اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , مواقف من حياة الصديق للشيخ : صالح بن عواد المغامسي
وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، نبي جاهد في الله حق جهاده، أدى الأمانة، وبلغ الرسالة، ونصح الأمة حتى تركها صلوات الله وسلامه عليه على المحجة البيضاء، والطريق الواضحة الغراء، لا يزيغ عنها إلا هالك.
اللهم وعلى آله الأخيار، وأصحابه الأبرار، وعلى سائر من سار على منهجه، واقتفى آثاره من الطيبين الأطهار، إلى يوم تتقلب فيه القلوب والأبصار.
أما بعد:
أيها المؤمنون! ففي هدوء من السحر، وسكون من الليل، وسكون من الخلائق، وغفلة من الناس أسرى الله تبارك وتعالى بسيد خلقه أجمعين محمد صلى الله عليه وسلم، أسرى به ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، ثم عرج به تبارك وتعالى إلى سدرة المنتهى؛ ليريه من آيات ربه الكبرى، فكانت هذه النعمة الكبرى على نبينا وسيدنا محمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه؛ إظهاراً للقدرة الربانية، وتجلية للحكمة الإلهية، ثم عاد صلوات الله وسلامه عليه في نصف الليلة إلى مضجعه في مكة، فلما أصبح غدا إلى مجالس قريش وأنديتها يخبر بما أفاء الله تبارك وتعالى عليه من النعمة العظيمة والآلاء الجسيمة، فبينما هو يحدث أشراف قريش والملأ منها إذ جن جنونهم، وعظم الخطب عليهم كيف يعقل أن يسرى به إلى المسجد الأقصى، ثم يعرج به إلى السماوات العلى في برهة من الليل؟! ثم انصرف منهم رجال إلى ذلك الرجل الذي يناصره، وذلك الصاحب الذي آمن به، انصرفوا إليه زرافات ووحداناً؛ يريدون أن يزعزعوا إيمانه، ويفيضوا أركانه، فلما أبلغوه الخبر وأنبأوه الخطب قال رضي الله تعالى عنه وأرضاه: (والله لئن قالها فلقد صدق)، قالوا: أتصدقه بأنه أسري به إلى المسجد الأقصى في برهة من الليل وعاد في نفس الليلة؟! قال: (نعم، أتعجبون من هذا؟! إنني لأصدقه في الخبر يأتيه من السماء بين عشية وضحاها)، ثم انصرف رضي الله تعالى عنه وأرضاه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك النبي الكريم يخطب في الملأ من قريش ويحدثهم بما أفاء الله عليه، وكلما قال خبراً قال أبو بكر رضي الله تعالى عنه: (صدقت يا رسول الله! أشهد أنك رسول الله)، فالتفت إليه صلوات الله وسلامه عليه قائلاً: (وأنت يا أبا بكر الصديق).
معاشر المؤمنين! الله أكبر ما أعظم إيمانه، وما أكثر إحسانه، وما أجل عند الله منزلته وشأنه، الله أكبر ما أطيب قيلته، وما أنقى سريرته، الله أكبر ما أسرع في ذات الله دمعته.
كان أبو بكر رضي الله تعالى عنه في خَلْقه غائر العينين، ناتئ الجبهة، خفيف العارضين لا يكاد يثبت رداء على كتفه، منحني القامة، أبيض نحيفاً، كثير شعر الرأس رضي الله تعالى عنه وأرضاه، ملئ قلبه إيماناً وعلماً وتصديقاً بالله وبرسوله محمد صلوات الله وسلامه عليه، جاءت في ذكر فضله الآيات والأخبار والنقول الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أخرج ابن حبان في صحيحه من طريق مجاهد عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (يدخل الجنة يوم القيامة رجل فلا يبقى أهل دار في الجنة ولا أهل غرفة إلا نادوه قائلين: مرحباً مرحباً، إلينا إلينا، فقال أبو بكر وكان حاضراً: يا رسول الله! ما توى على هذا الرجل من فضل تلك الليلة؟ فقال صلى الله عليه وسلم: أجل، وأنت هو يا أبا بكر).
مع هذا الصحابي الجليل، ومع هذا التلميذ الأكبر في مدرسة محمد صلى الله عليه وسلم نقضي هذه الوقفات.
أيها المؤمنون، معشر الأحبة! إننا نعلم يقيناً أن أبا بكر رضي الله تعالى عنه أفضى إلى ربه قبل أربعة عشر قرناً، ومن البدهي أن تنتشر عبر هذه القرون المتعاقبة المتوالية الكثير من أخباره، فنحن نعلم أن جل الحاضرين اليوم ومن سييسر الله لهم الاستماع إلى ما نقول يعلمون الكثير عن مناقب وفضل أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه، وما لهذا أردنا هذا الجمع، وإنما أردناه كي نستلهم الدروس والعبر، ونقف على العظات والآيات في واقع حياتنا المعاصرة مع هذا الصحابي الجليل، فلسنا اليوم معنيين بما لـأبي بكر رضي الله تعالى عنه من فضل ومنزلة ومنقبة، ولكننا معنيون في المقام الأول بكيف نستلهم الدروس والعبر، ونقوم بهذه الدروس تطبيقاً وتنفيذاً في واقعنا المعاصر الذي نشهده في البيت والحي والدولة والمجتمع وفي سائر حياتنا ليلاً ونهاراً، سراً وجهاراً، غدواً ورواحاً.
معاشر الإخوة! إن حياة الصديق رضي الله تعالى عنه كلها مواقف مشهودة لا يمكن أن يجهلها التاريخ، ويعلم الله أنه أحد الرجال الأفذاذ الذين تقتفي الأمة آثارهم، وتقتفي منهجهم، وتستنير بما لهم من أقوال وأفعال، وسنبدأ أولاً بالمواقف الأربعة للصديق رضي الله تعالى عنه، ثم نذكر الأسباب والدوافع الكامنة في شخصيته التي هيأت له رضي الله تعالى عنه وأرضاه أن يقف هذه المواقف.
ناصر هذا الصديق الأكبر رضي الله تعالى عنه الدين بتصديق رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يقول، وناصره بالدعوة إليه، فحتى العشرة المبشرون بالجنة خمسة منهم أسلموا على يدي أبي بكر رضي الله تعالى عنه، وناصر هذا الدين بعتق الأرقاء من قومه، فكان يعتق العبيد والأرقاء؛ حتى يكونوا قوماً صالحين في مجتمعهم يذودون عن دين الله تبارك وتعالى، وناصر دين الله تبارك وتعالى بالمنافحة عن رسول الله صلوات الله وسلامه عليه، فكان يقف ويخطب في الملأ من قريش على جبروتهم وعلى ما أوتوه من سلطان ويقول رضي الله تعالى عنه وأرضاه: أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ [غافر:28]، حتى أوذي في سبيل الله أعظم الإيذاء رضي الله تعالى عنه وأرضاه، وناصر رسول الله صلى الله عليه وسلم بمرافقته في هجرته، وشهد المشاهد كلها: بدراً، وأحداً، والأحزاب، وحنيناً، وسائر غزوات رسول الله صلى الله عليه وسلم، وناصر المسلمين يوم وفات نبيهم، وناصر الدين يوم السقيفة، وناصر الدين عندما ارتدت العرب كما سيأتي بيانه في موضعه.
والشاهد من هذا كله أنه يجب على المؤمنين أن يقتفوا هذا المنهج الذي خلفه أبو بكر رضي الله تعالى عنه لهم، فإن الأيام تتغير كما يتغير أهلها، والحوادث والوقائع والأعيان تتغير وتتبدل وتتباين من قرن إلى قرن، ومن زمن إلى زمن، ولكن يبقى يا أخي المنهج الذي ترك أبو بكر الناس عليه، والمنهج الذي ترك أبو بكر الناس عليه هو نصرة دين الله تبارك وتعالى.
ألا وإن من نصرة دين الله تبارك وتعالى الذب عن حياض العلماء، وعن أعراض الدعاة، والوقوف أمام ما ينالهم من كيد الكائدين، وحسد الحاسدين، وحقد الحاقدين.
كما أن من نصرة دين الله تبارك وتعالى: أن يحرص المسلم على بقاء المجتمع المسلم متوحداً متكاتفاً، ولاة وعامة، دعاة وخاصة، فحرص المسلم على بقاء المجتمع المسلم لا تدخله الزعزعة، ولا يدخله الانفكاك، ولا تبث فيه الفرقة، ولا يشمله الشتات، هذا والله الذي لا إله غيره من نصرة الدين، ومن الحفاظ على لحمة الدين باقية متينة قوية كما أراد الله لها أن تكون.
ثم لما خرجا من الغار-الرسول والصديق - ومضيا في طريقهما إلى المدينة كان رضي الله تعالى عنه يمشي حيناً أمام النبي عليه الصلاة والسلام، وحيناً يمشي خلفه، وحيناً يمشي عن يمينه، وحيناً يمشي عن شماله، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما هذا يا أبا بكر ؟ قال: يا رسول الله! أذكر الرصد فأمشي أمامك، وأذكر الطلب فأمشي خلف، وأذكر الكمين فأمشي عن يمينك وشمالك)، فهذا فداء لرسول الهدى صلوات الله وسلامه عليه، ووالله لو قدر لهذا الرجل العظيم أن يقسم نفسه أجزاء ليفدي النبي صلى الله عليه وسلم من كل ناحية لما تردد في ذلك طرفة عين، ولكنها نفس واحدة وبدن واحدة كما لا يخفى على كل أحد.
وكما ضحى بنفسه ضحى رضي الله تعالى عنه وأرضاه بماله، فقد ثبت عنه أنه أعتق الكثير من الأرقاء والعبيد -كما بينا في الأول- نصرة للدين، فجاءه أبوه وقال: يا بني! إن كنت ولا بد فاعلاً بأنك تعتق الأرقاء فهلا أعتقت أقواماً ورجالاً جلداً يمنعونك ويحمونك بدلاً من هؤلاء الضعفاء والمساكين الذين تعتقهم؟! قال: يا أبتِ! إنما أريد بعتقي إياهم وجه الله تبارك وتعالى، فما فكر رضي الله تعالى عنه في نفسه؛ لأنه يعلم أن الله وحده يمنعه ويحميه من أذى كل أحد، ولكن كان همه أن يبذل ذلك المال الذي أفاءه الله عليه في نصرة دين الله تبارك وتعالى، والتضحية بالمال من أجل دين الله جل وعلا.
ثانياً: في تشجيع حلقات التحفيظ الرجالية والنسائية.
ومن أن من ذلك إغاثة المسلمين الفقراء واليتامى والمساكين في سائر أنحاء الأرض عبر هيئة الإغاثة، وعبر كثير من المؤسسات الخيرية التي يوثق في دين وأمانة أصحابها.
كما أنه مما يوضع فيه المال الوضع الصحيح: تأييد طلبة العلم الذين خالطهم الفقر وأقعدتهم المسكنة عن طلب العلم فلا يجدون من الأموال ما يعينهم على الطلب، فلا شك أن في إعانتهم بالمال، ودعمهم بما ينفقون على أنفسهم كل ذلك من نصرة دين الله تبارك وتعالى.
ومع الأسف نجد الكثير من أثرياء هذا العصر يا ليتهم وجهوا أموالهم والكثير من فواضل ما من الله به عليهم في المباحات أو حتى في الحرام المحض، بل وجه بعضها والعياذ بالله فيما يضاد دين الله تبارك وتعالى، ولا ينجم عنه إلا أن يتحلل الناس ويتحرروا من دينهم ومبادئهم وأخلاقهم، فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ [الأنفال:36].
من المعلوم عند كل أحد أن نبينا عليه الصلاة والسلام لما قفل راجعاً من حجة الوداع دخلته الحمى، وأصابه الصداع الشديد في رأسه، وأخذ المرض يوهنه يوماً بعد يوم خاصة في شهر صفر، فلما أثقل عليه المرض صلوات الله وسلامه عليه مع دخول شهر ربيع الأول للعام العاشر من الهجرة، أمر النبي صلى الله عليه وسلم نساءه أن يبلغن أبا بكر ويأمرنه بأن يصلي بالناس، فقالت عائشة تتعذر لأبيها: (إن أبا بكر رجل أسيف -أي: كثير البكاء- هلا أمرت عمر )، فكان أن نادوا عمر بأن يصلي بالناس، فاغتاظ رسول الله صلى الله عليه وسلم لا لأن عمر تقدم، لكنه لأنه تقدم مع وجود من هو أولى منه وهو أبو بكر .
وفي نهاية الأمر أخذ رضي الله تعالى عنه يصلي بالناس عوضاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى خرج عليه الصلاة والسلام في يوم الإثنين ضحىً وقدماه تخطان على الأرض متكئاً على علي والفضل بن العباس ، فلما رفع الستار ورأى الأمة قد اجتمعت كلمتها خلف هذا الصديق العظيم وهم يؤدون الصلاة قرت عينه صلوات الله وسلامه عليه، ثم عاد إلى مضجعه، وكان ذلك فجر يوم الإثنين الحادي عشر أو الثاني عشر من شهر ربيع الأول، ثم أفضى صلى الله عليه وسلم إلى ربه ضحى ذلك اليوم بعد أن كان أبو بكر قد توجه بعد صلاة الفجر إلى منزله بالسنح، فلما انتشر بين الناس خبر وفاة سيد الأولين والآخرين صلوات الله وسلامه عليه ارتجت المدينة؛ لأنها لم تصقع بخبر مثل هذا، ولم تصقع بمثله بعد.
فعاد رضي الله عنه من السنح وقد كان عمر رضي الله عنه يمشي بين الناس ويهدد من يزعم أن محمداً قد مات بالقتل؛ زاعماً أن رسول الله قد ذهب إلى ربه كما ذهب موسى أربعين يوماً إلى ربه، فدخل أبو بكر رضي الله عنه على رسولنا صلى الله عليه وسلم وهو مسجىً في بيته، فكشف الغطاء عن وجهه، وقبله بين عينيه وقال: طبت حياً وميتاً يا رسول الله! أما الموتة التي كتبها الله عليك فقد ذقتها، ولن تموت بعدها أبداً، ثم خرج إلى الناس، وكان الموقف الطبيعي أن يكون أبو بكر أشد ذهولاً من عمر ؛ لأن محبة أبي بكر لرسول الله أعظم من محبة عمر ، والصحبة التي بين أبي بكر والرسول أعظم من الصحبة التي بين عمر والرسول، وما عرف عن أبي بكر من رقة أكثر مما عرف عن عمر ، بل لا يعرف عن عمر إلا الشدة والغلظة في دين الله جل وعلا، ولكن لما كان الموقف موقف عظماء، وموقف رجل يعدل الأمة كلها وقف رضي الله تعالى عنه ذلك الموقف، وأخذ يمشي رابط الجأش لا يكلم أحداً متخذاً سبيل الحكمة حتى صعد المنبر، والناس في هول عظيم لا يعدله هول مثله، ثم قال: أيها الناس! من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت، ثم تلا: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِينْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ [آل عمران:144].
قوله رضي الله تعالى عنه: (من كان يعبد محمداً) لم يقلها رضي الله تعالى عنه طيلة حياته، فقد كان يقول: يا نبي الله، أو يا رسول الله، أو أيها الخليل، فلم يقل له يوماً: يا محمد باسمه المجرد، فلما مات والناس في عاطفة شديدة قال: من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ولم يقل حتى صلى الله عليه وسلم؛ لأن الموقف كان يتطلب هذا، فالناس في عاطفة وبكاء شديد ونحيب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلو قال: سيدنا ورسولنا وحبيبنا لزادهم هماً على ما هم فيه، لكن الموقف كان موقفاً يجب فيه أن يربط العباد بالله لا بأحد من الخلق كائناً ولو كان رسول الله صلوات الله وسلامه عليه، فلما قالها عمت الناس السكينة، وأقر الناس بالحدث، وآمنوا بقدر الله جل وعلا، حتى قال عمر : كأنني لم أسمع تلك الآية إلا يوم أن تلاها أبو بكر رضي تعالى عنه وأرضاه على الناس.
ثم توالت الخطوب فكان يوم السقيفة وما أدراك ما يوم السقيفة، فلا يمكن أيها الأحبة أن يكون هناك إسلام بلا أمة، ولا يمكن أن تكون هناك أمة بلا أمير أو إمام، ولا يمكن أن يكون هناك أمير بلا سمع ولا طاعة، فهذه من سنن الله في خلقه، فلا بد أن توجد دولة وأمة ومجتمع، ويكون على الأمة أو الدولة أو المجتمع أمير واحد لا اثنين، يأمر فيطاع، وينهى فينتهى عما نهى عنه في غير معصية الله جل وعلا.
فإدراك الصديق لهذا الأمر جعله يشتغل بأمر الخلافة قبل أن يشتغل بأمر دفن سيد الأولين والآخرين صلى الله عليه وسلم والصلاة عليه، فلما بلغه الخبر أن الأنصار مجتمعون في السقيفة توجه إلى سقيفة بني ساعدة، وكانت الأوس والخزرج تظن أن الأمر لا يمكن أن يخرج منهم؛ لأنهم هم أهل الدار، وهم الذين ناصروا رسول الله صلوات الله وسلامه عليه، فهم أحق بالأمر، فكان عمر قد زور في نفسه كلاماً جميلاً حسناً يريد أن يقنع الأنصار به، ولكن أبا بكر قال له: على رسلك يا عمر ! ثم تكلم رضي الله تعالى عنه وأرضاه كلام الصديقين الفضلاء العقلاء وأخبرهم أن العرب لا يمكن أن تدين إلا لهذا الحي من قريش؛ لأن قريشاً كانت ذا قوة ومكانة حتى في الجاهلية؛ لأنهم كانوا آنذاك سدنة البيت وحماته في الجاهلية، فلما أقنع الأنصار صعد الحباب بن المنذر وقال: منا أمير ومنكم أمير، فأخبره أبو بكر أن هذا الأمر لا يستقيم أبداً، فلما اقتنع الحاضرون بوجهة قوله خاف عمر أن ينفض المجلس دون أن يعقد فيه على أحد، فقال: يا أبا بكر ! ابسط يدك أبايعك، فبايعه عمر وأبو عبيدة في المقام الأول، ثم سراة الناس من الأوس والخزرج، ثم عقدت -رضي الله تعالى عنه وأرضاه- له البيعة العامة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم في اليوم التالي.
فمن هذا الحدث يعلم أنه ينبغي على الشاب المسلم الحريص على أن يبقى لدين معالمه أن يحرص على أن يبقى المكان والأرض والمجتمع الذي يعيش فيه محتفظاً بوحدته، وأما إذا أضحى كل منا لوحده فلن يعبد الله أحد، فالأهم في المقام الأول أن توجد أمة، فهارون عليه الصلاة والسلام لما استخلفه أخوه موسى في قومه قال: اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ [الأعراف:142]، فلما نجم الشرك في بني إسرائيل كان هارون حريصاً -رغم أن الشرك أعظم الكبائر- على ألا يتفكك المجتمع ولا تتفكك الأمة، فتركهم على حالهم حتى يأتي موسى، فلما قدم موسى مغضباً أخذ برأسه أخيه يجره إليه، فبين له هارون حجته: قَالَ يَبْنَؤُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي [طه:94]، فسكت عن موسى الغضب، وأقر لأخيه بالفضل؛ لأنه حفظ اللحمة مجتمعة؛ ولهذا ينبغي ألا يكون الواحد منا سبباً في شتات الأمة، ولا في فرقتها، ولا في تحزبها، ولا في أن نناوئ بعضنا بعضاً، ويسلط بعضنا بعضاً السهام على أخيه، فليعذر أحدنا أخاه فيما فيه عذر، وينصحه فيما لا عذر فيه، ولا نعين الشيطان على بعضنا البعض، بل نكون أمة كما أخبر الله عنها، وهذه الأمة أيها المؤمنون أمة مرحومة، بل إن نبينا صلى الله عليه وسلم أخبر أنها أكثر من نصف أهل الجنة، فعلام المسلمون اليوم يتفرقون أحزاباً وشيعاً ويتشتتون؟ وقد يتفرق الناس من أجل مسألة فقهية طار الخلاف فيها منذ الأزل، وسارت بالخلاف الركبان، وليس في اتفاقهم زوال لذلك الخلاف، فينشأ الحقد والحسد بين العلماء وبين الدعاة، وبين الولاة والعامة، وبين سائر أفراد المجتمع فيما لم يأمر الله به في شيء، ولم يدع إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً من الدهر.
ثم لما أفضى الأمر إليه رضي الله تعالى عنه وأرضاه خطب في الناس خطبته البليغة، ومن المستحيل أن يتكلم إنسان عن أبي بكر ثم لا يذكر نص تلك الخطبة العظيمة، خطبها وهو يومئذ خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمته قال: إني قد وليت عليكم ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوموني، الصدق أمانة، والكذب خيانة، والضعيف فيكم قوي حتى آخذ الحق له، والقوي فيكم ضعيف عندي حتى آخذ الحق منه، ولا يدع قوم الجهاد في سبيل الله إلا ضربهم الله بالذل، ولا تشيع الفاحشة في قوم إلا عمهم الله بالبلاء، أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإذا عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم.
ليت حكام المسلمين اليوم صغيراً وكبيراً يأخذون من هذا المنهج الذي تركه خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم نبراساً لحكمهم، وقبساً يقتبسون منه الطريقة التي يسوسون بها الناس؛ لأن الله جل وعلا ينزع بالسلطان ما لا ينزع بالقرآن، ولو أخذ حكام المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها بهذا المبدأ الصديقي الذي بينه خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم لأفلحوا ولسادوا، ولكن بعدت عليهم الشقة وتخبطوا في ميادين الغرب حتى ضل كثير منهم وأضلوا، نسأل الله لنا ولكم ولهم العافية من كل بلاء.
ثم أيها المؤمنون! كانت خاتمة المواقف لهذا الصديق رضي الله تعالى عنه وقوفه بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يعرف بحروب الردة، فلما توفي صلوات الله وسلامه ارتد أكثر بيوت العرب وأحيائها قاطبة، ونجم النفاق، واشربت اليهودية والنصرانية حتى قالت عائشة رضي الله تعالى عنه: والله ما نزل بالأمة لو نزل بالجبال الراسيات لهاضها، ولكن قيض الله لتلك الفتن أبا بكر رضي الله تعالى عنه وأرضاه رغم أن إجماع الصحابة كان في ثلاثة أمور فخالفهم أبو بكر في الثلاثة كلها، فكان الصحابة يرون أنه لا حاجة لقتال المرتدين، ولا حاجة لقتال مانعي الزكاة، ولا حاجة لإنفاذ جيش أسامة ، فأصر أبو بكر على قتال المرتدين، قالوا: إن كان ولا بد فاترك مانعي الزكاة، قال: والله لو منعوني عقالاً كان يؤدونه لرسول الله لقاتلتهم إليه، قالوا: إذاً فابق جيش أسامة كما هو للحاجة إليه، قال: والله لأن تخطفني الطير، وتلعب بي كلاب المدينة أحب إلي من أن أبقي أمراً أنفذه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فكان رأي الأمة يكاد يكون مجتمعاً على خلاف رأي أبي بكر ، ولكن لما كان أبو بكر أمة في نفسه أمة في ذاته شرح الله صدر عمر وصدر غيره من سراة المهاجرين والأنصار إلى القول والرأي الذي ارتآه أبو بكر ، فأنفذ أبو بكر جيش أسامة ، وقاتل مانعي الزكاة، وقاتل المرتدين قاطبة، ورد الله جل وعلا إلى الإسلام عزته وجلاله وعظمته على يدي هذا الصديق رضي الله تعالى عنه وأرضاه، ولسنا نحن الآن معنيين بما حدث في تلك المعارك، ولا بعدد القتلى، ولا بمن تقدم الصفوف ولا بمن تأخر، ولكننا معنيون بالمنهج الذي تركه أبو بكر .
وقد يقول قائل اليوم: أين المرتدون حتى أقاتلهم؟ وأين الرسول حتى أدخل قبله في الغار؟ فنقول: يا أخي إن الأيام تتغير والوقائع تتبدل، ويبقى المنهج فقط، والله إن الأمة اليوم في عزة أعظم مما كانت فيه في عهد أبي بكر رضي الله تعالى عنه، ولا يعنى بذلك الردة الكفرية البواح، حاشا وكلا، ولكن في الأمة اليوم الكثير من الأمور التي تحتاج إلى العديد من أحفاد وأبناء أبي بكر الصديق رضي الله عنه، فتواجه الأمة اليوم دعاة العلمنة، وما أكثرهم يكتبون في الصحف، ويكتبون في المجلات، ويخرجون في برامج التلفاز وغيرها، وتبث القنوات أقاويلهم وأخبارهم وأنباءهم، وهم يبثون السموم من خلال هذه المنافذ في المجتمع المسلم وينخرون قواه، ويذهبون إيمانه، ويقوضون أركانه، ويريدون من الأمة أن تتخلى عن دينها في كل ميادين الحياة، ويقولون: إنه يجب أن يفصل الدين عن الدولة.
وتواجه الأمة اليوم -كما تواجه دعاة العلمنة- كذلك دعاة الحداثة الذين كانوا وما زالوا يهزءون بكل موروث ولو كان ذلك الموروث آية قرآنية أو حديثاً نبوياً صحيحاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحتى يكون الجميع على بينة سنسوق في هذه اللحظات بعضاً مما ينشر في الكتب وفي الصحف، ومما يدعو إليه دعاة الحداثة رغم أن منهم من مات وخلدت الصحف ذكراه، حتى إن بعضهم أفردت له بعض الصحف في هذا البلد وللأسف ملاحق تتحدث عن حياته رغم أن ذلك الرجل قد لا يكون في الغالب سجد لله قط، ولو سجد لم يقبل منه؛ لأن الكفر البواح قد خرج من فيه بما لا يقبل عذراً ولا تأويلاً.
يقول شاعر حداثي يقال له: صلاح عبد الصبور ، وقد أفضى إلى ربه قبل عشر سنوات تقريباً، وانتشر في النوادي الأدبية قيام المحاضرات عنه، قال عليه من الله ما يستحقه -وناقل الكفر ليس بكافر- في قصيدة من ذوات التفعيلة -أي: حداثية- قال فيها يتكلم عن مبدأ الشيوعية، وأن الله جل وعلا لا ينصف بين عباده، وأن الجوع والعري وما في الناس من ضعف إنما هو بسبب الله تبارك وتعالى وتسلطه على عباده -تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً- قال:
الناس في بلادي جارحون كالصقور
غذاؤهم كرجفة الشتاء في ذؤابة المطر
وضحكهم يهز كاللهيب في الحطب
يقتلون.. يسرقون.. يشربون.. لكنهم بشر
وطيبون حين يملكون قبضة من نقود
ومؤمنون بالقدر
وعند باب قريتي يجلس عمي مصطفى
وهو يحب المصطفى
ويقضي ساعة بين الأصيل والمسا
وحوله الرجال واجمون
يحكي لهم تجربة الحياة
يا أيها الإله! الشمس مجتلاك والهلال مفرق الجبين
وهذه الجبال الراسيات عرشك المتين
وأنت نافذ القضاء أيها الإله
بنى فلان واعتلى وشيد القلاع
وأربعون غرفة قد ملئت بالذهب اللماع
وفي مساء واهم الأصداء جاه عزرائيل
يحمل بين أصبعيه دفتراً صغيراً
ومد عزرائيل عصاه بسر حرفي كن
بسر لفظ كان
وفي الجحيم دحرجت روح فلان
يا أيها الإله! كم أنت قاسٍ موحش
يا أيها الإله.
ثم قال:
بالأمس زرت قريتي قد مات عمي مصطفى
ووسدوه في التراب
لم يبتن القلاع
وكان كوخه من اللبن
وصار خلف نعشه القديم
من يملكون مثله جلباب كتان قديم
فالعام عام الجوع
وعند باب القبر
قام صاحبي خليل
حفيد عمي مصطفى
وحين مد للسماء زنده المفتول
ماجت على عينيه نظرة احتقار
فالعام عام الجوع.
مثل هذا تنشر له الدواوين على أقل القليل لم يقيض الله له من يذب عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم إلا القليل ومنهم: الدكتور عوض القرني في كتابه: (الحداثة في ميزان الإسلام)، والدكتور عبد الباسط بدر في كتابه: (نظرات في الأدب الإسلامي).
ويقول أحدهم وهو ممن أفردت له الصحف يوم موته الملاحق، سأذكر فقط بيتين مما قال، قال:
ولو عرفت يا إلهي الكسيح
كيف الزنا يصيح؟
وقال نزار قباني :
في بلادي
في بلاد الشرق لما يبلغ البدر تمامه
يتعرى الشرق من كل كرامه
والملايين التي تركض من غير نعال
والتي تسكن في الليل بيوتاً من سعال
والتي ما زالت تؤمن في أربع زوجات وفي يوم القيامة!
معشر الأحبة! أولاً: تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً، وما أحلم الله على الخلق، وما أجرأ الخلق على الله، ولكن المنهج الذي تركه أبو بكر ألا يترك أمثال هؤلاء أبداً، فإن كانت الردة الأولى في منع الزكاة، فإن الردة اليوم في السخرية والاستهزاء بما بينه الله، وما تركه صلى الله عليه وسلم للأمة من موروث شرعي، ونحن نركز في هذه المحاضرة على العلمانيين والحداثيين وإلا فغيرهم كثير ممن يناوئون الله ويناوئون رسوله صلى الله عليه وسلم، وهنا يفرض الواجب علينا أجمعين أن تكون سهام أهل الصحوة موجهة لمن حارب الله، وحارب رسوله صلى الله عليه وسلم بدلاً من أن يشتغل أهل الصحوة بعضهم في بعض بما لا طائل تحته أبداً.
ولا ريب أن الجواب أنه قد كان في شخصية أبي بكر ما أعانه -بتوفيق الله وإذنه- على الوقوف هذه المواقف، ونحن الآن مطالبون بأن نسدي لإخواننا بعضاً من المعالم الشخصية والصفات العظيمة التي كانت في أبي بكر ؛ حتى يتأتى لكل فرد منا أن يقف ولو بعض المواقف، ولو قريباً من تلك المواقف التي وقفها أبو بكر رضي الله تعالى عنه:
إخلاصه لله تبارك وتعالى، وهذه التي دونها خرط القتاد، وقد شهد الله لـأبي بكر بالإخلاص، قال الله تعالى: وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى * الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى * وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى [الليل:17-19] أي: أن أبا بكر عندما ينفق في ذات الله لا ينفق حتى يكافئ من ينفق عليه.
إذاً لماذا يا ربنا؟ قال: وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى * إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى [الليل:19-20]، فـأبو بكر لا يريد بذلك كله إلا ابتغاء رضوان الله جل وعلا.
ثم قال تبارك وتعالى: وَلَسَوْفَ يَرْضَى [الليل:21]، وتأمل خاتمة هذه السورة، وخاتمة سورة الضحى، فقد بين الله تبارك وتعالى أنه سوف يرضى عن نبيه صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى [الضحى:5]، هذا الخطاب للرسول، وقال في حق أبي بكر : وَلَسَوْفَ يَرْضَى ، ولذلك قال بعض العلماء: ما أعظم احتفاء الله برسوله وبـالصديق رضي الله تعالى عنه وأرضاه.
والمقصود: أن الإخلاص هو الفاصل العظيم بين المؤمن المحب في إيمانه وبين المؤمن الذي يريد من وراء علمه أو من وراء جهاده، أو من وراء إنفاقه، أو من وراء سائر أعماله الشهرة وحديث الناس وأن يقال عنه فلان بن فلان؛ ولذلك ورد عن بعض السلف أن مر ذات يوم على سفينة محملة بالدوارق تحمل إلى أمير المؤمنين، وكان في تلك الدوارق خمر، فأوقف السفينة وقال لصاحبها: هلم نكسرها، فسخر منه القائم على السفينة، قال: هل تستطيع؟ وأعطاه المدرى -أي السكين- فأخذها ذلك الرجل الصالح، وكانت ثلاثين دورقاً، فأخذ يكسرها واحداً بعد الآخر، حتى وصل إلى الدورق الثلاثين فتوقف وتركه على حاله، فلما علم أمير المؤمنين آنذاك بخبره اشتد غضباً وأوفده بين يديه، فلما وفد بين يديه، قال: يا هذا! من أنت؟ قال: محتسب يا أمير المؤمنين، قال: ويحك من ولاك الحسبة؟ قال: من ولاك أمارة المؤمنين، قال: علامَ كسرت الدوارق كلها إلا واحدة؟ قال: والله يا أمير المؤمنين كسرت تسعاً وعشرين منها وأنا لا أريد بها إلا الله، فلما هممت بكسر الدورق الثلاثين أعجبتني نفسي فتركته خوفاً أن أشرك مع الله أحداً.
والمقصود: أن نخلص لله تبارك وتعالى أعمالنا، وهذا الحديث ذو شجون جداً، فرحم الله المتكلم ورحم الله السامعين، وما أعظم التقصير عند الجميع.
ولما نزلت الآية: الم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ [الروم:1-4] عاهد أبو بكر كفار قريش وراهنهم على أن الروم سيظهرون ذات يوم على الفرس؛ لأن الله جل وعلا قال: وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ [الروم:3-4].
فينبغي أن نكون أجمعين على ثقة بأن الله تبارك وتعالى مظهر دينه لا محاله، ومعز جنده، وناصر أولياءه، إن لم يكن اليوم فغداً، وإن لم يكن غداً فبعد غدٍ، وإن لم يشهده هذا الجيل فستشهده أجيال أخر، لكن الله تبارك وتعالى لا يهزم جنده، ولا يخلف وعده، ولا يكذب خبره أبداً تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً.
ومما أعان أبا بكر على ذلك: محبته لله ولرسول الله صلى الله عليه وسلم، فمحبة الله ومحبة رسوله صلى الله عليه وسلم من أعظم البواعث والدوافع للعطاء نحو الدين، جاء في صحيح البخاري وغيره: أنا أبا بكر في أول أيام إسلامه قبل أن يأذن له الرسول بالهجرة خرج يريد أن يهاجر إلى غير مكة، فقابله رجل يقال له: ابن الدغنة سيد قبيلة كان يقال لها: القارة، فقال: ما أخرجك يا أبو بكر ؟! قال: أخرجني قومي ومنعوني أن أعبد ربي، فقال: يا أبا بكر ! والله إنك لتقري الضعيف، وتعين الضعيف، وتحمل نوائب الحق، ومثلك لا يَخرُج ولا يُخرج، أفتقبل أن تكون في جواري؟ قال: نعم، فرده إلى مكة، فلما رده إلى مكة طاف ابن الدغنة على مجامع قريش وأنديتها يخبرهم أن أبا بكر في جواره على شريطة أن يعبد الله في قعر داره، لكن أبا بكر بعد ذلك ابتنى مسجداً في داره، وأخذ يصلي فيه، وكان رضي الله تعالى عنه رجلاً أسيفاً إذا قرأ القرآن لا يملك دمعته، فكان إذا قرأ وبكى اجتمع عليه نساء المشركين وأبناؤهم وصبيانهم وجواريهم، ففتن الناس في دينهم وألبس على المشركين أمرهم، فذهب الأشراف من قريش إلى ابن الدغنة وقالوا له بخبر أبي بكر ، فجاء ذلك الرجل إلى أبي بكر وأخبره أنه أصبح في حل من شرطه أو أن يعود إلى ما كان عليه، قال: لا، بل أترك جوارك وأذهب إلى جوار الله تبارك وتعالى.
فمحبة أبي بكر لله تبارك وتعالى جعلته لا يتمالك أن يقرأ القرآن وهو يعلم أن القرآن كلام الله دون أن تذرف دمعته وتخشع نفسه، وترتجف جوارحه، ومثال هؤلاء قال الله تبارك وتعالى في حقهم: قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا * وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا * وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا [الإسراء:107-109].
وكما أحب أبو بكر الله أحب رسوله صلى الله عليه وسلم، تقول أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها: أن أبا بكر لما دخل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبره بخبر الهجرة قال: (يا أبا بكر ! أخرج مَن عندك، قال: يا رسول الله! إنما هم أهلك بنتاك: عائشة وأسماء ، فقال: يا أبا بكر ! إن الله قد أذن لي بالهجرة، فقال: يا رسول الله، الصحبة الصحبة، فقال رسول الله: نعم، الصحبة الصحبة)، فبكى رضي الله تعالى عنه وأرضاه من الفرح حتى قالت عائشة : والله ما ظننت أحداً يبكي من الفرح حتى رأيت أبا بكر يبكي من الفرح يوم أن أخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم بموافقته على صحبته للهجرة، فإذا امتلأت قلوبنا محبة لله ومحبة لرسوله صلى الله عليه وسلم هان على أقدامنا أن تقف بين يدي الله في ظلمات الأسحار، وهان عليها أن تكسر الحواجز والأسوار إلى المساجد، وهان على هذه الألسنة أن تذكر الله بكرة وأصيلاً، وهان على هذه الجوارح أن تدافع وتذب عن سنة محمد صلى الله عليه وسلم، لكن كثيراً منا يأخذون الدين كأحكام فقهية صرفة بحتة دون أن يخالط سويداء القلوب محبة الله أو محبة رسوله صلى الله عليه وسلم، فإذا سمع فتوى مخالفة أو حكماً شرعياً من عالم آخر رجع عما كان عليه؛ لأنه كان ينظر إلى المسألة من زاوية فقهية فقط، ولو نظر إليها من زاوية إيمانية ومن محبة الله وامتثال هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم لأفلح وتاب.
هذه أيها الإخوة مواقف أبي بكر ، وهذه الأسباب التي أعانت أبي بكر على أن ينصر الله وينصر رسوله صلى الله عليه وسلم.
أكتفي بهذا ونتفرغ الآن بالإجابة على الأسئلة؛ لعل فيها ما يبين للناس أمور دينهم، ويوضح لهم ما قد التبس عليهم في هذه المحاضرة إن وجد.
وصلى الله وسلم وبارك وأنعم على سيدنا محمد.
الجواب: لا ريب أيها المؤمنون! أن الوسواس داء أصاب كثيراً من الناس اليوم، والذي ينبغي على المسلم أن يحتاط لدينه، فيعتمد على الأذكار الشرعية، وأن يعلم أن الشيطان حريص على أن يصرفه عن الطاعة، فيبث فيه وينزغ في ذاته كذا وكذا من الأمور؛ حتى يلهيه عن الصلاة بالكلية، لكن ينبغي عليه أن يعرض عن مثل هذا ويتجافاه ويجعله وراء ظهره ودبر أذنيه؛ لأن هذا والعياذ بالله قد يؤدي إلى أن يأثم الإنسان إثماً شرعياً.
الجواب: لا ريب أن من نصرة دين الله، ومن أعظم الواجبات تربية الأبناء على ما أمر الله به وأمر به رسوله صلى الله عليه وسلم، ولقد جنح كثير من الآباء في هذا العصر إلى عكس هذا الأمر، فهيئوا لأبنائهم بوسيلة أو بأخرى أسباب معصية الله تبارك وتعالى، والله جل وجلاله يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ [التحريم:6].
ولا ريب أن أعظم ما أمر الله به بعد الشهادتين: إقامة الصلاة في وقتها؛ ولذلك ينبغي على الأب المؤمن أن يحرص على تربية أبنائه تربية إسلامية، وعلى أن يدلهم على المساجد، ويحثهم على الطاعات، ويأخذ بأيديهم إلى ما يقربهم من الله زلفى، وأن يكون سداً منيعاً أمام من يريدون أن يقوضوا البيوت المسلمة ويهدموا أركان الإيمان فيها.
الجواب: الإنسان يواجه في أول الأمر فتوراً شديداً في أداء قيام الليل، ولا ريب أنه مما يعين على قيام الليل التخلص من الذنوب، فقد جاء رجل إلى الحسن البصري فقال: يا أبا سعيد ! إنني أعد مائي وطهوري حتى إذا جاء الليل نمت عنه، فقال: يا هذا أثقلتك ذنوبك، فينبغي على المؤمن أن يتحرر أولاً من المعاصي والذنوب في النهار، ثم يسأل الله تبارك وتعالى أن يرزقه هذه المكانة الجليلة ألا وهي الوقوف بين يدي الله تبارك وتعالى، ثم ليتذكر ما أفاءه الله على عباده الصالحين من نعمة الوقوف بين يديه، وما أثنى عليهم بقوله: كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ [الذاريات:17-18]، وما ورد في الأخبار الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد كان عليه الصلاة والسلام يقوم أول الليل، ويقوم وسطه، وانتهى وتره صلى الله عليه وسلم إلى آخر الليل.
الجواب: يا إخوة هذا دين وينبغي ألا يتكلم فيه إلا من يعلم، وإن مما نعانيه أنه تجرأ على هذا الدين من لا يفقه فيه، وهذا التجرؤ قد يقود أحياناً إلى أن يتهم العبد الناس بما ليس فيهم، وأذكر حادثة رأيتها أمام عيني، فقد كنت ذات يوم ضيفاً في إحدى المدن خارج المدينة، فسأل أحد الحاضرين عن الشيخ محمد الغزالي رحمة الله تعالى عليه الداعية المصري المعروف الذي توفي مؤخراً، فقام أحد الحاضرين يستبق المسئول بالإجابة، وقال لذلك السائل بلغته: أيش تبغى فيه، هذا يقول: إن الرجل لو جلس في بيته على التلفاز واستمع الأغاني فلا شيء عليه، فلما قالها: نفض ذلك الرجل السائل يده، وقال: لا خير فيه، وقال فيه بعض السباب. وهذا من الظلم للشيخ الغزالي ومن الظلم لغيره.
إن الله تبارك وتعالى سيسأل كل عبد عن قوله، والكلام في الأئمة والعلماء أياً كانت جنسياتهم وأياً كانت مواطنهم ينبغي أن يكون على برهان وعلى علم بحقيقة القول، ولا ينبغي أن يكون جزافاً؛ لأنه خالفك في فتوى، أو خالف مشايخك في مسألة فقهية، وينبغي أن يعرف لعلماء المسلمين أياً كانت مواطنهم ولو في أصقاع الأرض يعرف لهم قدرهم ويعرف لهم مكانتهم، ولا يوسمون بما ليس فيهم، فالعقلانيون فريقان: فريق ينكر الدين كله ولا يؤمن إلا بما يتفق مع العقل، وهؤلاء أصلاً كفار وليسوا بمسلمين، ولا يوصفون بأنهم علماء ولا دعاة، ولا خير فيهم أبداً، بل هم في صف الملاحدة، وسبهم والكلام فيهم دين وملة وقربة.
وفريق من علماء المسلمين وسموا من الناس بأنهم عقلانيون، وقد نبه بعض العلماء والدعاة عنهم في بعض كتبهم غفلة منه؛ لأنه لم يفقه السبب الذي من أجله ردوا بعض النصوص، وأنا أذكر هنا هذا براءة للدين، فمثلاً الشيخ الغزالي نفسه وسم بأنه عقلاني؛ لأنه توقف في الحديث الذي في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم لما سأله رجل: (أين أبي؟ قال: أبوك في النار، ثم لما انصرف الرجل رده صلى الله عليه وسلم وقال: أبي وأبوك في النار)، قال هذا الرجل: قالوا: إن الشيخ الغزالي لا يأخذ بهذا الحديث رغم أن الحديث في صحيح مسلم ، فقالوا: إنه يرده؛ لأنه لا يوافق العقل الذي يمشي عليه في أنه كيف يكون أبو رسول الله صلى الله عليه وسلم في النار، والحق أن الشيخ رحمة الله تعالى عليه ما رد هذا الحديث لأنه مخالف للعقل، وأنا أقول مثله، فهذا الحديث رغم أنه في صحيح مسلم إلا إن الإنسان-عن نفسي أتكلم- يتوقف أمامه؛ لأن الدين لا يبنى على مجاملة الآخرين، وصحيح السنة لا يمكن أن يعارض صريح القرآن، والقرآن قطعي الدلالة قطعي الثبوت، وقد قال الله تبارك وتعالى في كتابه المبين: تَنزِيلُ الْكِتَابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ [السجدة:2]، أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ لِتُنذِرَ قَوْماً مَّا أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ مِّن قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ [السجدة:3].
فأخبر جل وعلا أن قوم محمد صلى الله عليه وسلم ما أنذروا قط، وفي آية يس: مَا أُنذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ * لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ [يس:6-7]، فالله أثبت في القرآن أن أولئك لم ينذروا، وقال جل وعلا في آية الإسراء: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [الإسراء:15]، فالآيتان محكمتان بنص الكتاب أن الله لا يعذب إلا من أرسل إليه، والله أخبر أن الملأ ممن كانوا قبل محمد صلى الله عليه وسلم لم يرسل إليهم رسول؛ لأجل هذا توقف الشيخ الغزالي في قضية حديث مسلم : (أبي وأبوك في النار)، وأياً كان الأمر فإن هنة واحدة، أو مثلب واحد، أو ممسك واحد على عالم من علماء المسلمين لا يقدح فيه، ولا يلزمنا أبداً أن نتهمه بما ليس فيه، فالشيخ الألباني مثلاً على جلالة قدره وعلمه وهو المعروف المشتهر وخدمته للسنة واضحة ظاهرة بينة، نقم عليه البعض قوله: بأن الوجه والكفين في المرأة ليسا بعورة، فخلط أقوام ما بين القول بأن الوجه والكفين ليسا بعورة وبين إنكار الحجاب، وهذا من الجهل، فالشيخ الألباني ومن تبعه في هذه المسألة ومن قبله لم يقل أحد منهم أن الحجاب ليس بموجود، بل إننا نقول: إن من أنكر الحجاب فإنه يكفر؛ لأن الحجاب من المعلوم من الدين بالضرورة، ومن المنصوص عليه في الكتاب، ولكن الخلاف في الحجاب ما هو؟ ففرق أن يكون الخلاف: هل هناك حجاب أو لا؟ وبين ما هو الحجاب؟ فالشيخ الألباني ومن وافقه ومن قبله يقولون: إن الوجه والكفين ليسا بعورة؛ لأنه ليس في كتاب الله نص صريح واضح على أن المرأة تغطي وجهها، لكن يشهد نصوص أخر من السنة النبوية على أنه يحسن بالمرأة أو يجب على المرأة أن تغطي وجهها، فهذا الخلاف يجب أن نعرفه، فإذا جاء رجل ينقض الحجاب كله جلبنا عليه بخيلنا ورجلنا وسفهنا رأيه، وإن جاءنا مسلم يقول: أنا مؤمن أن المرأة يجب أن تتحجب، لكني لا أقول إن الوجه والكفين عورة، فهنا يقف المسلم؛ لأن هذا القول قد قال به أفذاذ العلماء: قال به مالك كما في المدونة، وقال به غيره من أئمة السلف، وقال به كثير من العلماء، فالمسألة ينبغي أن تكون بينة واضحة عند الحكم على الناس.
وأما الحداثيون، فالحداثة قالب لا أكثر ولا أقل، فإن استخدمت في الخير فهي خير، وإن استخدمت في الشر فهي شر، ولكن دعاتها ورموزها والذين وفدوا بها على أهل الشرق وعلى أهل الإسلام كانوا أساطين وأرباباً في الهجوم، ومحاربين لله، ومحاربين لرسوله صلى الله عليه وسلم جهاراً وعياناً؛ فلذلك لا نتورع أبداً في أن نقف ضدهم، بل إن الوقوف ضدهم كما بينا في المحاضرة دين وقربة وملة يجب أن نتعبد الله تبارك وتعالى به، فتعرية المناهج أمر واجب إذا تبينا أنها خطأ، فإن كان الشخص المتكلم رجل من أهل السنة معروف بدينه وعلمه وفضله فيرد عليه قوله فقط، أما شخصيته وذاته فتبقى محفوظة مرموقة، فله مكانته وله جهاده في الدين، ويرد عليه قوله إن كان قوله مما تيقنا أنه خطأ، وأنه معارض لما في الكتاب والسنة، والله أعلم.
الجواب: الحل أولاً: لعلنا نستطيع أن نرفع إلى مقام الوزارة أن يلغوا شعره من الكتب.
والأمر الثاني: ينبغي على الأستاذ وجوباً شرعياً أن ينبه على الخطر العقدي الناجم عن أقوال أي شاعر كـصلاح عبد الصبور أو غيره، ولا بأس أن يعلم الجانب الأدبي عندهم حتى يكون الإنسان قوي حجة في الرد عليهم، لكن ينبغي على الأستاذ في المقام الأول أن ينبه على أغلاط هؤلاء، وعلى ما اقترفته أيديهم في دين الله تبارك وتعالى.
الجواب: لا ريب أن هذا حق، وإن كان الداعين لعمل المرأة فريقان:
فريق لا يدري ما يكتب، وهو يريد أن يكتب لتظهر صورته، ويأخذ مردوداً مالياً مما يقول كالحمار يحمل أسفاراً.
وفريق يكتب وهو يعي ويفهم، ويريد أن يكون في كتابته التمهيد لإخراج المرأة المسلمة المتعففة المتحجبة في هذا الوطن إخراجها لميادين الرجال؛ حتى يسهل للناس أن يقلدوا الغرب في ما هم فيه من فحشاء وانحلال خلقي، واليوم -هذا اليوم- نشرت الصحف صورة امرأة أو بالأحرى طفلة عمرها اثنا عشر عاماً وضعت مولوداً سفاحاً من نكاح غير شرعي من زميل لها عمره خمسة عشر عاماً، وضعت الطفلة وعمرها اثنا عشر عاماً ذلك المولود في الفصل وهي تدرس، فهذه عمرها اثنتا عشرة سنة، والذي أتاها الإتيان غير الشرعي عمره خمس عشر سنة، ثم تنشر الصحف -يعني الغربية- هذا الأمر بكل هدوء، وتقول تلك الطفلة: إنها لا تعرف التربية، وهذا الشاب يقول: لا أعرف أن أربي، واتفقا على أن يقدماه لمؤسسة خيرية، ومع هذا الدرس القاسي يأتي بعض كتابنا ويقول: لماذا تحرمون على المرأة أن تخرج؟! ويدعو إلى كذا وإلى كذا وإلى كذا مما يريدون به أصلاً أن ينشروا مبادئهم الفاسدة وما تعلموه في الغرب من انحلال خلقي، وليس كل من تعلم في الغرب على هذه الصفة، لكن أكثرهم لا يفقهون.
وهنا أنبه على أنه ينبغي على أهل الصحوة ألا يكونوا معادين للسلطان، ولا محاربين للولاة؛ لأنه لا يمكن أن تحفظ الدعوة إلا بالسلطان، فإن الله ينزع بالسلطان ما لا ينزع بالقرآن، وينبغي على أهل الدين أن يسابقوا إلى المراكز، وينافسوا في المناصب، وأن يتقلدوا عظائم الأمور؛ حتى يستطيعوا من خلال مراكزهم ومناصبهم وكراسيهم أن يمنعوا الباطل ويحقوا الحق، أما أن نبقى بعيداً متفرجين، فهذا غلط، فيوسف عليه السلام يوم جاءته الفرصة قال: اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ [يوسف:55]، لو قالها شيخ اليوم لقالوا: يبحث عن الدنيا، ويبحث على المناصب.
فالمقصود: أنك من مكانك ذلك تستطيع أن تغير، وأما وأنت في بيتك فلا يمكن لك إلا أن تقف موقف المتفرج.
الجواب: نقول أولاً: أحبك الله الذي أحببتنا فيه.
وثانياً: تقول العرب يا أخي:
إن السلامة من سلمى وجارتها ألا تمر على سلمى وواديها
فلا يمكن أن يقف شاب في ذروة شبابه ويتأمل الأفلام، وصور النساء الحسناوات، والحركات والرقصات التي تذاع في التلفاز عبر القنوات الفضائية، وأفلام الفيديو، ثم بعد ذلك نطالبه بأن يمسك غريزته وألا يخرجها إلا في المخرج الصحيح، هذا لا يتأتى عقلاً، لكن أول الأمر يا بني أن تفر من الأسباب التي تدعوك إلى أن تقع في هذه العادة السرية، فإن أغلقت على نفسك النوافذ، وأغلقت على نفسك الأبواب ولم يبق لك من هذا الأمر شيء، بعد ذلك سيعوضك الله جل وعلا بطرائق ذاتية كالحلم في الليل وما شابه ذلك، فتخرج به ما زاد عن حاجتك وطاقتك، أما أن يعكف الشاب على صور محرمة، أو أن يجول في الأسواق، أو أن يخاطب الفتيات في الهاتف، ثم يقول: أنا أقع في العادة السرية فهذا أمر حتمي؛ لأنه من لزوم ما يلزم.
ثم يا بني افزع إلى الله تبارك وتعالى في أن يتوب عليك من هذه العادة، واسأله جل وعلا أن يعوضك خيراً منها، واملأ وقتك وفراغك ولو بالأمور المباحة: العب الكرة، سافر كثيراً، اذهب مع الأصحاب، احضر المحاضرات، اشغل نفسك ببر والديك، اذهب هنا وهناك، تزود بالرحلات وغيرها، لا يكن في وقتك فراغ يتسنى فيه إتيان هذه العادة، فهذا مما يعينك، وأسأل الله جل وعلا أن يعينك وسائر من ابتلي بهذه العادة على أن يتركها.
الجواب: نحن لا نوجه النصيحة لهذا فقط، بل إننا نوجهها لكل من يبحث عن الرزق بهذه الوسائل، يقول صلى الله عليه وسلم: (كل لحم نبت من سحت فالنار أولى به)، ولا ريب أن بيع مثل هذه المجلات سحت محرم، فإذا كانت المجلات فنية صرفة، وتعين على الفواحش وتسوق لها وتروج لمثلها فلا ريب أن بيعها حرام، ونسأل الله أن يتوب على صاحب هذا المحل وعلى غيره من المسلمين، وأن يعيننا وإياهم على طاعته.
الجواب: سلام الرجال على النساء في عمومه مشروع، فلا بأس أن يسلم الرجل على امرأة أجنبية عنه، سواء كانت من أقاربه أو من غير أقاربه إذا أمنت الفتنة، ولكن إذا كان من أقاربه يكون فهذا أدعى للسلام، والسؤال عن الأحوال، ولا يزيد في هذا، ويجب على المرأة وهي تجيب ألا تخضع في القول. وأما أن يسألها أخو زوجها عن حالها وما شابه ذلك على عجالة فهذا لا بأس به، فإن كانا شابين وخافا على نفسيهما الفتنة فيكتفيان بالسلام فقط.
الجواب: كفارة اليمين هي أولاً: الإطعام أو عتق رقبة، أما عتق الرقبة فلا أظنه موجوداً في هذا العصر، وأما الإطعام فإنه يكون في المقام الأول، فإن لم يتيسر له إطعام عشرة مساكين -أي كان فقيراً- فإنه ينتقل إلى الصيام، لكن لا يبدأ كما هو مشهور عند الناس يبدأ بالصيام، هذا لا يجوز، بل يبدأ أولاً بالإطعام إن قدر عليه، فإن قدر عليه انتهى الأمر وتمت الكفارة، فإن لم يقدر عليه-أي: على الإطعام- انتقل إلى صيام ثلاثة أيام، فإذا صامها تم بذلك الأمر.
الجواب: أما الأول فقد أفضى إلى ربه بقدر الله المحض، وأما الثاني: فإن الأم وإن وضعت حوله البطانية إلا أن ظاهر السؤال أن الأم لم تتعمد إيذاء ولدها، بل فعلتها وغالب ظنها أن هذا فيه مصلحة له، وعلى هذا عليها الاستغفار فقط، ولا يلزمها كفارة قتل الخطأ؛ لأن الخطأ هنا بعيد جداً أن تكون تعمدته.
الجواب: المسلم مسئول عن بيته أمام الله إن خيراً فخير، وإن شراً فشر، والعلماء والدعاة تكلموا في هذا الأمر كثيراً، والإنسان ربيب نفسه ومالك أمره، والوقوف بين يدي الله جل وعلا ساعة رهيبة لا يطيقها أحد إلا المتقون فقط، فلا يقدر عليها إلا من وفقه الله جل وعلا للعمل الصالح، وكون الرجل يضع على بيته طبقاً فضائياً ينجم عنه إيصال برامج وأفلام ومناظر تخدش الحياء، وتتعارض مع الدين، وتدعوا إلى الفحشاء فهذا لا يليق بالمؤمن ولا يجوز شرعاً، فهو آثم لا محالة ما دام هذا الطبق على بيته، ويأثم كذلك إذا نجم عن الأولاد معصية بسبب ما يشاهدونه في التلفاز، فهو والعياذ بالله بهذا الأمر يتقلب في نقم الله تبارك وتعالى.
نسأل الله جل وعلا أن يحفظنا وإياكم، وأن يجعلنا دعاة ناصحين أينما حللنا ونزلنا.
الجواب: لا بأس أن تقص المرأة شعرها إذا أرادت بذلك أن تتزين لزوجها، قال الله تعالى في إخباره عن النساء: أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ [الزخرف:18]، والأصل في العادات الإباحة حتى يثبت دليل على استثناء شيء معين، ولا استثناء هنا، إلا إذا قصدت المرأة التشبه بكافرة بعينها فيما هو من خصائص أهل الكفر، وأما إذا كان من خصائص الناس جميعاً أهل الكفر وأهل الإيمان فلا يدخل في عموم قوله صلى الله عليه وسلم: (من تشبه بقوم فهو منهم).
الجواب: إن كان حقاً ما تقول: من أنه هجرها منذ عشر سنوات ولا يعطيها مصاريف فإنه لا غيبة له في أن تخبر أهله بذلك؛ لحديث هند رضي الله تعالى عنها: أنها أخبرت النبي صلى الله عليه وسلم أن أبا سفيان رجل شحيح، فإن كان الرجل غير موجود في البيت هاجراً له، فلا إذن له في أن تستأذنه المرأة أن تذهب إلى مكان ما، فالمهم ألا يكون في ذلك المكان معصية لله، وأما الإذن هنا إذا كان هاجراً هجراناً غير تأديبي فلا حق له في أن يستأذن منه.
الجواب: فرض الحج في السنة العاشرة، وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا [آل عمران:97].
وأما طعام أهل الجنة فقد صح عنه صلى الله عليه وسلم من حديث ثوبان رضي الله تعالى عنه: أن يهودياً قال: (يا أبا القاسم! أين يكون الناس يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات؟ قال: هم في الظلمة دون الجسر، قال: فمن أول الناس إجازة؟ قال: فقراء المهاجرين، قال: فما تحفتهم حين يدخلون الجنة؟ قال: زيادة كبد النون، قال: فما غذاؤهم على إثر ذلك؟ قال: ينحر لهم ثور الجنة الذي كان يأكل من أطرافها).
الجواب: نعم بلا ريب، يجوز الإيداع في بنك فيصل الإسلامي، وفي مصارف الراجحي والسبيعي وما شابه ذلك من المؤسسات، وأما البنوك الربوية المحضة المعروفة فإن الإنسان إذا احتاج إليها اضطراراً كالذين يعيشون في غير هذه البلاد فلا حرج؛ حفاظاً على أموالهم إذا كانوا لا يأخذون فائدة؛ لأن الدين جاء بحفظ الضرورات الخمس ومنها: المال كما هو معلوم.
الجواب: لا ريب أن حب الدنيا غلب على الناس، ودعاهم إلى ترك كثير من الأعمال الصالحة، ولا ريب أن ضعف الإيمان في القلوب هو الذي أثر على الناس اليوم، والناس في هذا الدين واحد من اثنين: ناس يدخلون في الدين فيأخذون من الدين ما يعجبهم، ويتركون ما لا يعجبهم، وأناس -جعلنا الله وإياكم منهم- يدخل الدين في قلوبهم، فإذا دخل الدين في قلوبهم سيرهم وفق ما أراد الله ووفق منهج محمد صلى الله عليه وسلم، فالمؤمن ينبغي عليه أن يكون حريصاً على أن يدخل الإيمان قلبه بحق؛ حتى يغير الدين فيه ما هو باطلاً وما هو مضاد لما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ربه.
الجواب: العمل بما تسمع أعظم الطرائق للمحافظة على مستوى الإيمان، فلا يكفي أن يستمع الإنسان إلى المحاضرة أو إلى القرآن أو إلى الحديث، ولكن اعمل بما تسمع من آية أو من حديث أو من محاضرة يرفع ذلك مستوى الإيمان في قلبك، وينفعك بإذن الله تبارك وتعالى، أما أن يكون القول يتبعه قول، والمحاضرة فقط تتبعها محاضرة، ولا ينقلب ذلك إلى واقع محسوس ملموس في واقعنا فهذا هو الذي أضعف الإيمان في قلوبنا، وأبعدنا عن الله، وأبعدنا عن رسوله صلى الله عليه وسلم؛ ولذلك أثنى الله على الأخيار بقوله: إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ [الأنبياء:90]، وقال تبارك وتعالى لداود وآله: اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ [سبأ:13].
ختاماً نسأل الله تبارك وتعالى أن يجزيكم خيراً على هذا الحضور، وأن يوفقنا وإياكم لما يحب ويرضى.
وصلى الله وسلم وبارك وأنعم على سيدنا محمد.
اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , مواقف من حياة الصديق للشيخ : صالح بن عواد المغامسي
https://audio.islamweb.net