إسلام ويب

تفسير قوله تعالى: (وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول)

قال عز وجل: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلا يَهْتَدُونَ [المائدة:104].(وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله) أي: من الكتاب المبين للحلال والحرام (وإلى الرسول) الذي أنزل هذا الكتاب عليه؛ لتقفوا على حقيقة الحال، وتميزوا بين الحرام والحلال، فترفضوا تقليد القدماء المفترين على الله الكذب بالضلال.(قالوا) يعني: لإفراطهم في الجهل وانهماكهم في التقليد (حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا) أي: كافينا ذلك.و(حسبنا) مبتدأ والخبر (ما وجدنا عليه آباءنا) فما هو ذاك الذي هو حسبهم؟ هو قولهم: (ما وجدنا عليه آباءنا) أي: الذي وجدنا عليه آباءنا. فهذا هو الخبر، فإن (ما) بمعنى الذي، والواو في قوله تعالى: (أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون) الواو هنا للحال دخلت عليها همزة الإنكار، يعني: أحسبهم ذلك ولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون؟! أيكفيهم ذلك حتى ولو كان هؤلاء الآباء لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون؟! فإذاً: الواو هنا للحال، ودخلت عليها همزة الإنكار، فكان المعنى: أحسبهم ذلك (ولو كان آباؤهم لا يعلمون شيئاً) أي: لا يعرفون حقاً ولا يفهمونه (ولا يهتدون) أي: إليه?!قال الزمخشري : والمعنى أن الاقتداء إنما يصلح للعالم المهتدي، وإنما يعرف اهتداؤه بالحجة. ففيه ذم أن يقتدي الإنسان بعالم غير مهتد، ولا يكون مهتدياً إلا إذا بنى قوله على الحجة والدليل، وإذا لم يكن معه حجة ودليل لا يكون عالماً ولا مهتدياً، فوجب أن لا يجوز الاقتداء به، وثمرة الآية قبح التقليد، ووجوب النظر، واتباع الحجة.وقد فسر التقليد بأنه قبول قول الغير من غير حجة.

تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم...)

قال تبارك وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ [المائدة:105].قوله عز وجل: (يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم) أي: احفظوها وقوموا بصلاحها.(لا يضركم من ضل إذا اهتديتم) قيل: المراد: لا يضركم من ضل من أهل الكتاب. وقيل: المراد غيرهم. كما في حديث أبي ثعلبة الخشني قال: سألت عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (ائتمروا بالمعروف، وتناهوا عن المنكر، حتى إذا رأيت شحاً مطاعاً، وهوىً متبعاً، ودنيا مؤثرة، وإعجاب كل ذي رأي برأيه فعليك بخاصة نفسك) رواه الحاكم وغيره، وصححه الترمذي .وروى أبو داود والترمذي والنسائي بأسانيد صحيحة عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال: (إنكم تقرءون هذه الآية وتضعونها في غير موضعها، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب منه.) إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [المائدة:105] يعني: ينبئكم ثم يجازيكم به.

كلام القاسمي وغيره في معنى قوله: (عليكم أنفسكم...)

يقول القاسمي : قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ [المائدة:105] أي: الزموا أن تصلحوها باتباع كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.(لا يضركم من ضل) أي: هؤلاء الضالون الذين سبق حكاية كلامهم ومنهجهم الذين قالوا: (حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا)، أو ممن أخذ بشبهة فضل بها أو عاند في قول أو فعل.فقوله تعالى: (عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم) يعني: إذا اهتديتم إلى الإيمان. وكأن المؤمنين كان يشتد عليهم بقاء الكفار على كفرهم وضلالهم، فقيل لهم: عليكم أنفسكم وما كلفتم به من إصلاحها، والمشي بها في طريق الهدى، لا يضركم ضلال الضالين وجهل الجاهلين إذا كنتم مهتدين.فإذاً: هذه الآية -حقيقة- من الآيات التي ينبغي التنبه واليقظة عند دراسة تفسيرها؛ لأن كثيراً من الناس يضعونها في غير موضعها، فالآية لا تدعو أبداً إلى الأنانية، أعني أنه يكفيك أمر نفسك، فما دمت مهتدياً فلا تبال بالآخرين، فليس المقصود ذلك.بل الآية على الوجه الأول المذكور المقصود بها تماماً كالمقصود من قوله تعالى: فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ [فاطر:8] وقوله تعالى: فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا [الكهف:6] فهذا تهوين وتخفيف على الرسول عليه الصلاة والسلام وعلى الأمة أيضاً، يعني: لا يشقن عليكم ما يقع من هؤلاء من استمرارهم على الكفر بالإيمان.فالله تعالى يقول: (عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم) فإن من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فإنه لا يضر الله شيئاً، وإنما يضر نفسه.فهذا هو المقصود في هذا التفسير الأول، أي: لا يضركم ضلال غيركم إذا كنتم أنتم مهتدين، لا يشقن ذلك عليكم، ولا تتحسروا حسرة تكاد تقتلكم، كما قال عز وجل لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم: (فلا تذهب نفسك عليهم حسرات) وكان هذا من شدة رحمته بالأمة صلى الله عليه وسلم.كذلك يقول الزمخشري : وكذلك من يتأسف على ما فيه الفسقة من الفجور والمعاصي، ولا يزال يذكر معايبهم ومناكيرهم فهو مخاطب بهذه الآية. يعني: لا تشتغل ولا تضيع وقتك وجهدك وطاقتك في حكاية ما عليه أهل الباطل من الضلال، فتقول: الرجل الفلاني شتم الإسلام وقال كذا، والصحفي الفلاني كتب مقالة قال فيها كذا، والرسام الفلاني للكاركتير فعل كذا، وإذاعة كذا قالت كذا، وفي التمثيلية الفلانية قالوا: كذا.فكأنك تنصرف بهذا عن وظيفتك في عبودية الله سبحانه وتعالى، بأن تنشغل بالحكاية والاسترسال في متابعة ضلالات أعداء الدين، فتأمل قول الزمخشري هنا!وكذلك يخاطب بهذه الآية من يتأسف على ما فيه الفسقة من الفجور والمعاصي، ولا حرج في أن الإنسان يتأسف ويتألم مما يصنع أعداء الدين، ولكن ليس له أن يظل يذكر معايبهم ومناكيرهم، ولا يبقى له شغل سوى ذلك.فالعبد يخاطب بهذه الآية كي لا ينشغل عن الحق الذي كلف به بتتبع أضاليل هؤلاء الملحدين، فقوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم) أي: اشتغلوا بما كلفتم به. وليس معنى ذلك أن ترضى بكفر الكفار، أو لا تتألم بسبهم للإسلام، إنما المقصود أن لا تنشغل بهم وبذكر مثالبهم عما كلفت به من الحق؛ لأن هذا الذي يفعله أعداء الدين في كل وقت وفي كل زمان ومكان ليس أمراً جديداً ومستغرباً على المؤمنين، بل هو أمر أخبرهم الله سبحانه وتعالى به مسبقاً.ألم نسمع قوله تعالى من قبل: لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ [آل عمران:186] فالأمر هنا بالصبر والتقوى، والصبر هو الصبر الجميل، كما قال تعالى: فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا [المعارج:5].يقول تعالى: (إلى الله مرجعكم) فتذكر -أيها المسلم- دائماً أن المآل والمصير إليه؛ فإن هذا يواسيك ويعينك على ما أنت فيه من الغربة (إلى الله مرجعكم) يعني: بعد الموت مرجعكم جميعاً أنتم وهؤلاء الذين يعادونكم.( فينبئكم) أي: يخبركم.(بما كنتم تعملون) أي: في الدنيا من أعمال الهداية والضلال، فهذه الآية وعد ووعيد للفريقين، وتنبيه على أن أحداً لا يؤاخذ بعمل غيره، تنبيه لكم على أن تشتغلوا بما ينفعكم في دينكم، ولا تشتغلوا بذكر ما يصنعه أعداؤكم؛ لأن كلاً منكم سيحاسب بعمله هو لا بعمل غيره، ولذلك قال عز وجل: (إلى الله مرجعكم فينبئكم بما كنتم تعملون) والمقصود: فيجازيكم به.

التفسير الشائع عند العوام لقوله تعالى: (عليكم أنفسكم...)

ولا يستدل بالآية على سقوط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لأن الظاهر من الآية أن ضلال الغير لا يضر، وأن المطيع لربه لا يكون مؤاخذاً بذنوب العاصي، وإلا فمن تركهما مع القدرة عليهما فليس بمهتد، وإنما هو بعض الضلال الذي فصلت الآية بينهم وبينه.وبعض الناس قد يستدل بالآية على إبطال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أخذاً بظاهرها، فيقول في هذه الآية: (يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم) إذا رأيت من قد ضل عن طريق الله يرتكب المعاصي أو البدع أو المخالفات فهذا لن يضرك وأنت على دينك.وهذا في الحقيقة ليس على إطلاقه، ولا يصح فهم الآية بهذه الطريقة.ولماذا نقول: إن هذا التفسير لا يصح؟ لأن الإنسان إذا كان قادراً على تغيير المنكر بأي درجة من درجات الإنكار ثم قصر في إنكاره فإن ضلال غيره يضره في حالة القدرة على إزالة المنكر؛ لأن لله حقاً عليك في إنكار هذا المنكر.والحقيقة أن ضلال الغير يضر القادر على تغيير ضلاله أو منكره، ولذلك يجب أن نحسن فهم الآية (عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم)، فلا ينبغي أبداً ولا يصح إنزالها على ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عند القدرة على إنكار هذا المنكر؛ لأن المطيع يؤاخذ بذنب العاصي ويضره ضلاله إذا قدر على تغيير المنكر ولم يغيره.وليس هذا فحسب، بل هذه الآية نفسها يستدل بها على التكليف بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لأن الله سبحانه وتعالى يقول: (يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم) فمن قدر على إنكار المنكر ولم ينكره فهو من الضالين الذين يحذرنا الله أن نسلك مسلكهم، فكأن الآية ترشدنا إلى أن ننكر المنكر على أهله ما دمنا قادرين على ذلك، ولا يضرنا من ضل بترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهو قادر إذا اهتدينا نحن بفعل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بشروط، فالالتزام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو من جملة الاهتداء إذا اهتدينا، وترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع القدرة هو من جملة الضلال الذي أمرنا ألا نتبع من يقع فيه.

الآية ودلالتها على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

إذاً: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من تركهما مع القدرة فليس بمهتد، وإنما هو بعض الضلال الذي فصلت الآية بينهم وبينه، ويمكن أن يستدل بهذه الآية على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لقوله تعالى: عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ [المائدة:105] إذ يدخل في ذلك كل ما لزم من الواجبات، يعني: الزموا أنفسكم بكل ما وجب عليكم كما قال المهايمي في تفسيره: (عليكم أنفسكم) أي: الزموا أن تصلحوها باتباع الدلائل من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ودعوة الإخوان إلى ذلك. كما قال تعالى عن المؤمنين: وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ [العصر:3] بإقامة الحجج ودفع الشبه، فالله سبحانه وتعالى حكم بأن كل إنسان في خسر فقال: وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ [العصر:1-2] فكل بني آدم في خسر إلا من جمع هذه الأربع: إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ [العصر:3].فإذا آمن وعمل الصالحات ولم يتواص مع إخوانه بالحق فهو من الخاسرين، وإذا آمن وعمل الصالحات وتواصى معهم بالحق لكنه لم يتواص بالصبر فذلك نوع من الخسران.إذاً: لا يضركم من ضل إذا اهتديتم بدعوتهم إلى ما أنزل الله وإلى الرسول، وإقامة الحجج عليهم ودفع الشبه عنهم، وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر بما أمكن من القول والفعل، ولا تقصروا في ذلك إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [المائدة:105] من التقصير أو الإيفاء قولاً وفعلاً في حق أنفسكم أو غيركم. انتهى كلامه.ونقل الرازي عن عبد الله بن المبارك رحمه الله تعالى أنه قال: هذه أوكد آية في وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.فالإمام عبد الله بن المبارك رحمه الله يعتبر هذه الآية أوكد آية في إيجاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإنه قال: (عليكم أنفسكم) يعني: عليكم أهل دينكم. فانظر كيف فسرها ابن المبارك ! لأننا نلاحظ كثيراً في القرآن أنه استعملت عبارة النفس أو الأنفس وأطلقت على الإخوة الموافقين في الدين، كقوله تعالى: لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا [النور:12] أي: بإخوانهم، وقوله تعالى: وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ [الحجرات:11] والمقصود: لا تلمزوا إخوانكم، وقوله تعالى: فَسَلِّمُوا عَلَى أَنفُسِكُمْ [النور:61] ومعناها على إحدى التفسيرين: إخوانكم. وقوله تعالى: وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ [البقرة:188] يعني: أموال أنفسكم، والمقصود أموال المسلمين.وقوله تعالى: فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ [البقرة:54] والمقصود: اقتلوا إخوانكم. أي: يقتل بعضكم بعضاً. وكانت هذه توبة لليهود، والأمثلة على ذلك كثيرة في القرآن.فالشاهد من هذا كله أن قوله تعالى: (عليكم أنفسكم) يعني: عليكم أهل دينكم. كقوله تعالى: (فاقتلوا أنفسكم) أي: أهل دينكم.(لا يضركم من ضل) يعني: من الكفار إذا اهتديتم أنتم.فقوله: (عليكم أنفسكم) يعني: بأن يعظ بعضكم بعضاً في الخيرات، وينفره عن القبائح والسيئات. والذي يؤكد ذلك ما بينا أن قوله: (عليكم أنفسكم) معناه: احفظوا أنفسكم من ملابسة المعاصي والإصرار على الذنوب. فكان ذلك أمراً بأن نحفظ أنفسنا، فإذا لم يكن ذلك الحفظ إلا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كان ذلك واجباً.

فهم الصحابة والسلف لقوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم ...)

روى الإمام أحمد عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه: (أنه قام فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أيها الناس! إنكم تقرءون هذه الآية (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ ))[المائدة:105] إلى آخر الآية، وإنكم تضعونها على غير موضعها، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن الناس إذا رأوا المنكر ثم لا يغيرونه يوشك أن يعمهم الله عز وجل بعقابه) ومعناه أننا لا نستطيع أن نحفظ أنفسنا إلا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.وروى الترمذي عن أبي أمية الشعياني قال: أتيت أبا ثعلبة الخشني فقلت له: (كيف تصنع بهذه الآية؟! قال: أية آية؟! قلت: قوله تعالى: (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ ))[المائدة:105] قال: أما والله لقد سألت عنها خبيراً -أو: أما والله لقد سألت عنها أنا خبيراً- سألت عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ائتمروا بالمعروف، وتناهوا عن المنكر، حتى إذا رأيت شحاً مطاعاً، وهوى متبعاً، ودنيا مؤثرة، وإعجاب كل ذي رأي برأيه فعليك بخاصة نفسك، ودع العوام، فإن من ورائكم أياماً الصابر فيهن مثل القابض على الجمر، للعامل فيهن مثل أجر خمسين رجلاً، يعملون مثل عملكم)قال عبد الله بن المبارك: وزاد غير عتبة قيل: (يا رسول الله! أجر خمسين رجلاً منا أو منهم؟ قال: بل أجر خمسين منكم)، قال الترمذي : هذا حديث حسن غريب. وكذا رواه أبو داود وابن ماجة وابن جرير وابن أبي حاتم .وهذه الرواية -إن صحت- يفهم منها أن الآية تكون على ظاهرها في هذه الحالات إذا توافرت هذه الشروط، أي: (عليكم أنفسكم) إذا جزمتم بأن لا طائل من وراء الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ففي هذه الحالة عليك بخاصة نفسك والذين هم أقاربك، سواء من أهل بيتك أو أولادك أو إخوانك في الدين الذين يعظمون الشرع ويلتزمون الدين، فعليك بهم والزمهم، ودع عنك أمر العوام، فإن عامتهم يقعون في تلك الأحوال، يقول أبو ثعلبة رضي الله تعالى عنه . (أما والله لقد سألت عنها خبيراً، سألت عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: بل ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر) يعني: استمروا في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حتى إذا رأيتم هذه العلامات (حتى إذا رأيت شحاً مطاعاً، وهوىً متبعاً، ودنيا مؤثرة) يفضلون الدنيا على الآخرة (وإعجاب كل ذي رأي برأيه، فعليك بخاصة نفسك، ودع العوام، فإن من ورائكم أياماً) يعني: سوف تأتي أيام تشتد فيها غربة الإسلام، ويعاني المؤمن الموحد المطيع لله عز وجل ورسوله من الأذى كما يعاني الشخص إذا قبض على الجمر المتقد، وتخيل إنساناً إذا قبض على الجمر يمسكه بكل قوة دون أن يترخص في التخلي عن دينه وعن إيمانه، (فإن من ورائكم أياماً الصابر فيهن مثل القابض على الجمر)، يعني: لا يؤذى إلا بسبب أنه متدين، ولا يسب إلا لأنه يطيع الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم، ولذلك يضاعف للصابر على هذا الأذى ثوابه، للعامل فيهن في هذه الأيام مثل أجر خمسين رجلاً، يأخذ أجر خمسين رجلاً من الصحابة، فهذا الصحابي سأل الرسول عليه الصلاة والسلام عن كونهم خمسين من الذين يعيش بينهم أم خمسين من الصحابة فقال: (بل أجر خمسين منكم).هذا لا يلزم منه أن يكون الواحد من هؤلاء أفضل من الصحابة، فإن مضاعفة الأجر في هذه الأشياء لا يمكن أن تفي بفضائل الصحابة رضي الله تعالى عنهم، خاصة أعظم فضيلة على الإطلاق، وهي رؤية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومصاحبته، فليس معنى هذا أنه يكون أفضل من الصحابي.وعن أبي العالية عن ابن مسعود في قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ [المائدة:105]... الآية، قال: كانوا عند عبد الله بن مسعود جلوساً، فكان بين رجلين بعض ما يكون بين الناس، حتى قام كل واحد منهما إلى صاحبه، فقال رجل من جلساء عبد الله : (ألا أقوم فآمرهما بالمعروف وأنهاهما عن المنكر؟! فقال آخر إلى جنبه: عليك بنفسك؛ فإن الله يقول: عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ [المائدة:105] قال: فسمعها ابن مسعود فقال: مه -يعني: اسكت- لم يجئ تأويل هذه بعد، إن القرآن أنزل حيث أنزل، ومنه آي قد مضى تأويلهن قبل أن ينزلن، وفيه آي قد وقع تأويلهن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومنه آي قد وقع تأويلهن بعد النبي صلى الله عليه وسلم بيسير، ومنه آي يقع تأويلهن بعد اليوم، ومنه آي تأويلهن عند الساعة ما ذكر من الساعة، ومنه آي يقع تأويلهن يوم الحساب ما ذكر من الحساب والجنة والنار، فما دامت قلوبكم واحدة، وأوهواؤكم واحدة، ولم تلبسوا شيعاً، ولم يذق بعضكم بأس بعض، فأمروا وانهوا، وإذا اختلفت القلوب والأهواء وألبستم شيعاً، وذاق بعضكم بأس بعض فأمرؤ ونفسه، وعند ذلك جاءنا تأويل هذه الآية) أخرجه ابن جرير .وأخرج -أيضاً- أنه قيل لـابن عمر : (لو جلست في هذه الأيام فلم تأمر ولم تنه -يعني: أيام الفتنة- فإن الله قال: عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ [المائدة:105] فقال ابن عمر : إنها ليست لي ولا لأصحابي؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ألا فليبلغ الشاهد الغائب، فكنا نحن الشهود وأنتم الغيب -يعني: مسئولون عن أن نبلغكم- ولكن هذه الآية لأقوام يجيئون من بعدنا إن قالوا لم يقبل منهم).وقد ضعف الرازي ما روي عن ابن مسعود وابن عمر مما سقناه، قال: لأن قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا [المائدة:105] خطاب عام، وهو -أيضاً- خطاب للغائبين مع الحاضرين، فكيف يخرج الحاضر ويخص الغائب؟! انتهى.يقول القاسمي : ليس مراد ابن مسعود وابن عمر رضي الله عنهما إخراج الحاضرين عن الخطاب، وأنه لم يعن بها إلا الغُيَّب، وإنما مرادهما الرد على من تأولها بترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فأعلماه بأنه لا يسوغ الاستشهاد بها في ترك ذلك والاسترواح لظاهرها إلا في الزمن الذي بيناه، وحاصله: أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجبان ما قبلا، فإن ردا في مثل ذلك الزمن فليقرأ (عليكم أنفسكم) فهذا مرادهما، والله تعالى أعلم.

تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت...)

قال عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الآثِمِينَ * فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ * ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ [المائدة:106-108].هذه الآية من الآيات التي تحتاج إلى انتباه في فهمها وتفسيرها، وقد أفاض المفسرون في الكلام فيها، حتى قال السعد في حاشيته على الكشاف: واتفقوا على أنها أصعب ما في القرآن إعراباً ونظماً وحكماً. وإن كان بعض العلماء لا يوافقونه على ذلك.قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت) معنى (إذا حضر أحدكم الموت) أي: حضر الموت حقيقة، أي: مقدماته وأماراته.فقوله تعالى: (حضر أحدكم الموت) يعني: حضر أحدكم أمارات وعلامات الموت.(حين الوصية) هذا بدل من الظرف، وليس ظرفاً للموت ولا لحضوره، فإن في الإبدال تنبيهاً على أن الوصية من المهمات التي لا ينبغي التهاون بها.وقوله تعالى: (اثنان) خبر (شهادة) الذي هو المبتدأ، فالخبر هنا متأخر، وهو (اثنان) فيعرب على أنه خبر مرفوع بالألف لأنه مثنى، فقوله تعالى: (شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان) يعني: شهادة اثنين. فيقدر هنا مضاف، فيكون التقدير: شهادة بينكم حينئذٍ شهادة اثنين.أو يعرب على أن (شهادة) مبتدأ خبره محذوف، أي: فيما نزل عليكم أن يشهد بينكم اثنان. فتكون لفظة (اثنان) هنا فاعل لـ(يشهد).(ذوا عدل منكم) أي: من المسلمين (أو آخران من غيركم) أي: من أهل الذمة.فإذا عجزتم عن المسلمين فآخران من غيركم من أهل الذمة.(إن أنتم ضربتم في الأرض) أي: سافرتم فيها.(فأصابتكم مصيبة الموت تحبسونهما) أي: توقفوهما للتحليف.(من بعد الصلاة) أي: صلاة العصر، كما قاله ابن عباس وثلة من التابعين، لكن كيف يقال: إنها صلاة العصر، مع أن الله سبحانه وتعالى لم يعين صلاة العصر في القرآن الكريم؟قيل: عدم تعيينها لتعيينها عندهم للتحليف بعدها؛ إذ عند المسلمين تعظيم الحلف بعد العصر، كما في الحديث: (ورجل حلف على يمين كاذبة بعد العصر )، فوقت العصر له وضع خاص في القسم فيه، وإن كان الإنسان مطالباً بالصدق في الأيمان في كل وقت.فإذاً: المعنى: من بعد صلاة العصر. كما قاله ابن عباس وثلة من التابعين، وعدم تعيينها لتعيينها عندهم بالتحليف بعدها، لأنه ليس وقت اجتماع الناس، فإن الناس في الغالب يكونون في السوق فترة الضحى والظهيرة، فإذا جاء وقت العصر انفضوا من السوق، حتى إن الإنسان الذي عنده رأس مال إذا جاءه وقت العصر تكون قد ذهبت عليه الصفقات في هذا الوقت، فيريد أن ينفق سلعته لأنه سيخسر.ولذلك قال بعض العلماء: ما فهمت هذه الآية: وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ [العصر:1-2] حتى جئت يوماً من الأيام إلى السوق بعد العصر، فإذا تاجر ممن كان يبيع الثلج المجمد في قوالب يجري في السوق ويصرخ في الناس ويقول: ارحموا من يذوب رأس ماله. لأن هذا الثلج إذا ذاب وصار ماءً فهل سيستطيع بيعه بعد أن يذوب؟ لا، فقال: إن هذه الآية: وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ [العصر:1-2] تعني أن العصر رأس مال الإنسان، وهو الوقت، فإذا ضاع منك الوقت فقد خسرت الربح وخسرت -أيضاً- نفس رأس المال إذا ضاع عمرك.فقوله تعالى: (من بعد الصلاة) أي: صلاة العصر.وأول شيء من أسباب تخصيص صلاة العصر بالذكر هو أن العصر وقت اجتماع الناس في المسجد، فينفض السوق ويجتمع الناس جميعاً في المسجد لصلاة العصر.كما أن العصر وقت تعاقب ملائكة الليل وملائكة النهار، فيجتمع ملائكة الليل وملائكة النهار -كما هو معلوم- في صلاة العصر وصلاة الفجر.وحينما يجتمع ملائكة الليل وملائكة النهار ففي ذلك تكثير للشهود منهم على صدقه أو كذبه، ومعناه أن الشهود ستكثر على ابن آدم، فملائكة الليل وملائكة النهار موجودة شاهدة على هذا الذي يحلف، سواء حلف كاذباً أو حلف صادقاً، فلعل هذا من الحكمة في تخصيص صلاة العصر.ومعلوم أن هذا غير حاصل في صلاة الفجر، فصلاة الفجر الناس بعدها يعودون إلى بيوتهم، وإن كان يحصل وجود ملائكة الليل والنهار.وعن الزهري أنه قال في تفسير الآية (من بعد الصلاة): بعد أي صلاة للمسلمين كانت، وذلك لأن الصلاة داعية إلى النطق بالصدق. فالإمام الزهري يقول: بعد أي صلاة، ولا يشترط أن تكون صلاة العصر؛ لأن الإنسان إذا صلى فالصلاة تدعو إلى الخير، وتنهى عن الفحشاء والمنكر، إذا كان حديث عهد بالصلاة فإن الصلاة تنهاه عن أن يكذب في حلفه، فهي داعية إلى النطق بالصدق، وناهية عن الكذب والزور، كما قال الله تعالى: إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ [العنكبوت:45] فالتعريف بالصلاة إما للعهد الذهني أو للجنس، فإذا قلنا: إنها للعهد الذهني فالمراد صلاة العصر، مثل قوله تعالى: فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ [المزمل:16] ومعلوم من هو الرسول، فهو موسى عليه السلام، ومثل قوله تعالى: وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا [الفرقان:30] فالرسول هنا هو محمد صلى الله عليه وسلم، فكذلك (أل) في (الصلاة) إذا قلنا: إنها للعهد فهي الصلاة المعهودة وهي صلاة العصر، أو أن اللام للجنس فتشمل كل صلاة على قول الزهري .قوله تعالى: (فيقسمان بالله) أي: يحلفان.(إن ارتبتم) أي: إن شككتم فيهما بخيانة، أو أخذ شيء من تركة الميت.قوله تعالى: (لا نشتري به ثمناً) جواب للقسم، أي: والله لا نشتري به ثمناً. أي: يا فلان! لا نأخذ لأنفسنا بدلاً من الله -أي: عرضاً من أعراض الدنيا- أن نهتكها ونزيلها بالحلف الكاذب، أي: لا نحلف بالله كاذبين لأجل المال. (ولو كان) أي: لو كان من نقسم له ونشهد عليه ذا قربى، ودل عليه فحوى الكلام، (ذا قربى) أي: قريباً منا.واسم كان الضمير (هو)، والتقدير: ولو كان هو ذا قربى. أي: من نقسم له ونشهد عليه، وفحوى الكلام يدل عليه.فقوله تعالى: (ذا قربى) أي: قريباً منا، تأكيداً لبراءتهم من الحلف كاذباً، ومبالغة في التنزه عنه، كأنهما قالا: لا نأخذ لأنفسنا بدلاً من حرمة اسمه تعالى مالاً، واضمم إليه رعاية جانب الأقرباء، فكيف إذا لم يكن كذلك؟! يعني: لو كان قريباً ما كنا لنفعل هذا، فكيف لو لم يكن قريباً لنا؟! فهو أبعد لنا من أن نشتري به ثمناً.(ولا نكتم شهادة الله) أي: الشهادة التي أمرنا الله تعالى بإقامتها. وإضافتها إلى الاسم الكريم تشريف لها وتعظيم لأمرها.(إنا إذاً لمن الآثمين) يعني: إنا إذاً إن كتمناها لمن المعدودين والمستقرين في الإثم.

تفسير قوله تعالى: (فإن عثر على أنهما استحقا إثماً فآخران يقومان مقامهما...)

قال عز وجل: فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ [المائدة:107].قوله تعالى: (فإن عثر) أي: إن اتبع بعد التحليف (على أنهما) أي: الشاهدين الوصيين (استحقا إثماً) أي: فعلا ما يوجبه من خيانة أو غلول شيء من المال الموصى به إليهما.(فآخران يقومان مقامهما) يعني: رجلان آخران يقومان مقام الذين عثر على خيانتهما، أي: في توجه اليمين عليهما لإظهار الحق وإظهار كذبهما فيما ادعيا من استحقاقهما لما في أيديهما.فهذان اللذان حلفا إن اتضح بعدما حلفا أنهما استحقا إثماً بخيانة أو غلول من المال، أو زعما -مثلاً- أن هذا المال قد أوصى به إلينا، أو أعطانا هذا القدر من المال قبل أن يموت مثلاً فإنه يتوجب على شخصين آخرين أن يقوما مقامهما في إظهار الحق، والحلف من أجل إظهار هذا الحق، وإبراز كذبهما فيما ادعيا من استحقاقهما للمال، إن عثر على أن الشاهدين الأولين قد استحقا إثماً، بأن زعما أن هذا المال أعطاه أياهما رجل ووهبه لهما.(فإن عثر على أنهما استحقا إثماً فآخران يقومان مقامهما من الذين استحق عليهم الأوليان) من ورثة الميت الذين استحق من بينهم الأوليان أي: الأقربان إلى الميت الوارثان له الأحقان بالشهادة، أي: اليمين، فـ( الأوليان) فاعل استحقا، ومفعول استحقا محذوف قدره بعضهم (وصيتهما)، وقدره ابن عطية (ما لهما وتركتهما)، وقدره الزمخشري : أن يجردوهما للقيام بالشهادة -لأنها حقهما- ويظهروا بهما كذب الكاذبين، وقرئ على البناء للمفعول، أي: من الذين استحق عليهم الإثم -أي: بني عليهم- وهم أهل الميت وعشيرته، فـ(الأوليان) مرفوع على أنه خبر لمبتدأ محذوف، أي: (فإن عثر على أنهما استحقا إثماً فآخران من الذين استحق عليهما) وكأنه لأنه قيل: ومن هما؟ وسيأتي الجواب أنهما الأوليان.أو هو بدل من الضمير في (يقومان) أو من (آخران)، ويجوز أن يرتفعا بـ(استحق) على حذف المضاف، أي: استحق عليهم ندب الأوليين منهم للشهادة.وقرئ (الأولين) على أنه صفة لـ(الذين) مجرورة، أو منصوب على المدح، ومعنى الأولية التقدم على الأجانب في الشهادة لكونهم أحق بها؛ إذ هذان يكونان من أقرباء الميت.وقرئ (الأوليين) على التثنية وانتصابه على المدح.وقرئ (الأوليين) تسمية أول نصباً على ما ذكر، كما في البيضاوي ، والكلام فيه كثير، ونقتصر على هذا القدر في الإعراب.قوله تعالى: (لشهادتنا أحق من شهادتهما) أي: لشهادتنا أحق بالقبول من شهادتهما، أي: لقولنا إنهما خانا وكذبا فيما ادعيا من الاستحقاق. يعني أن هذين الاثنين اللذين كانا مع هذا الرجل في السفر وزعما أن هذا المال الذي كان معه هو لهما أو أعطاهما إياه، أو أوصى به إليهما، ونحو ذلك من أنواع الخيانة أو الغلول يؤتى بهما بعد صلاة العصر ليحلفا على هذه الوصية، فإن عثر على أنهما استحقا إثماً بخيانة أو غلول، وجاء اثنان من أقارب الميت بعد ذلك في نفس الوقت للحلف بعد الصلاة فإنهما يقسمان بالله لشهادتنا أحق من شهادتهما، أي: لقولنا أحق بالقبول من شهادتهما، فقوله تعالى: (لشهادتنا) أي: على هذين بأنهما خانا وكذبا، والمقصود: لقولنا: إن هذين الرجلين قد كذبا وخانا فيما ادعيا من الاستحقاق، هذا القول منا أحق من شهادتهما المتقدمة، لأنه قد ظهر للناس استحقاقهما للإثم.(وما اعتدينا) أي: وما تجاوزنا الحق فيما اتهمناهما فيه من الخيانة، فلم نتهمهما جزافاً.(إنا إذاً لمن الظالمين) قوله: (إنا إذاً) يعني: إن اعتدينا (لمن الظالمين) أي: أنفسهم بتعريضها لسخط الله تعالى وعذابه، بسبب هتك حرمة اسم الله تعالى، فسنكون ظالمين إن استعملنا الحلف باسم الله في ظلم هذين، أو من الواضعين الحق في غير موضعه.ومعنى الآية أن الرجل إذا حضرته الوفاة في سفر فليشهد رجلين من المسلمين، فيقول: مال كذا أعطوه لفلان، أو الوصية هي كذا.. إلى آخره، فإن لم يجد مسلمين فرجلين من أهل الكتاب يوصي إليهما ويدفع إليهما ميراثه، فإذا قدما بتركته فإن صدقهما الورثة وعرفوا ما لصاحبهم قبل قولهما وتركا يخلى سبيلهم، وإن اتهموهما -أي: إن طعن الورثة في هذين الرجلين واتهموهما- رفعوهما إلى السلطان، فحلفا بعد صلاة العصر بالله: ما كتمنا ولا كذبنا ولا خنا ولا غيرنا. فإن اطلع الأوليان الأقربان من الميت -من الورثة- على أن الكافِرَين كذبا في شهادتهما قام رجلان من الأولياء فحلفا بالله أن شهادة الكافِرَين باطلة، وأنا لم نعتد. فترد شهادة الكافرين، وتجوز شهادة الأولياء، هكذا روى ابن جرير عن ابن عباس وابن جبير وغيرهما.قال الإمام ابن كثير : وهذا التحليف للورثة، والرجوع إلى قولهما -والحالة هذه- كما يحلف أولياء المقتول إذا ظهر لوث في جانب القتل، فيقسم المستحقون القاتل، فيدفع برمته إليهم كما هو مقرر في باب القسامة.وقد ورد في السنة مثل ما دلت عليه هذه الآية الكريمة، فقد روى ابن أبي حاتم عن ابن عباس عن تميم الداري في هذه الآية: (يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم..) إلى آخرها قال: (برئ الناس منها غيري وغير عدي بن بداء ، وكانا نصرانيين يختلفان إلى الشام قبل الإسلام، فأتيا الشام لتجارتهما، وقدم عليهما مولىً لبني سهم يقال له: بديل بن أبي مريم بتجارة معه جام من فضة يريد به الملك، وهو أعظم تجارته، فمرض فأوصى إليهما، وأمرهما أن يبلغا ما ترك أهله -أي: يوصلا هذا المال من الفضة إلى أهله- قال تميم : فلما مات أخذنا ذلك الجام فبعناه بألف درهم، واقتسمناه أنا وعدي ، فلما قدمنا إلى أهله دفعنا إليهم ما كان معنا وفقدوا الجام -أي: أعطياهم ما بقي بعدما أخذا من المال ما أخذاه، ولم يذكرا شيئاً عن الجام، وأهله كانوا يعرفون أن الجام أعظم ما يملك- قال: فسألونا عنه، فقلنا: ما ترك غير هذا، وما دفع إلينا غيره.قال تميم : فلما أسلمت بعد قدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة تأثمت من ذلك، فأتيت أهله فأخبرتهم الخبر ودفعت إليهم خمسمائة درهم، وأخبرتهم أن عند صاحبي مثلها، فوثبوا عليه، فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يستحلفوه بما يحكم به على أهل دينه، فحلف فنزلت: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الآثِمِينَ * فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا [المائدة:106-107] فقام عمرو بن العاص ورجل آخر منهم فحلفا، فنزعت الخمسمائة من عدي بن بداء ). هكذا رواه الترمذي وابن جرير عن محمد بن إسحاق به فذكره، وعنده: (فأتوا به رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألهم البينة فلم يجدوا، فأمرهم أن يستحلفوه بما يعظم به على أهل دينه، فحلف، فأنزل الله هذه الآية، فقام عمرو بن العاص ورجل آخر فحلفا، فنزعت الخمسمائة من عدي بن بداء ) ثم تكلم الترمذي على إسناده، والحديث أصله في البخاري في كتاب الوصايا.والجام: هو الإناء، وهو جام من فضة، وتخويصه أن يجعل عليه صفائح من ذهب كخوص النخل.ومن الشواهد لصحة هذه القصة ما رواه ابن جرير بإسنادين صحيحين وأبو داود بإسناد رجاله ثقات عن الشعبي أن رجلاً من المسلمين حضرته الوفاة بدقوقا -اسم بلد- ولم يجد أحداً من المسلمين يشهده على وصيته، فأشهد رجلين من أهل الكتاب، قال: فقدما الكوفة فأتيا أبا موسى الأشعري رضي الله عنه فأخبراه، وقدما الكوفة لتركته ووصيته، فقال الأشعري : (هذا أمر لم يكن بعد الذي كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم) قال: فأحلفهما بعد العصر بالله ما خانا ولا كذبا، ولا بدلا ولا كتما ولا غيرا، وإنها لوصية الرجل وتركته، قال: فأمضى شهادتهما.وقوله: (هذا أمر لم يكن بعد الذي كان على عهد رسول الله عليه الصلاة والسلام) يعني: هذه الحادثة لم تتكرر بعد وفاة الرسول عليه الصلاة والسلام منذ حادثة قصة تميم وعدي بن بداء .

تفسير قوله تعالى: (ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها...)

قال عز وجل: ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ [المائدة:108].بين عز وجل وجه الحكمة والمصلحة في الأمر المتقدم تفصيله بقوله: (ذلك) يعني: ذلك الحكم المذكور فيما سبق من الآيات أقرب أن يأتوا بالشهادة على وجهها، أي: أقرب إلى أن يؤدي الشهود أو الأوصياء الشهادة في نحو تلك الحادثة على حقيقتها، خوفاً من العذاب الأخروي.فقوله تعالى: (ذلك) يعني: هذا التشريع؛ لأن هذين الشاهدين من أهل الكتاب إذا كانا يعلمان أنهما إذا بدلا أو غيرا فاعترض الأوليان اللذان هما أقرب للميت على ما فعلا واتهماهما فسيرد الحق وينتزع منهما إلى هذين الأوليين أو إلى الورثة فإن ذلك أدنى أن يكون دافعاً لهما إلى أن يأتيا بالشهادة على وجهها.والوجه بمعنى الذات والحقيقة، أي: على حقيقتها.قال أبو السعود : وهذه -كما ترى- حكمة -أي: شرعية- التحليف بالتغليظ المذكور (ذلك) يعني: ذلك التغليظ في التحليف، ويكون بعد صلاة العصر لكي تكثر الشهود من الملائكة والشهود من الناس، ويقسمان بالله ما غيرنا ولا بدلنا.. إلى آخره. وقوله تعالى: (أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ) بيان لحكمة شرعية رد اليمين على الورثة، معطوف على مقدر ينبئ عنه المقام، كأنه قيل: ذلك أدنى أن يأتي الشاهد بالشهادة على وجهها ويخاف عذاب الآخرة بسبب اليمين الكاذبة، أو يخاف أن ترد اليمين على المدعين بعد أيمانهم فيفتضح بظهور الخيانة واليمين الكاذبة ويغرم.(وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا) ( اتقوا الله ) أي: في مخالفة أحكامه التي منها هذا الحكم، وهو ترك الخيانة والكذب ( واسمعوا ) أي: ما تؤمرون به سماع قبول.(وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ) أي: الخارجين عن طاعته ومتابعة شريعته. أي: لا يهديهم إلى طريق الجنة أو إلى ما فيه نفعهم، يعني: لا يهديهم إلى ذلك.

الأحكام المستفادة من قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت..)

استفيد من الآية أحكام:

لزوم الوصية حال الخوف من الموت وحضور قرائنه

الأول: لزوم الوصية حال الخوف من الموت وحضور قرائنه؛ لأنه تعالى قال: حِينَ الْوَصِيَّةِ ، أي: وقت أن تحق الوصية وتلزم. إذاً: تجب الوصية إذا ظهرت أمارات الموت، فيجب على الإنسان أن يكتب الوصية أو يوصي ويشهد على الوصية إذا حضرت أمارات ومقدمات الموت.

شهادة الشاهدين عامة في كل الحقوق الإلهية والآدمية

الأمر الثاني: قال بعضهم: دل قوله تعالى: اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ ، على أن الحكم شرطه أن يشهد فيه اثنان عدلان، وهذا إطلاق لم يفصل فيه بين حق الله وحق غيره، ولا بين الحدود وغيرها، إلا في شهادة الزنا كما في قوله تعالى في سورة النور: ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ [النور:4]، وهذا مجمع عليه، وذكر ابن القيم في إعلام الموقعين أنه -سبحانه- ذكر ما يحفظ به الحقوق من الشهود ولم يذكر أن الحكام لا يحكمون إلا بذلك، فليس في القرآن نفي الحكم بشاهد ويمين، ولا بالنكول، ولا باليمين المردودة، ولا بأيمان القسامة، ولا بأيمان اللعان، وغير ذلك مما يبين الحق ويظهره ويدل عليه، والشارع في جميع المواضع يقصد ظهور الحق بما يمكن ظهوره به من البينات التي هي أدلة عليه وشواهد له، ولا يرد حقاً قد ظهر بدليله أبداً، فيضيع حقوق الله وحقوق عباده ويعطلها، ولا يكشف ظهور الحق على أمر معين لا فائدة في التصريح به مع مساواة غيره في ظهور الحق أو رجحانه عليه ترجيحاً لا يمكن جحده ودفعه.

صحة شهادة الذمي إذا لم يوجد مسلم

قوله تعالى: أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ ، فيه دلالة على صحة شهادة الذمي على المسلم عموماً، لكن خرج جوازها فيما عدا وصية المسلم في السفر بالإجماع. قال بعض المفسرين: ذهب الأكثر إلى أن شهادة الذميين قد نسخت، وعن الحسن وابن أبي ليلى والأوزاعي وشريح والراضي بالله وجده الإمام عبد الله بن الحسين أنها صحيحة ثابتة، وكذا ذهب الأكثر إلى أن تحليف الشهود منسوخ، وقال طاوس والحسن والهادي : إنه ثابت.يقول القاسمي : أقول: لم يأت من ادعى النسخ بحجة تصلح لذكرها وتستدعي التعرض لدفعها.وقد ذكر ابن القيم في إعلام الموقعين أنه تعالى أمر في الشهادة على الوصية في السفر باستشهاد عدلين من المسلمين أو آخرين من غيرهم، وغير المؤمنين هم الكفار، والآية صريحة في قبول شهادة الكافرين على الوصية في السفر عند عدم الشاهدين المسلمين، وقد حكم به النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة بعده، ولم يأت بعدها ما ينسخها، فإن المائدة من آخر القرآن نزولاً، وليس فيها منسوخ. فليس في سورة المائدة منسوخ، وليس لهذه الآية ناسخ البتة.ولا يصح أن يكون المراد بقوله: (( مِنْ غَيْرِكُمْ )) من غير قبيلتكم، فإن الله سبحانه وتعالى خاطب بها المؤمنين كافة بقوله: (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا )) فلا يمكن أن تفسر بـ(من غير قبيلتكم).ولا يخاطب بذلك قبيلة معينة حتى يكون قوله: ( من غيركم ) أي: أيتها القبيلة. والنبي صلى الله عليه وسلم لم يفهم هذا من الآية، بل إنما فهم منها ما هي صريحة فيه، وكذلك أصحابه من بعده.

استحباب التغليظ في الأيمان

قوله تعالى: (( مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ )) فيه دلالة على تغليظ اليمين، واليمين يمكن أن تغلظ بأنواع كثيرة زمانية أو مكانية، فتغلظ اليمين من ناحية الزمان بأن تكون بعد العصر، أما في المكان ففي المدينة عند المنبر أو بمكة بين الركن والمقام، وقد ورد في بعض الآثار تغليظ الحلف بين الركن والمقام، حتى جاء في بعض الأحاديث أيضاً: (يبايع المهدي بين الركن والمقام) لتوثيق العقود، ولشدة حرمة المكان، وهو مكة المكرمة، ثم المسجد الحرام، ثم بين الركن -الذي هو الحجر الأسود- ومقام إبراهيم عليه السلام، حتى إن المثلث الواصل بين الركن اليماني والحجر الأسود زمزم سمي الحطيم؛ لأن من حلف فيه كاذباً فإن الله يحطمه.وقد ذهب الجمهور إلى أن هذا نوع من التغليظ، وأضافوا أشياء في الزمان بعد العصر، فهذه ثابتة، أما التغليظ في المكان ففي المدينة عند باب المنبر، أو في مكة بين الركن والمقام، وفي بيت المقدس عند الصخرة، وفي غير ذلك في المسجد الجامع، واتفقوا على أن ذلك في الدماء والمال الكثير لا في القليل.وذهبت الزيدية والحنفية والحنابلة إلى أن اليمين لا تغلظ بزمان ولا مكان، وأخذوا بعموم قوله صلى الله عليه وسلم: (البينة على المدعي واليمين على من أنكر) ولم يفصل، قالوا: وقوله تعالى في هذه الآية: (( مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ )) يحتمل أن ذكره لهذا الوقت لأنهم كانوا لا يعتادون الحكم إلا في ذلك الوقت.ومن الأشياء التي أحدثت في تغليظ الأيمان أن يأتي بالمصحف ويضع يديه عليه من باب التغليظ في هذا الحلف.قال الإمام المؤيد بالله يحيى بن حمزة: المختار التغليظ في الأيمان لفساد أهل الزمان، وذلك مروي عن أمير المؤمنين المرتضى وأبي بكر وعمر وعثمان وابن عباس ومالك والشافعي. قال: والمختار أنه مستحب غير واجب. قال ابن أبي الفرج في قوله تعالى: (( فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ )) دليل على أن: ( أقسم بالله ) يمين وليست كلمة ( أقسم ) فقط بدون أن يقول: (بالله)، فلا تكون يميناً، لكن إذا أراد أن يقسم فليقل: (أقسم بالله) لقوله تعالى: (( فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ )).

تحريم كتمان الشهادة

قوله تعالى: (( وَلا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ ))، فيه دليل على تحريم كتمان الشهادة، وذلك لا إشكال فيه.قال السيوطي : تخصيص الحلف في الآية باثنين من أقرب الورثة على قراءة (الأوليان) لخصوص الواقعة التي نزلت لها. ثم ساق رواية البخاري السابقة، أي: والإشارة إلى الاكتفاء باثنين من أقرب الورثة -أيضاً- وإن كان فيهم كثرة.ثم يقول القاسمي في ختام تفسير هذه الآية الكريمة تحت عنوان (غريبة): قال مكي في كتابه المسمى بالكشف: هذه الآيات الثلاث عند أهل المعاني من أشكل ما في القرآن إعراباً ومعنىً وحكماً وتفسيراً، ولم يزل العلماء يستشكلونها ويكفون عنها. قال: ويحتمل أن يبسط ما فيها من العلوم في ثلاثين ورقة أو أكثر، وقد ذكرناها مشروحة في كتاب المفرد.قال ابن عطية : هذا كلام من لم يقع له النتاج في تفسيرها، وذلك بين من كتابه رحمه الله تعالى. يعني: من كتاب مكي ، فهو يعترض على أنه يمكن أن يجمع تفسيرها في ثلاثين ورقة. وابن عطية إمام مشهور جداً، ولكن الناس تجهل أن ابن عطية هو نفسه أبو محمد عبد الحق ، إمام جليل جداً من أئمة المغرب، فالإمام أبو محمد عبد الحق هو ابن عطية !فـابن عطية يعلق على كلام مكي حينما قال: ويحتمل أن يبسط ما فيها من العلوم في ثلاثين ورقة أو أكثر. فقال ابن عطية : هذا كلام من لم يقع له النتاج في تفسيرها. يعني: ليس عنده من الخصوبة العلمية ما يزيد على ثلاثين ورقة، فهي تحتمل أكثر من ذلك، وذلك بين من كتابه رحمه الله تعالى، يعني: كتاب مكي .قال السعد في حاشيته على الكشاف: واتفقوا على أنها أصعب ما في القرآن إعراباً ونظماً وحكماً. يقول القاسمي أقول: هذه الآية الكريمة غنية بنفسها -مع ما ورد في سبب نزولها، وما قاله حبر الأمة وترجمان القرآن في معناها- عن التشكيك فيها، والتكلف لإدخالها تحت القواعد، والتمحل لتأويلها، فخذ ما نقلناه من محاسن تأويلها وكن من الشاكرين. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.


 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , تفسير سورة المائدة [104-108] للشيخ : محمد إسماعيل المقدم

https://audio.islamweb.net