إسلام ويب

في قصة أصحاب الكهف آيات وعبر ودروس للمؤمنين، لاسيما في فترة ضعف المسلمين وتسلط الكافرين، فينغبي تدبر هذه القصة والاستفادة مما فيها من الدروس العظيمة.

دروس وعبر من قصة أصحاب الكهف

الدعوة إلى الله تحتاج إلى صبر

الحمد لله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم.

أما بعد:

فيقول الله تعالى: وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [الكهف:14]، قومتهم هذه يظهر أنها كانت دعوة إلى الله عز وجل، وإلا لو ظلوا كاتمين ما بأنفسهم لما تعرضوا لخطر، ولما دعوا إلى أن يرجعوا عن دين لم يعلنوه؛ فقد قاموا بواجب الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، بل دعوا إلى الله كما سمعنا في القصة التي ذكرها ابن كثير وغيره وهي: أنهم دعوا ملكهم إلى الله عز وجل، والدعوة إلى الله سبحانه وتعالى تحتاج إلى ثبات وصبر وتوفيق من الله عز وجل حتى يكون الحق واضحاً جلياً.

الاستدلال بتوحيد الربوبية على توحيد الألوهية

قال عز وجل: فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا [الكهف:14]، وهذا نلحظ منه الاستدلال بتوحيد الربوبية على توحيد الألهية، وبالآيات الآفاقية والنفسية رَبُّنَا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا [الكهف:14]، فالله سبحانه وتعالى الذي خلقنا، وهو الذي خلق السموات والأرض، كما قال عز وجل: وَفِي الأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ * وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ [الذاريات:20-21]، وقال موسى عليه السلام: قَالَ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إنْ كُنتُمْ مُوقِنِينَ [الشعراء:24]، ثم قال: قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الأَوَّلِينَ [الشعراء:26]، وقال الله: سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ [فصلت:53]، وقال عز وجل: أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ * أَمْ خَلَقُوا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بَل لا يُوقِنُونَ [الطور:35-36]، ربنا خالقنا ورازقنا الذي يدبر أمرنا رب السماوات والأرض.

إذاً: توجد آيات نفسية وآفاقية ملموسة لكل متأمل في وجودنا وفي وجود هذه السموات والأرض يترتب عليها توحيد الألهية.

دعاء غير الله شرك

قوله: لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا [الكهف:14] دلت هذه الآية الكريمة على أن دعاء غير الله من الشرك -والعياذ بالله-، فمن دعا غير الله فقد اتخذه إلهاً من دونه عز وجل؛ ولذلك لا يطلب المؤمن جلب النفع ولا دفع الضر إلا من الله سبحانه وتعالى، والشطط هو القول البعيد جداً عن الحق والصواب، وهو الباطل والزور والكذب كما فسره ابن كثير رحمه الله، وأبعد القول عن الصواب والاعتقاد عن الصواب هو دعاء إله غير الله عز وجل.

الثبات على الحق ولو كان الإنسان وحده

ذكر ابن كثير رحمه الله قصة تعرف هؤلاء على بعضهم، وأن كلاً منهم كان يفر بدينه ولا يريد أن يبينه؛ لأنه لا يدري أن أحداً سيكون معه، وهذا من أعظم ما ينبغي أن ينتبه إليه كل داع إلى الله عز وجل، وكل عامل في مجال الدعوة إلى الله، وكل مجاهد في سبيل الله، بل كل مسلم في الحقيقة، كل منهم خرج وهو يظن أنه الوحيد، ولم ينتظر أن يكون معه أحد ليتبرأ ويترك دين الباطل، كلهم تركوا قومهم يعبدون الأوثان، وانصرفوا إلى الأرض الواسعة، وكل منهم يظن نفسه وحيداً.

لذلك لابد أن تكون ملتزماً بالحق ولو كنت ترى نفسك وحيداً، وهذه فائدة عظيمة، وهذه هي الغربة التي يستشعرها المؤمن حين يرى أكثر أهل الأرض يبتعدون عن دين الله سبحانه وتعالى، ولربما كان في مكان أو زمان لا يرى غيره على الحق، ولا شك أن النفوس تتأثر بمن حولها، وأكثر الناس يتبعون الغوغاء والكثرة، ويقولون: وجدنا الناس يقولون شيئاً فقلناه. ولا حول ولا قوة إلا بالله! والناس دائماً تحتاج إلى من يحركها ويوقظها ويدفعها دفعاً إلى الخير أو الشر، إلا الأفذاذ من العالم الذين يتحملون أن يكونوا أفراداً في الحق ولو لم يجدوا على الحق معيناً، فكل منهم كان في نفسه أنه وحده وليس معه أحد، ثم جعل الله صداقتهم وأخوتهم وارتباطهم واجتماعهم على توحيده سبحانه وتعالى بعد ذلك.

إذاً: سر في الطريق وسوف تجد لك رفاقاً بإذن الله، خصوصاً في أمتنا التي قال عنها النبي عليه الصلاة والسلام، (لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لا يضرهم من خالفهم أو خذلهم حتى تقوم الساعة)، وإياك أن تقول: هل أصنع ذلك وحدي؟ لو لم تجد أحداً يدعو إلى الله فكن أنت، لو لم تجد أحداً ينصر الإسلام فكن أنت، لو لم تجد أحداً يقول الحق فقل أنت، لو لم تجد من يطع الله سبحانه وتعالى فكن أنت الذي تطيع، واستحضر في ذلك من سبقك على طريق الهدى وما حولك من الكون المطيع؛ فإن من أقوى ما يعينك على الثبات على الحق: أن تستحضر أن الطريق الذي تسير عليه قد سار قبلك فيه خيرة الخلق، أنبياء الله وأولياؤه، فاستحضر على بعد الديار والأزمان مسيرهم، وأنك معهم، وإن افترقت الأبدان الآن فإن الأرواح مجتمعة، وكذلك استحضر أن الكون كله -إلا الثقلين- يعبد الله سبحانه وتعالى، وأن الله يسبح له من في السموات ومن في الأرض والطير صافات، وأن الله يسبح له السموات السبع والأرض ومن فيهن.

فإذا استحضرت ذلك هان عليك أن تكون وحدك، وسهل عليك أن تقوم لله عز وجل بحقه، وإذا فعلت ذلك وسرت في الطريق يسر الله لك من إخوان الخير المعينين عليه من لا تعلم وجودهم الآن، ولا ترى مسيرهم معك، كيف إذا كنت ترى من يدعوك إلى الله عز وجل لتسير معه وتسمعه ليل نهار؟! لا عذر لك إذاً، ولكن هؤلاء الأفاضل الأفذاذ رضي الله تعالى عنهم من أصحاب الكهف كان كلٌ منهم يرى نفسه وحده، ومع ذلك قام وخرج وترك الباطل ولم يقلده قال عز وجل: إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [الكهف:14].

فتية الكهف أمة واحدة

لما صرح بعضهم لبعض بسبب خروجه، وعرفوا أنهم فارقوا دين قومهم كراهية له؛ اجتمعوا وصاروا يداً واحدة، وطائفة واحدة، وصاروا سبعة -أو ما الله عز وجل أعلم به-، صاروا جماعة وأمة لا يذكرون بأسمائهم ولكن يذكرون كطائفة واحدة؛ لأنهم تعاونوا على ذلك، إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [الكهف:14]، قال ابن كثير : صاروا يداً واحدة، وأعان كل منهم الآخر، وصاروا إخوان صدق، وتوافقوا على كلمة واحدة حتى يستطيعوا عبادة الله عز وجل.

وهكذا ينبغي أيضاً أن يكون المؤمنون، فإذا علموا أن أحداً على طريقهم فلا بد أن يكونوا معاً لا يفترقون ولا يختلفون، بل أنت تفرح وسط الغربة بوجود من يكون معك على طريقك فكيف تفارقه؟ وكيف تبتعد عنه؟ إن الذين يرغبون في الاختلاف والفرقة، وأن يكون كل واحد منهم متميزاً بنفسه هم مرضى في الحقيقة، وهذا -والعياذ بالله- من أخطر الأمراض التي تلبس في زماننا ثوب الصحة والعافية.

أعني بذلك: أن كثيراً من الناس يذم كل من اجتمعوا ليقولوا كلمة الحق، وأن يقوموا لله سبحانه وتعالى دعاة إليه داعين إلى الخير، ويتهمون من يجتمع على ذلك بأنهم متعصبون متحزبون، ويرون الحزبية في الاجتماع ولو كان على الطاعة، وهذا من أعظم الجهل والله، فإن الحزبية المذمومة إنما هي أن يكون الإنسان مقلداً في الباطل، ومجرد انتمائه إلى طائفته يجعله يرى كل ما تراه دون رجوع إلى الكتاب والسنة، ودون أن يزن ما يقولونه ويفعلونه أو ما يقوله ويفعله الآخرون بميزان الشرع، وهذا باطل لا شك فيه، وهذا هو التحزب المذموم، أما أن يكون مجرد الانتماء تحزباً فهذا مما ينابذ روح الشريعة ونصوصها، بل الواجب أن تأتلف القلوب وتجتمع، وليس الاجتماع على طاعة الله سبحانه وتعالى حزبية ممقوتة، ولكنه من التعاون على البر والتقوى الذي أمر الله به، أما الذين يلبسون رغبتهم الخبيثة في أن يكون كلاً منهم عالياً بنفسه متميزاً عن غيره ثوب الصحة والعافية في أنه لا يريد الحزبية، فيترك إقامة دين الله عز وجل، ويترك التعاون على البر والتقوى، حتى تموت الدعوة إلى الله، وتموت سائر الفروض الأخرى؛ لأن التمزق والتفرق يؤدي إلى التنازع والشحناء والبغضاء، وإلى أن تكون فروض المسلمين الكفائية غائبة وضائعة، وهذا هو الذي سبب ما يرى من غثاء السيل كما وصف النبي عليه الصلاة والسلام، فآلاف الملايين من المسلمين عاجزون عن أن يصنعوا شيئاً لأعداء الله من الكفرة المجرمين من اليهود والنصارى والمنافقين. ولا حول ولا قوة إلا بالله!

مأساة عظيمة تقع وتحدث، وثمرة مريرة يتجرعها أجيال منذ عقود من الزمن، بل قل: قرون من الزمن أدت إلى هذا الذي يحدث اليوم.

إن ما يجري للمسلمين ثمرة من ثمرات بعدهم عن دينهم وتفرقهم وعدم قيامهم بالواجبات، وغفلتهم عما ذكره الله في كل قصص القرآن من أن المؤمنين طائفة وأمة دائماً، وهم مع بعضهم بعضاً يد واحدة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (المسلمون تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم، وهم يد على من سواهم)، لا حول ولا قوة إلا بالله! فاجتماعهم وقيامهم كطائفة من أعظم الفوائد التي نستفيدها من هذه القصة العظيمة، فالاجتماع على طاعة الله، والتعاون على البر والتقوى من أعظم الواجبات الشرعية التي لا بد من القيام بها حتى نتمكن من القيام بالواجبات الأخرى، والله المستعان.

دعوة الفتية قومهم للإيمان

قال عز وجل: فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا * هَؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ [الكهف:14-15] أي: هلا يأتون على عبادة هذه الآلهة بدليل وحجة وبرهان واضح، فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا [الكهف:15]، هذه صيغة الإنكار عليهم، (لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ)، فغرضهم من الكلام: تأكيد انعدام الحجة على الشرك، وأنه أبطل الباطل، فلا دليل عقلي ولا شرعي ولا حسي ولا أي نوع من أنواع الأدلة يدل عليه، فليس إلا مجرد التقليد المحض للآباء والأجداد -والعياذ بالله-، وهو أعظم الذنب؛ لأنه افتراء على الله الكذب، ومخالف للواقع والحقيقة، مخالف لأعظم اليقينيات في هذا الوجود، وهي وحدانية الله سبحانه وتعالى رباً وإلهاً، أضف إلى ذلك نسبتهم هذا الشرك إلى الله عز وجل، وأنه يرضى به، ويسوغه للناس، فمن يقر بوجود الله يزعم أن الله عز وجل قد رضي بما هو عليه، كالمشركين الذين وجد فيهم النبي صلى الله عليه وسلم، فقد كانوا يقرون بوجود الله سبحانه وتعالى، ويزعمون أنهم يريدون التقرب إلى الله، وأن الله قد رضي منهم ذلك، وقالوا: لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا [الأنعام:148]، يريدون أن ينسبوا شركهم إلى الله عز وجل، وأنه يرضى به، ويقره ويصححه -والعياذ بالله من ذلك-، وكاليهود والنصارى؛ فإنهم يقرون بوجود الله، ويشركون به عز وجل في ادعاء الصاحبة والولد، ونسبة العجز والضعف والنقص إليه سبحانه وتعالى، وغير ذلك من أنواع الكفر التي هم عليها، وهم في نفس الوقت يزعمون أنهم يتقربون إلى الله بذلك، وأن الله يرضى بذلك.

فلذلك نقول: أكثر الأمم يقرون بوجود الله، وهم في نفس الوقت يشركون بالله، وهو لا يقع إلا بأن ينسبوا ذلك إلى الله، فيجمع المشرك بين كونه قد أشرك، وارتكب القول الشطط الباطل الكذب البعيد عن الحق وهو أعظم الظلم، وأضاف إلى ذلك أنه افترى على الله عز وجل الكذب، ولذلك كان قول الإنسان على الله ما لا يعلم من أعظم الذنوب، بل ذكر الإمام ابن القيم أن الله سبحانه وتعالى جعله أشد من الشرك؛ ذلك لأن الذي أشرك ضرره عليه في نفسه، أما من افترى على الله الكذب فهو داعٍ إلى استمرار الشرك؛ لأنه حين نسب ذلك إلى الله وإلى دينه، وزعم أن الله يرضى بذلك؛ فإن ضرره مستمر لمن بعده، فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا [الكهف:15].

وأسوأ من ذلك من يعلم مخالفة ما يقضي به لشرع الله، ثم يصححه ويصوبه، ويقول بسيادته وعلوه على غيره، ويلزم الناس بالعمل به.

لذلك نقول: لابد من التعرض لمثل هذا الأمر الجلل؛ إذ إن أكثر الناس في غفلة عنه، وفي هذا الزمان كثر الجهل، وقل العلم، وأصبح يستفتى في سائر الأمور من يجلسون على المقاهي، بل استفتوا أكبر الفساق، وربما رءوس الكفر من الملل الأخرى، ويقولون: ما رأيك في الشيء الفلاني؟ وما تقولون في الشيء الفلاني؟ فأصبح كل أحد يتكلم في الدين، مع أن الكلام في الدين معناه أننا ننسب ذلك لرب العالمين، فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا [الكهف:15]، نسأل الله العافية.

عزلة أصحاب الكهف

قال الله تعالى: وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ [الكهف:16]، هذه الآية الكريمة تدل على مشروعية الاعتزال عندما يخاف الإنسان على دينه من الفتن، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يوشك أن يكون خير مال أحدكم غنماً يتبع بها شعف الجبال، ومواقع القطر؛ يفر بدينه من الفتن).

والعزلة على مراتب: فأما اعتزال الشر نفسه فهذا فرض على كل أحد، بمعنى أن الإنسان يلزمه أن يترك الشرك والبدع والمعاصي وأن يعتزلها، فهذا فرض لا نحيد عنه، ولا يباح لإنسان مختار أن يأتي شيئاً من المعاصي أو الفسوق فضلاً عن الكفر ويخالط الناس لأنه يشق عليه أن يفارق بلده ووطنه وأهله إلا أن يكون مكرهاً: إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ [النحل:106]، فهذا هو فقط المعذور، وأما من وقع في الباطل شركاً كان أو فسقاً أو معصية وهو يزعم أنه مستضعف مع قدرته على الضرب في الأرض ليبحث عن أرض يعبد الله فيها، فهذا وأمثاله ممن أنزل الله فيهم: إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا [النساء:97].

فاعتزال الشر فرض على كل أحد، ولا عذر لأحد أن يفعل الشر بدرجات مختلفة بزعم أنه يريد أن يكون مع الناس، أو أن الناس يضغطون عليه، أو أنه يخجل منهم إلا أن يكون مكرهاً، ومن شروط الإكراه الشرعي أن يكون عاجزاً عن التخلص ولو بالفرار، وإذا استطاع أن يفر منهم لم يكن مكرهاً.

أما اعتزال أهل الشر ومفارقتهم، وأن لا يكون معهم في بلدهم فالآية تدل على ذلك إِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ [الكهف:16]، فهم أولاً اعتزلوا الشرك، وتركوا عقيدة قومهم الباطلة في دعاء آلهة من دون الله لا دليل عليها، وافترائهم على الله الكذب، تركوا ذلك كله وهجروه واعتزلوه، ثم ضغط عليهم قومهم، وأرادوا فتنتهم؛ فكان اعتزالهم بأبدانهم عن قومهم ومفارقتهم ديارهم هي العزلة عن أهل الشر، وهي على أحوال أيضاً، فأما القدر الواجب منها: أنه إذا لم يكن هناك طريق للتخلص من أن يقع الإنسان في الظلم؛ فضلاً عن الشرك -والعياذ بالله- إلا بالفرار والهجرة، فهنا يكون الفرار بالدين من الفتن واجباً.

والمرء إذا لم يكن يستطيع أن يقيم دينه، وأن يعمل بطاعة الله في الأرض التي هو فيها لزمه تركها، ولذا قال أهل العلم فيمن تجب عليه الهجرة: هو من عجز عن إقامة الدين، وقدر على الهجرة؛ فيلزمه أن يهاجر ويفارق الناس ببدنه.

ومن إقامة الدين -إذا كان الإنسان قادراً على صورة من الصور- : الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ فإن ذلك من الدين، ولذلك لا يجوز للمسلم أن يقيم بأرض يعلن فيها بمخالفة الشرع بدرجاته المتفاوتة، لغير غرض شرعي صحيح كالإنكار عليهم، وهذا ما صنعه أصحاب الكهف، فلا يجوز له أن يقيم ويقول: أنا أقيم ديني، بمعنى أنه يصلي ويصوم ويتصدق ويتركونه يذهب إلى الحج والعمرة، ويأكل ويشرب ويلبس ما يريد، مع كونه يراهم على الشرك والكفر، أو على الفسوق والعصيان ليل نهار ولا يصنع شيئاً، لا يجوز الإقامة على ذلك؛ لأن هذا ليس من إقامة الدين، فإقامة الدين تشمل وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر طالما قدر على صورة من صور ذلك، فإذا لم يكن قادراً إلا على التغيير بالقلب مع عدم وجود مصلحة شرعية أخرى فإنه لا يجوز أن يقيم ساكتاً، وطالماً قدر على الهجرة فيجب عليه أن ينتقل إلى أرض لا يعلن فيها بهذا الفساد، وإن لم يجد ففي الشر خيار، فيختار أقل الأمور شراً وضرراً على دينه.

وأما إذا كان يقيم هناك لمصلحة شرعية، بأن كان قادراً على إقامة الدين، ومن ضمن إقامته ما ذكرنا من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ فإن الأنبياء جميعاً قد أقاموا مدداً في أقوامهم، وقد كان الشرك مستعلياً مستعلناً ظاهراً في الناس وهم يدعون إلى الله سبحانه وتعالى لنبذ الشرك وتركه، فكانت إقامتهم هي المصلحة الراجحة على مفسدة الإقامة وسط الكفار، وإلا لما أنقذ أحد من الشرك، ولو كان الرسل أول ما أوحي إليهم أن هذا شرك وكفر رحلوا وفارقوه لما اهتدت أقوام بعضهم، فليس كل من يعلم الحق بمجرد أن يعلمه ينصرف عن أهله، فلا بد أن يوجد من يقيم بين الناس حتى يبلغ دعوة الحق.

ولذلك نقول: إن الاعتزال في هذه الحالة مع القدرة على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أو وجود مصلحة شرعية لإنقاذ مسلم هلك لا يكون مشروعاً في تلك الحالة، بل الأفضل -إن لم يكن الواجب- أن يظل الإنسان مرتبطاً بالناس يأمرهم وينهاهم، خصوصاً مع أن واجبات تعليم الناس الخير، وأمرهم ونهيهم عن المنكر من فروض الكفاية، فإذا قام بها البعض حتى وجد المعروف الواجب وزال المنكر المحرم سقط الحرج عن الباقين، وإلا أثم الجميع.

ومن هنا فإذا ترك الإنسان المكان واعتزل الناس ضاع هذا الواجب لم يجز له ذلك، وإذا كان هناك من يقوم به ويتأدى الفرض به فيمكنه أن يرحل إلى مكان أكثر طاعة لله سبحانه وتعالى.

وأما اعتزال أهل الشر بهجرانهم، بأن لا يصاحبهم في مجالسهم التي يرتكبون فيها المنكر فهو أيضاً من الواجبات، كما قال سبحانه وتعالى: وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا [النساء:140]، فمن هنا كان إقامة الإنسان في مجالس المنكر محرم، ويجب عليه أن يعتزل مجالس المنكر وأماكن المنكر حتى لا يكون مثلهم في الحكم مشاركاً لهم فيما هم فيه.

العذر بالإكراه وضوابطه

الذي يظهر من سياق الآيات في هذه القصة: أن عزلة أهل الكهف كانت من النوع الواجب؛ لأنهم قالوا: إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا [الكهف:20]، وذلك يدل على أنهم لو بقوا لأكرهوا على الكفر. والعياذ بالله!

قال طوائف من العلماء: إن الإكراه لم يكن عذراً للأمم السابقة بل كان فرضاً عليهم أن يصبروا ولو قتلوا، وأن الله وضع عن هذه الأمة فقط الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه، وهناك أدلة كثيرة على خلاف هذا القول، وأن الإكراه معتبر عموماً، من ذلك قوله عز وجل: وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ [غافر:28]، وعموم الآية: إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ [النحل:106]، وحديث: (وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه)، لا مفهوم له على الصحيح؛ لأنه في مقام الامتنان، ولا يلزم ما ذكر في مقام الامتنان أن يكون غيره بخلاف هذا الحكم، فإن موسى عليه الصلاة والسلام ليس من أمة محمد صلى الله عليه وسلم وقد قال للخضر: قَالَ لا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا [الكهف:73]، فقبل الخضر ذلك، وهذا بأمر الله سبحانه وتعالى، فالمؤاخذة بالنسيان الظاهر أنها ليست خاصة بالأمة، وكذا الخطأ، والله أعلى وأعلم.

فالذي يظهر أن الأدلة التي يستدل بها إنما هي في فضل من صبر على الإكراه، أو في فضل من يتحمل ذلك، أو في ذم من يستجيب لداعي الكفر عند الإكراه، ولا يكون قلبه مطمئناً بالإيمان، فإن الشرط الأساسي: أن يكون قلبه مطمئناً بالإيمان، لكن من فتن فافتتن فإنه لا يكون ممدوحاً عند الله سبحانه وتعالى، ولا معذوراً كما قال عز وجل: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ [العنكبوت:10]، فهو يستجيب لداعي الفتنة.

وقد ذم الله المنافقين في قوله عز وجل: وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا [الأحزاب:14]، وفي الأثر: دخل الجنة رجل في ذباب، ودخل النار رجل في ذباب، وذكر قصة الرجلين اللذين مرا على قوم لهم صنم لا يجوزه أحد إلا قرب له شيئاً، وقالوا لأحدهما: قرب شيئاً، فقال: ما كنت لأقرب شيئاً دون الله عز وجل فقتلوه فدخل الجنة، وقالوا للآخر: قرب شيئاً، قال: لا أجد شيئاً أقربه، فقالوا: قرب ولو ذباباً، فقرب ذباباً فدخل النار.

فهذا استجاب لهم دون أن يعرض على القتل، كما دلت عليه القصة والله أعلى وأعلم.

فهؤلاء الفتية خشوا على أنفسهم أن يستجيبوا للباطل وأن يتبعوه إذا أكرهوا عليه، فلذلك قال: وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا [الكهف:20] أي: إن استجبتم لهم.

وجوب العزلة في حق أصحاب الكهف

الظاهر أن العزلة كانت في حق أصحاب الكهف واجبة، وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ [الكهف:16]، وهم قد ضحوا تضحية عظيمة حين لجئوا إلى الكهف، وآووا إليه؛ لأن معيشة أبناء الملوك والأغنياء -وقد كانوا مرفهين في مدينتهم- في كهف غير مهيأ أو معد فيه موضع منام أو مطعم أو مشرب أو غطاء أو كساء شبه مستحيلة، فسبحان الله! كيف ضحوا في سبيل الله سبحانه وتعالى ببيوتهم ووطنهم، وتحملوا مفارقة الأحباب والأهل والأصحاب لله عز وجل، ورجوا أعظم ما يرجى: يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ [الكهف:16]، وذلك أنهم لما تركوا لله، وعظموا رجاءهم بأن الله يعوضهم خيراً مما تركوه لأجله، أعطاهم الله خيراً منه ونشر لهم من رحمته، ووسع الله سبحانه وتعالى عليهم، وكتب لهم رحمته في الدنيا والآخرة.

وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقًا [الكهف:16] أي: أمراً ترتفقون به، وشيئاً من الرفق واليسر، فالذي يترك شيئاً لله يظن الناس أنه عسر فليبشر باليسر؛ فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا [الشرح:5].

فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ [الكهف:16]، والكهف ضيق مظلم فيه شدة، ومع ذلك رجوا فيه الرحمة والرفق من الله سبحانه وتعالى.

وفي قولهم: رَبُّكُمْ [الكهف:16] إضافة الرب إلى ضمير المخاطبين، وفي هذا دلالة على أنه يختصهم برحمته، ويحفظهم سبحانه وتعالى بحفظ ليس لغيرهم، لكمال إيمانهم بالله عز وجل حين ضحوا في سبيله سبحانه وتعالى.

هداية الله لهم إلى كهف له مميزات خاصة

قال الله تعالى: وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ [الكهف:17]، من تقدير الله سبحانه وتعالى أن ألهمهم اختيار كهف يناسب ما يريد الله عز وجل أن يجري فيه من آياته في قصة هؤلاء، فجعل الشمس تدخل الكهف ولا تصيبهم بحرارتها وأشعتها المباشرة، بل تدخل الكهف لمصلحتهم، إذا أشرقت وإذا غربت فإنها ( تزاور ) أي: تميل عن كهفهم.

وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ [الكهف:17]، أي: في متسع منه بحيث لا تصيبهم؛ إذ لو أصابتهم لأحرقت أبدانهم ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ [الكهف:17] انظر إلى الهداية لهذا الكهف من غير أن يفكروا أصلاً فيما ينبغي أن تكون عليه صفات هذا الكهف، وكيف أن الشمس تميل أو لا تميل، أو تقترب أو تبتعد، لم يفكروا في ذلك، ولكن الله عز وجل إذا العبد آمن به هداه إلى ما فيه مصالحه في الدنيا والآخرة من حيث علم ومن حيث لا يعلم، ولذلك تأكد وثق أنك إذا أقبلت على الله عز وجل تلقاك من بعيد، كما أخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم في قوله عن الله سبحانه وتعالى: (من تقرب إلي شبراً تقربت إليه ذراعاً، ومن تقرب إلي ذراعاً تقربت منه باعاً، ومن أتاني يمشي أتيته هرولة)، فالله يهديك بإيمانك إلى ما يصلح لك في الدنيا والآخرة من حيث أردت وشعرت ومن حيث لم ترد ولم تشعر، فهؤلاء الفتية لم يريدوا أن يكون الكهف بهذه الصفة، لكن قدر الله لهم ذلك هداية منه عز وجل، وآية من آياته لعباده المؤمنين؛ ليعظم توكلهم على الله سبحانه وتعالى.

الله هو الولي

قوله تعالى: وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا [الكهف:17]، الولي المرشد هو الله سبحانه وتعالى، الذي يتولى العبد ويتولى شأنه بالإصلاح، والذي يرشده إلى الهداية وإلى أسباب التوفيق والخير في دنياه وأخراه، فمن أضله الله فلن تجد له ولياً مرشداً.

كثير من الصوفية يحتجون بهذه الآية في غير موضعها، ويقولون: لابد من وجود الولي المرشد في الطريق إلى الله، وهو استدلال على عادتهم بالآيات في غير معانيها ومواضعها، فيقولون: لابد أن يكون لكل واحد ولي من أولياء الله يرشده، ومن ليس له شيخ فشيخه شيطان، ويكون ضالاً، مع أن الآية إنما هي في الله سبحانه وتعالى، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا [الكهف:17]، فالمؤمنون الذين هداهم الله لهم ولي مرشد، من هو الولي المرشد؟ هو الله، قال سبحانه: مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا [الكهف:17]، واستدلالهم بالآية في غير موضعه، وإن كان لا شك أن الإنسان يحتاج إلى معلم ومرشد، ولكن هذه الآية لا يستدل بها على ذلك؛ لأن إرشاد الرب سبحانه وتعالى وهدايته أعظم الهداية، وولايته لعبده المؤمن حفظاً وعناية ورعاية وتأييداً وتوفيقاً أعظم ولاية، ولذلك هو يتولى المؤمنين، ويتولى الصالحين، فهو ولي يتولى أمره، ومرشد يرشده، فهذا الذي يفعله الله بعباده المؤمنين لا نظير له فيما يفعله الناس.

كرامة أصحاب الكهف

قال سبحانه وتعالى: وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ [الكهف:18]، قال ابن كثير : ذكر بعض أهل العلم أنهم لما ضرب الله على آذانهم بالنوم لم تنطبق أعينهم لئلا تتأذى، فإذا بقيت ظاهرة للهواء كان أبقى لها، وهذا الكلام فيه نظر طبياً وواقعياً، وفهم كما قال: وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ [الكهف:18]، ويمكن أن يكون ذلك من باب المنظر من الخارج، فمن تقلبهم يظنهم الرائي أنهم مستيقظون، وإلا فالذي ينظر إليهم من بعد ربما لا يرى أعينهم، فمسألة أنهم لم تنطبق أعينهم فيها نظر، وإن كان فليس لأجل أن الهواء لا يفسدها، بل هذا هو من ضمن المعجزات، والطب يقول: إن العين المفتوحة تصاب أثناء النوم بالقرح، فلابد أن تغلق العين بشيء حتى لا تصاب بقرح؛ لأنه مع طول المدة من غير إغلاق نهائياً يتضرر الإنسان، والإنسان وهو مستيقظ يقفل عينه ويفتحها، فلو كانت مفتوحة أعينهم فهذا من ضمن المعجزة، وأن الله عز وجل أكرمهم ببقاء أعينهم مفتوحة من غير أن يصيبها ضرر، كما أن الله عز وجل أبقى أجسادهم من غير طعام ولا شراب ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا [الكهف:25]، وهذا مما لا يقع في عادة الناس أبداً، بل لا يحتمله جسم إنسان، نعم يمكن أن ينام لمدة طويلة على أقل قدر من الطاقة التي تستهلك من جسمه كما تبيت حيوانات غير الإنسان شهوراً طويلة وتستيقظ بعد ذلك من البيات الشتوي مثلاً، وذلك لأنها تستهلك أقل قدر من الطاقة، ولكن هذه السنين الطويلة معجزة من المعجزات التي أيد الله عز وجل بها أولياءه الصالحين، أو كرامة لهم أكرمهم الله سبحانه وتعالى بها.

فالأولى في ذلك أن نقول كما قال الله: ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ [الكهف:17]، وأما أن ذلك من الأمور الموافقة للعادة، وهو أن العين مفتوحة لأجل أن تكون أبقى، فهذا فيه نظر، والله أعلم.

يقول: وقد ذكر عن الذئب أنه ينام ويطبق عيناً ويفتح عيناً ثم يفتح هذه ويطبق هذه وهو راقد كما قال الشاعر:

ينام بإحدى مقلتيه ويتقي بالأخرى الرزايا فهو يقظان نائم

يتقي الرزايا بالعين الأخرى، فسبحان الله! العين لو نام شخص وعينه مفتوحة لا يرى بها، وليس أنه يتقي الرزايا بها؛ لأن المراكز نائمة، ولن تستقبل الأشعة والصور.

قال تعالى: وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ [الكهف:18]، قال بعض السلف: يقلبون في العام مرتين، قال ابن عباس : لو لم يقلبوا لأكلتهم الأرض، وهذا موافق للطب فعلاً.

وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ [الكهف:18]، قال ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير وقتادة الوصيد الفناء.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , فتية آمنوا بربهم [2] للشيخ :

https://audio.islamweb.net