الشرقي لفلسطين، وبينما كان الظاهر بيبرس رحمه الله يحرر هذه البلاد في فلسطين كان سيف الدين قلاوون رحمه الله أحد أعظم قواده يحرر قليقية في تركيا، وهي مدينة من أعظم المدن في تركيا، وهي إمارة صليبية قديمة، وانتصر هناك على قوات الأرمن النصرانية بقيادة الملك هيثوم ، الذي تحالف مع هولاكو في إسقاط بغداد ثم إسقاط الشام، وجمع سيف الدين قلاوون غنائم لا تحصى، وأسر من الصليبيين ونصارى الأرمن أربعين ألفاً.

وفي سنة (665) هجرية، وسنة (666) هجرية حرر الظاهر بيبرس يافا، وفي سنة (667هـ) حررت أنطاكيا وهزم الأمير بوهمند الذي أيضاً كان متحالفاً مع التتار في إسقاط الشام وفي حرب المسلمين هناك، وكانت أنطاكيا أول مملكة صليبية في بلاد المسلمين، فقد احتلت سنة (491) هجرية، وكانت أغنى الإمارات، حتى إن غنائمها من الذهب والفضة كانت توزع على الفاتحين بالمكيال وليس بالعدد من كثرتها، ولم يبق عند وفاة الظاهر بيبرس رحمه الله من المدن الإسلامية المحتلة إلا القليل، مثل عكا، وكانت أقوى المدن المحتلة، وبعض المدن في سوريا ولبنان مثل: صور وصيدا وبيروت وطرطوس واللاذقية في سوريا.

وفي سنة (684) من الهجرة حررت طرابلس، يعني: بعد عين جالوت بست وعشرين سنة على يد السلطان المملوكي المنصور قلاوون .

ثم خلفه بعد ذلك ابنه السلطان العظيم جداً الأشرف خليل بن قلاوون رحمه الله، وهو من أعظم سلاطين المسلمين، وقد أخذ على عاتقه تحرير كل الممالك الصليبية المتبقية، فحررت عكا الحصينة سنة(690) هجرية، يعني: بعد حوالي قرنين كاملين من الاحتلال الصليبي، وبعد فشل كل أمراء المسلمين السابقين على مدى هذين القرنين بتحريرها، وبفتح عكا سقطت أعظم معاقل الصليبيين في الشام، وبعدها بقليل حررت صيدا وصور وبيروت وجبيل وطرطوس واللاذقية، وبذلك انتهى الوجود الصليبي تماماً من الشام بعد اثنين وثلاثين سنة من موقعة عين جالوت، مما يجعل كل هذا التحرير أثراً مباشراً من آثار عين جالوت، فما أعظم تلك الموقعة التي أعزت الإسلام بهذه الصورة العجيبة، وفي غضون سنوات قليلة!

وهناك تفاصيل في غاية الأهمية والروعة في تحرير كل هذه المدن والإمارات، وسنأتي لها إن شاء الله عند الحديث عن الحروب الصليبية في مجموعة خاصة بها بإذن الله.

ارتفاع القيمة العلمية للقاهرة

الأثر التاسع: ارتفاع قيمة مدينة القاهرة العاصمة المصرية بعد انتصار عين جالوت وبعد قيام دولة المماليك، فقد كانت دولة المماليك أعظم دولة في المنطقة في ذلك الزمن، وقد رفع هذا جداً من قيمة مدينة القاهرة، وبالذات بعد التدمير الذي لحق ببغداد سنة (656) من الهجرة، وبعد سقوط قرطبة سنة (636) من الهجرة، فلم يبق من عواصم العلم والقوة والبأس في بلاد المسلمين إلا مدينة القاهرة، إنها أصبحت أعظم هذه المدن، فقد أصبحت قبلة العلماء والأدباء، ونشطت الحركة العلمية جداً فيها، وعظم جداً دور الأزهر، وأصبح ولا يزال بفضل الله من أعظم جامعات العالم الإسلامي، وحمل لواء الدفاع عن الدين، ونشر الدعوة، وحمل لواء الجهر بالحق عند السلاطين والمطالبة بالحقوق، وتزعم الحركات الجهادية القوية ليس في زمان دولة المماليك فقط، بل حتى في الأزمان التي تلتهم كذلك وإلى زماننا، وبذلك توارثت الأجيال في هذه المدينة العريقة القاهرة الدعوة إلى الله عز وجل، وتوارثت الصحوة الإسلامية، وحمل هم المسلمين ليس في مصر وحدها، بل في العالم أجمع.

إسلام الكثير من التتار

الأثر العاشر والأخير وهو من أعجب الآثار وأعظمها: عندما رأى كثير من التتار دين الإسلام عن قرب، وقرءوا عن أصوله وقواعده وتشريعاته، وعلموا آدابه وفضائله، ورأوا أخلاقه ومبادئه، أعجبوا به إعجاباً شديداً، فقد كانوا كعامة البشر يعانون من فراغ ديني هائل، ولم يكن عندهم الياسق، وكان مؤلفاً من مختلف الأديان مع بعض الاختراعات التي عملها جنكيز خان ، فكانوا يعانون من فراغ ديني هائل، وليس هناك تشريع يقترب أو يحاول الاقتراب من دين الإسلام، ومن اهتم به وبحث فيه فلابد أن يرتبط به إن كان صادقاً في بحثه، وباحثاً عن الحقيقة فعلاً.

فبدأ بعض التتار يؤمنون بدين الإسلام، ثم شاء الله عز وجل أن يدخل الإيمان في قلب أحد زعماء القبيلة الذهبية التي هي أحد الفروع الكبيرة جداً في قبائل التتار، وهذا الزعيم هو ابن عم هولاكو مباشرة وأخو باتو قائد التتار المشهور الذي تكلمنا عليه أيام فتح أوروبا، وتلقب هذا الزعيم بعد إسلامه باسم بركة، وتولى زعامة القبيلة الذهبية سنة (652) من الهجرة، يعني: قبل عين جالوت بست سنوات، وكانت المنطقة التي يحكمها تعتبر شبه مستقلة عن دولة التتار، وهي المنطقة الواقعة شمال بحر قزوين، في جنوب الاتحاد السوفييتي، وبدخول هذا الرجل في الإسلام دخلت أعداد كبيرة من قبيلته في الإسلام، وهذا أمر في منتهى الغرابة؛ لأن هذا كان قبل عين جالوت بست سنوات، فمن الغريب جداً أن التتار الأقوياء يدخلون في دين الضعفاء، فالتتار في ذلك الوقت كانوا يتحكمون في رقاب المسلمين، والمسلمون يهزمون في كل مواقعهم، وهي من المرات القليلة جداً في التاريخ أن يدخل الغازي في دين من يغزوه، والقوي في دين الضعيف، ولكن هذا دين الإسلام، الذي يخاطب الفطرة البشرية، وهذا يعزز المسئولية على أكتاف الدعاة أن يصلوا بهذا الدين إلى غيرهم من أهل الأرض جميعاً، فإن من وصل إليه الدين صحيحاً نقياً فإنه يرجى إسلامه بإذن الله مهما كان معادياً للإسلام في بدء حياته.

ثم بعد موقعة عين جالوت تزايد جداً عدد المسلمين في القبيلة الذهبية، حتى أصبح كل أهلها من المسلمين، فقد أثرت فيهم القوة والانتصار، وتحالفوا مع الظاهر بيبرس ضد هولاكو ، ولهم مع هولاكو حروب متكررة طويلة جداً.

والجدير بالذكر في هذا المقام أن نذكر أن هناك بقايا من هذه القبيلة الذهبية ما زالت موجودة إلى الآن، وهي: عبارة عن بعض الإمارات الإسلامية مثل: إمارة قازان ، وإمارة القرم ، وإمارة استراخان ، وإمارة النوغاي ، وإمارة خوارزم، وكل هذه الإمارات ما زالت إلى الآن محتلة من روسيا، ولم تحرر حتى بعد أن تفكك الاتحاد السوفييتي وسقط، ولا يعلم بها أحد.

ونسأل الله عز وجل لها ولسائر بلاد المسلمين التحرر الكامل والسيادة المطلقة على أراضيها.

ولاشك أن هناك آثاراً أخرى كثيرة لهذه الموقعة الخالدة، والأمر بين يدي الباحثين والدارسين لدراستها، فموقعة عين جالوت من أعظم المواقع في تاريخ الأرض.

أسباب النصر في عين جالوت

لا يفوتنا في هذا المقام أن نقف ونتدبر في أسباب هذا النصر العظيم في عين جالوت، وهي وقفة في غاية الأهمية.

تكلمنا بالتفصيل في محاضرة سابقة على خطوات قطز رحمه الله في إعداد الأمة، وفي إعداد الجيش المنتصر، ونعيد في إيجاز شديد بعض الأسباب التي أخذ بها قطز ونجملها في هذا الحديث الآتي:

الإيمان بالله

السبب الأول وهو أعظم الأسباب: الإيمان بالله عز وجل، والاعتقاد الجازم بأن النصر لا يكون إلا من عند الله عز وجل؛ ولذلك اهتم قطز رحمه الله بالناحية الإيمانية عند الجيش والأمة، وعظم جداً دور العلماء، وحفز على حرب التتار من منطلق إسلامي، وليس من منطلق قومي أو عنصري، ولخص ذلك في عين جالوت بكلمته الموفقة: واإسلاماه! ولم يقل: وامصراه! أو واملكاه! أو واعروبتاه! فقد كانت الغاية واضحة جداً عند قطز رحمه الله، وكانت هويته إسلامية تماماً، فوضوح الرؤية ونقاء الهوية كان سبباً مباشراً من أسباب النصر، بل هو أعظمها على الإطلاق. وقد ظهر لنا بوضوح رسوخ هذا الأمر في نفس قطز رحمه الله عندما لجأ إلى الله عز وجل عند الأزمة الخطيرة في عين جالوت، حيث وقف متضرعاً يناجي ربه ويقول: يا الله! انصر عبدك قطز على التتار.

فالدعاء هو العبادة، وهو اعتراف من العبد بعبوديته لله عز وجل، وإعلان صريح من العبد أنه محتاج لرب العالمين.

وكان قطز رحمه الله يدرك في كل خطوة من خطوات إعداده أنه لن يفلح إلا إذا أراد الله عز وجل ذلك، ولابد أن يطلب من الله عز وجل باستمرار وبإلحاح وبخشوع وبتضرع أن ينصر الإسلام والمسلمين، فلم ينسب قطز رحمه الله النصر لنفسه ولو مرة واحدة، بل كان دائماً ينسبه إلى الله عز وجل؛ لأنه يعلم أنه قد طلب النصر من الله عز وجل كثيراً، وأن الله عز وجل قد تفضل وتكرم عليه وعلى المؤمنين بالنصر والتوفيق، فلله تعالى المنة والفضل.

الوحدة بين المسلمين

السبب الثاني وهو أيضاً هام جداً: الوحدة بين المسلمين، فالأمة المتفرقة لا تنصر، وقد حرص قطز رحمه الله منذ اليوم الأول لارتقائه عرش مصر أن يوحد المسلمين قدر ما يستطيع، فقد عفا عن المماليك البحرية وجمعهم مع المماليك المعزية، وراسل ملوك الشام الأيوبيين، وتقرب منهم، وضمهم إلى قواته، مع كونهم قد حاربوه قبل ذلك سنين طويلة، وضم الجنود الشامية والخوارزمية والمتطوعين إلى جيشه بغض النظر عن أصولهم وأعراقهم، ونجح في تحقيق ما كان يعتقد الكثيرون أنه من المستحيل، وهو الوحدة بين المسلمين.

رفع راية الجهاد

السبب الثالث: إذكاء روح الجهاد في الأمة، فقد تيقن قطز رحمه الله أن أهم السبل لاستعادة حقوق المسلمين هو الجهاد، وأنه وإن كان الإسلام دين السلام إلا أنه دين الجهاد والقوة والكرامة والعزة كذلك، وأدرك رحمه الله أن اختيار الحرب أحياناً يكون هو الاختيار الشريف الوحيد.

الأخذ بالأسباب المادية في الجهاد

السبب الرابع: الإعداد الجيد للمعركة، فقد أخذ قطز رحمه الله بكل الأسباب المادية لتقوية جيشه، من إعداد للسلاح، وتدريب للجنود، وترتيب للصفوف، ووضع الخطة المناسبة، واختيار المكان المناسب، وعقد الأحلاف الدبلوماسية المناسبة، وتهيئة الجو على أفضل ما يكون، ويكفي أن نذكر هنا بالصورة الجميلة البهية الرائعة التي كانت عليها جيوش المماليك في عين جالوت، وكأنها تتجه إلى عرض عسكري، وليس إلى معركة ضارية، ومن لم يعد العدة فلا شك أنه واهم، وليس هذا مخالفاً لشرع الله عز وجل، ولا مضاداً بأي صورة من الصور للتوكل على الله عز وجل؛ فالتوكل: هو الأخذ بالأسباب كاملة، واللجوء إلى الله عز وجل لجوءاً كاملاً كذلك.

التربية بالقدوة

السبب الخامس: القدوة التي ضربها قطز رحمه الله لجنوده ولأمته في كل الأعمال، وتربية القدوة أفضل بآلاف المرات من تربية الخطب والمقالات.

وقد كان قطز رحمه الله قدوة في كل شيء، فقد كان قدوة في أخلاقه وفي نظافة يده وفي جهاده وفي إيمانه وفي عفوه، وفي كل شيء.

فلم يشعر الجنود أبداً بأنهم غرباء عن قطز ، فقد نزل رحمه الله بنفسه إلى خندق الجنود وقاتل معهم، فكان حتماً أن يقاتلوا معه.

عدم موالاة الكفار

السبب السادس: عدم موالاة أعداء الأمة، فلم يوال قطز رحمه الله التتار أبداً مع فارق القوة والإعداد بينهما، كما لم يوال أمراء النصارى في الشام أبداً مع احتياجه لذلك، وقد سقط الكثير من الزعماء قبله في مستنقع الموالاة للكفار، وكان منطلقهم في ذلك أن يجنبوا أنفسهم أساساً ثم شعوبهم كما يدَّعون ويلات الحروب، فارتكبوا خطأً شرعياً شنيعاً، بل أخطاءً مركبة، فتجنب الجهاد مع الحاجة إليه خطأ، وتربية الشعب على الخنوع لأعدائه هذا خطأ آخر، وموالاة العدو واعتباره صديقاً خطأ ثالث.

وأما قطز رحمه الله فقد كان واضح الرؤية، وقد تحقق له هذا الوضوح في الرؤية بفضل تمسكه بشرع الله عز وجل، فلم يوال كافراً أبداً على حساب المسلمين.

تقوية الروح المعنوية وبث الأمل في الأمة

السبب السابع: بث روح الأمل في الجيش والأمة. فالأمة المحبطة من المستحيل أن تنتصر، فالإحباط والقنوط واليأس ليست أبداً من صفات المؤمنين، إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الكَافِرُونَ [يوسف:87]، فعمل قطز رحمه الله على رفع الروح المعنوية للجيش وللأمة، ووضح لهم أن نصر الله عز وجل للأمة التي سارت في طريقه عز وجل ليس أمراً محتملاً، بل هو أمر مؤكد يقيني، وهو أمر عقائدي كتبه الله، كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ [المجادلة:21].

الأخذ بالشورى

السبب الثامن من أسباب النصر في عين جالوت: الشورى الحقيقية التي سار على هداها قطز رحمه الله في كل خطواته تقريباً، وأقصد بالشورى الحقيقية الشورى التي تسعى حقيقة للوصول إلى أفضل الآراء، لا التي تسعى إلى تثبيت وتدعيم وتأكيد رأي الزعيم، والشورى أصل من أصول الحكم في الإسلام، وليست أمراً تجميلياً أو تكميلياً، ولا يصلح لأمة تريد النهوض أن تهمل هذا الأمر الأصولي في الإسلام.

إسناد الأمر إلى أهله

السبب التاسع: توسيد الأمر إلى أهله، فقد ولى قطز رحمه الله أولئك الذين يتصفون بصفتين رئيسيتين وهما: الكفاءة، والأمانة، إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ [القصص:26]، أي: القوي في مجال عمله، المتفوق على أقرانه، السابق لهم المتقن لعمله المبدع فيه، والأمين الذي لا يضيع حق الله ولا حق العباد، ولا حق الأمة، ولا حق نفسه، فقد ولى قطز رحمه الله فارس الدين أقطاي الصغير رئاسة الجيش مع كونه من المماليك البحرية، وولى ركن الدين بيبرس على مقدمة جيش المسلمين في عين جالوت، مع كونه منافساً له، وصاحب تاريخ وقوة، وزعيماً للمماليك البحرية، وكذلك ولى رحمه الله أمراء الشام على بلادهم، ولم يول أصحابه وأقاربه، ومن كان على هذه الصورة فلابد أن ينصر، فمن حفظ الأمانة فلابد أن يحفظه رب العالمين سبحانه وتعالى.

الزهد في الدنيا

السبب العاشر وهو من أهم أسباب النصر: الزهد في الدنيا، وما فشل الزعماء الوهميون سواءً في زمان قطز ، أو في زماننا، أو إلى يوم القيامة إلا بغرقهم في الدنيا وانغماسهم فيها، وما ظلموا شعوبهم، ووالوا أعداءهم إلا جرياً وراء المادة وسعياً وراء الدنيا.

وقد رأينا في هذه السلسلة الذين تعلقوا بالدنيا كيف كانت حياتهم وطموحاتهم وأحلامهم، ثم كيف باعوا أنفسهم وشعوبهم وأخلاقهم، بل وعقيدتهم من أجل أغراض رخيصة جداً من أغراض الدنيا، ورأينا كيف عاشوا في ذلة ثم ماتوا في ذلة كذلك، فقد رأينا محمد بن خوارزم ، وجلال الدين بن خوارزم ، والمستعصم بالله ، وبدر الدين لؤلؤ ، والناصر يوسف الأيوبي .. وغيرهم وغيرهم، كل هؤلاء عاشوا في ذلة وماتوا في ذلة.

وأما قطز رحمه الله فقد فطن إلى هذا المرض الذي ابتلي به هؤلاء الضعفاء فزهد فيه وتجنبه، وعلم أن متاع الدنيا مهما زاد فهو قليل، وأن نعيمها مهما كان له بريق فهو زائل ومنقطع، فلذلك لم يفتن بالدنيا لحظة، ولم يطمع فيها قيد أنملة، بل حرص على أن يبيع دنياه كلها، ويشتري الجنة، فترك المال الغزير الذي كان تحت يده، ولم يطمع فيه، وباع ما يملك ليجهز جيوش المسلمين المتجهة لحرب التتار، ولم يطمع في كرسي الحكم, فعرض القيادة على الناصر يوسف الأيوبي على ضحالة قدره إذا قبل بالوحدة بين مصر والشام، ولم يطمع رحمه الله في استقرار عائلي أو اجتماعي أو أمن وأمان، بل كرس حياته للجهاد والقتال على صعوبته وخطورته، بل لم يطمع في طول حياة، فقد خرج بنفسه وهو الشاب الصغير على رأس الجيوش ليحارب التتار في حرب مهلكة، ولا شك أنه كان يعلم أنه سيكون أول المطلوبين للقتل، لكنه كان مشتاقاً بصدق إلى الجهاد، ومتمنياً للموت في سبيل الله، فقد كان زاهداً حقاً في الدنيا، ولم يتردد لحظة، وكانت حياته تطبيقاً عملياً جداً لكل كلماته؛ لذلك أعطاه الله عز وجل الدنيا التي فر منها، وأعطاه الكرسي الذي زهد فيه، وأعطاه الغنائم الهائلة والمال الوفير الذي لم يحرص عليه أبداً، فعاش رحمه الله عزيزاً شريفاً، رافعاً رأسه، معزاً لدينه، محبوباً من شعبه، مرهوباً من أعدائه.

فرحم الله هذا العلم الجليل والقائد الفذ قطز الذي تعلمنا منه وما زلنا نتعلم كيف يعيش المسلم بالقرآن، وكيف تخالط كلمات الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم كل ذرة في كيانه.

ونسأل الله عز وجل أن يصلح آخرته كما أصلح دنياه، وأن يعزه أمام الخلائق يوم العرض الأكبر، كما أعزه في عين جالوت، وأن يكتب اسمه في سجل الصادقين المخلصين المجاهدين، كما كتب اسمه قبل ذلك في سجل الخالدين.

هذه هي أسباب النصر في هذه الموقعة الجليلة.

نسأل الله عز وجل أن ييسر لنا تحقيقها حتى نرى رجلاً أو رجالاً كـقطز ، وحتى ننعم بنصر أو انتصارات كعين جالوت، وما ذلك على الله بعزيز.

كما نسأل الله عز وجل أن يفقهنا في سننه، وأن يجعل لنا في التاريخ عبرة، إنه ولي ذلك والقادر عليه.

فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ [غافر:44].

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , سلسلة التتار عين جالوت في الميزان للشيخ : راغب السرجاني

https://audio.islamweb.net