اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم للشيخ : صالح بن عواد المغامسي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
فإن الإنسان إذا أدرك يقيناً أنه عبد لربه تبارك وتعالى، وابن عبد وابن أمة، انتصب لما أمره الله جلّ وعلا به, وأذعن لما بلغه الله جل وعلا إياه على ألسنة رسله.
وإن مما أفائه الله علينا -معشر المسلمين- أن جعلنا الله جل وعلا حظاً لهذا النبي عليه الصلاة والسلام من الأمم، كما جعله حظنا من النبيين.
وهو عليه الصلاة والسلام بشارة أخيه عيسى، ودعوة أبيه إبراهيم من قبل، ورؤيا أمه التي رأت قبل أن تضعه أن نوراً خرج منها أضاءت له بصرى من أرض الشام، صلوات الله وسلامه عليه.
والحديث عنه ليس كالحديث عن كل أحد من الخلق، وإن كان صلى الله عليه وسلم من جملة الخلق: (إنما أنا عبد فقولوا: عبد الله ورسوله) .
فلا نتعدى به ما وضعه الله جل وعلا فيه من المقام الرفيع والمنزلة الجليلة, إلا أن من رحمة الله جل وعلا بنا، وفيئه علينا تبارك وتعالى أن جعلنا من أمته، نسأل الله الثبات على ذلك حتى الممات، وأن يحشرنا جل وعلا يوم القيامة في زمرته.
نسمع المؤذن كثيراً يقول: أشهد أن محمداً رسول الله, فتتعلق قلوبنا وتهفو أفئدتنا إلى ذلك المعنى الجميل الذي ينطوي تحت هذه الشهادة المباركة، وإن أعظم ما يفيء إلينا أن الإنسان يتمنى لو قدر له لو رأى النبي صلى الله عليه وسلم.
ومعلوم أن هذا أمر قد مضى قدراً بقدر الله جل وعلا ورحمته، ونحن دائماً وأبداً مؤمنون مذعنون لقضاء الله جل وعلا وقدره, فإن كان قد فاتنا شرف الصحبة فقد بقي لنا شرف الإتباع.
أقول: إن قول المؤذن: (أشهد أن محمداً رسول الله) يضع المؤمن أمام تاريخ مجيد، وشخصية فريدة، وعبد وأي عبد أثنى الله عليه في الملأ الأعلى، بل جعله الله جل وعلا أمنة لأهل الأرض من العذاب, قال الله جل وعلا عن طغاة الأرض يومئذ وهم كفار قريش: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ [الأنفال:33] صلوات الله وسلامه عليه, مع أن تعذيب الأمم السابقة سنة ماضية لم تتغير إلا بعد مبعثه صلوات الله وسلامه عليه.
كما أنه عليه الصلاة والسلام عرج به ربه بواسطة جبريل إلى الملأ الأعلى والمحل الأسنى, وتجاوز مقاماً يسمع فيه صريف الأقلام, كل ذلك من احتفاء الله وإظهاره كرامة هذا النبي.
ولقد قال الله تعالى على لسان الخليل إبراهيم مثنياً على مقامه عند الله: إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا [مريم:47] .
فكيف الاحتفاء بمحمد صلى الله عليه وسلم، وإن كان خليل الله إبراهيم لا يبعد كثيراً عن منزلة نبينا صلوات الله وسلامه عليه!
الذي دفعنا إلى هذا القول: أن هذه الواقعة التي وقعت التي سنتحدث عنها تفصيلاً بعد تجاوز المسألة الإيمانية، أقول: قد يشتاق كل مؤمن لو نال شرف الصحبة.
ولهذا أستأذنكم وأستأذن من يرانا ويسمعنا في نقل ما وصفه به أصحابه -رضي الله عنهم وأرضاهم- الذين منَّ الله عليهم برؤية هذا النبي الحبيب الشفيع صلوات الله وسلامه عليه, وجملة ما قالوه:
أنه كان عليه الصلاة والسلام سبط الشعر، بمعنى: أن شعره لم يكن مسترسلاً ولم يكن ناعماً, كما أنه صلى الله عليه وسلم كان أقنى الأنف أجلى الجبهة, في جبينه أو في جبهته صلى الله عليه وسلم عرق يدره الغضب, إذا غضب في ذات الله امتلأ هذا العرق دماً.
وكان أزج الحواجب في غير قرن, أشم الأنف, طويل أشفار العينين, ضليع الفم أي: كبير الفم, مهذب الأسنان, كث اللحية, الشيب فيه ندرة صلوات الله وسلامه عليه، وأكثر شيبه في صدغيه الأيمن والأيسر، وأكثر شيبه أسفل شفته السفلى في عنفقته صلوات الله وسلامه عليه, عريض المنكبين كأن عنقه إبريق فضة, من وهدة نحره عليه الصلاة والسلام إلى أسفل سرته شعر ممتد، ليس في بطنه ولا صدره شعر غيره.
جاء الرواة بنعته بقولهم: دقيق المسربة، إذا أشار أشار بيده كلها, وإذا تعجب من شيء قلب كفيه وقال: سبحان الله.
وعند البخاري في الأدب المفرد بسند صحيح: (أنه كان إذا تعجب من شيء عض على شفتيه) صلوات الله وسلامه عليه, من رآه من بعيد هابه، ومن رآه من قريب أحبه, يقول علي رضي الله عنه: لم أر قبله ولا بعده أفضل منه صلوات الله وسلامه عليه.
ونحن على ما قال علي رضي الله عنه من المصدقين المؤمنين.
فما حملت من ناقة فوق رحلهاأبر وأوفى ذمة من محمد.
ضخم الكراديس -أي: عظام المفاصل- إذا مشى يمشي يتكفأ تكفؤاً كأنه يتكئ على أمشاط قدميه أكثر مما يتكئ على كعبيه.
عاش عليه الصلاة والسلام ثلاثة وستين عاماً، أربعون عاماً منها قبل أن ينبأ, ثم نبئ بـ اقْرَأْ [العلق:1] وأرسل بالمدثر, وتوفي على رأس ثلاث وستين سنة من عمره الشريف الطاهر صلوات الله وسلامه عليه.
عاش منها ثلاثة عشر عاماً نبياً ورسولاً في مكة, يدعو إلى الله ويجاهد في الله حق جهاده.
وضع على ظهره عليه الصلاة والسلام وهو ساجد سلا الجزور، ومع ذلك بقي ساجداً حتى علمت فاطمة فحملت سلا الجزور عن أبيها، وهو عند الله في المنزلة العالية، والدرجة الرفيعة، والمقام الجليل صلوات الله وسلامه عليه.
أنزل الله عليه القرآن منجماً في ثلاثة وعشرين عاماً.
لم يخاطبه الله جل وعلا في القرآن كله باسمه الصريح.
فليس في القرآن: يا محمد، ولكن: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ [الأنفال:64] , يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ [المائدة:41] كل ذلك من دلائل مقامه وجلال شرفه وعلو منزلته عند ربه تبارك وتعالى.
عرج به كما بينا إلى سدرة المنتهى، ثم عاد صلوات الله وسلامه عليه في نفس الليلة، ثم هاجر إلى المدينة فمكن الله له هناك وأقام دولة الإسلام.
مكث في المدينة عشر سنين جاهد في الله تبارك وتعالى حق جهاده.
شج رأسه يوم أحد وسال الدم على وجهه, وكسرت رباعيته وينظر إلى قريش ويقول: (كيف يفلح قوم شجوا رأس نبيهم وهو يدعوهم إلى الله).
في العام العاشر أذن في الناس أنه عليه الصلاة والسلام عازم على الحج، فأم المدينة خلق كثير كلهم يريد أن يأتم برسول الله صلى الله عليه وسلم في حجته.
فأنزل الله عليه في يوم عرفة: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا [المائدة:3] فعلم أن الأجل قد قاربه, فأخذ يودع الناس ويقول: (لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا) .
ثم رجع إلى المدينة بعد أن أكمل نسكه وأتم حجه.
وفي أوائل شهر ربيع الأول من ذلك العام أصيب صلى الله عليه وسلم بصداع ودخل على عائشة رضي الله عنها وهي تقول: (وارأساه! فقال: بل أنا وارأساه) .
ثم أخذ يشكو المرض حتى حانت ساعة الوفاة في يوم الإثنين من شهر ربيع.
دخل عليه أسامة بن زيد يسأله أن يدعو له، فرفع يديه يدعو دون أن يظهر صوتاً، وهو سيد الفصحاء وإمام البلغاء.
ثم دخل عليه عبد الرحمن بن أبي بكر في الساعات الأخيرة وفي يد عبد الرحمن سواك فأخذ يحدق النظر في السواك كأنه يريده، ففهمت عائشة الصديقة بنت الصديق مراد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخذت السواك وقضمته وطيبته وأعطته نبي الله عليه الصلاة والسلام، فاستاك في الساعات الأخيرة قبل أن تفيض روحه إلى ربه تبارك وتعالى، ثم جاءه الملك يخيره فسمعته عائشة رضي الله عنها وهو يقول: (بل الرفيق الأعلى، بل الرفيق الأعلى) قالها ثلاثاً.
ثم مالت يده وفاضت روحه إلى أعلى عليين في المحل الأسنى والملكوت الأعلى صلوات الله وسلامه عليه.
هذه على وجه الإجمال -أيها الإخوة والأخوات المباركون- سيرة نبيكم صلى الله عليه وسلم، ونبذة عن نفسه مما علق قلوبنا بحبه بعد حب الله تبارك وتعالى.
فنحن نحبه لأن الله اختاره واصطفاه واجتباه، والله جل وعلا يقول: وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ [القصص:68] .
فهو عليه الصلاة والسلام رسول رب العالمين ونبي الأميين، وأفضل أهل الأرض وأفضل أهل السماء.
قال شوقي ونعم ما قال:
ريم على القاع بين البان والعلم أحل سفك دمي في الأشهر الحرم
رَمى القَضاءُ بِعَينَي جُؤذَرٍ أَسَدًا يا ساكِنَ القاعِ أَدرِك ساكِنَ الأَجَمِ
لَمّا رَنا حَدَّثَتني النَفسُ قائِلَةً يا وَيحَ جَنبِكَ بِالسَهمِ المُصيبِ رُمي
جَحَدتُها وَكَتَمتُ السَهمَ في كَبِدي جُرحُ الأَحِبَّةِ عِندي غَيرُ ذي أَلَمِ
يا لائِمي في هَواهُ وَالهَوى قَدَرٌ لَو شَفَّكَ الوَجدُ لَم تَعذِل وَلَم تَلُمِ
إلى أن قال :
يا أَفصَحَ الناطِقينَ الضادَ قاطِبَةً حَديثُكَ الشَهدُ عِندَ الذائِقِ الفَهِمِ
اللهُ قَسَّمَ بَينَ الخلق رِزقَهُمُ وَأَنتَ خُيِّرتَ في الأَرزاقِ وَالقِسَمِ
إِن قُلتَ في الأَمرِ لا أَو قُلتَ فيهِ نَعَم فَخيرَةُ اللهِ في لا مِنكَ أَو نَعَمِ
أَخوكَ عيسى دَعا مَيتًا فَقامَ لَهُ وَأَنتَ أَحيَيتَ أَجيالاً مِنَ الرمم
جاءَ النبِيّونَ بِالآياتِ فَاِنصَرَمَتْ وَجِئتَنا بِحَكيمٍ غَيرِ مُنصَرِمِ
آياتُهُ كُلَّما طالَ المَدى جُدُدٌ يَزينُهُنَّ جَلالُ العِتقِ وَالقِدَمِ
أَسرى بِكَ اللَهُ لَيلاً إِذ مَلائِكُهُ وَالرُسلُ في المَسجِدِ الأَقصى عَلى قَدَمِ
لَمّا رأوك بِهِ اِلتَفّوا بِسَيِّدِهِمْ كَالشُهبِ بِالبَدرِ أَو كَالجُندِ بِالعَلَمِ
صَلّى وَراءَكَ مِنهُمْ كُلُّ ذي خَطَرٍ وَمَن يَفُز بِحَبيبِ اللهِ يَأتَمِمِ
جُبتَ السَماواتِ أَو ما فَوقَهُنَّ بِهِمْ دجى عَلى مُنَوَّرَةٍ دُرِّيَّةِ اللُجُمِ
رَكوبَةً لَكَ مِن عِزٍّ وَمِن شَرَفٍ لا في الجِيادِ وَلا في الأَينُقِ الرُسُمِ
حَتّى بَلَغتَ سَماءً لا يُطارُ لَها عَلى جَناحٍ وَلا يُسعى عَلى قَدَمِ
مَشيئَةُ الخالِقِ الباري وَصَنعَتُهُ وَقُدرَةُ اللهِ فَوقَ الشَكِّ وَالتُهَمِ
هذا على وجه الإجمال نبي الرب الكبير المتعال, صلوات الله وسلامه عليه.
أسأل الله أن يثبتنا في الدنيا على دينه وسنته، وأن يحشرنا يوم القيامة في زمرته.
هنا وقد ألمحتم في بداية حديثكم إلى أننا نود تحرير مسألة الاستهزاء تحريراً علمياً.
الشيخ: استهزاء أهل الرذيلة بأهل الفضيلة سنة ماضية، قال الله تعالى عن أول رسله نوح : فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ [القمر:9] .
وقال تعالى في آية أشمل: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ [الفرقان:31] .
فهذه سنة ماضية لله تبارك وتعالى في خلقه، ونبينا صلى الله عليه وسلم في الذروة من أهل الفضل، وما وقع أخيراً من الصحافة الدنماركية على وجه التحديد وغيرها من الصحف حتى في النرويج من سخرية واستهزاء بنبينا صلى الله عليه وسلم إنما هم في الحقيقة ينبئون عما في قلوبهم.
ولكن تحرير المسألة علمياً:
الأصل في هذه المسألة أن هذا الأمر ينطلق من أصلين:
الأصل الأول: فردي، وهذا يختلف الناس فيه، وهو قضية الحقد على النبي صلى الله عليه وسلم.
وهذا الحقد قد يوجد في يهودي، يوجد في نصراني، يوجد في من لا دين له، وقد لا توجد عداوة فردية شخصية, حتى نقل أن بعض اليهود الدنمارك أنكروا على الصحيفة سخريتها بالنبي صلى الله عليه وسلم, والله تعالى يقول: وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ [آل عمران:75] فالإنصاف قد يوجد عند غير المسلمين.
الأصل الثاني وهو موضوع الكلام هنا: أنهم ربما التبس عليهم القتل وسفك الدماء الذي يحصل أحياناً ونسبته إلى الإسلام، أو بتعبير أصح: عدم فقه الغربيين لمفهوم الجهاد والقتال في الإسلام.
وهذه القضية قديمة جداً، حتى إن بعض الكتاب كـتوماس أورليد أو غيره كانوا يقارنون بين ما في القرآن الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من ربه من أوامر بالقتال، وما في الإنجيل الذي أنزل على عيسى, ويقولون: انظروا إلى الفارق بين من يدعو إلى سفك الدماء ومن يأمر الناس بالرحمة، يقصدون عيسى؟!
وهذا أصل القضية قديماً، لكنها أخذت حيزاً أكبر في عصرنا.
تحرير المسألة أن يقال: إن الله عز وجل بعث نبيه بأمرين: بعثه بالسيف والعدل.
من سنن الله التي لا تتبدل أنه ليس كل أحد يمكن أن يأتي بلين القول، ولا يجادل في هذا عاقل, فحتى هؤلاء الذين يسخرون من نبينا صلى الله عليه وسلم ويتهمونه بأنه جاء بالقتال لو أتى شخص ليداهم منازلهم الخاصة فلا بد أن يردوه بشيء من القوة, فالقوة في الشرع الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم إنما شرعت لحفظ المسألة الكبرى وهي مسألة التوحيد التي بعث الله بها نبيه رحمة للعالمين.
فمن رحمة الله جل وعلا بخلقه أن الأنبياء جاءوا بتوحيد الله جل وعلا, وهذا أعظم رحمة لهم؛ لأن ضد ذلك أن يشرك بالله، وهذا أعظم الظلم وأعظم طرائق الخسران والوبال.
هذه قضية السيف، فالسيف في الإسلام ليس منفكاً عن العدل:
واترك رعمسيس إن الملك مظهره في نهضة العدل لا في نهضة الهرم
فالمقصود في الإسلام هو العدل، بمعنى: أن هذا السيف يرفع على من وقف في طريق تبليغ الدعوة إلى لله بضوابطه الشرعية المفصلة فقهياً في مظانها على أيدي فقهاء الإسلام الوارثين العلم عن رسول الله وأصحابه رضي الله عنهم وأرضاهم.
لكن لا يمكن الحديث عن السيف دون الحديث عن العدل، أو الحديث عن العدل دون أن يحمى بالسيف، لا تقوم حضارة صحيحة منصفة قوية إلا أن تقوم على حق وهو أس الحضارة, ثم هذه الحضارة تحمى بأمرين:
تحمى بالعدل وتحمى بالسيف، وعلى فرض ما قال النصارى وزعموه أن عيسى عليه السلام صلب, نقول: على فرض هذه الجدلية الكاذبة فإن عيسى هذا الذي تدعون أنه قتل قتلاً لو وجد من ينصره لما قتل.
والشر إن تلقه بالخير ضقت به ذرعاً وإن تلقه بالشر ينحسم.
يترتب على هذه القضية في تحرير المسألة علمياً، أنه لابد أن يفرق عند الحكم على أحد عن حالته الخاصة وحالته العامة, وهذا أصل في الحكم على الملوك والسلاطين وذوي القدر والجاه، فلا يكون الحكم على الشخص في حالته العامة كالحكم عليه في حالته الخاصة.
وسآتي بمثال قريب جداً قبل أن أنتقل للنبي صلى الله عليه وسلم:
لو فرضنا أن أحد الناس له ابن صدمته سيارة، فجاء أهل الجاني بعد أن مات الغلام شفعاء ووجهاء وجيران حي إلى ولي الدم يقولون له: تنازل عن الدية فإن من صدم ابنك لم يتعمد، ثم إنه فقير أو غير ذي مال كثير.
هنا الرجل ينظر إلى حالة خاصة فيقول: تنازلت وعفوت! فنقول: هذا شيء مقبول محمود مثني عليه في الكتاب والسنة وفي أعراف الناس.
لكن لو قدر أن نفس الرجل صدم أخوه وقد ترك ذرية، وكانت هذه الذرية دون الخامسة عشرة وتسمى في حكم الشرع والاصطلاح أيتاماً، فلهم حق, فلو جاء هؤلاء الشفعاء وطلبوا منه أن يتنازل عن دية أخيه لم يكن له أن يتنازل، لأنه لو تنازل أضاع حقوق اليتامى، فليس له أن يتنازل عن دية أخيه، وإنما يطالب بها بقوة حتى يحفظ لليتامى حقهم.
فالكلام بالشيء العام والولاية غير الكلام بالشيء الخاص.
فالنبي صلى الله عليه وسلم كان يرحم الشاة ويقول لأصحابه: (والشاة إن رحمتها يرحمك الله) .
فهو عليه الصلاة والسلام لا يغضب إلا في ذات الله، وهو عليه الصلاة والسلام الذي يقبل أعرابي يشده فيعفو عنه, وتأخذ الجارية من أهل المدينة بيده فتذهب به حيث شاءت صلوات الله وسلامه عليه.
لكن عندما تريد أن تؤسس دولة وتقيم عقيدة وترمي إلى نشرها في الأرض، ينبغي أن تنظر إلى المصالح والمفاسد، وتنظر أين المصلحة العليا لهذا الدين الذي جئت به، فتعفو عندما يكون العفو له مردود إيجابي، ولا تعفو حينما لا يكون للعفو مردود إيجابي، وهذا عين شرعه الذي طبقه صلى الله عليه وسلم، وهذا الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من ربه في قضية السيف الموازي للعدل الحافظان كلاهما لقضية العدل.
فهؤلاء الدنماركيون أو غيرهم ممن يقرأ قضية الجهاد في سبيل الله قراءة خاطئة ويتهم النبي صلى الله عليه وسلم بكذا وكذا مما لا نستسيغ أن نقوله حتى على سبيل ضرب المثال؛ كل ذلك لأن الأمر لديهم ملتبس أو لأنهم لم يحرروا علمياً النظرة الحقيقية له صلوات الله وسلامه عليه؛ لأن أي شيء إنما يترك إذا كانت هناك مفسدة أكبر منه، ولا توجد مفسدة أعظم من الشرك بالله جل وعلا.
وهو صلى الله عليه وسلم ما رفع السيف على قريش إلا عندما حالت بينه وبين أن يبلغ دعوة الله، ومنعته حتى أن يقيم دينه في المدينة، فرفع السيف عليهم، وإلا فقد جاء الإسلام بالجزية كما هو معلوم، وهذا تحرير المسألة علمياً.
فهؤلاء وأشياعهم أو من آمن بفكرهم من صحفيين أو غيرهم لم تحرر لديهم مسألة السيف في دين الرب تبارك وتعالى تحريراً علمياً.
فرمي الإسلام بقضية السيف، ورميت هذه البلاد بأن شعارها السيف، لكن تحرير المسألة علمياً ينتج أنها قضية حق يراد أن يقام له حافظان: السيف والعدل.
السؤال: هل أنت مع من يقول بأنه لابد أن نفتح مع هؤلاء قنوات للحوار وقنوات للتواصل، ونعقد مناظرات وندوات نظهر لهم من خلالها رحابة هذا الدين وجماله ويسره، وعظمة رسوله صلى الله عليه وسلم؟
الشيخ: هذا حق مقيد، من استهزأ بنبينا صلى الله عليه وسلم أو رفع السيف على هذه الأمة فيرد عليه بالطريقة نفسها، أما من بقي محايداً فهذا هو الذي يستقطب بأن يبين له السيرة العطرة والأيام النضرة وسماحة نبينا صلى الله عليه وسلم وسماحة الإسلام، ولكن كما قلت والبيت لـشوقي :
والشر إن تلقه بالخير ضقت به ذرعاً وإن تلقه بالشر ينحسم
المقصود من هذا أن هؤلاء الذي وقع منهم السخرية والاستهزاء لا كرامة لهم, وإنما ينبغي أن نجلب عليهم بخيلنا ونفيرنا في سبيل نصرة نبينا صلى الله عليه وسلم.
وليس هذا مجال تبيين المسألة الحق, لكن القوم المحايدين في الغرب الذين خوطبوا بهذا الإعلام المنكر، هؤلاء يجب أن يحرر لهم الخطاب وأن تبين لهم الصورة الحقيقية.
ولا أريد أن أقول: ينبغي أن نلمع صورته! فهو صلى الله عليه وسلم لا يحتاج إلى مثل هذا أبداً, نحن علينا فقط أن ننقل الصورة الحقيقية له صلوات الله وسلامه عليه، فإذا نقلنا الصورة الحقيقية له صلوات الله وسلامه عليه فإن المتلقي لن يخرج أن يكون أحد اثنين:
إما أن يكون منصفاً فلا يأبى الإيمان بهذا.
وإن كان غير منصف، فإن من ارتضاه الله أن يكون أهلاً لجهنم لا ينبغي أن نتأسف أو نتحسر عليه.
ويجب على من يقدم الإسلام أن يقدمه بصورته الشرعية، قال الله جل وعلا على لسان أحد أنبيائه: وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ [الأعراف:93] وهم قومه وأهله!
ونحن لسنا أرحم بالخلق من ربهم، فمن رضي الله أن يكون من أهل جهنم فلن نكون نحن أرحم به من الله، فنحن نقول: نقدم الصورة الحقيقية المثلى للإسلام.
لكن ينبغي على من يقدم الصورة الحقيقية للإسلام أو من يتحدث باسم الإسلام أن يعرف أين موقعه من الإسلام, بمعنى ألا يكون في تقدم أو تأخر على بعضنا البعض.
فإن الله جل وعلا جعلنا مواهب, مشارب, مراتب, منازل. وهناك أمور من اختصاص ولي الأمر, وأمور من اختصاص عسكر المسلمين, وأمور من اختصاص العلماء, وأمور من اختصاص العامة, وثمة أمور يشترك فيها الناس جميعاً، لكن عندما يكون الاستياء على الأدوار ومحاولة جعل هذه الحادثة كسبب للوصول للأشياء فهذا لا ينبغي، لكن كل إنسان له موقعه العام.
ثمة مؤسسات إسلامية ومواقع إسلامية في الإنترنت معروفة محترمة معتبرة, يشرف عليها علماء ربانيون، هذه طريقة خطابها لا تكون كخطاب رجل عامي, والذي يخاطب الناس في منبر الجمعة غداً -كما دعا الشيخ عائض وغيره من الفضلاء إلى هذا- ينبغي أن يعرف أنه يخاطب مسلمين، فلا يحملهم خطيئة غيرهم فلا يجلدهم جلد ذات كأنهم هم الذين شتموا النبي صلى الله عليه وسلم.
وإنما يجعل من هذه الحادثة سبيلاً إلى إيقاظ محبة النبي صلى الله عليه وسلم في القلوب, وبالتالي العمل بسنته صلوات الله وسلامه عليه، فهذا أمر مهم جداً.
أما الذين في المؤسسات الإسلامية، أو في المواقع الإسلامية على الإنترنت، أو في المراكز الإسلامية في الغرب، فهؤلاء يطالبون بنمط خطاب غير المطالب به من كان يعيش بين المسلمين, فهؤلاء لهم مطلب سياسي معتبر، فينبغي أن يفقهوا المسألة جيداً وأن يحرروا خطابهم بما يتناسب مع حالهم ووضعهم ونوعية من يخاطبون، إن كان سلطة, أو كان عامة، أو كان مستهزئاً، فتحرير المسألة في كل وقعة مهم جداً.
نحن نتفق على وجوب نصرة النبي صلى الله عليه وسلم، ولا أظن مؤمناً يخالف في هذا، لكن كذلك يجب أن نتفق على أن الأدوار تختلف والمهام تتباين ولا أقول: تتفاوت؛ مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ [الملك:3] فهي كلمة خاطئة بنسبتها إلى الله.
فأعيد وأقول: هذا تحرير الخطاب في نصرته صلوات الله وسلامه عليه.
والسؤال: برأيكم الشخصي -يا شيخ صالح - ما هو موقع الإسلام في نفوسنا, وما هو موقع المصطفى صلى الله عليه وسلم من ذواتنا ومن صدورنا, حتى وصل بعض من المسلمين إلى درجة أن يستهزأ بالرسول صلى الله عليه وسلم، ويستهزأ بشرائع الدين، ويساء إلى هذا الدين, فلا نجد حقيقة من يقول: إلا رسول الله, أو : إلا كتاب الله، أو غيره؟
الشيخ: عندما نقول: (إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم) كعنوان لهذه الحلقة المباركة إنما هو من باب التعامل مع الواقعة, ولا يوجد تثريب شرعي على العنوان, لكن ليس المقصود به هنا حقيقة الحصر، فلا يفهم أنه يجوز مع غير النبي صلى الله عليه وسلم، فلا يجوز مع النبي صلى الله عليه وسلم، ولا أركان الدين, ولا الله, ولا الدين كله, ولا مزدلفة ولا منى ولا عرفة, ولا أي شيء من شعائر الإسلام، فلا يجوز السخرية والاستهزاء به, هذه مسألة.
أما موقع الإسلام في نفوسنا, أو النبي صلى الله عليه وسلم في قلوبنا:
فنحن نؤمن يقيناً أن أي مسلم مهما بلغت معصيته, ما دام راضياً بالإسلام فلابد أن يكون في قلبه ولو مثقال حبة من خردل من إيمان من محبة النبي صلى الله عليه وسلم، ولا أظن أحداً يجادل في هذا.
وقصة شارب الخمر (ما علمته إلا محباً لله ولرسوله) أصل في المسألة.
وقد ذكرت سابقاً أنه كان في فرنسا مقهى فرنسي، وكان يرتاده مسلمان من الجزائر ولهما صديق فرنسي يتعاطون معه الخمر ويسكرون, فإذا سكروا أخذ بعضهم يتقول على أعراض بعض، وجرت العادة على هذا سنين كما ذكر النادل -العامل- الذي يقدم لهما المشروب.
وذات يوم كان من هذا الفرنسي أن سب نبينا صلى الله عليه وسلم، فوقع السب من الجزائريين موقعاً جعلهما يفيقان من سكرهما فضرباه ضرباً غير الذي اعتادا عليه, فلما حضرت الشرطة وذهب بهما إلى التحقيق وجيء بالنادل كشاهد إثبات, قال متعجباً: إن هذا الرجل يقدح أحياناً في زوجاتهم وأخواتهم وأمهاتهم ولا يتكلمون, فقالا: فليقل في زوجاتنا وأخواتنا ما شاء ولا يتكلم في رسول الله صلى الله عليه وسلم، مما جعل هذا النادل يقرأ كثيراً عن سيرة نبينا صلى الله عليه وسلم فكانت الحادثة سبباً في إسلامه.
والغاية من هذه القصة ما ذكرته من وجود أصل محبة النبي في قلب كل مسلم.
وقد حرر الشيخان, الشيخ محمد العريفي حفظه الله, والشيخ عائض القرني هذا قبلي في هذه الحملة المباركة, لكن تأكيداً لهذه المسألة أنه لا يتصور أصلاً ممن يؤمن بالله واليوم الآخر ويرجو جنة ويخشى ناراً ألا يكون في قلبه شيء من المحبة لنبينا صلى الله عليه وسلم، بل هو صلى الله عليه وسلم أحب إلينا من كل شيء بعد ربنا تبارك وتعالى.
المقدم: ما هي متطلبات هذه المحبة, وهل يكفي أن أقول: إني أحب الرسول صلى الله عليه وسلم؟
الشيخ: الناس في هذا بين فريقين:
فريق يرى أن المحبة مقصورة على الاتباع ولا يكون في قلبه شيء عاطفي متأجج.
وآخرون يرون الاكتفاء بالمحبة ولا يرون الاتباع.
وكلاهما أبعد النجعة، وإن كان الثاني أكثر بعداً.
الشيخ: نبدأ بقضية السبق الوقتي, قال الشيخ سلمان العودة : تحويل الأزمة إلى فرصة, طبعاً هذا كلام رجل مفكر، تحويل الأزمة إلى فرصة: هو الرد الحقيقي على تلك الأزمة, عندما تأتي الضربة لأي خصم مقصود بالضرب تجعله ذا شتات, معنى ذلك أن خصمه تمكن منه, لكن إذا كانت تلك الضربة قد لمت على شعثه وجعلته يبدأ خطوة أقوى, فإن تلك الضربة أصبحت نافعة، قال الله: لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ [النور:11] .
وهذا ينطبق كثيراً على هذه الحال, وقد ذكر الشيخ سلمان نموذجين واقعيين:
وهي قضية قراءة السيرة وقضية طباعة بعض الكتب عن النبي بكل لغات العالم, وذكر أنموذجاً مقترحاً وهو إيجاد قناة فضائية تعنى بالسيرة النبوية لنبينا صلى الله عليه وسلم, كما وجدت الآن قنوات للقرآن؟ قناة الفجر، وقناة المجد للقرآن الكريم, وإذاعة القرآن الكريم.
فينبغي أن تزاد قناة خاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم, وقد لا يكون بعض التجار الآن متواصلاً معنا لانشغالهم بأعمالهم أو بأي شيء آخر, لكن ينبغي أن تتبنى المؤسسات العلمية الدعوية هذه الفكرة التي طرحها الشيخ سلمان وهي قضية إيجاد قناة تعنى بالسنة.
بلغني من مصادر صحفية مثلاً في المدينة عندنا مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف, وهو عمل عظيم جليل ظهر نفعه على الناس, والذي أعلمه أنا ولا أجزم به -لكن سمعته من مصادري الخاصة- أنه سيكون هناك مجمع للسنة, يسمى مجمع الملك عبد الله, لسد الثغرة في السنة كما تسد الثغرة في القرآن.
وكذلك نفس الفكرة التي طرحها الشيخ سلمان ، وهي قضية إيجاد قناة تعنى بالسيرة النبوية, وهذا سيكون نافعاً، وربما تتبناه هذه القناة المباركة -قناة المجد- فتكون إحدى باقات قناة المجد، وقد تتبناه غيرها, المهم أن ينتفع المسلمون من أي مصدر إسلامي.
والشيخ سعيد بن مسفر وفقه الله تعالى ورعاه صاحب خبرة دعوية شهيرة، وقد قال: لا بد من الانضباط. وهذا كلام الراسخين المتأنين في قضية التعامل مع الخصم، حتى لا يأتينا إنسان يزايد على محبة النبي صلى الله عليه وسلم, وكأنه يحب رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر من غيره وأكثر منا, فيزعم أن هذا ليس بحل, وإنما الحل في تفجير أو في انتقام أو في اغتيال, فهذا شيء مرفوض تماماً ولا يخدم المسلمين ولا يؤذن به شرعاً, وما دام ليس مأذوناً به شرعاً فلا يحق لأحد أن يتبناه.
وقد قلت في مقدمة الحديث: إن الأدوار يجب أن تكون منضبطة في الرد، وأن لكل أحد طريقاً ومقاماً وسبيلاً وموقعاً يتحرك منه, فليست القضية قضية مزايدة حتى يظهر زيد أو عمرو في الصورة, إنما القضية التي نجتمع عليها هي نصرة نبينا صلوات الله وسلامه عليه.
الشيخ: هذه القضية في ظني هي قضية نستصحبها في كثير من قضايا المسلمين, قضايا المسلمين يكتفون أحياناً بالتحييد, وهذه طرحت في أكثر من قضية, مثل القضية الفلسطينية.
قضية التحييد أقصد بها: أن اليهود مثلاً هم الذين احتلوا فلسطين وأسموها دولة إسرائيل؛ فهم خصمنا الأول واقعياً، ومع ذلك فبعض القائمين على العمل الإسلامي إنما يعنون بتحييد النصارى، وهذا مطلب طيب, لكن هناك مطلب أعظم وهو أن تجذب النصارى إليك, يعني: لا يكتفى فقط بتحييد النصارى, فاليهود والنصارى أصلاً بينهم نزاع وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ [البقرة:113] .
فهناك مطلب أكبر تحييد النصارى سياسياً وهو استقطاب النصارى, فلا يكفي أن نحيد النصارى في القضية.
ومثلها الآن هؤلاء الذين تعرضوا لنبينا صلى الله عليه وسلم، فهناك قوم محايدون، هؤلاء المحايدون لا نكتفي فقط بتحييدهم، إنما نحاول قدر الإمكان استثمارهم في أن يكونوا نصراء معنا على من هاجم نبينا صلى الله عليه وسلم.
وهذا لا يفهم أحد أنه يقدح في ولاء أو براء أو في غير ذلك, فهذا شيء مشروع دل عليه فعل النبي صلى الله عليه وسلم في أكثر من موطن, أعني: عدم تحييد هؤلاء الناس, بل نحاول قدر الإمكان التأثير عليهم حتى يدخلوا في دين الله، وهذا أعظم المطالب, أو على الأقل أن يصبحوا شوكة في نحور أولئك الذين يحاربون النبي صلى الله عليه وسلم.
طبعاً أنت عندما يكون المطلب عالياً فإن تحقيق بعضه إنجاز, لكن لو جعلت المطلب هابطاً فلن تحقق شيئاً في طريق مغالبتك لخصومك..
وبهذا نقول: إن رقابنا حقيقة وأجسادنا وكل حياتنا فداء لهذا الدين ثم فداء لأوطاننا المسلمة، أوطاننا الصادقة مع الله سبحانه وتعالى, والصادقة مع شعوبها في أن تعيش معهم، وقد وعدنا مليكنا عندما تولى الحكم وبايعناه أن يسمع منا وأن يكون دستوره القرآن وشرعه شرع محمد صلى الله عليه وسلم، فأحسن الله إليهم, وأسأل الله أن تكون هذه الخطوة بادرة لبقية المسلمين في كل مكان أن يعبروا عن موقفهم الداعم لرسولهم صلى الله عليه وسلم الذي لا نعتبره دعماً حقيقة, لأنهم يدعمون أنفسهم ويدعمون مشاعر شعوبهم التي تأثرت عقب هذه الفعلة الشنيعة، فما تعليقكم على قضية سحب السفير؟
الشيخ: إننا دائماً نقول: تحرير المسائل يعين على فهمها, فنحرر قضية سحب السفير فنقول:
أهل الإنصاف والعقل والروية والحكمة عندما يضعون ثقتهم في عاقل رشيد مسلم لا يزايدون على إسلامه، فعندما يتأخر التصرف أو لا يأتي ذلك التصرف, أو يأتي مخالفاً لما توقعوه, فإنهم على ثقة أن هذا الذي وضعوا فيه ثقتهم وأمانتهم يحمل الهم الذي يحملونه، لكنه رأى رأياً غير الرأي الذي رأوه.
هذا الأمر مهم جداً في فهم الأمور, فنحن ثقتنا في ولي أمرنا قبل سحب السفير إذا ثبتت, وبعد سحب السفير واحدة, لأن القرار يختلف من شخص إلى شخص, والمسائل العامة يكفينا فيها أن نضع الثقة في الموطن الصحيح, فإن وضعنا الثقة في الموطن الصحيح فلا نتصرف عنه, إذا تصرفنا نحن نيابة عنه إذاً فلا حاجة لوضعه.
لكن نترك لكل صاحب مقام الطريقة التي يتعامل بها مع الحدث, فتأخير سحب السفير إلى هذا اليوم يمكن تأويله بأنه قضية انقطاع آخر الطرق الدبلوماسية، لأنه ثمة مساع هددت بسحب السفير لم يتوقع المسئولون الدنماركيون سحب السفير, وقد تأتي خطوة أخرى, إلى أشياء عديدة.
لكن الذي يهمني في قضيتي أنني كأي فرد مسلم أحمل الحب للنبي صلى الله عليه وسلم، وينبغي أن أعلم أن علماء المسلمين ودعاة المسلمين وولاة المسلمين الناصحين المعروفين يحملون نفس الهم, فإن كنت أرى رأياً يجب تنفيذه اليوم, فقد يرى غيري أن المصلحة عدم تنفيذه اليوم.
فتكون هناك نظرة إنصاف لبعضنا البعض, فمع ذلك بعض الفضلاء يأتي ويقول: الشيخ فلان ما تكلم, والمؤسسة الإسلامية إلى الآن لم تحدد موقفها، ومجلس كذا لم ينعقد, وسماحة المفتي أو ولي الأمر ما أصدر بياناً, وغير هذا!
وهو لا مزايدة على إسلام هؤلاء, ولا ينبغي أن نتكلم كلاماً نشعر فيه الناس بأننا وحدنا الغيورون على الدين, وغيرنا غير غيور، أو أنا وحدنا نحمل هم الذب عن الدين وغيرنا لا يهتم.
فنحن نعلم أننا لسنا إلا جزءاً من الأمة وأن المسلمين في جميع أنحاء الأرض محبون لنبيهم صلى الله عليه وسلم، ولا يوجد مسلم اليوم في جميع أصقاع الدنيا راض عن سب نبيه صلى الله عليه وسلم.
ولكن القدرات والأماكن والمواطن تختلف، فمن الناس من ينطقه مكانه, ومن الناس من يكون كلامه له عواقب غير كلام غيره.
وبعد صلح الحديبية كان أبو بصير يفعل ويصنع لأنه كان غير مرتبط بعقد مع أهل الإشراك, أما النبي صلى الله عليه وسلم فكان يأتيه الرجل مسلماً فيرده لأن نصوص الحديبية تحكمه بوصفه زعيماً للأمة.
فكل إنسان عنده مساحات للحديث مساحات للدفاع وقيود تختلف من شخص إلى آخر, فالقيود التي عندك ليست عندي, والمساحات التي تملكها لا أملكها أنا, لكن المهم أنه لا ينبغي لأحد أن يعتقد في نفسه أنه الأوحد في الغيرة على رسول الله صلى الله عليه وسلم, وأن الناس مقصرون، فلا نخاطبهم بهذه المنطقية, لكننا نحسن الظن, ونتمنى أن ينصر الله جل وعلا دينه, ونحن على ثقة كما قال الشيخ صالح بن حميد ، يقول الله لنبيه: إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ [الحجر:95] وقال: إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ [الكوثر:3] .
وأنا هنا أذكر مقالاً في جريدة الوطن للدكتور علي سعد الموسى , له زواية اسمها ضمير المتصل, ذكر في عنوانها: اطردوا سفراء الزبدة, على أساس أن الدنمارك دولة معروفة بالزبدة.
وأقول: المقال كان قوياً جداً ينم عن محبة عظيمة للنبي صلى الله عليه وسلم، ويطرح المقال رؤية جيدة في التعامل مع الحدث, لكنها تبقى مقالة رجل أكاديمي, أي: رجل يؤدي ما عليه من موقعه الإعلامي, لكن لا نستطيع أن نعمم كل مطلب على كل أحد, فهذا مهم جداً في فهم القضية.
والدكتور الموسى كان في عدد سابق قد كتب مقالاً وجد عليه لوماً شديداً من كثير من المسلمين, لكنه بهذا المقال الذي ذكرتموه قد جاءت كثير من الردود تشيد به وتدل على ما ذكرتموه, وأن هناك خطاً أحمر، فقد نخطئ وقد نختلف فيما بيننا, ولكن عندما يحصل ذلك فلا بد من إحسان الظن بإخواننا، فما تعليقكم؟
الشيخ: أمور الدنيا الناس شركاء في ثلاث: في الماء والكلأ والنوم.
لكن في أمور الدين نحن شركاء في العقيدة؛ لأنه إن لم نكن شركاء في أمور العقيدة صار واحد مؤمناً وواحد كافراً.
فعندما نختلف مع أي مسلم في رؤية فقهية منهجية ودعوية أو ما أشبه ذلك ليس لنا حق في أن نخرجه من الملة, وليس لنا حق في أن نرميه بتهمة كائناً من كان, وليس لنا حق أن نصنفه, هذا جزء من الخطأ الذي كنت أحذر منه في المقولة التي قبل, وأول طرائق الهلاك أن يعتقد الإنسان أنه وحده المصيب, وأنه وحده الذي تنحصر الطائفة الناجية فيه!
لكن نقول: نحن من آمن بالله رباً وبمحمد عليه الصلاة والسلام رسولاً وبالإسلام ديناً فهو أخونا, فإذا صدرت منه أخطاء فإننا ننصحه ونرشده وندله على الخير ونحذره من مغبة ما يقول, ونخشى عليه أن يكون مزلقاً لأحد, نخشى عليه أن يتلبس بأفكار غير سليمة، ونخشى عليه أن يكون سهماً لأعدائنا.
نقول: نخشى عليه ونخاف عليه، ولكن لا نقول إنه عميل وضعه الأعداء لنا؛ لأن دون إثبات ذلك أموراً خطيرة، والأصل في المسلم براءة الذمة.
المقدم: ولعل هذا فيه أيضاً رسالة إلى كتاب صحفنا سواء هنا في السعودية أو في غيرها, فكم حصل من الدعاء لمثل هذا الذي ذب عن المصطفى صلى الله عليه وسلم، وكم للأسف الشديد دعي على غيرهم؟
الشيخ: هنا كغير ممن يقع منه أحياناً الهمز واللمز في السنة تحت أي طريق كان, فمثلاً الدنماركيون أصلاً كفار، لكن أحياناً قد يقع الكفر من شخص إما بسذاجة أو بعمد، وهو لا يدري أن هذه تسيء، فيلمز أو يسخر من سنته صلى الله عليه وسلم.
فهو لا يتعرض لشخصه صلى الله عليه وسلم؛ لكن قد يتعرض لما اشتهر وتواطأ من سنته, فيلمزها أو يسبها عبر أي عمل كان، كعمل تمثيلي أو مقال صحفي، أو كلمات في مجلس أو غير ذلك، فهذا كله محرمات وعظائم لا ينبغي الوصول إليها بأي طريق كان, وقد نبه شيخنا الشيخ سعيد بن مسفر قبل قليل على أمر الله جل وعلا للصحابة بالتأدب في مجمل الخطاب مع نبيهم صلى الله عليه وسلم.
والسؤال: كيف يمكن لهذه المواقع, وكيف يمكن أيضاً لمراكز الأبحاث والدراسات أن تقوم بدور هجومي سلمي في التعريف بالمصطفى صلى الله عليه وسلم؟
الشيخ: هذا لا يخلو من طرائق ووسائل عدة بحسب الشخص المخاطب، وقد بين الشيخ صالح ذلك من قبل، ومعلوم جداً أنه إذا حددنا من هو المخاطب, حددنا نوعية الحديث.
لكن أقول: إن المراكز والشبكات الإسلامية الإلكترونية ينبغي أن يكون لها دور كبير، وأكثرها قائمة بهذا الجهد, لكن أنا أضع أصولاً عامة ولا أستطيع أن أحدد ماذا يكتبون وماذا يقولون, ولكن أقول: هو يختار الهدف, فإذا اختار الهدف المخاطب تحدد بعد ذلك نوعية الحديث، ما يكتب للسفارات الدنماركية في العالم، أو ما يكتب لوزارة الخارجية الدنماركية باعتبارها مسئولة عن نظرة الناس إلى الدنمارك خارجياً, ما يكتب للصحيفة نفسها، ما يكتب لعامة الشعب الدنماركي, ما ينبغي أن تحمله الجاليات الإسلامية الموجودة في الدنمارك.
فأنا أقول مثلاً: الآن الجاليات الإسلامية في الدنمارك لو تمسكت بشيء من سننه صلى الله عليه وسلم التي تثبت عكس ما يزعم هذا المستهزئ، فإن ثباتهم عليها سيغير طريق التعاطي مع العمليات, لأن طرائق تفنيد قول خصمك فيك أن تثبت للمحايدين خلاف الذي يقول, وليس ذلك بالرد عليه ولكن بتطبيق ذلك.
أذكر أن أحد الناس ممن ليس على المذهب العام لأهل السنة, كان يعمل معنا في حقل التعليم قبل عشرين عاماً، فمرض فامتنع الجميع عن زيارته، فأنا ذهبت إليه وسط معارضة ممن كان معي، وأذكر أنه ذهب معي شيخ آخر.
فلما ذهبت فوجئ أهل بيته بزيارتي, لأنه كان آخر شيء يتوقعونه, فسلمت على الصغار عند الباب وسألتهم عن أبيهم، فدخلت عليه في بيته وسلمت عليه وقابلت إخوته وتمنيت له الشفاء ودعوت له, ثم خرجت، ثم كررت المصافحة لأبنائه وبناته الصغار، ثم رجعت.
أنا كنت أرمي إلى شيء الاقتداء بالمصطفى، هذا شيء, لكن الشيء الآخر: من يقول عنا معشر أهل السنة شيئاً لن تستطيع أن تنزعه من الأتباع إلا بطريقة مثل هذه, فإذا قيل لهؤلاء الصغار الذين تحت قلم التكليف شيئاً عن أهل السنة وأنهم عدوانيون وغير ذلك, فإن المقولة ستصطدم بذلك الأثر من الزيارة, بمعنى أن الطفل سيتذكر زيارة فلان ورفقه به وسلامه وغدوه وسؤاله عن أبيه، فلا تجد لها موقعاً في القلب.
أعني أن الكلمات العدوانية المؤسسة للعداء لن تجد لها موقعاً؛ لأن هناك ما يصدها, أو على الأقل ما يشكك فيها.
فالشعب الدنماركي الآن في أحوج ما يكون أن يبين لهم الصورة الحقيقية للنبي صلى الله عليه وسلم حتى يبقى ذلك التصور الذي رسمه الكاتب الصحفي هباء منثوراً يصطدم مع شيء يشاهده الناس واقعاً وأنه خلاف الذي يزعم, كما كانت قريش تقول: لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ [فصلت:26] ويحدثون عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث غير موجودة فيه, فعندما يواجهه الحجاج والعمار قبل الهجرة ويتخاطبون معه يذهب كل ما قالته قريش هباء منثوراً، لأنه يصطدم بالصورة الحقيقة له صلوات الله وسلامه عليه, فيكون سبباً في إسلامهم أو على الأقل في عدم قبول قول قريش فيه صلوات الله وسلامه عليه.
الشيخ: من المعلوم أن الله جل وعلا قال في كتابه العزيز: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ [الكهف:28] .
من أحسن ما قيل في تفسير هذه الآية: أن هؤلاء القوم يسألون الله جل وعلا في صباحهم التوفيق, ويسألونه جل وعلا في مسائهم الاستغفار عما كان منهم.
ونسأل الله جل وعلا أن يجعل خروجنا من مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقدومنا إلى هذا المكان مما يراد به وجهه تبارك وتعالى والذب عن نبيه صلوات الله وسلامه عليه.
وكل من شارك أو شاهد أو لم يقدر له أن يشاهد لكنه علم بما يقع لنبي الأمة صلى الله عليه وسلم أو وقع في حقه, فأصابه ما أصابه من الغيظ والكمد، نصرة لنبيه صلى الله عليه وسلم، فإن ذلك من أعظم دلائل التوفيق التي يعطيها الله جل وعلا عباده.
فإن محبته صلى الله عليه وسلم دين وملة وقربة يتقرب بها إلى الله تبارك وتعالى؛ لأن العبد أينما غدا أو راح مكلف، ومما كلفه الله جل وعلا به محبة ونصرة هذا النبي صلوات الله وسلامه عليه, وهو ما حررناه في أول الأمر.
وأستثمر ما قاله الإخوة الفضلاء المشايخ في قضية أن يكون شأننا دائماً العمل بسنته وهديه صلوات الله وسلامه عليه.
كان ثابت البناني إذا لقي أنس بن مالك خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل يده, ويقول: يد مست يد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ويقول جابر بن سمرة رضي الله عنه وأرضاه: خرجت في ليلة أضحيان -أي: ليلة القمر فيها مكتمل- فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم عليه حلة حمراء, فجعلت أنظر إلى القمر وأنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم, فهو عندي أبهى من القمر..
ووقف الصديق رضي الله عنه وأرضاه بعد عام من وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدث ثم غلبته العبرة, فقطع حديثه ثلاث مرات، لا يستطيع أن يقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال كذا وكذا.
وهذه نماذج من محبة أولئك الأخيار لنبيهم صلى الله عليه وسلم.
خاتمة الوصايا أن نقول: إن الله قال وهو أصدق القائلين: وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ [التوبة:100] .
فلا نحن من السابقين الأولين من المهاجرين, ولا نحن من السابقين الأولين من الأنصار, فما بقي أيها الأخ والأخت الكريمة إلا طريق واحد قاله الله: وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ [التوبة:100] .
فإن أعظم ما يمكن أن نستثمر فيه ما بقي من أعمارنا أن نكون متبعين لسنة محمد صلوات الله وسلامه عليه.
نعمل بشرعه، ونحبه صلى الله عليه وسلم أعظم الحب في قلوبنا، ونقتفي أثره, ونتبع سنته وفق منهج تطبيقي حقيقي، نريد به وجه الله والدار الآخرة.
فنفعل الفعل لأن النبي صلى الله عليه وسلم فعله, ونترك ما نترك لأن النبي صلى الله عليه وسلم تركه.
دخل عليه الصلاة والسلام ذات مرة من المسجد فرأى ازدحاماً من النساء, فقال: (لو تركنا هذا الباب للنساء) فسمعه عبد الله بن عمر وهو يومئذ قد ناهز العشرين من عمره, فعمر عبد الله بن عمر رضي الله عنهما بعد ذلك ستين عاماً في مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يدخل من ذلك الباب قط، إجلالاً لقول النبي صلى الله عليه وسلم: لو تركنا هذا الباب للنساء .
والمطلوب استثمار هذه الواقعة في أن نزداد حباً قلبياً لنبينا صلى الله عليه وسلم, ونعمل بسنته الطاهرة صلوات الله وسلامه عليه.
اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم للشيخ : صالح بن عواد المغامسي
https://audio.islamweb.net