إسلام ويب

تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى)

قال تبارك وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى [البقرة:178]، (كتب) أي: فرض (عليكم القصاص) القصاص مأخوذ من التتبع، اقتص الأثر يعني: تتبعه، أو من القطع؛ لأن الذي يقتص من الجاني يقطع منه مثلما قطع من المجني عليه، أو من المساواة والمعادلة، فأصل معنى القصاص العدل والتساوي والمساواة.(( كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ )) أي: فرض عليكم المماثلة، (( فِي الْقَتْلَى )) يعني: المساواة في القتلى، والمراد في وصف القتلى، يعني: من حيث الحرية والإسلام وغير ذلك.إذاً: القصاص في القتلى بمعنى المماثلة، والسؤال الذي نريد أن نطرحه الآن: ما وجوه العدل والمساواة عند القصاص؟ في الوصف وفي الفعل، في الوصف يعني: لا يقتل الحر بالعبد، بل كما قال الله: الْحُرُّ بِالْحُرِّ [البقرة:178]، وكذا المماثلة في الإسلام، فلا يقتل مسلم بكافر.وتجب المماثلة بالفعل بأن يقتل القاتل بمثل ما قتل، فيقتص منه بنفس الطريقة التي قتل بها ذلك المقتول.(والأنثى بالأنثى) وكذلك جاءت السنة بأن الذكر يقتل بها، فقد (أمر النبي صلى الله عليه وسلم برض -أي: بدق- رأس يهودي بين حجرين لرضه رأس جارية) رواه الشيخان.كذلك تعتبر المماثلة في الدين، فلا يقتل مسلم ولو عبداً بكافر، ولو حراً؛ لماذا؟لأن للإسلام التميز، والإسلام كمال، والكفر نقص، فلا يسوى بينهما، فلا يقتل المسلم ولو عبداً بكافر ولو كان حراً، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يقتل مسلم بكافر) رواه البخاري .

خلاف الفقهاء في القصاص

هناك خلاف بين العلماء في هذه الآية، وفي ذلك أحكام مفصلة جداً، لكن نقول على وجه الاختصار: قوله تعالى: (( كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى )) أي: المعادلة والمساواة بينهم، (( الْحُرُّ بِالْحُرِّ ))، لكن الإمام أبو حنيفة رحمه الله تعالى ذهب إلى أن الكلام فيما يتعلق بالقصاص انتهى عند قوله تبارك وتعالى: (( كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى )) يعني: العدل مطلق هنا في القتلى، فالحر يقتل بالعبد، والمسلم يقتل بالكافر.وقوله بعد ذلك: الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ ليس شرحاً لما تقدم، ولا ربط بين قوله: (كتب عليكم القصاص) وبين ما أتى بعدها، وعلى هذا الأساس فالإمام أبو حنيفة رحمه الله تعالى يجوز قتل المسلم بالكافر؛ أخذاً بعموم قوله تعالى: النَّفْسَ بِالنَّفْسِ [المائدة:45]، وقوله: وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ [المائدة:45].أما جمهور العلماء فذهبوا إلى قوله تبارك وتعالى: (( الْحُرُّ بِالْحُرِّ ))، وقال الإمام أبو حنيفة : إن العلة في وجود كلمة: (الحر بالحر والعبد بالعبد) ليس المقصود بها المساواة، فيجوز أن يقتل الحر بالعبد أو المسلم بالكافر، لكن المقصود بها الرد على ما كان سائداً عند بعض القبائل العربية، فقد كان عندهم أن القبيلة إذا كانت في عز ومنعة وفرسان وقوة، فقتل منهم عبد؛ فيأنفون أن يقتل به عبد مثله، لكن يقولون: لا يقتل العبد منا بعبد ونحن أشهر القبائل، وأرفع القبائل، وأعزها وأمنعها، ولابد أن يقتل به حر، وإذا قتلت منهم امرأة فيقولون : لا نقبل قتل امرأة في مقابلها، لكن لابد أن يقتل بها رجل، وإذا قتل منهم وضيع يقولون: لا نقبل في مقابلته إلا شريف، وهكذا.فلهذا أبو حنيفة يذهب إلى أن قوله تعالى: الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ إشارة إلى إسقاط هذا المعنى الذي كان سائداً في بعض القبائل العربية.أما جمهور العلماء فقالوا: لا يقتل الحر بالعبد؛ لأن العبودية أثر من آثار الكفر، والعبد قد يكون مسلماً، لكن أصل سبب الاسترقاق هو الكفر، فالذي جلب له الرق هو الكفر، فوجود هذا الأثر منقصة فيه، فبالتالي لا يستوي مع الحر، والحر لا يقتل إلا بالحر، ولا يقتل الحر بالعبد، والأنثى بالأنثى، وبينت السنة أن الذكر يقتل بالأنثى؛ لأنه تعتبر المماثلة في الدين، ولابد أن يكون هناك اتفاق ومعادلة وتساوي في الدين، فلا يقتل المسلم بالكافر؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ألا لا يقتل مسلم بكافر) رواه البخاري .

معنى قوله: (فمن عفي له من أخيه شيء...)

قوله تعالى: فَمَنْ عُفِيَ لَهُ يعني: من القاتلين، مِنْ أَخِيهِ يعني: من دم أخيه المقتول، وهذا اللفظ: (مِنْ أَخِيهِ) دليل على أن القاتل لا يكفر كفراً أكبر، ولا يكفر كل من فعل فعلاً سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم كفراً، فقد قال عليه الصلاة والسلام: (سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر)، وقال أيضاً: (لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض)، ولا شك أن الذنب الذي يسمى كفراً يكون أخطر وأعظم من الذنب الذي لا يسمى كفراً، فهو كفر عملي لا يخرج من الملة إلا باستحلاله.ومما يستدل به على أن هذا الكفر كفر غير مخرج من الملة قوله تبارك وتعالى في سورة الحجرات: وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا [الحجرات:9]، فأثبت الإيمان مع وجود القتال، فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا [الحجرات:9]، ثم قال بعد ذلك: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ [الحجرات:10]، كذلك صدر الآيات هنا بقوله: (يا أيها الذين آمنوا) فالخطاب للمؤمنين مع وقوع التقاتل بينهم، ثم قال أيضاً: (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ) مع وجود القتل لكنه سماه أخاً، فهذا يدل على بقاء أخوة الإيمان مع حصول هذه الكبيرة.(فَمَنْ عُفِيَ لَهُ) يعني: من القاتلين، (مِنْ أَخِيهِ) أي: من دم أخيه المقتول، (شَيْءٌ) يعني: بأن ترك القصاص منه، وتنكير (شيء) يفيد سقوط القصاص بالعفو من بعض الورثة، يعني: إذا عفا بعض الورثة وبعضهم لم يعفو يسقط القصاص.كذلك إذا عفي عن بعض القصاص يسقط كل القصاص، فقوله: (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ) يفيد سقوط القصاص بالعفو عن بعضه، وبالعفو من بعض الورثة.وفي ذكر (أخيه) تعطف داع إلى العفو، وهذا من رحمة الله سبحانه وتعالى، فإنه ذكر وصف الإخوة كي يعطف قلب الذي سيقتص على قلب أخيه الجاني لعله يعفو عنه أو يرأف به، وفيه إيذان بأن القتل لا يقطع أخوة الإيمان. إذاً: فائدة التعبير بأخيه تعطف داع إلى العفو، وإيذان بأن القتل لا يقطع أخوة الإيمان.

معنى قوله: (فاتباع بالمعروف...)

قوله تعالى: (فمن عفي) (من) مبتدأ شرطية أو موصولة، والخبر (فاتباع بالمعروف) يعني: فعلى العافي اتباع القاتل المعفو عنه بالمعروف، يعني: إذا قبل منه الدية فليطالبه بالدية بلا عنف، وترتيب الاتباع على العفو يفيد أن الواجب أحدهما، وهو أحد قولي الشافعي .والقول الثاني: أن الواجب القصاص، والدية بدل عنه، فله ألا يقتص على أن يأخذ الدية، فلو عفا ولم يسمها فلا شيء له، ورجح.وقوله: وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ يعني: وعلى القاتل (أداء) أي: للدية، (إليه) أي: إلى العافي الذي هو الوارث، (بإحسان) يعني: بلا مطل ولا بخس، يعني: يؤدي الدية إلى العافي -وهو الوارث- بإحسان بدون أن يماطله ولا يضاره ولا ينقص من حقه.ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ أي: ذلك الحكم المذكور من جواز القصاص والعفو عنه على الدية (تخفيف) أي: تسهيل (من ربكم) يعني: عليكم.وَرَحْمَةٌ أي: بكم، حيث وسع في ذلك، ولم يحتم واحداً منهما، كما حتم على اليهود القصاص وعلى النصارى الدية.فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ أي: ظلم القاتل بأن قتله، (بعد ذلك) أي: بعد العفو، فبعد أن يعفو لا يجوز أن يقتل القاتل، فإن هذا من الظلم، (فمن اعتدى) يعني: ظلم القاتل بأن قتله، (بعد ذلك) يعني: بعدما عفا، فلابد أن يلتزم بالعفو.فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ أي: مؤلم في الآخرة بالنار أو في الدنيا بالقتل.

تفسير قوله تعالى: (ولكم في القصاص حياة..)

قال تبارك وتعالى: وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ [البقرة:179] أي: بقاء عظيم، بخلاف تنكير كلمة حياة في قوله: وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ [البقرة:96]، فالمقصود بذلك حتى لو كانت أخس حياة، وهذا من صفة اليهود لعنهم الله، (وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ) أي حياة حتى لو كانت حياة ذليلة فهم حريصون عليها، أما قوله هنا: (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ) يعني: بقاء عظيم.يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:179] يعني: يا ذوي العقول؛ لأن القاتل إذا علم أنه يقتل ارتدع، فأحيا نفسه وأحيا من أراد قتله، فشرع القصاص (( لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ )) أي: تتقون القتل لمخافة القود؛ لأن هذا فيه زجر لكم من تجاسر بعضكم على إراقة دم بعض.(لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) أي: تتقون أن تقتلوا إذا قتلتم، أو يقتص منكم إذا اعتديتم على أرواح غيركم.

كلام نفيس للقاسمي في هذه الآية

هنا كلام من أنفس ما يقرؤه الإنسان في إعجاز القرآن الكريم، ذكره القاسمي رحمه الله تبارك وتعالى في تفسير قوله تعالى: وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ، والإنسان إذا لم يرتبط بالنور الذي آتاه الله سبحانه وتعالى لأهل العلم ربما لا يستطيع أن يتدبر ويتمعن في القرآن، وهذا أنموذج من نماذج التدبر في القرآن الكريم وهو من أروع ما يكون، والإنسان مع قلة علمه، وضعف وعيه في لغة العرب ولغة القرآن الكريم يعجب حينما يسمع العلماء يقولون: هذا الكلام لا يقوى على الإتيان به بشر، وهذا في القرآن كله لكن هناك مواضع إنما تظهر عند التأمل والتدبر من أولي العلم الراسخين في العلم، مثل قوله تعالى في سورة يوسف عليه السلام: فَلَمَّا اسْتَيْئَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا [يوسف:80]، فالعلماء يتكلمون عن قمة البلاغة في هذه الآية، وهذا الأسلوب ولم يعرفه العرب على الإطلاق، لم يرتق له أي مخلوق من العرب قبل القرآن الكريم.والآن سنذكر نموذجاً عملياً ونرى فعلاً أن هذا القرآن مستحيل أن يكون كلام البشر أبداً، ولا يقوى بشر على ذلك، يقول القاسمي : كلام في غاية الفصاحة والبلاغة لما فيه من الغرابة، (( وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ ))، كيف يكون القصاص الذي هو قتل القاتل حياة؟ حيث جعل الشيء محل ضده، فإن القصاص قتل وتفويت للحياة، وقد جعل مكاناً ومرساً للحياة، وعرّف القصاص ونكّر الحياة، (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ)، وهذا يدل على أن في هذا الجنس من الحكم الذي هو القصاص حياة عظيمة، وذلك أنهم كانوا يقتلون بالواحد الجماعة، وكم قتل مهلهل بأخيه حتى كاد يفني بكر بن وائل؟! كان يقتل بالمقتول غير قاتله كما يحصل الآن في الصعيد للأسف الشديد من عادة الثأر، يقتل القاتل فيقتلون رجلاً من العائلة يكون موازياً للمقتول في الوجاهة الاجتماعية أو غير ذلك من الأمور.فهذا من آثار الجاهلية والعياذ بالله، فيجب أن يقتل القاتل، وليس بهذه الطريقة الفوضوية الجاهلية التي نراها في الصعيد.يقول: وكان يقتل بالمقتول غير قاتله فتثور الفتنة، ويقع بينهم التناحر، فلما جاء الإسلام بشرع القصاص كانت فيه حياة أي حياة! وهي الحياة الحاصلة بالارتداع عن القتل لوقوع العلم بالاقتصاص من القاتل؛ لأن القاتل يمتنع من القتل، فإذا أراد أن يقتل، عرف أنه يقتل، فيرتدع وينزجر.(( لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ )) يعني: أن تقتلوا، فإذا انكف القاتل عن القتل ماذا يحصل؟ يحيا هو ويحيا الذين كان يريد أن يقتلهم، فهي حياة له ولهؤلاء؛ لأنه إذا هم بالقتل فعلم أنه يقتص منه ارتدع فسلم صاحبه من القتل وسلم هو من القود، والقود هو القصاص؛ سمي بذلك لأن القاتل كان يقاد بحبل إلى أن يقتص منه، فالقصاص سبب حياة نفسين.

بلاغة قوله تعالى: (ولكم في القصاص حياة)

يقول القاسمي رحمه الله تعالى: اتفق علماء البيان على أن هذه الآية في الإيجاز مع جمع المعاني بالغة إلى أعلى الدرجات؛ لأن العرب عبروا عن هذا المعنى بألفاظ كثيرة. فقد حاول العرب الفصحاء البلغاء أن يعبروا عن هذا المعنى بكثير من الألفاظ، وعددوها حتى تنوعت وتكاثرت، ومع ذلك لا يقوى واحد منها أبداً أن يوازى بكلام الله عز وجل.مثل قولهم: قتل البعض إحياء للجميع. وقولهم: أكثروا القتل ليقل القتل. يقول القاسمي سننتقي أجود الألفاظ المنقولة عنهم في هذا الباب ونقارنها بقوله تعالى: (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ) فانتقى القاسمي أروع ما عند العرب في هذا الباب, وأبلغ وأفصح ما أثر عنهم في التعبير عن هذه المعاني.يقول: وأجود الألفاظ المنقولة عنهم في هذا الباب قولهم: القتل أنفى للقتل، وقد كانوا قبل نزول القرآن متفقين على استجادة معنى كلمتهم، واستجادة لفظها، ومعلوم لكل ذي لب أن بينها وبين ما في القرآن كما بين الله والمخلوقين، الفرق بين قوله تعالى: (( وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ )) وبين قول العرب: القتل أنفى للقتل كما بين كلام الله وبين كلام المخلوق، والفرق بينهما كالفرق بين الله وبين خلقه، وأنى لها الوصول إلى رشاقة القرآن وعذوبته؟!قال في الإتقان: وقد فضلت هذه الجملة على أبلغ ما كان عند العرب في هذا المعنى، وهو قولهم: القتل أنفى للقتل، وإنما كان هذا أفضل ما كان عند العرب من البلاغة لقلة الألفاظ مع سعة المعاني، فهذه أقل الألفاظ التي أثرت عن العرب: القتل أنفى للقتل، وقد فضلت هذه الآية بعشرين وجهاً أو أكثر على قولهم: القتل أنفى للقتل.وقد أشار ابن الأثير إلى إنكار هذا التفضيل، وقال: لا تشبيه بين كلام الخالق وكلام المخلوق، وهذا كلام صحيح، كيف يقارن كلام الخالق بكلام المخلوق، حتى يقال: إنه أفضل من عشرين وجهاً؟! فلا وجه للمقارنة، ولكن العلماء يقدحون أذهانهم فيما يظهر لهم من ذلك، وإن كان يخفى عليهم أضعاف أضعاف ما ذكروه مما لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى من الحكم، لكن من باب تدبر القرآن نتأمل في هذه الوجوه وننظر.يقول: الأول: أن ما يناظره من كلامهم -وهو القصاص حياة- أقل حروفاً، فإن حروفه عشرة، وحروف القتل أنفى للقتل أربعة عشر، فهذا أول الوجوه من حيث الوجازة.الثاني: أن نفي القتل لا يستلزم الحياة، فحينما نقول: القتل أنفى للقتل، فنفي القتل لا يستلزم الحياة، لكن حينما يقول الله تبارك وتعالى: (( وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ ))، فالقصاص حياة، فهنا نص على ثبوت الحياة، في حين أن عبارة العرب إنما تنفي القتل فقط لكنها لا تنص على ثبوت الحياة، والحياة هي الغرض المطلوب من القصاص.الثالث: أن تنكير حياة يفيد التعظيم، فيدل على أن في القصاص حياة متفاضلة كقوله تعالى: وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ [البقرة:96]، ذكرنا أنها حياة حتى ولو خفيفة، ويمكن أن يقال: القصاص حياة يعني: طويلة، ولا كذلك المثل، فإن اللام فيه للجنس؛ ولذا فسروا الحياة فيه بالبقاء.فإذاً: حياة تنكيرها يصير تعظيماً، فيدل على أن في القصاص حياة متفاضلة، ولا كذلك المثل.الرابع: أن الآية فيه مطردة بخلاف المثل، ففي كل قصاص حياة في كل الأحوال، أما القتل فلا يشترط أن كل قتل يكون أنفى للقتل، بل قد يكون أدعى له، وهو القتل ظلماً، بل إنما ينفيه قتل خاص، وهو القصاص، فلو قتل رجل آخر ظلماً فهل هذا القتل ينفي القتل أم أنه يكون مدعاة لمزيد من القتل؟يكون مدعاة لحصول مزيد من القتل.فإذاً: كلامهم ليس على إطلاقه، وليس مطرداً؛ لأنه ليس كل أنواع القتل تكون أنفى للقتل بل بعضها قد تكون مجلبة للقتل، بخلاف القصاص الذي هو نوع مخصوص من القتل، فلذلك نراعي هنا الفرق بين كلمة القصاص وبين كلمة القتل.الخامس: أن الآية خالية من تكرار لفظ القتل الواقع في المثل، والخالي من التكرار أفضل من المشتمل عليه وإن لم يكن مخلاً بالفصاحة، فقولهم: القتل أنفى للقتل، تكررت فيه كلمة القتل، وهذا لا يخل بالفصاحة، لكن بلا شك أن الخالي من التكرار أفضل من الذي يشتمل على التكرار.الوجه السادس: أن الآية مستغنية عن تقدير محذوف (القصاص حياة)، بخلاف قولهم ففيه حذف، فتقديره: القتل أنفى للقتل من عدم القتل، فإن (أنفى) أفعل تفضيل لابد أن يقدر له محذوف.أيضاً: حذف قصاصاً مع القتل الأول، وظلماً مع القتل الثاني، ففي المثل حذف كثير، فإن الذي يقصده العرب هو: القتل قصاصاً أنفى للقتل ظلماً من عدم القتل، وحتى تفهم النص العربي لا بد أن تقدر كل هذا، أما الآية فهي مستغنية عن تقدير محذوف.السابع: أن في الآية طباقاً؛ لأن القصاص عكس الحياة، بخلاف المثل، فإن العرب قالوا: القتل أنفى للقتل، فهنا تشابه واضح، بخلاف الطباق بين القصاص والحياة، وهذا من أنواع البديع.الثامن: أن الآية اشتملت على فن بديع، وهو جعل أحد الضدين الذي هو الفناء والموت محلاً ومكاناً لضده الذي هو الحياة، وهذا من أروع ما يكون؛ لأن أحد الضدين الذي هو الفناء والموت جعله محلاً ومكاناً لضد الموت وهو الحياة، واستقرار الحياة في الموت مبالغة عظيمة، نقله في الكشاف، وعبر عنه صاحب الإيضاح بأنه جعل القصاص كالمنبع للحياة، (( وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ )) كأن القصاص هو الذي تنبع منه الحياة، فهو بلا شك أروع ما يكون من البلاغة ومن البديع، فجعل القصاص كالمنبع للحياة والمعدن لها بإدخال كلمة في: (( وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ )).التاسع: أن في المثل توالي أسباب كثيرة خفية وهو السكون بعد الحركة وذلك مستكره، فإن اللفظ المنطوق به إذا توالت حركاته تمكن اللسان من النطق به، وظهرت بذلك فصاحته، فالكلام الذي تكون حركاته سهلة ومتتالية غير الكلام الذي يكون فيه بين وقت وآخر السكون، كما في الآية: (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ) لكن في المثل: القتل أنفى للقتل. يقول: فإن اللفظ المنطوق به إذا توالت حركاته تمكن اللسان من النطق به، وظهرت بذلك فصاحته، بخلاف ما إذا تعقب كل حركة سكون، فالحركات تنقطع. يقول: نظيره إذا تحركت الدابة أدنى حركة فحبست ثم تحركت فحبست لا تطيق إطلاقها، ولا تتمكن من حركتها على ما تختاره فهي كالمقيدة. إذاً: هذا الفرق أيضاً من حيث اللغة، فالقتل أنفى للقتل غير (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ).العاشر: أن المثل كالمتناقض من حيث الظاهر؛ لأن الشيء لا ينفي نفسه، فقولهم: القتل أنفى للقتل، هل الشيء ينفي نفسه؟!الشيء لا ينفي نفسه، فهذا فيه تناقض من حيث الظاهر.الحادي عشر: سلامة الآية من تكرير القاف، وبعدها عن غنة النون.

تفسير قوله تعالى: (كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت...)

قال الله تعالى: كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ [البقرة:180].قوله تعالى: ( كتب عليكم ) يعني: فرض عليكم.( إذا حضر أحدكم الموت ) المقصود: إذا حضر أحدكم الموت يعني: أسباب الموت وأمارات الموت ومقدماته، وليس الموت الحقيقي؛ لأنه إذا حضر أحدنا الموت الذي تنزع فيه الروح لن يجد وقتاً للوصية، لكن المقصود هنا: أسباب الموت ومقدماته.( إن ترك خيراً الوصية ) إن ترك خيراً أي: مالاً، وهذه أحد المواضع التي سمى فيها القرآن الكريم المال خيراً، ونظيرها قوله تبارك وتعالى: وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ [العاديات:8]، ( حب الخير ) المقصود به المال، كذلك أيضاً قوله تعالى: وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ [البقرة:272]، المقصود به المال، وكذلك قول موسى عليه السلام كما حكاه الله تبارك وتعالى: رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ [القصص:24] فالمقصود بالخير المال.وقوله: (( إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ )) إشارة إلى إن المال الذي تحصل الوصية به ما كان مجموعاً من وجه حلال محمود، فهذا هو الذي يسمى خيراً، فإن المال لا يقال له خير إلا إذا كان كثيراً ومن مكان طيب، فالمال الذي يكون خيراً ويوصف بكلمة خير لابد أن يكون كثيراً ووفيراً وليس مالاً قليلاً، ومن مكان طيب، أي: من مصدر حلال، فهذا هو الذي يوصف بالخير، لكن مال قليل من مصدر حلال أو مال كثير من مصدر غير طيب لا يسمى خيراً.فقوله تعالى هنا: (( إِنْ تَرَكَ خَيْرًا )) فيه إشارة إلى أن الإنسان إذا أتته علامات الموت أو أمارات الموت وليس عنده مال كثير، وورثته فقراء، فهذا لا يدخل في الأمر بالوصية هنا، إنما الوصية لمن ترك مالاً وفيراً.(( إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ )) ( خيراً ) يعني: مالاً، ( الوصية ) وهو مرفوع بِكُتِب، وتقدير الكلام: كتب عليكم الوصية إذا حضر أحدكم الموت، يعني: وقت حضور الموت، ( إن ترك خيراً الوصية ) يعني: فليوص.(( لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ )) يعني: بالعدل، ولا يكون عدلاً إلا إذا لم يزد عن الثلث، ولم يفضل الغني. وهذا الجزء من سورة البقرة حافل بالأحكام الشرعية الكثيرة جداً، فنحن نكتفي بهذه الإشارات العابرة ونرجو أن تفصل في أوقات أخرى.الوصية تكون -كما ذكرنا- لمن ترك مالاً كثيراً وورثته أغنياء، فيوصي بالثلث ولا يزيد على الثلث، واستحب بعض العلماء أن يقلل عن الثلث كما نصح النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم سعد بن أبي وقاص رضي الله تعالى عنه، وأيضاً لا يفضل الغني في إعطاء الوصية.( حقاً على المتقين ) مصدر مؤكد لمضمون الجملة قبله.( على المتقين ) يعني: على المتقين الله، الذين يتقون الله.وقوله: (( كُتِبَ عَلَيْكُمْ )) يعني: فرض، وهذا الحكم منسوخ، وهذا الموضع أوضح نموذج يدل على جواز نسخ القرآن بالسنة، فإن هذه الآية منسوخة بقوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (إن الله أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث) والوارث هو الذي أنزل الله سبحانه وتعالى فريضته في القرآن الكريم كما في سورة النساء، فقد أعطى الله سبحانه وتعالى كل ذي حق حقه، فما دام الشخص يرث فليس له نصيب في الوصية، وهذا البلاء الآن منتشر للأسف بسبب جهل الناس، تجد الرجل يوصي لأولاده الذكور دون الإناث، ولا ينبغي أن يوصي للورثة ولو للذكور والإناث، والعطاء في حال الحياة هبة، أما أن يقول: إذا مت فأعطوا فلاناً كذا من أولاده فهذه وصية، والوصية لا تجوز للوارث؛ لأن الله سبحانه وتعالى قد أعطى هذا الوارث حقه بآيات الفرائض المعروفة في سورة النساء.إذاً: الوصية تكون لغير الوارثين، فيعطي -مثلاً- الأقارب الذين لا يرثون مثل أولاد ابنه المتوفى أو غيرهم من أقربائه، ويجوز أن يوصي إلى جهة من جهات الخير مثل ملاجئ أيتام.. مستشفيات.. وغير ذلك من الأعمال الخيرية. ووجوب الوصية منسوخ بآيات الميراث، وبحديث : (لا وصية لوارث) رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح.

تفسير قوله تعالى: (فمن بدله بعد ما سمعه فإنما إثمه على الذين يبدلونه )

قال تعالى: فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ [البقرة:181] يعني: من بدل الإيصاء من شاهد أو وصي.( بعد ما سمعه ) يعني: بعد ما علمه.فَإِنَّمَا إِثْمُهُ [البقرة:181] أي: إثم الإيصاء المبدل.عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ [البقرة:181]، السياق كان يقتضي أن يقال: فإنما إثمه عليهم، أي: على الذين سبق ذكرهم في قوله: (( فَمَنْ بَدَّلَهُ ))، لكنه أقام الظاهر مقام المضمر إشارة إلى جريمتهم بالتبديل، وأنها التي تستوجب عقوبتهم كما سيأتي.إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ [البقرة:181] لقول الموصي.عَلِيمٌ [البقرة:181] بفعل الوصي فمجاز عليه، ويترتب على أن الله سميع عليم أنه سيجازيه.فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا [البقرة:182] أحياناً يطلق الخوف على العلم، مثل قوله تعالى: وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى [النساء:3] أي: إن علمتم، كذلك هنا: ( فمن خاف ) يعني: توقع أو علم، تقول مثلاً: أخاف أن تمطر السماء، يعني: أتوقع وأظن أن تمطر، فالتوقع والظن الغالب الجاري مجرى العلم يطلق عليه الخوف.( فمن خاف من مُوْصٍ ) أو (من مُوَصٍّ) قراءتان.( جنفاً ) يعني: ميلاً عن الحق خطأً، فالجنف هو الميل عن الحق عن طريق الخطأ لا العمد. ( أو إثماً ) بأن تعمد ذلك بالزيادة على الثلث أو تخصيص غني مثلاً.( فأصلح بينهم) يعني: أصلح بين الوصي والموصى له بالأمر بالعدل، وهذا الإصلاح يترتب عليه تبديل الوصية؛ لأن الوصي مال عن الحق خطأ أو أَثِم بتعمد الجور والظلم في الوصية.(فمن خاف من موص جنفاً أو إثماً فأصلح بينهم) بين الوصي والموصى له عن طريق إقامة العدل بينهم.فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ [البقرة:182] أي: لا يأثم بهذا التبديل، بل هذا من فروض الكفاية، فيجب على المسلمين أن يتصدوا لمن يوصي وصية جائرة بأن يصلح بينهم بإقامة العدل وهو شرع الله سبحانه وتعالى.( فأصلح بينهم فلا إثم عليه ) أي: في ذلك التبديل لماذا؟لأنه بدل الباطل بالحق الذي يوافق شرع الله، إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [البقرة:182].

تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام... إن كنتم تعلمون)

قال عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ [البقرة:183] (كتب) يعني: فرض عليكم الصيام.(كما كتب) كما فرض على الذين من قبلكم، يعني: لستم وحدكم من الأمم في هذه الفريضة.لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:183] أي: المعاصي؛ لأن الصيام يكسر الشهوة الباعثة إلى المعاصي.قال تعالى: أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ [البقرة:184] نصب بالصيام أو يقدر: صوموا أياماً معدودات.( معدودات ) أي: قلائل أو مؤقتة بعدد معلوم وهي رمضان كما سيأتي،وقلله تسهيلاً على المكلفين، يعني: في كل السنة تصوم شهراً واحداً، لذلك قال: (أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ)، رحمة وتسهيلاً على المكلفين وتخفيفاً.فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ [البقرة:184] يعني: حين شهود شهر رمضان.مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ [البقرة:184] أي: مسافراً سفر القصر، وأجهده الصوم في الحالين المرض أو السفر فأفطر فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ [البقرة:184] ( عدة ) يعني: فعليه عدة ما أفطر، يعني: نفس العدد الذي أفطره يقضيه.( من أيام أخر ) يعني: يصوم هذا بدله.وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ [البقرة:184] يعني: وعلى الذين لا يطيقونه لكبر أو مرض لا يرجى برؤه (مرض مزمن).فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ [البقرة:184] يعني: فدية هي طعام مسكين، يعني: قدر ما يأكله المسكين في اليوم، وفي قراءة بإضافة (فدية) وهي للبيان.وقيل: (لا) غير مقدرة في قوله: وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ [البقرة:184]، فنحن قلنا: التقدير: وعلى الذين لا يطيقونه لكبر أو مرض مزمن فدية طعام مسكين، وقيل: (لا) غير مقدرة، وكانوا مخيرين في صدر الإسلام بين الصوم والفدية، ثم نسخ التخيير بتعيين الصوم بقوله: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ [البقرة:185]، قال ابن عباس : إلا الحامل والمرضع إذا أفطرتا خوفاً على الولد فإنها باقية بلا نسخ في حقهما.فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا [البقرة:184] يعني: بالزيادة على القدر المذكور في الفدية، بدل أن يخرج مداً أخرج صاعاً.( فهو خير له ) أي: التطوع خير له وأفضل.وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ [البقرة:184] ( أن تصوموا ) مبتدأ مصدر مؤول من أن والفعل، وخبره (خير لكم)، والتقدير: وصيامكم خير لكم من الإفطار والفدية. إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة:184] أنه خير لكم فصوموا تلك الأيام.

تفسير قوله تعالى: (شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن)

قال تعالى: شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ [البقرة:185] يعني: من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا في ليلة القدر منه.هُدًى لِلنَّاسِ ، هدى حال، أي: هادياً من الضلالة.وَبَيِّنَاتٍ أي: آيات واضحات.مِنَ الْهُدَى مما يهدي إلى الحق من الأحكام.وَالْفُرْقَانِ يعني: ومن الفرقان الذي يفرق به بين الحق والباطل.فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ يعني: من حضر ولم يكن مسافراً، الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ تقدم تفسيره في الآية السابقة، فلماذا كرر؟كرر لئلا يتوهم نسخه بتعميم (فمن شهد)؛ لأنه قد يتوهم أن قوله تبارك وتعالى: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ يعني: كلكم يجب أن تصوموا حتى لو كنتم مرضى أو مسافرين، فكرر الله سبحانه وتعالى هذه الرخصة للمريض وللمسافر لأنه قد يتوهم أن هذه الآية تنسخ ما قبلها في قوله: فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ)[البقرة:184]، فكررها حتى يدفع هذا التوهم.يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ، ولذا أباح لكم الفطر في المرض والسفر، ولكون ذلك في معنى العلة أيضاً للأمر بالصوم فقد عطف عليه: وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ (ولتُكْمِلوا) بالتخفيف، وبالتشديد: (ولتُكَمِّلوا) في القراءة الأخرى: أي: عدة صوم رمضان.وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ يعني: عند إكمال هذه العدة.عَلَى مَا هَدَاكُمْ أي: ما أرشدكم لمعالم دينه.وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ أي: تشكرون الله على ذلك.

تفسير قوله تعالى: (وإذا سألك عبادي عني فإني قريب)

سأل جماعة النبي صلى الله عليه وسلم: (أقريب ربنا فنناجيه أم بعيد فنناديه؟ فنزل: (( وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ ))[البقرة:186]) يعني: قريب منهم بعلمي. ويلاحظ أن هذه الآية امتازت عن غيرها من آيات السؤال كقوله تعالى: يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ [النساء:176]، يسألونك عن كذا، قل كذا، لكن في هذا الموضع بالذات لم يأت بصيغة يسألونك عن الله فقل إني قريب، لماذا؟فالله سبحانه وتعالى هو الذي يبادر ويخبر العباد بهذه الحقيقة، فمن رحمته بهم يفتح لهم هذا الباب من الخير الذي هو باب الدعاء.وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أي: قريب منهم، ويفسر القرب بالعلم .. بالسمع .. بالبصر .. بالإحاطة، وليس المقصود القرب بالذات، فإن الله سبحانه وتعالى بائن من خلقه لا يمتزج بهم، تعالى الله عن ذلك.أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ يعني: أجيبه ما سأل.فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي يعني: يجيبوا لي دعائي لهم بالطاعة.وَلْيُؤْمِنُوا بِي يعني: يدوموا على الإيمان ويثبتوا عليه.لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ أي: يهتدون.

تفسير قوله تعالى: (أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم)

قال تعالى: أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ [البقرة:187] ( الرفث ) بمعنى: الإفضاء، والإفضاء يعدى بإلى، أما الرفث فيعدى بالباء، يقال: رفث بالمرأة، لكن لأن الرفث هنا بمعنى الإفضاء عداه بإلى فقال: (الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ) يعني: بالجماع.والرفث أصله قول الفحش، قال الله: فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ [البقرة:197]، وكنى به هنا عن الجماع، وسنة الله سبحانه وتعالى التكنية عما يستقبح ذكره صريحاً كقوله تعالى: فَلَمَّا تَغَشَّاهَا [الأعراف:189]، وكقوله تبارك وتعالى: فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ [البقرة:223].(( أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ ))، نزل نسخاً لما كان في صدر الإسلام من تحريمه، وتحريم الأكل والشرب بعد العشاء أو إذا نام قبل ذلك، فقد كان الإنسان إذا تعشى يحرم عليه بعد ذلك المفطرات بقية الليل، أو إذا نام قبل أن يتعشى فلا يحل له أن يأتي شيئاً من المفطرات أيضاً في الليل، كما حصل لـقيس بن صرمة فغشي عليه نصف النهار من الجوع إذ تأخرت امرأته في تحصيل الطعام وغابت عنه ساعات، فلما رجعت وهو نائم قالت له: خيبة لك! فصام اليوم الثاني ولم يكن قد أفطر في اليوم السابق ولا تسحر، فغشي عليه في نصف النهار، رواه البخاري .أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ هذا كناية عن تعانقهما أو احتياج كل منهما إلى صاحبه، يقول الراغب : جعل اللباس كناية عن الزوج لكونه ستراً لنفسه ولزوجه أن يظهر منهما سوء. فالمفروض أن الزوج يستر امرأته وهي أيضاً تستره، فكل منهما لباس بمعنى أنه يستر الآخر كما أن الملابس تستر البدن، فكل منهما ينبغي أن يكون ستراً للآخر، فلا يكشف عيبه، ولا يفشي سره، ولا يظهر أي عيب فيه، كما أن اللباس ستر يمنع أن يبدو منه السوءة، وعلى ذلك كني عن المرأة بالإزار، فوصفت بأنها إزار الرجل لأنها تستره. وأيضاً سمي النكاح حصناً لكونه حصناً لذويه من تعاطي القبيح، والمحصن أحياناً يأتي بمعنى المتزوج. إذاً: المعنى: (هن لباس لكم) يعني: أنتم تسترونهن وهن يسترنكم، وهذا ألطف من قول بعضهم: شبه كل واحد من الزوجين لاشتماله على صاحبه في الضم باللباس المشتمل على لابسه.قال الزمخشري : فإن قلت: ما موقع قوله: (( هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ ))؟قلت: هو استئناف كالبيان لسبب الإحلال، يعني: أشار بهذا التعبير إلى الحكمة من أن الله سبحانه وتعالى أحل لهم الرفث إلى النساء في ليالي رمضان بعد أن كان قد حرم عليهم؛ لأنه إذا كانت بينكم وبينهن مثل هذه المخالطة والملابسة قل صبركم عنهن، وصعب عليكم اجتنابهن؛ فلذلك رخص لكم في مباشرتهن، ولذلك قال: عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتَانُونَ أَنفُسَكُمْ ، اختيان النفس هو نزوعها إلى رغبتها، ومنه قولهم: خانته رجلاه، إذا لم يقدر على المشي.أي: علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم لو لم يحل لكم ذلك، علم الله أنه إذا لم يبح لكم هذا فإنكم كنتم سوف تختانون أنفسكم، فأحله رحمة بكم ولطفاً.وفي الاختيان وجه آخر وهو أنه عنى به مخالفة الحق بنقض العهد، أي: كنتم تظلمونها بتعريضها للعقاب لو لم يحل ذلك لكم، قالوا: والاختيان أبلغ من الخيانة، ففيه زيادة وشدة.عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتَانُونَ أَنفُسَكُمْ أي: تخونون أنفسكم بالجماع ليلة الصيام، وقد وقع ذلك لـعمر وغيره كما رواه أحمد وابن أبي حاتم بسند حسن وغيرهم، واعتذروا إلى النبي صلى الله عليه وسلم. وإذا صح هذا فعلى العين والرأس، وإن لم يصح فيكون المعنى: علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم لو لم يبح لكم ذلك، لشدة ومشقة ذلك عليكم.فَتَابَ عَلَيْكُمْ أي: قبل توبتكم.وَعَفَا عَنْكُمْ يعني: إذ أحل لكم إتيانهن.فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ أي: جامعوهن.وَابْتَغُوا هذا الأمر على الإباحة ليس على الإيجاب؛ لأنه سبقه حظر، ومعنى (وَابْتَغُوا) أي: اطلبوا.

معنى قوله تعالى: (وابتغوا ما كتب الله لكم)

قوله تعالى: وَابتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ أي: ما أباحه لكم من الجماع أو ما قدره لكم من الولد.قوله تعالى: وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ ، تأكيد لما قبله، أي: ابتغوا هذه الرخصة التي أحلها لكم، و( كتب ) هنا بمعنى: جعل، كقوله تعالى: أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ [المجادلة:22] يعني: جعل في قلوبهم الإيمان، وقوله تعالى: فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ [آل عمران:53] يعني: فاجعلنا مع الشاهدين، وقوله تعالى: فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ [الأعراف:156] يعني: سأجعلها.وقد تكون بمعنى: قضى، ( ابتغوا ما كتب الله لكم ) يعني: ما قضى كقوله تعالى: قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا [التوبة:51] يعني: إلا ما قضاه لنا، وقوله تعالى: كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي [المجادلة:21] يعني قضى، وقوله: لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ [آل عمران:154] يعني: قضي.قال الراغب : في الآية إشارة في تحري النكاح إلى لطيفة وهي: أن الله تعالى جعل لنا شهوة النكاح لبقاء نوع الإنسان إلى غاية، كما جعل لنا شهوة الطعام لبقاء أشخاصنا إلى غاية، فحق الإنسان أن يتحرى بالنكاح ما جعل الله له على حسب ما يقتضيه العقل والديانة، فمتى تحرى به حظ النفس وحصن النفس على الوجه المشروع فقد ابتغى ما كتب الله له، وإلى هذا أشار من قال: على الولد، وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ يعني: الذرية والأولاد.وقال هنا: (( وَابْتَغُوا )) أي: اطلبوا.(( مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ )) أي: أباحه من الجماع أو قدره من الولد.

معنى قوله تعالى: (وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر)

قوله تعالى: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا أي: الليل كله، وهذا الأمر على الإباحة، والمعنى: وكلوا واشربوا الليل كله، فهو مباح لكم.حَتَّى يَتَبَيَّنَ أي: يظهر.لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ يعني: من الفجر الصادق، أي: وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الفجر الصادق من الخيط الأسود من الليل، فقوله: (من الفجر) متعلق بالخيط الأبيض، وحذف (من الليل) المتعلق بالخيط الأسود.شبه ما يبدو من البياض وما يمتد معه من الغبش بخيطين أبيض وأسود في الامتداد.ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ أي: ثم أتموا الصيام من الفجر إلى الليل، ولابد من تقدير كلمة (من الفجر) إلى الليل، وما الدليل على تقدير (من الفجر)؟ الدليل ما قبلها: ( حتى يتبين لكم )، وقوله: (إلى الليل) يعني: إلى دخول الليل بغروب الشمس.وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ أي: نساؤكم.وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ المقصود هنا الوطء، ( وأنتم عاكفون ) يعني: مقيمون بنية الاعتكاف فِي الْمَسَاجِدِ ، وهذا نهي لمن كان يخرج وهو معتكف فيجامع امرأته ويعود، وهذا لا يحل في الاعتكاف لا في الليل ولا في النهار.تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ تلك الأحكام المذكورة حدود الله حدها لعباده ليقفوا عندها.فَلا تَقْرَبُوهَا ، هذا أبلغ من ( لا تعتدوها ) في هذا الموضع؛ لأنه إذا نهى عن الاقتراب فمن باب أولى أن ينهى عن التعدي.كَذَلِكَ يُبَيِّنُ يعني: بين لكم ما ذكر.كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ يعني: يتقون محارمه.

تفسير قوله تعالى: (ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل)

قال عز وجل: وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ [البقرة:188] أي: لا يأكل بعضكم مال بعض.(( بِالْبَاطِلِ )) أي: بالحرام شرعاً كالسرقة والغصب.وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ أي: ولا تدلوا، فهنا (تدلوا) معطوفة على ما قبلها، فالمقصود: ولا تأكلوا ولا تدلوا، أي: لا تلقوا بها إلى الحكام، لا تلقوا بها أي: بحكومتها، وذلك: بإقامة الدعوى بها باطلاً، أو بالأموال رشوة.لِتَأْكُلُوا يعني: بهذا التحاكم.فَرِيقًا أي: طائفة.مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ أي: متلبسين بالإثم.وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ يعني: أنكم مبطلون في هذا.ونزيد هذا المعنى إيضاحاً: يقول تبارك وتعالى: (( وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ )) قال ابن جرير : يعني تعالى ذكره بذلك: ولا يأكل بعضكم مال بعض بالباطل، فجعل بذلك آكل مال أخيه بالباطل كالآكل مال نفسه بالباطل. وهذا إشارة إلى حرمة مال المسلمين.وقوله تعالى: (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ) جعل مال الإخوة كأنه مالك أنت؛ فلذلك يجب الاجتهاد في حفظ أموال المسلمين كما تحفظ مالك، ونظير ذلك قوله تعالى: وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ [الحجرات:11] أي: إخوانكم، وقوله: وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ [النساء:29] يعني: لا يلمز بعضكم بعضاً، ولا يقتل بعضكم بعضاً؛ لأنه تعالى جعل المؤمنين إخوة، والعرب تكني عن نفسها بأخواتها، وعن أخواتها بأنفسها؛ لأن أخا الرجل عندها كنفسه، فتأويل الكلام: ولا يأكل بعضكم أموال بعض فيما بينكم بالباطل، وأكله بالباطل أكله من غير الوجه الذي أباحه الله لآكليه، فالفارق بين الحق والباطل في المال بين الذي يحل لك والذي لا يحل لك هو حكم الشرع، ليس الهوى وليس الاتفاق؛ لأن الناس قد يتراضون على أكل الأموال بالباطل، مثل بعض العقود المحرمة، كالذي يتعامل بالربا في عقد ربوي بالتراضي، ويقول: نحن متفقون. فنقول: التراضي أحد شروط صحة البيع، لكن هناك شروط أخرى، وأهمها وأعظمها: أن توافق الشرع.أيضاً: المال الذي يعطى لفرقة الموسيقى التي يأتون بها في الأفراح هو من أكل الأموال بالباطل، ويحرم على الرجل أن يدفع لهؤلاء مالاً، ويحرم على هؤلاء أن يأخذوا هذا المال؛ لأن الذي يحل ويحرم هو الله، والله حرم ذلك. وهكذا أي نوع من العقود المحرمة مثل: ثمن الكلب، ومهر البغي، وحلوان الكاهن الذي يدفع للسحرة والعرافين، والرشوة؛ كل هذا من أكل أموال الناس بالباطل، فكل مال يعطى للرجل وهو غير حلال له شرعاً فهذا من أكل الأموال بالباطل.وقوله: (( بَيْنَكُمْ )) إما أنها ظرف (لتأكلوا) يعني: لا تتناولوها فيما بينكم بالأكل، أو أنه حال من الأموال، أي: لا تأكلوها كائنة بينكم ودائرة بينكم، (بالباطل) يعني: متلبسين بالباطل.

تفصيل معنى قوله تعالى: (وتدلوا بها إلى الحكام)

قوله: (( وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ )) المقصود أنكم تترافعون إلى الحكام، وتدعون دعاوى كاذبة في حق بعضكم حتى تأكلوا الأموال بالباطل. وقوله: (وتدلوا) مجزوم عطفاً على النهي، يعني: ولا تدلوا، وفي قراءة أبي (ولا تدلوا) بإثبات لا الناهية، والإدلاء مأخوذ من الدلو، وهو إرسال الدلو في البئر للاستقاء، ثم استعير لكل إلقاء قول أو فعل يتوصل به إلى شيء، فكل من ألقى شيئاً ليتوصل به إلى شيء يقال: قد أدلى، ومنه يقال للمحتج الذي يحتج ويقيم الحجة: أدلى فلان بحجته، كأنه يرسل الحجة حتى يصل إلى مراده، كإدلاء المستقي الدلو ليصل إلى مطلوبه من الماء، وفلان يدلي إلى الميت بقرابة أو رحم إذا كان منتسباً إليه؛ فيطلب الميراث بتلك النسبة، يدلي إليه بقرابة، فكأنه اتخذ من هذه القرابة سبباً يوصله إلى حقه من الميراث.والباء في قوله: (وتدلوا بها) صلة الإدلاء، والمعنى: لا تلقوا أمرها والحكومة بها إلى الحكام، أو لا تلقوا بعضها إلى حكام السوء على وجه الرشوة ليعينوكم على اقتطاع أموال الناس، (وقد لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الراشي والمرتشي والرائش -وهو الواسطة الذي يمشي بينهما-) رواه أهل السنن، وذلك لأن ولي الأمر إذا أكل هذا السحت -وهي: الرشوة، وتسمى أحياناً بالهدية، والإكرامية، والقهوة- احتاج أن يسمع الكذب من شهادة الزور وغيرها مما فيه إعانة على الإثم والعدوان.وولي الأمر إنما جعل ليأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، هذا مقصود الولاية، وإذا كان الوالي يمكن من المنكر بمال يأخذه كان قد أتى بضد المقصود، مثل من نصبته ليعينك على عدوك فأعان عدوك عليك، وبمنزلة من أخذ مالاً ليجاهد به في سبيل الله فقاتل المسلمين، فالحاكم أو القاضي إنما جعل ليقيم العدل بين الناس، وليحمي الناس من ظلم بعضهم لبعض، فإن كان ظالماً فقد أتى بضد المقصود من ولايته، فيكون مثل من نصبته ليعينك على عدوك فأعان عدوك عليك.(( وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ )) ( بها ) الهاء تعود إلى الحكومة، وكلمة حكومة معناها في مثل هذا السياق وفي كلام السلف ليس المعنى السياسي الذي يتبادر الآن إلى أذهاننا، بل المعنى رفع الدعوة إلى القاضي، هذه تسمى حكومة. (( وَتُدْلُوا بِهَا )) يعني: بهذه الحكومة والدعوة، وترفعونها إلى القضاء.(( إِلَى الْحُكَّامِ )) جمع حاكم، وهو منفذ الحكم بين الناس.

معنى قوله تعالى: (لتأكلوا فريقاً من أموال الناس بالإثم)

قوله تعالى: (( لِتَأْكُلُوا )) يعني: بواسطة حكمهم الفاسد وبالتحاكم إليهم.(( فَرِيقًا )) يعني: طائفة وقطعة.مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ ( بالإثم ) يعني: بأمر يوجب إثماً، كشهادة الزور، واليمين الفاجرة، والحكم الفاسد الناشئ عن رشوة، وهذا لا يفيد الحل.وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ يعني: وأنتم تعلمون أنكم على الباطل، وارتكاب المعصية مع العلم بقبحها أقبح، وصاحبها أحق بالتوبيخ، فالتقييد بالعلم لزيادة تقبيح حالهم.فقوله تعالى: وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ مثل: أكل المال، سرقة الأرض، غصب أي شيء من الحقوق، فيدلي بها إلى الحكام، أي: يرفع الحكومة والدعوة الظالمة الكاذبة إلى القاضي ويعطيه الرشوة.لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا ، قطعة من أموال الناس.(( بِالإِثْمِ )) الإثم إما الرشوة للحاكم الذي يطاوعكم في هذا الظلم، أو لا يكون الحاكم ظالماً لكن أنت تأتي بشاهد زور، أو تحلف يميناً غموساً محرمة، فهذه كلها أنواع من الإثم.

معنى قوله تعالى: (وأنتم تعلمون)

قوله تعالى: لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ، إشارة إلى قبح حالكم؛ لأنكم لا تفعلون هذا وأنتم جاهلون بهذا، لكن أنت تعلم في قرارة نفسك أن هذا المال ليس من حقك، فأنت تعلم ولست تجهل، فهذا فيه تقبيح وتوبيخ لحالهم، والمقصود إن خفي ظلمكم على الناس، فإنهم لا يعلمون ما في نفوسكم، فأنت تعلم أن هذا حرام عليك.والناس الآن في أوضاع مؤلمة جداً،، الشيء الحرام عند بعض الناس هو الذي يعجز عنه، لكن ما قدر عليه يكون حلالاً، فالفيصل عنده ليس أن هذا الشيء حقي عند الله سبحانه وتعالى أم ليس حقي، لكن الفيصل عنده هل أقدر عليه أم لا أقدر؟فإذا قدر عليه فهو حلال له، والحرام عنده هو الذي يعجز عنه، هذا حال كثير من الناس إلا من رحم الله سبحانه وتعالى، وللأسف هذا في عامة ما حرم الله، تجد مثلاً الفروج الحرام منها عند بعض الفسقة ما عجز عنه، أما إذا قدر عليه فهو حلال عنده، وهذا بلا شك مصادمة لشرع الله تبارك وتعالى، وعدم خوف منه تبارك وتعالى.هذه الآية المقصود بها أن الحاكم يحكم بما يظهر له، والقاضي بشر يتعامل مع الوثائق بما يظهره الناس من شهادات أو يمين أو غير ذلك، فيمكن أن تعلم أن هذا ليس من حقك، والقاضي حكم لك، فلا تعتقد أن هذا حلال لك، ما دمت تعرف أنه حرام فهو حرام، وحكم الحاكم لا يحله، والحاكم أو القاضي معذور؛ لأنه حكم بما يظهر له بحسب الوثائق، لكن إن كنت تعلم أنه عند الله سبحانه وتعالى ليس حلالاً لك فسيبقى حراماً، ولا يحله لك حكم الحاكم، ولذلك قال: وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أي: إن خفي ظلمكم على الناس فإنه لا يخفى عليكم، وهذا تنبيه على أن الاعتبار بما عليه الأمر في نفسه، وما علمتم منه، لا بما يظهر.قال ابن كثير : قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما: هذه الآية في الرجل يكون عليه مال وليس عليه فيه بينة، فيأتي الآخر يريد حقه، فيجحد هذا المال، ويخاصم إلى الحكام، وهو يعرف أن الحق عليه، وهو يعلم أنه آكل حرام، فإذا حكم له القاضي لا يحل له ذلك.وروي عن مجاهد وسعيد بن جبير وغيرهما قالوا: لا تخاصم وأنت تعلم أنك ظالم، وقد ورد في الصحيحين عن أم سلمة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ألا إنما أنا بشر، وإنما يأتيني الخصم، فلعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له) أي: عنده قدرة على الكلام وتأويل الكلام كحال كثير من المحامين الذين لا يخافون الله سبحانه وتعالى، وظيفته محامي، ويعتقد أنه يحل له أن يدافع عن الظالم، يكون الرجل قاتلاً ويدافع عنه، ويحاول أن يبرئه، ويفخر المحامي الظالم بأنه أخرجه من القضية كما تخرج الشعرة من العجين، وقد يكون المجرم تاجر مخدرات يحارب المسلمين أشد من الحرب النووية، ومع ذلك يفخرون بأن المحامي هذا ماهر؛ لأنه تمكن أن يبرئه تماماً من القضية، وهذا بسبب لحن القول، وقدرته على تزيين الكلام وزخرفته وتمويهه لستر هذه الجريمة أو غيرها من الجرائم، فالقاضي يحكم بما يظهر له.يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (ألا إنما أنا بشر مثلكم -يعني: لا أعلم الغيب- وإنما يأتيني الخصم، فلعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له -في بعض الروايات: فأقضي له بنحو مما أسمع-، فمن قضيت له بحق مسلم فإنما هي قطعة من نار) إذا كنت تعلم أن هذا ليس من حقك، ولكن لأنك فصيح والآخر عيي لا يستطيع الكلام غلبته بالكلام، فأنا أحكم على ما يظهر لمن يأتيني بالبينة، فقد يكون صاحب الحق ليس عنده بينة، وضع أمانته عند خائن، ففي هذه الحالة إذا حكمت بما يظهر فاعلم أن ما تأخذه إنما هو قطعة من النار، فليحملها أو ليذرها حسب خوفه من الله.فدلت الآية الكريمة وهذا الحديث على أن حكم الحاكم لا يغير حقيقة الشيء في نفس الأمر، فلا يحل في نفس الأمر حراماً ولا يحرم حلالاً، وإنما حكم القاضي يلزم قضاءً لا ديانة في الظاهر فقط، فإن طابق في نفس الأمر فذاك، وإلا فللحاكم أجره؛ لأنه اجتهد، وعلى المحتال وزره، ولهذا قال تعالى في آخر الآية: وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أي: تعلمون بطلان ما تدعونه وتروجونه في كلامكم.قال قتادة : اعلم -يا ابن آدم- أن قضاء القاضي لا يحل لك حراماً ولا يحق لك باطلاً، وإنما يقضي القاضي بنحو ما يرى وتشهد به الشهود، والقاضي بشر يخطئ ويصيب، واعلموا أن من قضي له بباطل أن خصومته لم تنقض. يعني: القضاء حسم الخصومة في الدنيا فقط، ولكنها ستحسم يوم القيامة، فليس كل ما تقدر عليه بحكم قاضي أو بسلطة أو بغير ذلك يكون حلالاً لك، إنما الحلال ما أحله الله.يقول: واعلموا أن من قضي له بباطل أن خصومته لم تنقض حتى يجمع الله بينهما يوم القيامة فيقضي على المنكر للحق بأجود مما قضي به للمبطل على المحق في الدنيا.


 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , تفسير سورة البقرة [178-188] للشيخ : محمد إسماعيل المقدم

https://audio.islamweb.net