إسلام ويب

ذكر الله تعالى في سورة التوبة بياناً لأوصاف أهل النفاق بشكل بين واضح، ومن جملة تلك الأوصاف لمزهم رسول الله في الصدقات ورغبتهم في النيل منها بشكل يدفعهم إلى السخط حال منعهم، وإيذاؤهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بقولهم هو أذن، وغير ذلك، كما ذكر تعالى في السورة مصارف الزكاة لعلمه بما يصلح في قسمتها، وبين تعالى فيها فضل السابقين من المهاجرين والأنصار ذاكراً سبحانه أن باب رحمته مفتوح للاحقين.

إيجاز لما سبق تفسيره من آي سورة التوبة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:

فما زلنا نتفيأ دوحة سورة التوبة في التعليق عليها، وقد سبق الحديث عنها أولاً حول مجمل عدد آيها، وأسمائها، وما تعلق بها من موضوعين رئيسيين.

وقلنا: إن هذه السورة هي السورة الوحيدة في القرآن التي لم تصدر بقوله جل وعلا: (بسم الله الرحمن الرحيم)، وذكرنا أن للعلماء في هذه أقوالاً عدة خلصنا منها إلى ثلاثة أقوال، ثم قلنا: إن من أرجح الأقوال فيها أنها نزلت بالسيف، وأن (بسم الله الرحمن الرحيم) تتضمن الرحمة والأمان، وهذان لا يتفقان، وقلنا: إن هذا القول منسوب إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه، وإلى سفيان بن عيينة رحمه الله تعالى.

كما قلنا: إن النبي صلى الله عليه وسلم بعث علي بن أبي طالب رضي الله عنه ليلحق بـأبي بكر الصديق رضي الله عنه في مسيره رضي الله عنه حين جعله أميراً للحج في السنة التاسعة من الهجرة، وقلنا: إن النبي عليه الصلاة والسلام لم يشأ أن يحج في ذلك العام؛ لأن العرب كان بعضهم يطوف عراة، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم علياً بأربعة أمور:

أمره بأن ينادي بأن من كان له مع النبي صلى الله عليه وسلم عهد فعهده إلى مدته، وأنه لا يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة، وأن لا يطوف بالبيت عريان، وأن لا يحج بعد هذا العام مشرك، وأنزل الله جل وعلا قوله: إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا [التوبة:28].

ثم شرعنا في بيان الآية الخامسة منها، وهي آية السيف، وتكلمنا عنها، وشرحنا ما تعلق بها من عام وخاص وفق ما سلف قوله.

تفسير قوله تعالى: (ومنهم من يلمزك في الصدقات...)

تعرية المنافقين بذكر أوصافهم

وفي هذا الدرس -إن شاء الله تعالى- نختار -كالعادة- بعضاً من آيات هذه السورة، وسنقف عند قول الرب تبارك وتعالى: وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ * وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ * إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ.. [التوبة:58-61] إلخ هذه الآية.

ثم سنقف إن شاء الله تعالى عند قوله تبارك وتعالى: وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ [التوبة:100]، وسنقف عند قول الرب تبارك وتعالى: وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ [التوبة:107].

هذه هي مواضيع هذا الدرس، نسأل الله جلت قدرته أن ييسر النفع بها للجميع.

فنقول: إن الله جل وعلا ذكر في هذه السورة المجتمع المدني الذي كان يعم بالأخيار، ولكن لم يكن يخلو من المنافقين، وكان المنافقون مجاورين للنبي صلى الله عليه وسلم في المدينة ممن مردوا على النفاق كما أخبر الله جل وعلا في القرآن، وهذه السورة سميت بسورة الفاضحة؛ لأنها فضحت المنافقين، كما قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ما زال ينزل من هذه السورة: (ومنهم ومنهم ومنهم) حتى خشي المنافقون أن يسموا بأسمائهم، نسأل الله العافية.

وقوله: (منهم) (من) فيه بعضية، وليست بيانية، وستأتي: (من) البيانية، فقول الله تعالى: وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ [التوبة:58] معناه: وبعض من المنافقين يلمزك في الصدقات.

خبر ذي الخويصرة في قسمة غنائم حنين

وأصل الأمر أن النبي صلى الله عليه وسلم في منصرفه من حنين قسم الغنائم، فأعطى أقواماً حديثي عهد بإسلام، وكان بعضهم مشركين، فأعطاهم من الغنائم يتألفهم بها صلوات الله وسلامه عليه، فجاءه رجل يقال له: ذو الخويصرة التميمي ، فقال له: يا رسول الله! اعدل، فقال عليه الصلاة والسلام: (ويحك! من يعدل إن لم أعدل؟!)، فقام إليه عمر فقال: يا رسول الله! ائذن لي أن أضرب عنقه، فقال عليه الصلاة والسلام: (لا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه)، وهذا أخذ بما يسمى في السياسة المعاصرة، باعتبار الرأي العام.

ثم لما ولى قال عليه الصلاة والسلام: (سيخرج من ضئضئ هذا أقوام يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية) فكان هذه أول نبتة تاريخية لمن سمو بعد ذلك بالخوارج الذين خرجوا على علي رضي الله تعالى عنه وأرضاه.

وقد اختلف العلماء في أول فرق الإسلام ظهوراً من أهل البدع، فقال بعضهم: الخوارج، وقال بعضهم: الشيعة، والصواب أنهما متلازمتان في الظهور، وإذا اعتبرنا ذا الخويصرة أصل الخوارج فلا شك في أنهم أقدم تاريخاً؛ لأنهم ظهروا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم.

بيان كشف سرائر المنافقين

قال الله: (وَمِنْهُمْ) أي: من المنافقين، (مَنْ يَلْمِزُكَ) أي: يعيبك وينتقصك، فحين فسد القلب فسد اللسان، وفسد التعبير، قال عثمان رضي الله تعالى عنه: ما أسر أحد سريرة إلا وأظهرها الله على قسمات وجهه أو فلتات لسانه. جعلنا الله وإياكم ممن يسر خيراً.

فهذا الرجل شهد مع النبي صلى الله عليه وسلم معركة حنين، ولكنه كان يسر الشر في قلبه، فلما جاء النبي صلى الله عليه وسلم وهو أمين في السماء، واستأمنه الله جل وعلا على أعظم منزل وهو القرآن، وأخذ عليه الصلاة والسلام يقسم الغنائم بحسب المصلحة العليا للإسلام؛ أتى هذا من بين الناس ليقول له: يا محمد! اعدل. فقال عليه الصلاة والسلام: (ويحك! من يعدل؟! إن لم أعدل).

فهذا الرجل أسر السريرة المريرة في قلبه، وهي سريرة النفاق، وأظهر ما يخفيه، وكان يظهر خلاف ما يبطنه، فلما جاء هذا الموقف لم يصبر، فأظهر السريرة التي في قلبه، وأخذ يعترض على حكم وقسمة نبينا صلى الله عليه وسلم الذي ائتمنه الرب تبارك وتعالى من فوق سبع سماوات، والله جل وعلا يقول: اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ [الأنعام:124].

فالله تبارك وتعالى في هذه الآية يقول لنبيه: وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ [التوبة:58] أي: يعيبك فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ [التوبة:58].

ومن دلالة قبول الإنسان للحق، أو إرادته للهوى أن ينظر في تصرفه حال المنع والعطاء، فمن الناس من يأتي ليسألك وقد بيت الإجابة من قبل، فإن وافقت إجابتك له الإجابة التي يريدها خرج يمدحك بين الناس ويرفعك على أقوام تعلم أنت أنك لا تصل إلى علمهم، وإن قلت له إجابة تخالف هواه وتخالف مراده خرج يقدح فيك ويقول فيك المعايب، ويظهر ما فيك من النقائص؛ لأن إجابتك لم توافق هواه، فهو لا يريد الحق، بل يريد أن يجبرك على أن يوافق هواك أنت هواه هو.

فالله تعالى يقول عن أمثال هؤلاء: وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ [التوبة:58]، فهم لا يريدون نصرة دين، ولا إعلاء كلمة الإسلام، ولا إقامة حق، وإنما يريدون أن يتبعوا أهواءهم، فإن أعطيتهم أثنوا عليك، وقالوا: محمد كذا ومحمد كذا يمدحونه، وإن لم تعطهم أطلقوا لألسنتهم العنان في أن ينتقصوك؛ لأنهم لا يريدون ميزان الحق، وإنما يريدون ما يوافق أهواءهم، وهذه إحدى خصال النفاق أعاذنا الله وإياكم منها.

ونحن هنا نتكلم عن قوم منافقين حقاً، وليس ذلك أمراً نطبقه على غيرهم من المسلمين، فمعاذ الله، بل نتكلم عن قوم وجدوا بأسمائهم وأعيانهم تكلم الله جل وعلا عنهم، فهؤلاء ليسوا مثلاً يضربه الله للناس، وإنما هم قوم حصل منهم هذا الأمر، ووقعت منهم تلك الأفعال، قال تعالى عنهم: وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ [التوبة:58].

ذكر بعض الفروق بين الشيعة والخوارج

وقلنا: إن من ذرية هذا الرجل كانت فرق الخوارج بعد ذلك، والخوارج والشيعة -كما قلنا- فرقتان متلازمتان من حيث الظهور، وعلى وجه الإجمال نذكر بعض المقارنة العلمية المحضة بين الفرقتين فنقول:

فكلتاهما فيهما الغلو، ولكن الخوارج يغالون في الأحكام، والشيعة يغالون في الأشخاص، فالشيعة غلوا في علي وآل البيت حتى أوصلوهم إلى منازل ليست لهم، حتى قال الخميني في كتاب له اسمه (الحكومة الإسلامية): وإن من أصول مذهبنا أن لأئمتنا منزلة لا ينالها ملك مقرب ولا نبي مرسل. يقصد بأئمتهم الأئمة الإثني عشر من آل البيت، وهؤلاء قوم مرضي عنهم صالحون، ولكن هؤلاء غلوا فيهم مغالاة فاحشة.

والخوارج يغالون في الأحكام، فيأتون إلى الحكم فيتشددون فيه على غير فهم وعلى غير علم، وينزلونه جبراً على الناس، هذا الأمر الأول.

الأمر الثاني: أن الخوارج يعتمدون على الصدق والمكاشفة، ولا يضمرون شيئاً، والشيعة يعتمدون على التقية والمواراة والالتفات، والخوارج قوم يظهرون ما عندهم، ولذلك جابهوا الحكام عبر الدهور، فجابهوا علياً ، وجابهوا الأمويين، وجابهوا عبد الملك ، ولا يستترون بشيء، ولكن الشيعة قوم يتحايلون؛ لأنهم قوم يؤمنون بالتقية إلى وقت خروج المهدي الذي يزعمون ويرتقبون خروجه.

فالخوارج يعتمدون على الصدق؛ لأنهم يرون أن مرتكب الكبيرة كافر، فلا يكذبون، في حين أن الشيعة يعتمدون على الكذب؛ لأنهم يعتقدون جواز التقية، فيعتمدون على الكذب، والخوارج لا يرون الكذب أصلاً؛ لأنهم يرون أن مرتكب الكبيرة كافر، فيعتمدون على الصدق، ولذلك كان عمران بن حطان أحد زعماء الخوارج وشعرائهم وأخرج له البخاري في الصحيح، اعماداً على أنه لا يكذب أبداً في كلامه؛ لأنهم يرون أن مرتكب الكبيرة كافر.

والخوارج أشد شجاعة، فهم لا يخافون الموت لا يهابونه عبر التاريخ كله، يقول قطري بن الفجاءة :

أقول لها وقد طارت شعاعا من الأعماق ويحك لن تراعي

فإنك لو سألت بقاء يوم عن الأجل الذي لك لم تطاعي

فصبراً في مجال الموت صبراً فما نيل الخلود بمستطاع

فهذه الأبيات كلها لرجل من أكبر زعماء الخوارج اسمه: قطري بن الفجاءة .

في حين أن الشيعة يرغبون بقاء أنفسهم عبر التاريخ، ويحافظون على سلامة أنفسهم ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً.

تفسير قوله تعالى: (ولو أنهم رضوا ما آتاهم ورسوله من فضله...)

ثم قال الله: وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ [التوبة:59].

يبين الله جل وعلا هنا المنهج الحق في العطاء والمنع، فالإنسان عبد لله، والمؤمن يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، وأن نفساً لن تموت حتى تستكمل رزقها وأجلها، كما قال صلى الله عليه وسلم، فالله جل وعلا يقول: كان الموقف الشرعي لهؤلاء أن يرضوا بما آتاهم الله ورسوله، وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ [التوبة:59] فلو قالوا: حسبنا الله سيؤتينا الله من فضله ورسوله، وعلقوا أنفسهم بالله لكان ذلك خيراً لهم وأهدى سبيلاً. وذكر الرسول هنا لأنه كان حياً، ولا يقال هذا اليوم. وقوله: (إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُون) أي: ينقطعون إلى الله، فلو أنهم انقطعوا إلى الله وسلموا بأمره ورضوا بحكمه جل وعلا وقالوا: (حسبنا الله) لكان خيراً لهم وأعظم وأهدى سبيلاً، وهذا هو الموقف الذي ينبغي على المسلم أن يتبعه في حال الفقر وحال العطاء وحال المنع وحال الأخذ، وحال السراء وحال الضراء، وفي كل حال.

تفسير قوله تعالى: (إنما الصدقات للفقراء والمساكين....)

ثم قال الله: إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ [التوبة:60] هذه آية عارضة داخلة في مجمل بيان الله لأحوال الناس، وإنما كان القول بها قطعاً لأطماع المنافقين في أن يكون لهم حظ من المال. قال الله تعالى: إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [التوبة:60].

(إنما) لغوياً تفيد الحصر، وهي أحد أساليب الحصر في لغة العرب، وأحد أساليب الحصر في القرآن، وقول الرب تبارك وتعالى: (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ) مع ذكر باقي الثمانية دليل على أنه لا يجوز أن تعطى الصدقات لغير هؤلاء الثمانية.

والصدقات هنا المقصود بها الزكاة الشرعية، وليس المقصود بها صدقة التطوع، فالمراد الزكاة التي هي قرينة الصلاة، والتي هي الركن الثالث من أركان الإسلام.

بيان جملة مما دلت عليه الآية

وقد دلت الآية على أمور:

أولاً: حصر أصحاب الزكاة الثمانية.

الأمر الثاني: أن الله جل وعلا تولى تقسيم الزكاة، والله قد خلق النفوس، وهو جل وعلا أعلم بحبها للمال، قال تبارك وتعالى: وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا [الفجر:20]، وقال: وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ [العاديات:8] والخير هنا بمعنى المال، فالمواريث والزكاة حقوق مالية تتعلق بها أنفس الناس، فلم يكل الله تقسيمها إلى أحد، وإنما تولى الرب جل وعلا مصارفها وتقسيمها، قال الله: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ [النساء:11]، وقال: وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ [النساء:12]، فقسم تبارك وتعالى المواريث، وحدد أصناف الزكاة، وجاءت السنة ففصلت ما أجمله القرآن، كل ذلك حتى لا يبقى لأحد مشاحة في حق أحد، ولا يبقى تطلع إلى شيء أكثر مما هو مذكور في القرآن، فعلم الله جل وعلا -وهو أعلم بخلقه- تطلع النفوس إلى الأموال، فحسم الرب تبارك وتعالى تعلق العباد بها فقال جل وعلا: إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ والمذكورون هنا هم الأصناف الثمانية كما هو ظاهر الآية، وقرن الله جل وعلا بين كل صنف وصنف بواو العطف.

وذكر الله جل وعلا أربعة منها باللام، وأربعة بحرف الجر (في)، فقال: (لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ) فهؤلاء مذكورون باللام، وقال: (وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ) ثم أعاد العطف فقال تعالى: (وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ).

ومجمل ما يراد قوله هنا أن اللام تعني التمليك، فيملك الفقير ويملك المسكين ويملك العامل ويملك المؤلف المال، ولا يقال للواحد منهم: نشترط عليك أن تضعه في كذا أو تضعه في كذا، وإنما تعطي الفقير أو المسكين أو العامل أو المؤلف في يده فيقبضه فيدخل في ملكه، وهو حر في أن يفعل به ما يشاء.

أما قول ربنا: (في الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل) فمعناه أنه لا يشترط أن تعطي المال لهم، فمن كان غارماً فإنه يعطي المال للدائن.

ومعنى (وفي الرقاب) أي: العتق كما سيأتي، فيعطى لصاحب الرقبة حتى يعتقها، أو للمكاتب حتى يسدد دين الكتابة كما سيأتي.

فالفرق بين اللام و(في) يختلف اختلافاً جذرياً كما بينا.

وقد ذكر الله الأهم فالأهم؛ والواو لا تفيد الترتيب، ولكن دلت السنة عموماً على أن هناك خصائص في التقديم، فالنبي عليه الصلاة والسلام صعد الصفا وقال: (أبدأ بما بدأ الله به: إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ [البقرة:158])، فقدم الصفا لأن الله قدمها في كتابه، وإلا فالأصل أن الواو في لغة العرب لا تعني الترتيب، ولكن تقديم الله جل وعلا يدل في الغالب على تقديم الأهم فالأهم.

ذكر استحقاق الفقير والمسكين من مال الزكاة

قال الله تعالى: إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ [التوبة:60].

اختلف العلماء في الفرق بين الفقير والمسكين، ولكن الآية تدل على أن الفقير أشد حاجة من المسكين، وهذا الذي نرتضيه، وإن كان في المسألة أكثر من عشرة أقوال.

فالفقير والمسكين شخصان غلبت عليهما المسكنة والحاجة إلى المال، إلا أن أحدهما أشد من الآخر.

ذكر استحقاق العاملين على الزكاة من أموالها

ثم قال جل وعلا: وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا [التوبة:60]، والعاملون هم القائمون على الزكاة من السعاة والجباة والمسئولين الإداريين عن جمع الزكاة، فهؤلاء هم العاملون.

بيان المراد بالمؤلفة قلوبهم

ثم قال جل وعلا: وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ [التوبة:60].

المؤلفة قلوبهم لم يرد في القرآن كله ذكر لهم إلا في آية تقسيم الزكاة، ففي القرآن يذكر مشركون وكفار ومنافقون ومؤمنون ومجاهدون، وأصناف كثيرة تتكرر، ولكن المؤلفة قلوبهم لم يرد في القرآن ذكرهم إلا في آية مصارف الزكاة.

والمؤلفة قلوبهم قد يكونون أهل إيمان وقد يكونون أهل كفر، والجامع بينهما أن في إعطائهم مصلحة الإسلام، فقد يكون المؤلف كافراً فيعطى دفعاً لشره، أو يعطى تأليفاً لقلبه على أن يسلم، أو مسلماً ضعيف الإيمان وله شوكة فيعطى زيادة في إيمانه، أو مسلماً دخل في الإسلام لتوه وله نظراء من الكفار، فإذا أعطيناه طمع نظراؤه من الكفار في الدخول في الإسلام.

واختلف العلماء في سهم المؤلفة قلوبهم هل هو باق أو منسوخ، فقال بعضهم: هو منسوخ؛ لأن الله أعز دينه، وهذا كان في أول الإسلام.

والحق الذي عليه الجمهور والمحققون من العلماء أنه غير منسوخ؛ لأن الأحوال تختلف، والعصور تتباين، فيطبق في كل عصر ما فيه مصلحة المسلمين العليا، وإن أسقطه أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه.

بيان معنى ما تصرف فيه الزكاة من الرقاب

ثم قال جل وعلا: وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ [التوبة:60].

الرقاب تحتمل أمرين: الأمر الأول أن يشتري صاحب الزكاة من زكاة ماله أمة أو عبداً مملوكاً لغيره، ثم يعتقه، كأن يكون عليه زكاة عشرة آلاف ريال، فيذهب إلى بلد فيه رق كموريتانيا فيشتري بعشرة آلاف ريال عبداً أو جارية مملوكة لغيره، ثم يعتقه، فهذا أحد معاني قول ربنا: (وفي الرقاب)، وهو الأظهر.

الأمر الثاني: المكاتب، والمكاتبة غير موجودة في عصرنا، فالمكاتب هو عبد مملوك، فيقول لسيده: سأدفع لك مالاً معيناً أسعى في تحصيله على أن تعتقني، فيوافق السيد، فيأخذ هذا العبد في جمع المال من الناس أو بجهده حتى يحصل ذلك المبلغ الذي يخرج به من ملك سيده، فيصبح حراً.

فإعانة هذا المكاتب تجوز شرعاً، وهي داخلة في قول الله تبارك وتعالى: (وفي الرقاب) عند أكثر العلماء لا كلهم.

وفي عصرنا هذا نسمع كثيراً أن من فك الرقاب أن يذهب إنسان إلى السجن فيجد شخصاً محكوماً عليه بالقصاص، فيعطي ورثة القتيل المطالبين بالمال أكثر من الدية، كأن تكون الدية مائة ألف، فيقول: أنا سأعطيكم مليوناً، ولكن اتركوا هذا.

فهذا النوع من فك الرقاب لا يدخل في الزكاة، فهو عمل خير وفضل وصدقة، ولكنه لا يدخل في مصارف الزكاة، إذ إن عبادة الله تكون بدلالة القرآن لا باللهجة السائرة بين الناس.

فالقرآن أنزل عربياً، ومن يعرف لغة العرب يستطيع أن يتعامل مع القرآن، أما اللهجات الدارجة التي تتغير فلا تحكم بها.

بيان معنى الغرم المستحق به من مال الزكاة

قال الله: وَالْغَارِمِينَ [التوبة:60].

وأصل الغرم في اللغة: اللزوم، كما قال الله تعالى عن جهنم أعاذنا الله وإياكم منها: إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا [الفرقان:65] يعني: لازماً لأصحابه. والغارم هو من عليه الدين، والغريم هو الذي له الدين، ويسمى غريماً لأنه ملازم للمدين، والدين عند العرب وأهل العقل والفضل هم بالليل وذل بالنهار، وقالوا: إن أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه رأى رجلاً متقنعاً -أي: متلثماً- فقال له: أما بلغك أن لقمان الحكيم يقول: إن التقنع تهمة بالليل أو ريبة بالنهار؟! أو قال كلمة نحوها تذم التقنع، فقال الرجل: يا أمير المؤمنين! إن لقمان لم يكن عليه دين.

فهذا كان يتقنع حتى لا يراه أصحاب الدين، ولذلك قال الفقهاء: إن من كان عليه دين وكان يخشى من غرمائه في المسجد تسقط عنه صلاة الجماعة.

والغارم في الشرع قسمان: غارم لنفسه وغارم لغيره، فالغارم لنفسه هو من يستدين لمصلحة نفسه، كمن يريد أن يتزوج، ومن يريد أن يطلب علماً، ومن يريد أن يبني بيتاً، ومن يريد أن يؤثث بيته، فهذا غارم لنفسه.

وأما الغارم لغيره فهو رجل جاء إلى قوم قد صار بينهم شجار واقتتال وفساد في أموال، فأصلح بينهم وتكفل بإصلاح ما أفسدته الخصومة بين الفريقين، فغرم أموالاً، فأخذ يطلبها من الناس، فهذا غارم لغيره وليس غارماً لنفسه.

وكلا الصنفين يعطى من الزكاة، بالقدر الذي يحتاج إليه، وقد قال العلماء: إن الإسلام حث على اجتناب الدين، ومن الدلائل على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يصلي على من عليه دين، حتى فتح الله جل وعلا الفتوح، وأخبر بأن الشهادة -وهي من أعظم القربات-: تكفر الذنوب إلا الدين، وقال: (أخبرني به جبريل آنفاً).

والعلماء يقولون: إن الإنسان إذا كان يستدين ترفاً فلا يعطى من الزكاة، كإنسان راتبه أربعة آلاف ريال، فكونه تكون له سيارة حق من حقوقه، ولا يخرج عن كونه فقيراً، فلو استدان ليشتري سيارة فارهة جداً لا يركبها أمثاله فهذا دين للترف، فمثل هذا لا يعطى من الزكاة.

بيان المراد بصرف الزكاة في سبيل الله

ثم قال الله جل وعلا: وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ [التوبة:60]، و(سبيل الله) كبير كما قال مالك ، واختلف العلماء في كلمة (سبيل الله) على أقوال عدة، والرأي الراجح -فيما أراه- أن المراد بمن في سبيل الله الغزاة المتطوعون المجاهدون في سبيل الله، فهم المقصودون بقول الرب تبارك وتعالى: (وفي سبيل الله).

وقال بعض العلماء: هم طلبة العلم، وقال بعضهم: أهل الحج، وقال بعضهم غير ذلك، ولكن ذلك الذي نرتضيه، والله تعالى أعلم.

بيان المراد بابن السبيل

ثم قال تعالى: وَاِبْنِ السَّبِيلِ [التوبة:60]، وهذا أسلوب عربي، والعرب تنسب الشيء إلى من يلازمه، فيقولون: (ابن السبيل) للمسافر، لأن السبيل هو الطريق، فالله تعالى يقول في سورة الحجر: وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ [الحجر:76]، أي: هذه الديار كائنة على طريق مقيم ثابت، أي: ديار ثمود.

وتقول العرب: بنات الدهر، والمراد: المصائب، كما قال عبد الله بن الزبير رضي الله عنه: (وبنات الدهر يلعبن بكم) يعني أن المصائب تأتي على الفريقين.

ويقولون: بنات أفكاره، أي: آراؤه وشعره ونحو ذلك.

والذي يعنينا أن ابن السبيل هو الرجل الذي انقطعت به السبل -وإن كان غنياً في دياره- حتى أصبح محتاجاً إلى المال، فيعطى بمقدار ما يوصله إلى أهله.

ذكر من تحرم عليهم الزكاة

الكفار والملاحدة

وإذا ذكرنا من يستحق الزكاة فإنه يلزمنا أن نذكر من لا يجوز أبداً أن يعطوا من الزكاة:

فأولهم الكفار والملاحدة وسائر أهل الكفر، فلا يعطون من الزكاة إلا المؤلفة منهم، وهذا ظاهر، إذ كيف تعطي كافراً من زكاة مالك؟!

ولكن يجوز إعطاءه من زكاة التطوع؛ لقول الله: وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا [الإنسان:8] والأسير لا يكون إلا كافراً.

آل النبي من بني هاشم وبني المطلب

وممن لا يعطون من الزكاة: بنو هاشم آل النبي صلى الله عليه وسلم، وقد اختلف العلماء في آل البيت على أقوال، فمنهم من قال: إن آل النبي صلى الله عليه وسلم هم قريش كلها. وهذا بعيد.

وقيل: هم بنو هاشم، وهذا أقوى من الأول.

والراجح أن المقصود بمن لا يعطون الزكاة بنو هاشم بالإضافة إلى بني المطلب.

و هاشم هو ابن عبد مناف ، وعبد مناف قد ترك أربعة من الولد: نوفلاً وعبد شمس وهاشماً والمطلب ، وهاشم كان منه النبي صلى الله عليه وسلم.

ولما حاصرت قريش النبي صلى الله عليه وسلم وبني هاشم في الشعب جاء أبناء المطلب فدخلوا مع النبي صلى الله عليه وسلم، وبقي بنو نوفل وبنو عبد شمس مظاهرين عليهم.

فقال عليه الصلاة والسلام -كما في البخاري -: (إن بني المطلب لم يفارقونا في جاهلية ولا في إسلام، وإنما نحن وهم شيء واحد، وشبك صلى الله عليه وسلم بين أصابعه) وهذا مذهب الشافعي ، وإحدى الروايتين عن الإمام أحمد ، وهو الحق إن شاء الله، فهؤلاء لا يعطون من الزكاة؛ لأنها أوساخ الناس.

واختلف العلماء فيما لو كان موالي بني هاشم من العاملين عليها، فهل يعطون أو لا يعطون.

فقال فريق: يعطون، والأظهر أنهم لا يعطون؛ لحديث أبي رافع -وهو مولى للنبي صلى الله عليه وسلم- أنه جاءه رجل من بني مخزوم، فقال: اذهب معي نسعى في الزكاة حتى نكسب؛ لأن العاملين عليها يأخذون منها، فقال: دعني أستشير النبي صلى الله عليه وسلم، فلما سأله قال عليه الصلاة والسلام: (مولى القوم منهم) فموالي بني هاشم كذلك لا يعطون من الزكاة، وأما صدقة التطوع فمسألة فيها خلاف كثير بين العلماء، والذي يظهر أنهم لا يعطون منها.

أصول المزكي وفروعه

والصنف الثالث ممن لا يعطون من الزكاة: أصول الرجل، وهم آباؤه وإن علو، وأمه فمن فوقها من أمهاتها، فلا يعطي الرجل من الزكاة أباه ولا أمه، وإن قال شيخ الإسلام ابن تيمية : إنهم يعطون، ولكن القول الذي عليه أكثر العلماء أنهم لا يعطون؛ لأنه يجب عليه نفقتهم.

وبعد الأصول الفروع، فلا يجوز للرجل أن يعطي ابنه ولا ابن ابنه، ولا ابن ابنته ولا ابنته، وقد ذكر الله في القرآن الفروع والأصول في آية غير الزكاة، وذكر الحواشي، وهم الإخوان والأخوات، وفيهم نظر، والأرجح -إن شاء الله- أنه يجوز إعطاؤهم من الزكاة؛ لأنه لا تجب نفقتهم في الأصل.

جهات الخير العامة

ومما لا تصرف فيه الزكاة: أعمال الخير المطلقة، فلا يجوز أن يبنى منها مسجد، أو تقام جمعية خيرية وتعنى بتكفين الموتى، وإن كان هذا خيراً، أو تبنى قناطير خيرية، أو تبنى مطاعم أو ما أشبه ذلك من الصدقات العامة، كصدقة إفطار الصائم.

فهذه الجهات لا تصرف فيها الزكاة؛ لأنها ليست المصارف الثمانية، و(إنما) تفيد الحصر.

وأقول: إذا كنت تريد أن تخرج الزكاة الشرعية فأعطها شخصاً بعينه لترتاح، وأما الصدقات العامة فإنها ترجع إليك، فتعطيها أي مؤسسة تطمئن إليها، أما صدقة الفرض فأعطها أخاً لك أو قريباً أو طالباً يدرس في حيك، أو فقيراً في الحي تعرفه، أو أحد جيرانك، فتبرأ ذمتك حين تتأكد من أنها وصلت إليه.

أما صدقة التطوع فتحتاج إلى جهد، كالطعام والكسوة، فصعب أن تقوم بها بمفردك، والجمعيات والمؤسسات الخيرية أقدر منك على إيصالها، ففرق بين الأمرين.

تفسير قوله تعالى: (ومنهم الذين يؤذون النبي....)

قال الله جل وعلا: وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [التوبة:61].

هذه الآية سبب نزولها أن قوماً من أهل النفاق كانوا يتحدثون في مجالسهم الخاصة فيعيبون النبي صلى الله عليه وسلم، فيقول بعضهم لبعض: نخشى أن يصله كلامنا. فيقولون: إن النبي صلى الله عليه وسلم أذن، أي: يصدق كل شيء، فإذا بلغه أننا تكلمنا فإننا سنذهب إليه فنعتذر فسيصدقنا، فكانوا يصفون النبي صلى الله عليه وسلم بالبلاهة، يريدون أن ينتقصوه.

فالله تعالى هنا يدافع عن نبيه ويناصره ويتولاه، ويقول: وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ [التوبة:61]، والأذن: الجارحة المعروفة، والمقصود أن النبي يسمع ويصدق كل ما يقال له حسب زعمهم فقال الله: (قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ) والنبي صلى الله عليه وسلم أرفع مقاماً، وأكمل خلقاً، وأجل سيرة مما افتراه هؤلاء عليه، بل كان عليه الصلاة والسلام يتغافل عما لا يشتهي، ولم يكن فيه إلا الرحمة والخير للناس، كما قال الله عنه: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ [الأنبياء:107].

فقال الله هنا: قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ [التوبة:61] فجاء بالفعل (يؤمن) معدًّى في الأولى بحرف الجر الباء، ومعدًّى في الثانية بحرف الجر اللام، والمقصود هو الفرق في التعدية هنا؛ فقوله جل وعلا: (يؤمن بالله) لبيان أن إيمانه صلى الله عليه وسلم بوجود ربه أمر لا يخالطه فيه شك أي: في وحدانية ربه وإلهيته ووجوده، وأما قوله تعالى: (ويؤمن للمؤمنين) فلبيان أن النبي ليس مسئولاً عن سرائرهم، وإنما يسلم أمرهم لله، فيؤمن بما ظهر منهم ويكل سرائر الناس إلى خالقهم.

ثم قال جل وعلا: وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ [التوبة:61]، ولا شك في أن النبي صلى الله عليه وسلم في بعثته رحمة، وفي هديه رحمة، وفي سيرته رحمة لكل من يقتفي أثره ويتبع سنته.

بيان عظم خطر أذية رسول الله صلى الله عليه وسلم

ثم قال الله: وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [التوبة:61].

إنه إذا كان المسلم مطالباً بأن يؤمن ويحب ويوالي ويناصر رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فما بالك بمن يؤذيه عليه الصلاة والسلام؟! فأذيته عليه الصلاة والسلام وانتقاصه حياً أو ميتاً ولو بمقدار شعرة مع اعتقاد ذلك كفر مخرج من الملة يقتل صاحبه ولو تاب، ويهرق دمه، ولكن يقيمه ولي أمر المسلمين، وأمره إلى الله تبارك وتعالى إن صدق في توبته أو لم يصدق، ولكن لو أظهر صدق التوبة فإنه يقام عليه الحد ويقتل إذا انتقص من نبينا صلى الله عليه وسلم.

وسند العلماء في هذا أنه أخرج أبو داود بسند صحيح من حديث ابن عباس أن رجلاً أعمى كانت له أم ولد تقوم برعايته، وأنجب منها طفلين، وكانت هذه المرأة تحبه رغم أنه أعمى، وكانت شفيقة به رفيقه تقدم له كل شيء، إلا أنها كانت تقع في رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان هذا الأعمى ينهاها فلا تنتهي، فوجدت هذه المرأة ذات مرة مقتولة قد بقر بطنها ولطخ دمها الجدار، فقام صلى الله عليه وسلم خطيباً في الناس، فقال: (أنشد الله رجلاً لي عليه حق ويعلم عن هذا الأمر شيئاً إلا أخبرنا به)، فقام هذا الأعمى من آخر المسجد يقطع الصفوف ويضطرب في مشيته حتى وصل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: يا رسول الله! أنا صاحبها، أنا قتلتها، فتعجب منه صلى الله عليه وسلم وقال: ولم؟ قال: إنها كانت تقع فيك فأنهاها فلا تنتهي، وأزجرها فلا تنزجر، فوقعت فيك البارحة فنهيتها فلم تنته، وزجرتها فلم تنزجر، ثم ذكر قصته أنه قام إلى المعول -والمعول: السيف القصير- فأخذه وأتاها وهو أعمى لا يراها، حتى علم أنه أصاب بطنها، فاتكأ على المعول حتى بقر بطنها وقتلها، فلما أتم حديثه قال صلى الله عليه وسلم: (اشهدوا أن دمها هدر).

فمن هذا الحديث وغيره من الأحاديث أخذ العلماء أنه لا تجوز أبداً أذيته صلوات الله وسلامه عليه.

والذي يعنينا هو أن الله توعد بالعذاب الأليم من يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم.

بيان عظم خطر الغلو في رسول الله صلى الله عليه وسلم

وعلى الناحية الأخرى لا يجوز للمؤمن أن يغلو في تعظيمه صلى الله عليه وسلم، فهو عليه الصلاة والسلام بشر، وليس له من خصائص الإلهية ولا الربوبية شيء، وإن كان أفضل الخلق مقاماً، وأعلاهم منزلة بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم.

وقد نشأت مظاهر هذا الغلو بعد سقوط بغداد على يد هولاكو حيث أصاب الأمة مرحلة من الضعف السياسي والاقتصادي والعلمي والعقدي، حتى ظهر ما يسمى بأدب التصوف أو بأدب المدائح النبوية، فجاء أقوام يبالغون فيه صلى الله عليه وسلم لقلة العلم العقدي، فأنشئت قصائد لا تجوز شرعاً في حقه صلى الله عليه وسلم، منها قصيدة البوصيري المشهورة:

أمن تذكر جيران بذي سلم مزجت دمعاً جرى من مقلة بدم

أم هبت الريح من تلقاء كاظمة وأومض البرق بالظلماء من إضم

وقد سماها: الدرر البهية في مدح خير البرية أو كلمة نحوها، وقد مات في آخر القرن السابع، وأمره إلى الله.

وقال في القصيدة عفا الله عنا وعنه:

يا أكرم الرسل ما لي من ألوذ به سواك عند حلول الحادث العمم

ولا ريب في أن هذا عين الشرك وعين الكفر الذي بعث النبي صلى الله عليه وسلم لهدمه ونقضه، حتى قال الإمام الشوكاني رحمه الله معلقاً على هذا البيت: إنا لله وإنا إليه راجعون، انظر كيف غفل عن الله ولاذ بالنبي صلى الله عليه وسلم، والنبي عبد لله ورسول من رسل الله صلى الله عليه وسلم؟!

فمثل هذا لا يمكن أن يقبل، ولا يجوز ما قاله البوصيري ولا ما قاله أترابه وأقرانه ممن غالوا فيه صلوات الله وسلامه عليه، وهو عليه الصلاة والسلام بما أعطاه الله من المناقب في غنى عما قاله هؤلاء الضعفاء في الإيمان، والجاهلون، فله صلى الله عليه وسلم المقام الرفيع، ولكن لا يجوز لأحد أن يغلو فيه صلوات الله وسلامه عليه.

تفسير قوله تعالى: (والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار...)

قال الله جل وعلا: وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [التوبة:100].

هذه الآية مما يفتح لكل مسلم باب الترغيب في العمل الصالح؛ لأن الله جل وعلا ذكر فيها المهاجرين، وذكر الأنصار، وذكر جل وعلا التابعين لهم بإحسان، وهذا الوصف يدخل فيه كل مؤمن إلى يوم القيامة.

قال جل وعلا: وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ [التوبة:100]، وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم في الصحيح قوله: (أمتي كالمطر لا يدرى خيره أوله أم آخره) والله يقول في الجمعة: وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [الجمعة:3]، فباب الرحمة مفتوح، واللحاق بهؤلاء أمر مقدور عليه، وكان عمر رضي الله تعالى عنه يظن أن هذا محال، وكان يقرأ هذه الآية هكذا: (والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار الذين اتبعوهم بإحسان) فأصبح فيها على قراءة عمر فريقان: الأنصار والمهاجرون، فلما قرأها على زيد -وكان زيد أعلم من عمر بالقرآن- قال: يا أمير المؤمنين! فيها واو. فقال: ليس فيها واو. ثم قال عمر : ادع لي أبياً . يعني: أبي بن كعب ، فصدق أبي قول زيد ، وقرأها: وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ [التوبة:100]، فقال عمر رضي الله عنه: ما كنت أدري أن أحداً سيبلغ مبلغنا، يعني: ما كنت أظن أن الباب مفتوح. ولكن رحمة الله واسعة، وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام: (وددت لو أني رأيت إخواني، فقالوا: يا رسول الله! ألسنا إخوانك؟! قال: بل أنتم أصحابي، ولكن إخواني لم يأتوا بعد)، وهذا داخل فيه كل من اتبع السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار بإحسان.

بيان المراد بالمهاجرين

والمهاجرون: كلمة أطلقت على من هاجر إلى مكة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا هجرة بعد الفتح) يقصد: لا هجرة من مكة، وإلا فالهجرة قائمة إلى الآن، فيترك الإنسان ديار الكفر ويأتي ديار الإسلام.

والذي يعنينا أن هؤلاء المهاجرين هم أعلى الأمة مقاماً؛ لأن الله بدأ بهم، واختلف في معنى (السابقين)، فمنهم من قال: هم من صلوا إلى القبلتين، وفرض تحويل القبلة بعد ستة أو سبعة عشر شهراً من الهجرة إلى المدينة، فمن آمن قبل هذا يكون من السابقين على هذا القول.

وقال آخرون: من شهد بدراً، وهذا أوسع زمناً.

ومنهم من قال: من شهد بيعة الرضوان، وأظنه أرجح وأرحم، فمن شهد بيعة الرضوان في السنة السادسة وكان قد هاجر إلى المدينة قبل هذا الوقت يدخل في قوله تعالى: وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ [التوبة:100].

والمهاجرون رضي الله عنهم وأرضاهم كثر، ومن أشهرهم الخلفاء الأربعة الراشدون.

ثم قال جل وعلا: وَالأَنصَارِ [التوبة:117] والأنصار تسمية شرعية وليست تسمية نسبية، وإنما سمو أنصاراً لأنهم نصروا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإذا أطلقت فإنه يراد بها الأوس والخزرج، والأوس والخزرج رجلان أخوان اسم أحدهما: الأوس بن حارثة واسم الآخر الخزرج بن حارثة ، وحارثة ممن هاجروا من اليمن بعد وقوع السد وسكنوا المدينة، وكانت قبائل اليمن قد تفرقت في مواطن شتى، وسكن منهم الأوس والخزرج المدينة، فإذا قيل: (الأنصار) فإنه ينطلق في أول المقام إلى الأوس والخزرج.

وكان بينهما من النزاع والنفرة قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم ما الله به عليم، فلما بعث صلوات الله وسلامه عليه آخى بينهم وسماهم الأنصار، وقد جاء في الأحاديث الصحاح الكثير من مناقبهم، قال عليه الصلاة والسلام: (لولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار)، وقال: (اللهم ارحم الأنصار وأبناء الأنصار وأبناء أبناء الأنصار) وقال: (إن الناس يكثرون والأنصار يقلون) وأوصاهم بالصبر، وقال لهم: (إنكم ستجدون أثرة بعدي، فاصبروا حتى تلقوني على الحوض) رضي الله عنهم وأرضاهم، وقد قدموا أنفسهم ودورهم ومهجهم وأموالهم من أجل نصرة الله ورسوله.

ومن أشهر الأنصار من الأوس سعد بن معاذ رضي الله تعالى عنه وأرضاه، ومن أشهر الأنصار من الخزرج سعد بن عبادة وحسان بن ثابت رضي الله تعالى عنهما، وبنو عمر بن عوف الذين نزل النبي صلى الله عليه وسلم في دارهم في أول مقدمه المدينة بعد هجرته.

بيان سعة رحمة الله وفضله على عباده اللاحقين

ثم قال الله: وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ [التوبة:100]، وهذا القيد لابد منه؛ لأن الله لما قال: (وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ) أطلق ولم يذكر قيداً، ولكن حين قال: (وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ) جاء جل وعلا بقيد، وهو (بِإِحْسَانٍ)، والإحسان: الإتقان، والمعنى: أن ينظر في صنيعهم، فالمقصود أن هؤلاء المهاجرين والأنصار وقع منهم هفوات وزلات وأخطاء، فلا يجوز أن نتبعهم فيها، وإنما المقصود اتباعهم فيما أصابوا فيه من الاعتقادات والأقوال والأعمال.

بيان عظم جزاء الصالحين من السابقين واللاحقين

قال تعالى: رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ [التوبة:100]، ولا يوجد نعمة أعظم من رضوان الله، قال الله في كتابه: وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ [التوبة:72]، والمعنى: ورضوان من الله أكبر من كل نعمة، أي: لا يعدل رضوان الله جل وعلا شيء، ودليل ذلك أن الله جل وعلا يخاطب أهل الجنة آخر الأمر فيقول: (أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبداً)، فلا يعدل رضوان الله شيء، بلغنا الله وإياكم رضوانه.

قال الله تعالى: وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا [التوبة:100] هذه هي قراءة الأكثرين، وقراءة أهل المدينة على قراءة ابن كثير : (تجري من تحتها الأنهار) بزيادة (من)، والذي عليه الأكثرون بغير حرف الجر، ولا تختلف القراءات في المعنى كثيراً.

قال تعالى: وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [التوبة:100].

والمقصود من هذه الآية هو أنه كان الكلام عن أهل النفاق ثم أردف بالكلام عن أهل الفضل، فكما أمرنا الله بأن نجتنب أحوال أهل النفاق أمرنا الله بأن نتبع أحوال أهل السبق من المهاجرين والأنصار رضي الله عنهم وأرضاهم، وأن نقتفي سيرهم ونلتمس هديهم، ونتتبع آثارهم ونكون كما كانوا.

تفسير قوله تعالى: (والذين اتخذوا مسجداً ضراراً...)

يقول الرب تبارك وتعالى: وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * لا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ [التوبة:107-108]، لقد نزل النبي عليه الصلاة والسلام أول ما نزل المدينة في قباء عند المسجد المؤسس اليوم، وكانت هناك دار لرجل يقال له: كلثوم بن الهدم أحد الخزرج من بني عمرو بن عوف، فنزلها حين دخل المدينة يوم الإثنين، فمكث فيها الاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس، وفي يوم الجمعة قبل الزوال خرج من دار كلثوم بن الهدم حتى وصل إلى مكان المسجد المسمى الآن مسجد الجمعة وصلى فيه، ثم أتى مسجده الموجود الآن فأناخ الراحلة، وكان قد أسس صلى الله عليه وسلم مسجد قباء، ولكنه لم يبنه، وإنما بناه بنو عمرو بن عوف بعد ذلك، وكان لبني عمرو بن عوف جيران من الخزرج نشأوا على الشرك والضلالة، وأكثرهم منافقون، فبنوا مسجداً ضراراً ينازع هذا المسجد؛ لأن هذا المسجد كان يغص بالمصلين، فتجتمع الكلمة وتتآلف القلوب ويتوحد الصف، فبنوا ذلك المسجد وزعموا أنهم بنوه لذي العلة ولليلة المطيرة ولليلة الشاتية، وللحاجة، وقالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: إننا بنينا مسجداً ونريد أن تأتي وتصلي فيه كما صليت في مسجد قباء لإخواننا من بني عمرو بن عوف، فاعتذر النبي صلى الله عليه وسلم لأنه كان على شغل، حيث كان على جناحي سفر ذاهباً إلى تبوك، فلما قدم من تبوك أوحى الله جل وعلا إليه بقوله: وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا [التوبة:107]، فانتدب صلى الله عليه وسلم نفراً من الصحابة منهم رجل يقال له: مالك ، ومنهم وحشي قاتل حمزة في أربعة ليحرقوا ذلك المسجد ويهدموه، فأتوا المسجد وأخرج مالك من بيته شعلة نار وأحرق المسجد وهدمه، ثم أمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن يكون مكان المسجد مكاناً كناسة، أي: توضع فيه القمامات وفضلات الناس نكالاً بهم.

هذا هو مسجد الضرار الذي قال الله فيه: وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا [التوبة:107]، والضرار: المنازعة، والذي يدفع إليه هو الحسد، وَكُفْرًا [التوبة:107] لأنهم أرادوا بذلك زيادة النفاق الذي في قلوبهم وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ [التوبة:107] تدل الآية على أن كل عمل يراد به تفريق الناس أمر محرم شرعاً يؤدي إلى الكفر ولو كان في المسجد، فلا يوجد مصلحة في الدين أعظم من اجتماع كلمة الناس، وكل من حمل لواءً يريد فيه أن يفرق بين المسلمين فإنه يجب نبذه وتركه ولو تستر بألف ستار، فهذا مسجد كان بالإمكان أن يأمر النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة أن يأتوه ويغيروه ويحولوه، ولكنه أسس على باطل، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بهدمه وإحراقه.

بيان حكم الظهور في القنوات التلفزيونية

ومن هنا نقول والله أعلم: إن القنوات المعاصرة اليوم إن أسست على باطل لا نرى جواز الظهور فيها، ولو ظن من يظهر فيها أن هناك مصلحة، أما إذا أسست على حق فإنه يجوز الظهور فيها وإن خالطها شيء من الحرمة.

فإذا جاء إنسان قد أسس قناة تبث أفلاماً، ثم قال للشيخ والشيخ والشيخ نحن نريد منكم دروساً في هذه القناة، فإنا نقول -والله تعالى أعلم-: إنه لا يجوز شرعاً الظهور في مثل هذه القناة؛ لأن هذا تقرير لصحة ما بنت عليه القناة أمرها.

أما إذا وجدت قناة إسلامية فإنه يجوز الظهور فيها، كالمجد مثلاً، ونحن لا نمدح المجد لمصلحة، وإنما نمدح قناة المجد لأنها المنارة الوحيدة الموجودة الآن التي تبث الإسلام كما يريد فيما نعلم، ويضاف إليها قناة الفجر، وهناك قنوات رسمية لبعض الدول لم تؤسس على حق ولا على باطل، بل لمصلحة، فهذه يجوز الظهور فيها لتوسطها.

ولا يعقل أن تأتي قناة تبث فلماً إباحياً أو فلماً يكاد يقرب من دوافع الفحشاء ثم يؤتى فيها برجل يحدث، ثم ينتهي هذا الرجل ويؤتى بفلم آخر على نفس المنوال، فهذا عبث، ومثاله في الواقع كرجل أراد أن يعمل حفلة فرح، فجاء براقصات ومغنين عراة، فجاء ناس ينكرون عليه فقالوا: هذا حرام لا يجوز، فقال: ليست هناك مشكلة، فهذا الفرح من الساعة التاسعة العاشرة، ومن إحدى عشرة إلى الواحدة أسمح لكم بأن تأتوا على نفس المسرح لتلقوا أي حديث فهل يجوز لرجل أن يأتي هذا المكان ويلقي هذا الحديث ويخرج وهو يعلم يقيناً أن قبله محرم وبعده محرم؟!

والجواب: لا، لا يمكن؛ لأنك أنت إذا فعلت فقد جعلت الناس يكثرون ويأتون.

وهنا مسألة مهمة، وهي أنه لا يعني ذلك أن من ظهر من علمائنا وفضلائنا في مثل هذه القنوات يتهم بشيء، فنحن نقول ما ندين الله به، فما نراه حقاً قد يكون خطأ عند غيرنا، وما نراه خطأ قد يكون صواباً عند غيرنا، فنحن نبين الحكم على ما نرتضيه، ولكن لا يجوز لنا ولا لغيرنا أن نقدح في أحد من علماء المسلمين رأى أنه توجد مصلحة في الخروج في تلك القنوات، فأنا أقول ما أدين الله به في هذه الآية: وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا [التوبة:107]، فهذا مسجد بني وسقف ووجد، وكان له إمام، فلو كان شيء أسس على باطل يمكن قلبه إلى حق لكان هذا المسجد، حيث كان صلى الله عليه وسلم سيرسل أبي بن كعب إماماً له وتنتهي القضية.

بيان معنى قوله تعالى (وإرصاداً لمن حارب الله ورسوله)

ثم قال تعالى: وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ [التوبة:107]، الإرصاد: التربص والترقب، وكان هناك رجل يقال له: أبو عامر الفاسق ، وكان يقال له في الجاهلية: أبو عامر الراهب ، وقد قال للنبي صلى الله عليه وسلم بعد أحد: لا أجد قوماً يقاتلونك إلا قاتلتك، فقاتله حتى مع هوازن يوم حنين، ثم خرج إلى قيصر وقال للمنافقين الذين في المدينة: ابنو المسجد وترقبوا عودتي من قيصر بالجنود حتى نخرج محمداً وأصحابه منها، فهذا معنى قول الله: وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ [التوبة:107]، والمقصود هو أبو عامر الراهب ، وهو والد حنظلة بن أبي عامر غسيل الملائكة، فسبحان من يخرج الحي من الميت، وليس هناك حياة أعظم من حياة الإيمان، ولا موت أعظم من موت الكفر.

ثم قال تعالى: وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى [التوبة:107]، ولا يوجد إنسان يريد أن يضل الناس فيقول لهم: أنا أريد أن أضلكم، فالله يقول: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ [البقرة:11]، وهنا قال تعالى: وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ [التوبة:107]، فقال الله لنبيه: لا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا [التوبة:108] فأحرقه صلى الله عليه وسلم.

تفسير قوله تعالى: (لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه...)

ثم قال له: لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى [التوبة:108]، وهو مسجد قباء على الصحيح مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ [التوبة:108] أي: من أول يوم حضرت فيه المدينة أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ [التوبة:108].

وإذا كان مسجد قباء الذي أسسه النبي صلى الله عليه وسلم جاء فيه هذا الفضل مع أنه لم يزد على أن أسسه، فكيف بمسجده الذي أسسه وشارك في بنيانه؟! فإذا ورد ذلك الفضل في حق ما أسسه فمن باب أولى أن يكون المسجد النبوي أعظم؛ لأنه أسسه وشارك صلى الله عليه وسلم في بنائه.

وقوله تعالى: أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ [التوبة:108] المراد بالقيام هنا: الصلاة، فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ [التوبة:108].

تفسير قوله تعالى: (أفمن أسس بنيانه على تقوى من الله ورضوان...)

ثم ذكر الله قاعدة: أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [التوبة:109]، قال العلامة ابن سعدي رحمه الله: إن المعصية تؤثر في المكان كما تؤثر فيه الطاعة، فذلك المسجد لما بناه قوم عصاة خرج عن كونه مسجداً، ومسجد قباء لما صلى فيه قوم طائعون مصلحون ازداد نوراً على نور.

هذا ما أردنا بيانه على وجه الإجمال في وقفاتنا مع سورة التوبة، وفقنا الله وإياكم لما يحب ويرضى، وألبسنا الله وإياكم لباسي العافية والتقوى، وصلى الله على محمد وعلى آله.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , سلسلة تأملات قرآنية تأملات في سورة التوبة [2] للشيخ : صالح بن عواد المغامسي

https://audio.islamweb.net