اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , دموع وتأملات للشيخ : صالح بن عواد المغامسي
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الحمد السرمدي، حمداً لا يحصيه العدد ولا يقطعه الأبد، حمداً طيباً مباركاً فيه كما ينبغي لربنا أن يحمد.
وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، خيرته من خلقه، وصفوته من رسله، وأمينه على وحيه، بعثه بين يدي الساعة هادياً ومبشراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، فصلى الله وسلم وبارك وأنعم عليه من عبد مجتبى، وحبيب منتقى، ورسول مصطفى، وعلى آله وأصحابه، وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فهذه ثنائيات من وقفات ثلاث من كتاب الله تبارك وتعالى؛ أجل كتاب وأعظم تنزيل:
قال سبحانه وقوله الحق: وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا [الأنعام:115]، قال العلماء رحمهم الله: صدقاً في أخباره، وعدلاً في أوامره ونواهيه.
ولن يعدل كتاب أبداً كتاب الله ولن يعدل كلام أبداً كلام الله، فحري بقلوب المؤمنين أن تنهل من معين القرآن، وتقف على مشارفة، وتقتبس من سناه، وهذا ما سنحاول -إن شاء الله تبارك وتعالى- أن نجني بعض ثماره وما نرجوه من الله جل وعلا أعظم وأجل.
لقد ضمن الله جل وعلا كتابه الكثير من القصص منها ما كان صريحاً ومنها ما كان تلميحاً، هدى الله جل وعلا عباده من الضلالة، وعلمهم من القرآن من الجهالة.
فتح به قلوباً غلفاً وآذاناً صماً وأعيناً عمياً، حتى يستبين للناس طرائق الحق وبيان الصراط المستقيم, حتى يكونوا على محجة بيضاء ليلها كنهارها، فيفدون على ربهم إن اتقوه كأحسن ما تكون الوفادة، قال جل ذكره وتعالى اسمه: يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا [مريم:85].
ولن نستطيع في عجالة من الوقت أن نقف على كل ما في القرآن من قصص وعظات وعبر يذِّكر الله جل وعلا بها القلوب، ويدعو بها تبارك وتعالى إلى رحمة علام الغيوب، وحسبنا في هذا المقام أن نقف على ثلاث منها، وليس المقصود سردها للناس، فإن قصص القرآن أمر مشتهر ظاهر بيِّن لا يكاد يخفى على مؤمن، فإن الناس كانوا ومازالوا وسيبقون بحمد لله يسمعون كلام الله في المحاريب وعلى المنابر وفي الحلقات، ولكن يبقى كيف يُوضح لهم ويُبيِّن ما في القرآن من عظات وعبر ودلائل وآيات؟ حتى تستقيم على الصراط قناتهم.
عناوين الثنائيات الثلاث:
الإسراء والمعراج.
يوسف وإخوته.
قابيل وهابيل .
ونحسب والله جل وعلا أعلم أن في هذه الثلاث بيان للإنسان لأكثر الطريق المؤدي إلى رحمة الله تبارك وتعالى.
خاطب الله جل وعلا في القرآن جماً غفيراً من الأنبياء بأسمائهم المجردة، وليس في القرآن كله وبين دفتيه آية واحده يقول الله فيها: يا محمد! فقد قال تعالى: يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا [هود:48]، وفي القرآن: يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا [الصافات:104-105]، وفي القرآن: يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي [الأعراف:144] ، وفي القرآن: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ [الأنفال:64] , يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ [المائدة:41] .
وكذلك يخاطب الله سيد الأولين والآخرين صلى الله عليه وسلم.
وقد أقسم الله جل وعلا بعمره فقال: لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ [الحجر:72] .
وأقسم بالأرض التي يطأها، قال تعالى: لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ * وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ * وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ * لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ [البلد:1-4].
أقسم الله جل وعلا له ليرضى صلوات الله وسلامه عليه فقال جل وعلا: وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى * مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى * وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الأُولَى * وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى [الضحى:1-5] .
ما كانت رحلة الإسراء والمعراج إلا دلالة من الدلائل على احتفاء الله جل وعلا بنبيه صلوات الله وسلامه عليه.
فقد عاد عليه الصلاة والسلام من الطائف وقد أصابه من الكلوم والجراح ما أصابه، فقد رده سادتها، فدخل مكة في جوار مطعم بن عدي وكان يومئذ كافراً ومات على الكفر.
وأصابه من الحزن ما أصابه، حتى إذا كان ذات ليلة في بيته إذ رفع سقف البيت، وإذا بجبرائيل ينزل ثم يأخذ قلبه الشريف الطاهر صلوات الله وسلامه عليه، ثم يضعه في طست قد ملئ إيماناً وحكمة ثم يغسله, ثم يعاد القلب إلى موضعه من جسد نبينا صلوات الله وسلامه عليه، ولا يقدر على هذا إلا الله ولا تصدقه إلا القلوب المؤمنة الواعية التي تقول كما أخبر الله عنها: وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا [آل عمران:7].
ثم أسري به صلوات الله وسلامه عليه من مرقده في مكة إلى المسجد الأقصى إلى بيت المقدس، وهذا الذي أنبأ الله جل وعلا عنه بقوله: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الإسراء:1] .
قرب له صلى الله عليه وسلم البراق -وهي: دابة- ليركبها، فلما دنا منها صلوات الله وسلامه عليه، حمله البراق إلى المسجد الأقصى، فلما أتى المسجد صلوات الله وسلامه عليه ربط البراق في حلقة كان الأنبياء من قبله يربطون بها دوابهم.
فدخل عليه الصلاة والسلام المسجد الأقصى، وصلى فيه ركعتين إماماً بإخوانه من النبيين والمرسلين، كل ذلك في برهةٍ من الليل لم يتبين له معالمهم، ولم يعرف أسماءهم ولم يتبين له ظواهرهم.
ثم قدم له البراق مرة أخرى وعرج به صلى الله عليه وسلم -قيل: بالبراق، وقيل: بغيره- إلى السماوات السبع، ليرى من آيات ربه الكبرى، فلما أتى السماء الأولى ومعه جبرائيل ، استفتح جبرائيل , فقال خزنتها: من أنت؟ قال: أنا جبريل ، قيل: أوَمعك أحد؟ قال: نعم، معي محمد، فقال الخازن: أوَقد بعث؟ فقال جبرائيل : نعم.
فلما فتح بابها، رأى النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً حوله أسودة عن شماله وأسودة عن يمينه، إذا نظر إلى يمينه ضحك، وإذا نظر إلى شماله بكى، قلت: من هذا يا جبرائيل ؟ قال: هذا أبوك آدم ، والأسودة التي عن يمينه وشماله نسم بنيه، أي: أرواح بنيه, والذين عن يمينه من كتب الله لهم الجنة، والذين عن يساره من كتب الله لهم النار، فإذا رأى أهل الجنة ضحك، وإذا رأى أهل النار بكى.
فسلم آدم على نبينا صلى الله عليه وسلم وهو يقول: أهلاً بالنبي الصالح والابن الصالح.
ثم عُرج به صلى الله عليه وسلم إلى السماء الثانية، فإذا بها ابني الخالة يحيى بن زكريا وعيسى بن مريم ، فسلما عليه قائلين: أهلاً بالنبي الصالح والأخ الصالح.
ثم أتى السماء الثالثة صلوات الله وسلامه عليه، فإذا فيها أخوه يوسف وقد أعطي شطر الحسن.
ثم أتى السماء الرابعة فإذا فيها أخوه إدريس، وتلا عندها لما أخبر عليه الصلاة والسلام قوله تعالى: وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا [مريم:57].
ثم أتى السماء الخامسة، فرأى رجلاً تكاد تلامس لحيته سرته، (قلت: من هذا يا جبرائيل ؟ قال: هذا المحبب في قومه؛ هارون بن عمران).
ثم أتى السماء السادسة فرأى فيها موسى بن عمران كليم الله.
ثم أتى السماء السابعة فإذا رجل قد أسند ظهره إلى البيت المعمور، قال عليه الصلاة والسلام عنه: (ما رأيت أحداً أشبه بصاحبكم منه ولا منه بصاحبكم، قلت: من هذا يا جبرائيل؟ قال: هذا أبوك إبراهيم)، فسلم عليه قائلاً: أهلاً بالنبي الصالح والابن الصالح.
ثم رُفع صلى الله عليه وسلم إلى مستوى يسمع فيه صريف الأقلام، فدنى وتدلى منه جبرائيل ، فرأى جبرائيل للمرة الثانية، وكان قد رآه أول ما رآه على هيئته التي خلقه الله تعالى عليها في أيام الوحي الأولى يوم رآه على كرسي ما بين السماء والأرض قد سد ما بين المشرق والمغرب, قال الله في كتابه: وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى * عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى * إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى [النجم:13-16].
ثم بين الله جل وعلا في هذا الخبر القرآني الصادق أن نبينا عليه الصلاة والسلام في هذه الرحلة كان أعظم الناس أدباً وأكملهم خلقاً، وأنه ما التفت ميمنة ولا ميسرة، ولا زاغ بصره يميناً ولا شمالاً، فقد وقف حيث أوقفه ربه وقام حيث أقامه الله، فقال الله جل وعلا يزكيه ويثني عليه: مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى * لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى [النجم:17-18].
ثم اقترب صلى الله عليه وسلم حتى وصل إلى مستوى يسمع فيه صريف الأقلام، فكلمه ربه جل وعلا وأدناه وناجاه، ودخل عليه الصلاة والسلام الجنة فإذا تربتها كجنابذ اللؤلؤ، ثم رأى صلى الله عليه وسلم النار عياذاً بالله منها..
ثم جاوز صلى الله عليه وسلم سدرة المنتهى، وهي سدرة ينتهي إليها ما يعرج من الأرض إلى السماء، ثم عاد صلى الله عليه وسلم من ليلته.
عاد كرة أخرى ماراً بالمسجد فصلى صلى الله عليه وسلم فيه، ثم عاد راجعاً إلى مكة، كل ذلك في برهة من الليل تكرمة من الله جل وعلا له.
ثم أخبرهم أنه مر على قافلة لهم وأنها ضلت بعيراً في الطريق، فوعدهم يوم كذا وكذا أن تعود القافلة إلى مكة، فاحتسبوا تلك الأيام حتى خرجوا في ظهيرتهم، فلما خرجوا فما إن طلع حاجب الشمس إلا والقافلة قادمة مقبلة إلى مكة كما أخبر رسولنا صلوات الله وسلامه عليه.
أسرى بك الله ليلاً إذ ملائكه والرسل في المسجد الأقصى على قدم
لما رأوك به التفوا بسيدهمكالشهب بالبدر أو كالجند بالعلم
صلى وراءك منهم كل ذي خطر ومن يفز بحبيب الله يأتممِ
جبت السماوات أو ما فوقهن بهم على منورة درية اللجمِ
ركوبة لك من عزٍ ومن شرف لا في الجيادِ ولا في الأينق الرسمِ
مشيئة الخالق الباري وصنعته وقدرة الله فوق الشك والتهم
وهذا أعظم ما دل عليه القرآن بعد توحيد الله جل وعلا، وهذا من أعظم المكانة لنبينا عليه الصلاة والسلام منزلة ومكانة عند ربه، وقد سد الله كل الطرائق الموصلة إليه، إلا طريق محمد صلى الله عليه وسلم، وهو عليه الصلاة والسلام على رفيع مقامه، وجليل مكانته، عبد يوحي إليه، وليس له من صفات الألوهية ولا الربوبية شيء، ولذلك أثنى الله جل وعلا عليه في أرفع المقامات وأجلها بأنه عبد يسمع ويطيع.
قال تبارك وتعالى: تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا [الفرقان:1] .
وقال جل وعلا: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ [الإسراء:1] .
إلى غير ذلك من الآيات التي لا تحصى ولا تعد، والتي يبين الله جل وعلا فيها أن نبينا عليه الصلاة والسلام حقق مقام العبودية على أكمل وجه وأتم نحو، ونحن أتباعه وقد جعله الله جل وعلا حظنا من النبيين كما جعلنا حظه من الأمم، ولا فخر بعد الإسلام من فخر أننا من أمته صلوات الله وسلامه عليه.
ومما زادني شرفاً وتيها وكدت بأخمصي أطأ الثريا
دخولي تحت قولك يا عبادي وأن صيرت أحمد لي نبيا.
وقف أبو بكر الصديق رضي الله عنه بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم بعام يخطب على نفس منبره، فقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم قام مقامي هذا في عامه الأول. ثم أراد أبو بكر أن يتم الكلام فما استطاع ثلاث مرات وهو يغالب دمعه رضي الله عنه وأرضاه.
وأعطى عليه الصلاة والسلام سيفه لـأبي دجانة رضي الله عنه, أن يأخذه بحقه يوم أحد, فأخذ أبو دجانة السيف بحقه فلما حمله ليضرب به أحد المشركين إذ أحدث صوتاً فعرف أنه امرأة، قال: فرفعت السيف إكراماً لسيف رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أضرب به امرأة.
وكان ثابت البناني أحد التابعين رضي الله عنه وأرضاه إذا رأى أنس بن مالك خادم النبي عليه الصلاة والسلام أقبل على أنس وقبّل يده ويقول: إنها يدٌ مسَّت يد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وخرج عليه الصلاة والسلام إلى المقبرة ذات يوم ثم قال: (وددت لو أني رأيت إخواني, قالوا: يا رسول الله! ألسنا إخوانك؟ قال: بل أنتم أصحابي، ولكن إخواني لم يأتوا بعد، وأنا فرطهم على الحوض) أي: سابقهم إليه, (قالوا: يا رسول الله! كيف تعرف من يأتي بعدك من أمتك؟ قال: أرأيتم لو أن لأحدكم خيلاً غراً محجلة في خيل دُهم بُهم أكان يعرف خيله؟ قالوا: بلى يا رسول الله! قال: فإن إخواني يأتون يوم القيامة غراً محجلين من أثر الوضوء وأنا فرطهم على الحوض).
جعلني الله وإياكم برحمته منهم.
وإن من أعظم دلائل محبته صلوات الله وسلامه عليه التماس سنته واقتفاء أثرة وأتباع دينه، والذود عن رياض سنته صلوات الله وسلامه عليه، ولن يتبع هذا الطريق أحد، ولن يلتمس ذلك الهدي مؤمن إلا وسيؤذى ويبتلى ويختبر ويمتحن، قال تعالى: سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا [الأحزاب:62] .
فيصبر المؤمن على أذى الناس وهمز الهمازين ولمزهم غيرهم, وما إلى ذلك إذا اقتفى السنن، ويجد في ذلك عناء في وقته, وعناء من زوجته وعناء من ولده، وعناء في المال, ولكن من أحب محمداً صلى الله عليه وسلم وآمن به وعظّم الله جل وعلا ووحده من قبل فإنه يصبر على ذلك كله، وهو يلتمس هديهه صلوات الله وسلامه عليه، ويعض على سننه بالنواجذ حتى يلقاه عليه الصلاة والسلام، فهو فرطنا وسابقنا على الحوض.
ففي يوم القيامة يحشر الناس حفاةً عراةً غرلا، أحوج ما يكونون إلى الماء، عطشى ظمأى فلا يجدون حوضاً أمامهم أكرم ولا أجل من حوضه صلوات الله وسلامه عليه، وهو واقف على الحوض يسقي أمته، فكلما كان الإنسان عظيم المحبة والاتباع مع توحيد الله جل وعلا وإيمان به -كما أمر جل وعلا وقرر في كتابه وعلى ألسنة رسله- كان حظه في ذلك الموقف أن يُسقى من يد رسولنا صلوات الله وسلامه عليه.
لكن المؤمن الحصيف العاقل يعلم أن العلم الشرعي ومعرفة كيفية الاقتداء بسنته أمر حتمي لا بد منه، فليس أن يأخذ الإنسان بأجزاء من الأحاديث أو بطرف منها، أو لا يعلم مناسباتها ولا دلائلها كما بينها علماء أهل السنة رحمهم الله جل وعلا أحياء وأمواتاً، وإنما ينظر الإنسان على بصيرة وعلى هدى وعلى نور من ربه، وعلى علم شرعي فيقتفي تلك السنن حتى لا يكون ضرره أكثر من نفعه، وحتى لا تكون غوايته أكثر من هدايته.
ومن تلمس السنة بقلب واعٍ صافٍ، ونية خالصة، وهو محب لله، محب لرسوله صلى الله عليه وسلم، قربه الله جل وعلا من هذا الهدي، ونصر الله جل وعلا به الدين، وأوضح الله تبارك وتعالى به الصراط المستقيم.
ولا يستطيع الإنسان أن يطنب في الحديث عنه صلوات الله وسلامه عليه أكثر من هذا، وإلا فالحديث عنه يجمل ويحلو وإن كان مكرراً، ولكننا مقيدون بأمور التزمنا بها في أول محاضرتنا.
وجملة القول أيها المؤمنون:
إن لنبيكم عليه الصلاة والسلام أعظم المكانة وأجلها عند ربه، ولن تكونوا مؤمنين حقاً حتى توحدوا الله كما أمر، ثم تتبعوا سنة نبيه صلى الله عليه وسلم في المنشط والمكره، والسر والجهر، في الحل والترحال، والسفر والإقامة، ولا يتبع الإنسان هواه ورغباته، ولا يسعى الإنسان فيما يوافق ما تكنه نفسه، وإنما يجعل نفسه تسير حيث سار هدي محمد صلى الله عليه وسلم، ولو خالف ذلك هواك، أو من تقتنع برأيه، أو بالبيئة التي أنت فيها، أو العاطفة التي تتمسك بها، أو الحماس الذي يغلب عليك.
فالسنة هي التي تقودنا إلى الحق وليس نحن الذين نلوي أعناق السنن لنصل إلى ما نريد.
قدر الله جل وعلا لإبراهيم عليه الصلاة والسلام أن يكون له ابنان إسماعيل وإسحاق، ثم كان من إسحاق يعقوب, ثم كان من يعقوب اثني عشر ولداً، وكان يوسف أحد هؤلاء الاثني عشر ابناً, وكان أحبهم إلى أبيه، وأقربهم منه. وهذه الأمور تمضي بقدر الله, والله يخلق ما يشاء ويختار.
فكان ليوسف مكانة خاصة عند أبيه هو وأخوه بنيامين ، فشعر الإخوة بأن ليوسف مكانة تعلو على مكانتهم, فكان في قلوبهم من الضغينة شيئاً يرتع وينمو مع الأيام, حتى كان ذات يوم فرأى يوسف في منامه -وهو ابن سبع سنين على الأظهر- أن أحد عشر كوكباً والشمس والقمر يسجدان له, ففر فزعاً إلى أبيه يسابق الخطوات حتى دخل عليه، فقال: يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ [يوسف:4] .
وكان يعقوب من العلم بمكان, فعلم أن ابنه هذا سيصبح له منزلة عالية ومكاناً سامياً، فخاف عليه وقال: قَالَ يَا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ [يوسف:5] وأخذ يلاطفه في القول حتى يكتم تلك الرؤيا, جاعلاً خاتمة المقال: إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ [يوسف:5].
على الجانب الآخر كان الأبناء يشعرون بقرب يوسف من أبيهم فتآمروا وتناجوا، ثم قدموا على أبيهم بعد أن مكروا مكرهم وقالوا: أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ [يوسف:12] .
لم ينكر عليهم أبوهم أنهم يرتعون ويلعبون, فهذه سنة كل غلام, لكنه خاف على يوسف، قال: وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ [يوسف:13].
فما زالوا يصرون عليه ويقدمون له أطايب القول حتى وافق, فأرسله معهم, وخرجوا به إلى البرية وقد أجمعوا أمرهم من قبل, فألقوه في غيابة مهجورة بعد أن قرروا أول الأمر قتله، لكن عاطفة الأخوة غلبت عليهم، قال الله على ألسنتهم: اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ [يوسف:9] .
فألقوه في غيابة جب مهجور, أي: في بئر مهجورة قل من يأتيها، ثم عمدوا قبل أن يلقوه إلى قميصه فخلعوا القميص عنه, ومروا في طريقهم على شاة فذبحوها, ولطخوا ذلك القميص بدم تلك الشاة وقدموا على أبيهم ليلاً, والعرب تقول: الليل أخفى للويل.
وتظاهروا بالبكاء، وليس كل مدع صادق، وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ [يوسف:16] .
وأخبروه الخبر وأن يوسف أكله الذئب، وأعطوه القميص ليكون لهم شاهداً، أخذ يعقوب القميص، فإذا القميص على حاله, قال لهم: أي ذئب عاقل هذا، أكل ابني وترك قميصه، فقال: بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ [يوسف:18] .
فهو أب طاعن في السن وهؤلاء عشرة من البنين فلا يستطيع أن يتغلب عليهم, والرجل العاقل قد يحاط به أحياناً فلا يقدر أن يتصرف, فمن الحكمة أن يتوارى أحياناً, فالكلمة التي لا تستطيع أن تقولها أخرها, ولو إلى حين, والعاقل لا يطير قبل أن يريش, فسكت وصبر وكظم غيظه مستعيناً بالله الواحد الأحد.
هذا ما أراده إخوة يوسف لكن ما أراده الله شيء آخر، أنت تريد وهذا يريد والله يفعل ما يريد.
مرت سيارة -قافلة عابرة- على تلك البئر، فأرسلوا واردهم, فتعلق يوسف بالدلو الذي أنزله واردهم، وخرج من البئر، ولم يكونوا من العلم ولا من الفطنة بشيء, ما لبثوا أن زهدوا فيه وخرجوا به إلى سوق النخاسين ليبيعوه، قال الله تعالى عنهم: وَشَرَوْهُ [يوسف:20] أي: باعوه, وهذا من الأضداد في اللغة, وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ [يوسف:20].
على النقيض منهم اشتراه عزيز مصر وكان رجلاً فطناً فتفرس فيه معالم النجابة، واشتراه وأدخله قصره، وقال لزوجته: أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا [يوسف:21] .
قال الله جل وعلا: وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ [يوسف:21] .
أراد له إخوته أن يعيش في بئر مهجورة فأخرجه الله إلى ردهات القصور فمكث فيها ما شاء الله.
ثم استبقا الباب يجريا، فهو يفر من المعصية وهي تدعوه إليها, فما إن فُتِحَ الباب إلا وسيدها على الباب فاختصما، فبادرت بالتخلص: قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [يوسف:25] .
ويوسف عليه السلام شاب يخدم في بيت سيده لا يستطيع أن يدلي بحجته, إلا أنه دافع عن نفسه.
انتهز حاجتهما إليه، وأخذ يدعوهما إلى الله, وأي شيء أعظم وأجل من أن تدعو إلى الله تبارك وتعالى.
يقول عليه الصلاة والسلام كما في الترمذي وغيره: (إن الله وملائكته وأهل سماواته وأرضه والحوت في بحره والنملة في حجرها ليصلون على معلم الناس الخير).
وفي محكم التنزيل: وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ [فصلت:33] .
فأول شيء دعاهما إليه: توحيد الله الواحد القهار بإسلوب قرآني تهتز منه الجبال وتخر له الصخور الصماء, قال الله جل وعلا حكاية عنه: يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ * مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ [يوسف:39-40].
فلما أدى ما عليه من واجب الدعوة، برهما لأنهما كانا جاران له في السجن, فنبأهما بتأويل الرؤيا، قال: أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا وَأَمَّا الآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ [يوسف:41] .
غلب على ظنه أن أحدهما ناج فقال: اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ [يوسف:42] أي: اذكرني عند الملك, فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ [يوسف:42] .
كتب الله له أن يبقى ما شاء الله أن يبقى في السجن، فلما مكث في السجن صلوات الله وسلامه عليه، قدر لذلك الذي خرج أن يصبح ساقياً للملك، ويقدر الله أن يرى الملك رؤيا يعرضها على من حوله, لم يكونوا من الفقه والعلم في شيء: قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الأَحْلامِ بِعَالِمِينَ [يوسف:44] .
فتذكر الساقي يوسف وقدرته على التأويل والتعبير قال: فَأَرْسِلُونِ [يوسف:45] أي: ابعثوني إلى يوسف, فبعثوه، وهذا يسمى في القرآن: إيجاز حذف.
فلما بعثوه قدم الرسول إلى يوسف وأخبره بالرؤيا فعبرها صلوات الله وسلامه عليه كما حكى الله جل وعلا في كتابه, وقال في ختامها: ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ [يوسف:49] .
فلما عاد الرسول إلى الملك وأخبره وهو رجل ذو سلطان لا يمكن أن يعبأ بمسجون, لكن تدبير الله أعظم وأحكم وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ [يوسف:50]، رفض يوسف أن يخرج: قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ [يوسف:50] .
فلو خرجت الآن فإن الناس سيقولون: إن التهمة ثابتة على يوسف, لكن الملك أخرجه؛ لأنه عبر له الرؤيا, فأراد أن تثبت دلائل براءته قبل أن يثبت معرفة الناس أنه على قدرة في التعبير والرؤيا.
فلما رجع الرسول إلى الملك فطن الملك أن هذا الذي في السجن ليس رجلاً عادياً، قال الله عنه بعد ذلك: وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي [يوسف:54].
فإنه يحسن بذوي الهيئات من المؤمنين وذوي القدرات من المتقين أن يتبوءوا أماكن ومنازل ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً, وأن تكون الأمور بيد المتقين الأخيار, خير من أن تكون بيد غيرهم ممن ربما يمنع طاعة أو يمنع دعوة أو يكون ما يكون منه على خلاف صراط الله المستقيم.
قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ [يوسف:55] فوافق الملك, فقال الله العزيز العليم: وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ [يوسف:56] .
وحتى لا يتعلق الناس بالدنيا قال الله جل وعلا بعدها: وَلَأَجْرُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ [يوسف:57]، فما لقيه يوسف من الوزارة والملك والحكم ليس بشيء أمام ما هيأه الله جل وعلا له في الآخرة وما أعد له في جنات النعيم.
على الجانب الآخر, كان يعقوب عليه الصلاة والسلام تصله أخبار أن ثمة ملك في أرض مصر أوكلت إليه خزائن الأرض وأنه يقوم بها على أحسن حال, وأن مجاعة دبت هاهنا وهناك في أرض كنعان وأرض مصر على السواء بعث بنيه, فلما بعث بنيه استبقى بنيامين عنده؛ لأنه كان يجد في بنيامين رائحة أخيه من قبل؛ لأن يوسف وبنيامين كانا شقيقين.
ويقول مرهباً: فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِندِي وَلا تَقْرَبُونِ [يوسف:60] .
لما رجعوا بعد أن رد عليهم المتاع الذي جاءوا به دخلوا على أبيهم أخبروه الخبر وأن العزيز يطلب أن يرى أخاهم، تذكر يعقوب عليه الصلاة والسلام تفريطهم في يوسف من قبل: قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَمَا أَمِنتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِن قَبْلُ فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ [يوسف:64] .
وبعد إلحاح أعطاهم بنيامين بعد أن أخذ عليهم العهود والمواثيق إلا أن يحاط بكم، وقد قالها بعد أن أدركته عاطفة الأبوة, وجعلها استثناء من باب الرحمة، فخرج الإخوة ومعهم أخوهم بنيامين ، وقد أوصاهم أبوهم خوفاً عليهم من العين: يَا بَنِيَ لا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ [يوسف:67] قال الله: وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ مَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ [يوسف:68].
دخلوا المدينة وقد ألجموا أفواه الجمال التي تحملهم, حتى يعلم الناس أنهم أبناء نبي، وأنهم لا يأذنون لجمالهم أن تأكل من هنا وهناك، دخلوا على يوسف, فآوى إليه أخاه وأخبره الخبر في قصة ظاهرة مشهورة, ثم كاد لهم كيداً بأمر من الله، فأمر غلمانه أن يضعوا صواع الملك في رحل أخيهم الأصغر.
فلما فارقوا أرض مصر بعد أن أخذوا أمتعتهم وعادوا، إذا بمؤذن ينادي: أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ [يوسف:70] غيروا اللفظ, ولم يقبلوا السرقة, ولم يقولوا: ما الذي سُرِق؟ فإنهم لا يعترفون بوجود السرقة أصلاً, وإنما قالوا: مَاذَا تَفْقِدُونَ [يوسف:71] أي: ما الذي ضاع منكم.
فاتفق المؤذن معهم على أن من وجد في رحله سيكون عرضة للأسر, فلما وافقوا قدموا بين يدي يوسف وأخذ ينظر في أمتعتهم ورحالهم واحداً بعد الآخر, فكلما نظر في متاع أحدهم قال: أستغفر الله مما رميتكم به, حتى وصل إلى بنيامين قال: أما هذا فما أظنه أخذ شيئاً, فألحوا عليه, قال الله جل وعلا: فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ [يوسف:76] .
فأخذ يوسف بنيامين عنده، وأخذ الإخوة يستعطفونه، لكن يوسف بقي مصرّاً على رأيه, فلما أصابهم اليأس من إقناعه خَلَصُوا نَجِيًّا [يوسف:80] أي: اجتمعوا فيما بينهم يتشاورون في القضية, أما الأخ الأكبر فاستحيا أن يرجع إلى أبيه فيقول له: أضعت بنيامين كما أضعت يوسف من قبل, قال كبيرهم كما قال الله جل وعلا: فَلَنْ أَبْرَحَ الأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ * ارْجِعُوا إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ [يوسف:80-81] .
رجع الإخوة وبقي الأخ الأكبر, فلما رجعوا إلى أبيهم أخبروه بالقصة, وأي مصاب جديد ويذكر بقرينه, ويذكر بالمصاب القديم, والعرب تقول: إن الأسى يبعث الأسى, فلما كان بنيامين هو الباقي ليعقوب يشم فيه رائحة أخيه, جاء هؤلاء ليقولوا: إن بنيامين فُقِد كما فُقِد يوسف من قبل، وإن الأخ الأكبر لن يعود حتى تأذن له.
كان يعقوب مصابه في يوسف فقط فأصبح مصابه في يوسف وبنيامين وروئين الذي هو الأخ الكبير, لكن النفوس التي تعرف الله لا تعرف اليأس أبداً, من يعرف الله لا يعرف اليأس ولا القنوط أبداً، فقال كما أخبر الله جل وعلا عنه: عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ * وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ [يوسف:83-84].
وبلغ ذروة الحزن وذروة الحزن أن ابيضت عيناه, قال الله جل وعلا: وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ [يوسف:84].
إن الأبواب إذا أوصدت هذا أول الدلائل على أنها ستفتح, وكلما أغلق الأمر ولم يبق مخرج دل على أن الفرج القريب.
وراء مضيق الخوف متسع الأمر وأول مفروح به غاية الحزن
فلا تيأسنَّ فالله ملك يوسف خزائنه بعد الخلاص من الشرك
لما قال يعقوب هذا, أخذ الأبناء يعنفونه: قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ [يوسف:85] أي: لا تزال تذكر يوسف حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ * قَالَ إِنَّمَا أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ [يوسف:85-86].
وقوله: وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ [يوسف:86] سيأتي بيانها بعد قليل, ثم أخذ بالأسباب قال: يَا بَنِيَ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الكَافِرُونَ [يوسف:87].
إن من أعظم ما يلقاه المؤمن: حسن الظن بالله جل وعلا, وفي الحديث: (إن الله جل وعلا عند حسن ظن عبده به), فهذا النبي المكلوم فقد ثلاثة من أبنائه خلال أربعين عاماً, فكل شيء تغير فيه: صحته واحدودب ظهره, وعميت عيناه, لكن الذي لم يتغير فيه هو حسن ظنه برب العالمين جل جلاله, ومتى أحسن العبد ظنه بربه فرج الله جل وعلا عنه.
قال الإمام الذهبي رحمه الله في ترجمة أبي مسلم الخولاني رحمه الله:
إن أبا مسلم هذا -وكان من الصالحين العباد- اشتكت إليه زوجته الفقر الذي هو فيه, وأنه لا دقيق تصنع منه خبزاً, قال لها: هل في البيت مال؟ قالت: دينار واحد, قال: أعطني إياه أشتري لكم به دقيقاً, وخرج إلى السوق ليشتري بهذا الدينار دقيقاً، فلما وصل إلى السوق قبل أن يشتري الدقيق جاءه رجل سائل عليه المسكنة ظاهرة بارزة, فأعطى أبو مسلم السائل الدينار, ولم يبق في يديه شيء إلا الكيس الذي خرج به من بيته ليشتري الدقيق ويضعه فيه, فعمد إلى صاحب خشب ونجار, فأخذ نجارة الخشب وملأ بها الكيس وحمله على ظهره وعاد إلى بيته, فلما عاد إلى بيته وضعه بين يدي امرأته وتنحى في غرفة أخرى ينتظر قدر الله, ما هي إلا برهة وإذا بالمرأة تأتي له بالخبز, فقال لها: من أين لك الدقيق؟! قالت: من الكيس الذي أتيت به, فسكت وأخذ يأكل وهو يبكي.
فالله جل وعلا قادر على كل شيء, ولا ندعو بهذا إلى أن يقعد الإنسان في بيته، أو يتبع طرائق غير محمودة، لكننا نقول: إن حسن الظن بالله جل وعلا من أعظم العبادات وأجل الطاعات، وبه ساد الأنبياء والمرسلون وأتباعهم من أولياء الله المتقين.
ولما قال يعقوب عليه الصلاة والسلام هذا خرج بنوه, ودخلوا على يوسف ومعهم بضاعة مزجاة أي: مدفوعة, وقيل: مخلوطة، لا تساوي شيئاً قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ [يوسف:88] .
هنا كشف يوسف عن القناع: قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ [يوسف:89] ولما سقط في أيديهم: قَالُوا أَئِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا [يوسف:90].
فقال يوسف بيت القصيد من القصة كلها: إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ [يوسف:90].
فما عند الناس من الدنيا ينال بأي طريقة، أو بحسب الشخص المقابل، فلك أن تخدعه أو تصدق معه فتعطيه أو تمنعه، أما ما عند الله لا ينال إلا بطريقين وهما: التقوى والصبر، قال تعالى: وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ [السجدة:24].
ويوسف يقول: إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ * قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا [يوسف:90-91] -وقد كان رحيماً باراً، والنفوس العظيمة تعفو عند المقدرة- يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ [يوسف:92] ثم خلع قميصه, فقد كان هذا القميص في السابق سبب الحزن ليعقوب, فأراد الله أن يكون القميص سبب السعادة والفلاح والرحمة والنجاة ليعقوب، قال يوسف لإخوته: اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا [يوسف:93].
فخرجت العير والقافلة من أرض مصر, فما إن خرجت من أرض مصر إلا ويعقوب وهو في أرض كنعان يجد ريح يوسف, قال لمن حوله من نبيه: إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ [يوسف:94] فما زادوا على أن اتهموه بالتخريف, فسكت وصبر حتى جاءه البشير.
قال العلماء: إن الأخ الأكبر قال: كما أحزنته في السابق أفرحه اليوم, فدخل بالقميص على أبيه, أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا [يوسف:96] وذكَّرهم بما قال من قبل: قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ [يوسف:96] .
والله جل وعلا رحيم، ولا ينفك لطفه عن قدره, كما قال يوسف: إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ [يوسف:100] وصحيح أن يوسف نُقِل عنه إلى أبيه أنه ميت وهالك عبر سنين، لكن تلك الرؤيا التي رآها يوسف من قبل وأخبر بها أباه كانت هي البرهان من الله جل وعلا أن يوسف سيعود ذات يوم؛ لأن يعقوب فهم تعبير الرؤيا, وأن ابنه هذا لن يموت صغيراً, وأنه سيكبر وسيكون له منزلة وشأن عظيم, هذا هو البرهان من الله ليعقوب في أن يوسف لم يمت؛ وحتى يجعله الله متعلقاً يكثر من الدعاء والإلحاح على الله، وهل الدين إلا توحيد ودعاء لرب العالمين، وهذا سبب قوله يعقوب: وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ [يوسف:86] .
ثم قدر ليوسف عليه الصلاة والسلام أن يأتيه أبوه وإخوته إلى أرض مصر، فيخرون بين يديه سجداً سجود تحية لا سجود عبادة؛ لأن الله لم يكتب لأحد كائناً من كان أن يسجد لغيره سجود عبادة, لا سجود الملائكة لأبينا آدم، ولا سجود إخوة يوسف ليوسف ولا غيره, وسجود التحية كان في شرع من قبلنا فنسخ بشرع محمد صلى الله عليه وسلم, ولكن سجود العبادة لا يكون إلا لله جل وعلا وحده, فالعبادة لا تصرف أبداً في كل آن وحين إلا لرب العالمين جل جلاله.
فلما رأى يوسف نعمة الله جل وعلا عليه اشتاق إلى لقاء ربه وخاف أن يكون نعيم الدنيا حائلاً بينه وبين نعيم الآخرة, فتضرع إلى ربه قائلاً: رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ [يوسف:101] .
إن الغاية من القبس القرآني أمور عديدة, لكن في مقامنا هذا ننبه إلى أن يحسن المؤمن الظن بالله، وأن يلتزم التقوى في كل مكان وكل زمان, وعليه أن يصبر على قضاء الله جل وعلا وقدره وعلى أوامره ونواهيه، ويصبر على طاعته، يتلمس فعل الخيرات والإحسان إلى الخلق عل الله جل وعلا أن يحسن إليه.
أمور شتى ومقاصد متعددة ذكرنا بعضها؛ لأن في ذكر البعض ما يغني عن الكل, وكما قلت في الأولى أقول في الثانية: إن المقام يفرض علينا الاختصار ما استطعنا إلى ذلك سبيلاً.
وفي ذكر القصة تربية للأسرة المسلمة والمجتمع المؤمن كيف يتآخى آحاده, ويتعاضد أفراده، وأن الله جل وعلا كتب لأمة الإسلام أن تكون على قلب واحد, فذكر الله جل وعلا لنبيه صلوات الله وسلامه عليه خبر ابني آدم من قبل، قائلاً جل وعلا: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ [المائدة:27] .
وجملة القول في هذا الخطاب القرآني, أن آدم عليه الصلاة والسلام كانت زوجته تحمل منه ذكراً وأنثى في كل حمل, فكانت سنة الله جل وعلا له أن يزوج كل حمل من الحمل الآخر, الذكر بالأنثى والأنثى بالذكر، فكان قابيل وهابيل أخوين من حملين مختلفين, فكأن قابيل رفض أن يأخذ هابيل أخته التي ولدت معه, ربما كانت أبهى من أخته التي حملت مع أخيه, فاحتكما إلى أبيهما فناشدهما أن يقربا إلى الله جل وعلا قرباناً, فأيهما تقبل قربانه مضى الأمر الذي يريد, فتقدم كل منهما بقربان إلى الله جل وعلا فاختار قابيل أسوأ ما يملك, واختار هابيل أطيب ما يملك، فجاءت نار فحرقت قربان هابيل دلالة على القبول, وبقي قربان قابيل على حاله, فاشتاط غضباً ودب في قلبه الحسد لأخيه, والحسد والعياذ بالله أول نقطة في طريق البغضاء وسفك الدماء.
فلما دب في قلبه الحسد أخذ الحسد ينمو مع الأيام ويزداد, حتى قرر أن يتخلص من أخيه, عمد إلى أخيه بعين جاهرة, قائلاً له: لَأَقْتُلَنَّكَ [المائدة:27]، فأجابه: لَئِنْ بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ [المائدة:28] .
فأخبر أن خوفه من الله يمنعه من المبادرة بسفك الدماء أو حتى أن يرد على أخيه مع أنه لو رد عليه لكان ذلك مشروعاً كما بين نبينا صلى الله عليه وسلم، إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ [المائدة:29] .
لكن هذا الرد المبني على الحجج والبراهين لم يقنع قابيل , فأخذ الشيطان يسول له ونفسه الأمارة بالسوء: فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ [المائدة:30].
فمكث يحمله من مكان إلى مكان لا يدري ما يصنع به؛ لأنه كان أول سفك دم في الأرض, قال عليه الصلاة والسلام: (ما قتل نفس نفساً إلا كان على نفس ابن آدم الأول منها الوزر) لأنه كان أول من سن القتل.
فلما فعل ذلك بعث الله جل وعلا غراباً يبحث في الأرض بعد أن قتل غراباً آخر، قال تعالى: فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ [المائدة:31].
المقصود من هذا كله:
أن تعلم أن الله جل وعلا يبتلي الناس بعضهم ببعض, فيبتلي الغني بالفقير, ويبتلي الحاكم بالمحكوم والمحكوم بالحاكم، ويبتلي الناس طوائف شتى بعضهم ببعض, هذه سنة لا تتبدل وخبرة لا تتغير, قال الله في الفرقان: وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا [الفرقان:20].
وعندما ينظر الإنسان إلى من هو أغنى منه فيدب في نفسه السخط على قدر الله, فيتذكر أن هذه الأمور تمضي بقدر الله فيصبر حتى يلقى الله عز وجل صابراً فيعوضه الرب تبارك وتعالى على صبره.
على هذا جرت سنة الله جل وعلا في خلقه, غني وفقير، أمير ومأمور, وقس على ذلك ما شئت من الخلق, فإذا فطن الناس إلى هذا البرهان القرآني والعظة الربانية، قَبِلَ الناس بعضهم بعضاً على أي حال كان, فإن دب فيهم داء الأمم التي قبلهم من: الحسد والبغضاء والشحناء وسفك الناس دماء بعضهم البعض.
وسفك الدماء -عياذاً بالله- من أكبر الكبائر وأجل الذنوب، حتى إن الله قال في كتابه: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً [النساء:92] أي: لا يتصور شرعاً أن يقتل مؤمن مؤمناً عمداً, وقال الله بعدها: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا [النساء:93] .
ولَزَوال الدنيا أهون عند الله من قتل مؤمن.
السبب الأول: خطأ في التفكير.
والسبب الثاني: حقد وغل في القلوب.
أما الخطأ في التفكير فإن الإنسان والعياذ بالله قد يلتبس عليه الباطل والحق, فيظن الباطل حقاً والحق باطلاً, فيتأول الآيات القرآنية والأحاديث النبوية حتى يجد منها حسب ظنه وجهله وعلمه المزعوم سبيلاً إلى سفك دماء المسلمين، فيكفر في أول الأمر ثم إذا كفر المؤمنين استباح دماءهم عياذاً بالله.
وقد يقع هذا من شتى الفرق وشتى الطوائف وشتى المنازل وبيان هذا على وجه التفصيل:
فـعثمان رضي الله عنه أمير المؤمنين, وثالث الراشدين، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول في حقه: (أحيا أمتي عثمان) , ويقول في حقه أيضاً: (ألا أستحي من رجل تستحي منه الملائكة؟).
ومع ذلك طعن رضي الله عنه وقتل في داره بعد أن أحرقت الدار, والذين تسللوا إلى بيت عثمان كانوا يزعمون الإيمان, ويزعمون أن عثمان على باطل، حتى أن عمرو بن الحمق الذي قتل عثمان طعن عثمان تسع طعنات, وعثمان يومئذ قد جاوز الثمانين رضي الله عنه وأرضاه, ثم قال بعد أن خرج: طعنته ثلاث طعنات لله، وتسع طعنات لما في قلبي عليه من الغل.
فهذا الخطأ في التفكير هو الذي صور لهذا الرجل أن يقتل رجلاً في منزلة عثمان رضي الله عنه وأرضاه.
وما علي عن عثمان ببعيد، فالذي قتل عليـاً رضي الله عنه وهو عبد الرحمن بن ملجم كانت آثار السجود بادية على محيا وجهه وعلى ركبتيه, صواماً قواماً لا يراه الناس يفتر عن ذكر الله جل وعلا, لكنه لم يؤت من باب العبادة, أوتي من باب التكفير فكان يظن أن قتل علي أمراً مشروعاً, فعمد إلى سيف يعرضه على الناس, هل تجدون له عيباً, فكلما أخبره أحد بعيب أصلح ذلك العيب, ثم وضعه في طست فيه سم حتى لفظ السم الحديد، ثم خرج يوم خروج علي رضي الله عنه لصلاة الفجر فضربه به.
فحمل علي رضي الله عنه إلى بيته وبه رمق من حياة, وحمل عبد الرحمن بن ملجم بين يديه، فقال علي رضي الله عنه لـعبد الرحمن : أأسأت إليك قط؟ قال: لا, قال: فما حملك على ما فعلت؟ فقال هذا الرجل الضال: إنني اكتنزت سيفي هذا منذ أربعين يوماً، وأنا أسأل الله أن يقتل به شر خلقه, ويظن أن دعاءه مستجاب.
فقال له علي رضي الله تعالى عنه: بل أنت من شر خلق الله, وما أظنك إلا مقتولاً بسيفك هذا, فقتل عبد الرحمن بعد موت علي بنفس سيفه الذي اكتنزه ليقتل به عليـاً رضي الله عنه.
أين غاب عقل هذا الرجل وهو يقتل رجلاً في منزلة علي ؟
إن الخطأ في التفكير يدعو إلى التكفير, والدعوة إلى التكفير ينجم منها سفك دماء المسلمين، ولهذا سد النبي صلى الله عليه وسلم هذا الباب سداً منيعاً, فقال لـأسامة رضي الله عنه كما عند مسلم وغيره, لما كان في غزوة الحرقات مكن جهينة خرج رجل منهم وأسامة رضي الله عنه يلحقه بالسيف, فلما رأى الرجل أسامة يتبعه، ألقى السيف وقال: لا إله إلا الله, فغلب على ظن أسامة أن هذا الرجل قالها فرقاً من السيف, فقتله ثم قص الخبر على النبي عليه الصلاة والسلام، فقال له عليه الصلاة والسلام: (يا أسامة ! أقتلته بعدما قال: لا إله إلا الله؟ قال: نعم, قال: كيف أنت بلا إله إلا الله يوم القيامة) وما زال النبي يكررها, وأسامة يندم حتى قال أسامة : تمنيت لو أنني لم أسلم إلا بعد ذلك اليوم.
الحالة الثانية التي ينجم عنها سفك الدماء:
أن يكون الإنسان -والعياذ بالله- مطبوعاً على الشر وحوله من القرابة أو من الرفقة أو من الصداقة أو من رفقاء السوء ما يؤجج الغضب في نفسه، ولهذا ينبغي لكل أب ومرب ومعلم أن يربي أبناءه على حرمة أعراض ودماء وأموال المسلمين.
فلا يأتيك ابنك يخبرك أن ابن الجار غلبه فتشجع ابنك على الانتقام، وتخبره أن الأبواب موصدة إن لم ينتقم لنفسه، وقضية: إن لم تكن ذئباً أكلتك الذئاب. من أعظم خطايانا في التربية, وكم من أناس ونعرف بعضهم بأسمائهم وصفاتهم شجعوا غيرهم على سفك الدماء، وطلبوا منهم أخذ الثأر, وهولوا في أنفسهم المعاصي واستباحوا دماء المسلمين, فلما وقع المغرر بهم في المحظور وسفك الدم، وحمل إلى السجن فأول من تخلى عنه من كانوا يؤججون الغضب في صدره وهم قرابته وعصبته وعشيرته وأهله وعائلته وقبيلته التي كانت تدعمه فأخذت تتخلى حتى عن زيارته, ويقاد إلى موضع القصاص وحيداً فريداً ليس معه إلا عمله, وبئس العمل أن تلقى الله وقد سفكت دم مسلم, والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (أول ما يقضى به بين الناس يومئذ الدماء, حتى إن المقتول ليأخذ بعنق القاتل حتى يدنيه من رب العزة ويقول: يا رب! سل عبدك هذا: فيم قتلني؟).
وقد قال العلماء:
الدواوين ثلاثة, ديوان شرك لا يغفره الله جل وعلا, وديوان معاصٍ بين العبد وبين ربه لا يعبأ الله به يغفر الله فيه لمن يشاء, وديوان لا يتركه الله جل وعلا أبداً وهي ما بين العباد من خصومات بعضهم ببعض.
وصفوة القول والحديث:
أن نعلم أن كل من حمل كلمة التوحيد في قلبه، وجاء بالإيمان بالأركان الستة فهو مسلم لنا ظاهر قوله وإيمانه, وسرائره نكلها إلى الله جل وعلا, وبيننا وبين دماء المسلمين وأموالهم وأعراضهم سداً منيعاً.
ثنتان لا تقربهما أبداً الشرك بالله والإضرار بالناس
وكلما كان الإنسان سمحاً رءوفاً رحيماً بعباد الله الصالحين يقيل العثرة، ويعفو عن الزلة, ويقبل العذر, شفيقاً رحيماً بهذه الأمة كان أقرب إلى الله وأدنى من مجالس سيد الأولين والآخرين صلوات الله وسلامه عليه.
فإن والعياذ بالله قد ملئ قلبه حنقاً وبغضاً وظلماً وعدواناً ساقه ذلك إلى خزي الدنيا وإلى عذاب النار, أجارنا الله من هاتين الاثنتين, ومن كل سوء.
هذا ما تيسر إيراده ووفق الله جل وعلا إلى قوله, والله المستعان وعليه البلاغ.
وصلى الله على محمد وعلى آله, والحمد لله رب العالمين.
اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , دموع وتأملات للشيخ : صالح بن عواد المغامسي
https://audio.islamweb.net