إسلام ويب

القاعدة السادسة في إثبات الصفات والرد على نفاتها: أنه لابد من بيان الضابط الذي يعرف به ما يجوز على الله سبحانه وتعالى مما لا يجوز في النفي والإثبات في الصفات؛ وذلك لأن الاعتماد في هذا الباب على مجرد نفي التشبيه أو مطلق الإثبات من غير تشبيه اعتماد غير صحيح؛ لأنه ما من شيئين إلا وبينهما قدر مشترك، وقد بين شيخ الإسلام هذا الضابط بياناً تاماً، وشرحه الشيخ شرحاً وافياً.

القاعدة السادسة: بيان الضابط الذي تعرف به الطرق الصحيحة والباطلة في النفي والإثبات

قال المصنف رحمه الله: [القاعدة السادسة: أن لقائل أن يقول: لابد في هذا الباب من ضابط يعرف به ما يجوز على الله سبحانه وتعالى مما لا يجوز في النفي والإثبات؛ إذ الاعتماد في هذا الباب على مجرد نفي التشبيه أو مطلق الإثبات من غير تشبيه ليس بسديد؛ وذلك أنه ما من شيئين إلا وبينهما قدر مشترك وقدر مميز].

هذه هي القاعدة السادسة، وفيها يبين المصنف أنه لكثرة هذه المصطلحات، ولكثرة استعمال المستعملين لبعض الجمل التي دخل بسببها قدر من الاشتراك، قال: لقائل أن يقول: فما هو الحد الفاصل في مسألة الإثبات ومسألة النفي؟

والقاعدة السادسة والسابعة هي خاتمة ختم بها المصنف هذه المسألة، وهي أشبه ما تكون بنوع من الطريقة التي قد يحتاجها بعض المناظرين، فهذه القاعدة هي حق محتاج في باب المناظرة في الجملة.

ولو قال قائل: إن الإثبات هو إثبات ما أثبته الله لنفسه مع نفي التشبيه، أو أن ما ينزه الله سبحانه وتعالى عنه هو مشابهة المخلوقات، قيل: إن هذا الكلام كلام صحيح، وإن كان قد دخل هذا أو هذا شيء من الاشتراك عند بعض الطوائف. فهذا التقرير من المصنف هو تقرير تفصيلي يُحتاج إليه في مقام المناظرات في الجملة.

خطأ الاعتماد في النفي على مجرد ادعاء التشبيه

قال المصنف رحمه الله: [فالنافي إن اعتمد فيما ينفيه على أن هذا تشبيه، قيل له: إن أردت أنه مماثل له من كل وجه فهذا باطل، وإن أردت أنه مشابه له من وجه دون وجه، أو مشارك له في الاسم؛ لزمك هذا في سائر ما تثبته، وأنتم إنما أقمتم الدليل على إبطال التشبيه والتماثل الذي فسرتموه بأنه يجوز على أحدهما ما يجوز على الآخر، ويمتنع عليه ما يمتنع عليه، ويجب له ما يجب له.

ومعلوم إن إثبات التشبيه بهذا التفسير مما لا يقوله عاقل يتصور ما يقول، فإنه يعلم بضرورة العقل امتناعه، ولا يلزم من نفي هذا نفي التشابه من بعض الوجوه، كما في الأسماء والصفات المتواطئة. ولكن من الناس من يجعل التشبيه مفسراً بمعنىً من المعاني، ثم إن كل من أثبت ذلك المعنى قالوا: إنه مشبه، ومنازعه يقول: ذلك المعنى ليس هو من التشبيه].

فصار لفظ التشبيه لفظاً مشتركاً باستعمال المستعملين له، كالمعتزلة الذين يرون أن كل من قال بقيام الصفة بذات الله فإنه يلزم منه التشبيه، قال: فإن المنازع يقول: إن هذا ليس تشبيهاً.. وهلم جرا.

من شبه المعتزلة: أن إثبات الصفات يستلزم تعدد القدماء

قال المصنف رحمه الله: [وقد يفرق بين لفظ التشبيه والتمثيل، وذلك أن المعتزلة ونحوهم من نفاة الصفات يقولون: كل من أثبت لله صفة قديمة فهو مشبه ممثل، فمن قال: إن لله علماً قديماً، أو قدرةً قديمةً، كان عندهم مشبهاً ممثلاً؛ لأن القدم عند جمهورهم هو أخص وصف الإله، فمن أثبت لله صفةً قديمة فقد أثبت له مثلاً قديماً، فيسمونه ممثلاً بهذا الاعتبار].

تكلم النظار في أخص وصف للإله، فجمهور المعتزلة يقولون: أخص وصف لله هو القدم, وجمهور متكلمة الصفاتية يقولون: أخص وصف لله هو القدرة على الفعل. ومعلوم أن الرب سبحانه هو الأول الذي ليس قبله شيء، وهو الفاعل والخالق لكل شيء، إلا أن ثمة مقاماً من مقامات التفصيل في القرآن المتضمنة لهذا وهذا، بمعنى: أن من أخص وصفه سبحانه وتعالى أنه رب العالمين، وهذه الكلمة التي ذكرها الله في كتابه عن نفسه -وهي أنه رب العالمين- هي متضمنة لفعله، ومتضمنة لكونه الأول الذي ليس قبله شيء، ومتضمنة لكونه الخالق وما سواه مخلوق، ومتضمنه لتدبيره وإرادته.. إلى غير ذلك، فهذه الجملة هي أجمع من هذه التعبيرات التي يعبر بها هؤلاء.

فالمقصود: أنهم يجعلون من أثبت صفة قديمة مشبهاً؛ لأن القدم أخص وصف للإله عندهم، قالوا: فيلزم من ذلك تعدد القدماء. وهذه سفسطة في العقل؛ لأن فرض تعدد القدماء مبني على أن الصفة شيء مفارق منفك عن الموصوف، فإذا قالت المعتزلة: إن القول بقدم شيء من الصفات يستلزم تعدد القدماء، يقال لهم: هذا اللازم فرع عن كون الصفة شيء مفارق منفك عن موصوفها.

الجواب عن هذه الشبهة

قال المصنف رحمه الله: [ومثبتة الصفات لا يوافقونهم على هذا، بل يقولون: أخص وصفه حقيقة ما لا يتصف به غيره، مثل كونه رب العالمين، وأنه بكل شيء عليم، وأنه على كل شيء قدير، وأنه إله واحد، ونحو ذلك، والصفة لا توصف بشيء من ذلك].

وهذا هو أكثر تحقيقاً، وإن كان ما تذكره المعتزلة ليس باطلاً وهو ما يتعلق بالقدم، فإنه يعلم عند جميع المسلمين أن الله هو الأول الذي ليس قبله شيء.

وقول المصنف: (ومثبتة الصفات لا يوافقونهم على هذا، بل يقولون: أخص وصفه حقيقة ما لا يتصف به غيره ...)، ليس معناه أن المصنف يريد أن مثبتة الصفات يدفعون كلام المعتزلة لأنه ليس القدم أخص وصف للإله، فإنه من المعلوم أن القدم -الذي هو بمعنى الأولية المطلقة- لا شك أن الله سبحانه وتعالى كذلك، وإنما المصنف يريد أن يراجعهم في أصل الإطلاق، وإلا فإن الجواب العلمي عن هذا الإيراد هو ما تقدم: أن القول بتعدد القدماء إنما هو فرع عن فرض انفكاك الصفة عن موصوفها، وأنها مجردة قائمة بنفسها عن موصوفها.

فهذا هو التعدد الذي يقال: إنه ينافي مقام الربوبية، وإذا كان كذلك امتنع أن تكون صفةً له؛ بل تكون شيئاً آخر مع الله سبحانه وتعالى.

أقوال الصفاتية في قدم الصفات

قال المصنف رحمه الله: [ثم من هؤلاء الصفاتية من لا يقول في الصفات: إنها قديمة، بل يقول: الرب بصفاته قديم. ومنهم من يقول: هو قديم وصفته قديمة، ولا يكون هو وصفاته قديمان. ومنهم من يقول: هو وصفاته قديمان، ولكن يقول: ذلك لا يقتضي مشاركة الصفة له في شيء من خصائصه].

وهذه الأقوال كلها -من جهة الألفاظ- أقوال مجملة، لا ينبغي الإطلاق فيها والقول بها؛ لأن ثمة ألفاظاً أو حروفاً محكمة، وهي المذكورة في قول الله تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11] وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَى [النحل:60] هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ [الحديد:3] فهذه الكلمات كلمات محكمة، والمسلمون يفهمون منها فقهاً واحداً صحيحاً، وهو أن الله موصوف بالكمال منزه عن النقص.

أما التكلم بمسألة: هل الصفة هي الموصوف أم ليست هي الموصوف؟ وهل يقال: هو قديم بصفاته، أم صفاته قديمة؟!! فإن هذا كله من الاستفصالات المتكلفة.

قال رحمه الله: [فإن القدم ليس من خصائص الذات المجردة؛ بل هو من خصائص الذات الموصوفة بصفات، وإلا فالذات المجردة لا وجود لها عندهم، فضلاً عن أن تختص بالقدم، وقد يقولون: الذات متصفة بالقدم، والصفات متصفة بالقدم، وليست الصفات إلهاً ولا رباً، كما أن النبي محدث وصفاته محدثة، وليست صفاته نبياً].

وهذا جواب بعض متكلمة الصفاتية على إيراد المعتزلة، وهذا الجواب إنما بني على أصل غلط عندهم من جهة العقل، فإن منهم من يسلم ويقول: إن الصفة قديمة والموصوف قديم، ثم يقول: إنه لا يلزم أن تكون الصفة رباً, وهذا كله من باب السفسطة العقلية؛ لأن هذا يرجع إلى أن ثمة انفكاكاً بين الصفة وموصوفها، وهذا ليس كذلك، وتجد أنهم يجعلون من مثاله ما يتعلق بالنبي صلى الله عليه وسلم، فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم محدث -أي: مخلوق- فيقولون: إن نبوته من الله سبحانه وتعالى، مع أنه مخلوق من مخلوقات الله. فهذا التفصيل إنما ورد عليهم بهذه الكلمات المجملة التي نطقوا بها، ولك أن تقول: إن هذه الحقائق البسيطة في الفطرة ومدارك العقل الأول وما قضت به الشرائع بينة واضحة، وهذا هو معنى البساطة المذكورة هنا (بسيطة) أي: بينة واضحة مفصلة، من بسط الشيء وبيانه.

ولكن عندما أدخلوا عليها هذا التقسيم، وهذه الفروضات واللزومات؛ لزمتهم هذه الإشكالات.

العبرة بحقائق المعاني لا بحقائق الألفاظ

قال المصنف رحمه الله: [فهؤلاء إذا أطلقوا على الصفاتية اسم التشبيه والتمثيل، كان هذا بحسب اعتقادهم الذي ينازعهم فيه أولئك، ثم يقول لهم أولئك: هب أن هذا المعنى قد يسمى في اصطلاح بعض الناس تشبيهاً، فهذا المعنى لم ينفه عقل ولا سمع، وإنما الواجب نفي ما نفته الأدلة الشرعية والعقلية، والقرآن قد نفى مسمى (المثل) و(الكفء) و(الند) ونحو ذلك، ولكن يقولون: الصفة في لغة العرب ليست مثل الموصوف ولا كفأه ولا نده، فلا تدخل في النص، وأما العقل فلم ينف مسمى التشبيه في اصطلاح المعتزلة].

ينتهي المصنف هنا إلى نتيجة فاصلة في هذا المقام، ولا سيما أنه قد كثر المصطلحون، وكثر الاشتراك في كلام الطوائف في مسألة التشبيه، فمنهم من فسر التشبيه بما هو من الحق، ومنهم من فسر التشبيه بما هو مما ينزه الله عنه.. وما إلى ذلك، فيقول المصنف: إن من القواعد العقلية عند بني آدم: أن العبرة في مقام الإثبات، أو في مقام النفي للأشياء وللموجودات، أو للحقائق، أو للصفات، أو لغير ذلك -العبرة هي بالحقائق من جهة المعاني، وأما الألفاظ فإنها لا تكون حكماً على المعاني؛ إما لكون اللفظ مشتركاً في نفسه، أو لكون المستعملين له جعلوه مشتركاً.

فلا ينبغي أن تكون المناظرة على الألفاظ.. وهذه من قواعد المناظرة الصحيحة، فلابد -أولاً- من تحقيق المعاني، فإذا حُققت المعاني الصحيحة، وعرف ما يخالفها من المعاني الباطلة؛ أمكن أن يسمى المعنى الصحيح إما بالأسماء الشرعية المذكورة في الكتاب والسنة، أو بأسماء يتفق عليها، لكن أن يكون هناك جدل في الأسماء دون أن يكون هناك تحقيق للمقصود بهذه الأسماء التي حصل الجدل عليها، فإن هذا ليس فقهاً، ولذلك فقد يوجد أن طائفة ينفون اسماً، وآخرين يثبتونه؛ لأن هؤلاء قصدوا به معنى فنفوه، وأولئك قصدوا به معنى آخر فأثبتوه.

فلابد إذاً من الاستفصال في المعاني، ولا سيما بعد كثرة المصطلحات والاشتراكات في استعمال المستعملين.

نفي التشبيه معلوم بالسمع ومعلوم بالعقل

وقوله: (وأما العقل فلم ينف مسمى التشبيه في اصطلاح المعتزلة):

هذه مسألة من مسائل الخلاف بين النظار وهي: تنزيه الله سبحانه وتعالى عن التشبيه هل هو معلوم بالسمع أم معلوم بالعقل؟

فالذي عليه محققوهم أنه معلوم بالعقل، وإذا قيل: إنه معلوم بالعقل، فمن باب أولى أنه معلوم بالسمع، وإنما الغلط ما ذهب إليه بعض غلاتهم الذين زعموا أن تنزيه الله عن النقص إنما علم بالسمع، ولم يعلم بالعقل، فإن هذا من الضلال المبين؛ بل هو معلوم بالسمع ومعلوم بالعقل؛ لأنه قدر كلي.

والقاعدة: أن كل كلي علم بالسمع لزم أن يكون معلوماً بالعقل، وأما الذي يمكن أن يكون معلوماً بالسمع وحده فهو المفصلات، أو ما هو من المفصلات؛ لأنهم إذا قالوا: إنه علم بالسمع ولم يعلم بالعقل، يقال لهم: ما معنى قولكم: إنه لم يعلم بالعقل؟ هل معناه أن العقل يجوز مسألة التشبيه؟ لأنه ليس في الحقائق إلا أحد ثلاث إضافات: إما أن يقال: إن هذا الشيء واجب، وإما أن يقال: إن هذا الشيء جائز ممكن، وإما أن يقال: إن هذا الشيء ممتنع، وهنا يرد عليهم السؤال: هل العقل يقضي بأن التشبيه جائز، أم واجب، أم ممتنع؟ فإن قالوا: ممتنع؛ فمعناه: أن العلم بنفي التشبيه علم بالعقل، وإن قالوا: إنه جائز؛ فهذا لا شك أنه عين الضلال المبين، بمعنى: أن عقولهم قضت بمسألة التشبيه، وهذا ما يبين حقيقة المذهب، وأنه ليس ظاهر القرآن هو الذي قضى بالتشبيه، كما يزعمون أن ظاهر القرآن هو التشبيه، وأن الدليل العقلي هو الذي صرف النص عن التشبيه إلى التأويل.

فإذا كانوا يقولون: إن الدليل العقلي هو الذي صرف النص، فمن أوائل المقدمات أن يقال: إن العلم بنفي التشبيه معلوم بالعقل، أما أن يقال: إنه ليس معلوماً بالعقل، ثم يقال: إن العقل هو الذي قضى بنفي التشبيه، فإن هذا من باب التناقض، فإن العقل إذا لم يكن عالماً به؛ امتنع أن يكون دافعاً له.

وهذا ليس مذهباً للمتكلمين أجمعين؛ بل هو مذهب لقوم من غلاتهم.

من شبه النفاة: أن إثبات الصفات يستلزم التجسيم والأجسام متماثلة

قال المصنف رحمه الله: [وكذلك أيضاً يقولون: إن الصفات لا تقوم إلا بجسم متحيز، والأجسام متماثلة، فلو قامت به الصفات للزم أن يكون مماثلاً لسائر الأجسام، وهذا هو التشبيه. وكذلك يقول هذا كثير من الصفاتية الذين يثبتون الصفات، وينفون علوه على العرش، وقيام الأفعال الاختيارية به، ونحو ذلك].

وهذا هو ما يعرض في كلام بعض المتأخرين من المتكلمين، الذين استعملوا ما يسمونه بالدليل المركب في صفات الأفعال، وإن كنت لا أحب أن أسميهم هنا؛ لأنهم حقيقة يضطربون في تقرير هذا الأمر، فمثلاً: نجد أن الرازي مرة يقرر أن هذه مسألة معلومة بالسمع، ويجعل السمع هو دليل الإجماع، ومرة يجعلها معلومة بالعقل، وقد سبق التنبيه إلى أن من يريد أن يحكم على الطوائف فلا ينبغي أن يكون حكمه مبنياً على جملة عرضت في بعض كلامهم؛ بل لابد أن يكون بصيراً بحقيقة أقوالهم، وحتى لو حكوا الإجماع، فإنه أحياناً يحكي بعض المتكلمين إجماع طائفة من الطوائف، أو إجماع الطائفة عندهم على قول، فلا يلزم أن يكون الأمر كذلك؛ بل قد يكون في الأمر كثير من الخلاف عندهم.

قال المصنف رحمه الله: [فيقولون: الصفات قد تقوم بما ليس بجسم، وأما العلو على العالم فلا يصح إلا إذا كان جسماً، فلو أثبتنا علوه للزم أن يكون جسماً، وحينئذ فالأجسام متماثلة، فيلزم التشبيه].

وعن هذا التفريق الذي زعموه بالعقل أثبتوا ما يسمى بالصفات العقلية؛ كالعلم، والحياة، والسمع، والبصر، ونحوها، ونفوا الصفات الفعلية التي يسمونها: حلول الحوادث، وغلاتهم -أعني غلاة متكلمة الصفاتية- نفوا ما يتعلق بعلو الرب سبحانه وتعالى، وجعلوا الموجب لنفي علوه من جنس الموجب لنفي صفة الفعل في حقه سبحانه وتعالى، أي: أنهم جعلوا هذا مستلزماً للتشبيه والتجسيم.

أبو المعالي الجويني:

قال المصنف رحمه الله: [فلهذا تجد هؤلاء يسمون من أثبت العلو ونحوه مشبهاً، ولا يسمون من أثبت السمع والبصر والكلام ونحوه مشبهاً، كما يقوله صاحب الإرشاد وأمثاله].

صاحب الإرشاد هو أبو المعالي الجويني ، صنف كتاب الشامل، وصنف كتاب الإرشاد، وسماه: الإرشاد إلى قواطع الأدلة في أصول الاعتقاد، وهو -أي: أبو المعالي الجويني إمام الحرمين- من فقهاء الشافعية، وهو أصولي معروف في علم الأصول على الطريقة الكلامية، وهو منتحل لمذهب أبي الحسن الأشعري ، ولكنه ممن عدل في هذا المذهب كثيراً؛ فإنه شرد بهذا المذهب إلى نوع من طريقة المعتزلة.

تأثر بعض الحنابلة بمعتقدات النفاة كالأشاعرة ونحوهم

وأبو الحسن الأشعري لما رجع ومال إلى السنة وعظم الأئمة، وجاء كبار أصحابه كـالقاضي أبي بكر ابن الطيب وأدرك قوماً من مقتصدة الحنابلة؛ بل من المائلين من الحنابلة إلى بعض مسائل التأويل، وهم قوم من التميميين من الحنابلة الذين كانوا يجوزون بعض المسائل ويتأثرون بطرق الكلابية.

والحنابلة هم أخص الطوائف التي كانت معنية بمسألة إثبات الظاهر ودفع التشبيه وما إلى ذلك، كتاريخ وليس كحقيقة، فإن الحقيقة أن السنة والجماعة موجودة في الشافعية والحنبلية والمالكية والحنفية وأهل الحديث ونحوهم، لكن كتصورات تاريخية عامة.

فالمقصود: أن هؤلاء الحنابلة كانوا متوالفين مع القاضي أبي بكر ابن الطيب وأمثاله من شيوخ الأشعرية، حتى إن القاضي أبا بكر ابن الطيب الباقلاني لتسالمه وتوالفه مع الحنبلية إذ ذاك -مع بعض الاختلاف الذي كان موجوداً، كما يذكره ابن تيمية وأهل الأخبار في التراجم- كان يوقع جواباته الفقهية للأمصار حينما يستفتى ويكتب: ( محمد بن الطيب الحنبلي )، مع أنه ليس فقيهاً حنبلياً، أي: ليس على مذهب الإمام أحمد في الفقه، لكن هذا نوع من التوالف والتسالم الذي كان بينهم.

ثم لما جاءت فتنة (الفراعية) أتباع القاضي ، حصلت بعض النزاعات التي كان لها أثر سلطاني، فإن السلطان ربما ساعد بعض الطوائف الخارجة عن السنة، كما حصل في بعض الدول كحال المأمون وغيره.

ثم بعد ذلك انقطع هذا التوالف بينهم، فلما كثر الاختلاف بين الحنابلة والأشعرية صار كل قوم يقصدون إلى الانتصار لمذهبهم، فنجد أن بعض الحنبلية ربما تعدوا بالانتصار إلى نوع من الزيادة في الإثبات، وكذلك الأشعرية تعدوا بالانتصار فخرجوا عما كان عليه أبو الحسن الأشعري وقدماء أصحابه إلى نوع من طريقة المعتزلة، ولذلك يقول ابن تيمية : "وأبو المعالي الجويني لما كثر النزاع بينهم وبين الحنبلية شرب كتب أبي هاشم الجبائي ". أي: أنه درس كتب الجبائي ؛ لأنها كتب منظرة على طريقة الردود المفصلة، فتأثر بها؛ ولذلك فإنه من أخص من قرر الصفات السبع وحدها، أما الأوائل كـالأشعري والباقلاني فكانوا مثبتين للصفات الخبرية؛ كصفة الوجه واليدين ونحوها.

فالمقصود: أن المذهب الأشعري دخله هذا التقصير على يد جماعة منهم الجويني ، وإن كان الجويني ركض في هذا المقام كثيراً، وصنف هذه الكتب، وانتصر لها، وبالغ في التقرير، وشدد في المذهب الأشعري على غير طريقة محققي الأشعرية المتقدمين، ثم تبين لـأبي المعالي الجويني أن هذه الطريقة التي ركض فيها ليست طريقةً محكمةً من جهة الشرع ولا من جهة العقل، فأعلن رجوعه عنها، وكتب الرسالة النظامية، وهي رسالة تدل على رجوعه عن نظرية التأويل، وإن كان لم يصب التحقيق، فقد ذهب إلى تمجيد التفويض، وزعم أنه لا بد من التأويل أو التفويض، وأن التفويض هو درب الأئمة والسابقين الأولين، وهذا غير صحيح، وإن كان يحمد للجويني الرجوع في الجملة، فإنه يحمد لهؤلاء؛ لأن الجويني وأمثاله كـأبي حامد ، الأصل فيهم أنهم قصدوا اتباع الحق، وإن كان هذا القول هو قول مجمل، فإن الله هو العالم بأحوال العباد.

وإن كان يقال أيضاً -مع القول بأنهم قصدوا الحق-: قد ظهر عندهم شيء من مقامات التعصب، وهذا التعصب لما دخل على الفقهاء أفسد كثيراً من فقههم، ولما دخل على المخالفين للسنة والجماعة أقامهم في بدعتهم، ولم يقربهم إلى السنة، ولذلك ينبغي أن ينفك طالب العلم عن التعصب للأعيان، ويكون تعصبه للحق، لكنه يكون على قدر من الفقه كما سبق.

قال المصنف رحمه الله: [وكذلك قد يوافقهم على القول بتماثل الأجسام القاضي أبو يعلى وأمثاله من مثبتة الصفات والعلو].

القاضي أبو يعلى من شيوخ المذهب الحنبلي كما هو معروف، وقد كان في أول أمره متأثراً بشيء من كلام الكلابية، ثم رجع عن ذلك في الجملة.

وقد عرض لبعض الحنبلية أنهم تأثروا بشيء من هذا الكلام؛ كـأبي الوفاء ابن عقيل ، فإنه درس علم الجدل وعلم الكلام على بعض شيوخ المعتزلة؛ كـأبي علي ابن التبان ، وأبي القاسم ابن الوليد المعتزليين، وكانا من أصحاب أبي الحسين البصري المعتزلي الحنفي. فدرس أبو الوفاء ابن عقيل على هذين، وتأثر بشيء من طرق المعتزلة، ولا سيما في منهج الاستدلال، وتأثر بجملة من نتائج الكلابية في مسائل الصفات، وإن كان ابن عقيل رجع عن كثير من ذلك أو عن أكثره، وصنف (الانتصار لأهل الحديث)، وكتب توبةً معروفةً شائعةً في ذلك العصر.

فهؤلاء من الحنابلة أو غير الحنابلة قد عرضت لهم بعض المسائل التي خالفوا فيها المنهج الحق.

عدم تحقيق المتأثرين بالنفاة للحق من الباطل

قال المصنف رحمه الله: [ولكن هؤلاء قد يجعلون العلو صفةً خبرية، كما هو أول قولي القاضي أبي يعلى ، فيكون الكلام فيه كالكلام في الوجه، وقد يقولون: إن ما يثبتونه لا ينافي الجسم، كما يقولونه في سائر الصفات. والعقل إذا تأمل وجد الأمر فيما نفوه كالأمر فيما أثبتوه لا فرق].

أي أنهم لما لم يحققوا المعاني الصادقة من جهة العقل والشرع، ربما نفوا وجهاً من الغلط، ولكنهم لم ينفوا الوجه الآخر، والحكمة العقلية والشرعية ليست هي أن تعرف وجهاً من الحق دون بقيته، ولا أن تنفي وجهاً من الباطل دون بقيته، فإن الذي عرض لجمهور أهل القبلة من الطوائف المخالفة للسنة والجماعة: أنهم أثبتوا وجهاً من الحق ونفوا وجهاً من الباطل، ولذلك إذا قيل مثلاً عن المعتزلة: هل لا يوجد عندهم إثبات لشيء من الحق ولا يوجد عندهم نفي لشيء من الباطل؟ فالجواب: لا؛ بل عندهم إثبات لحق ونفي لباطل، ولكن امتياز أهل السنة والجماعة في هذا المقام، ولا يمكن أن يقال عن طائفة من طوائف المسلمين أنها تجردت عن الحق من كل وجه؛ لأن من تجرد عن الحق من كل وجه لم يكن مسلماً، فمن لم يعرف معنى (لا إله إلا الله)، ولا الربوبية، ولا النبوة، ولا الكمال.. فإن هذا لا يكون مسلماً.

إذاً: هؤلاء عرفوا وجهاً من الحق، ولكنهم لم يعرفوا الباطل، أو أثبتوا وجهاً من الحق ولم يثبتوا بقيته، ونفوا وجهاً من الباطل ولم ينفوا بقيته؛ والبقية الأولى من الحق إما أنهم غافلون ساكتون عنها، وإما أنهم يظنونها من الباطل، فهم يثبتون حقاً ويسكتون عن بقيته، أو ينفونه لكونهم يظنونه من الباطل، وينفون وجهاً من الباطل ويسكتون عن بقيته غفلةً عنه، أو يظنونه شيئاً من الحق, فربما أثبتوا وجهاً من الغلط والباطل.

الجواب عن شبهة أن إثبات الصفات يستلزم التجسيم

قال المصنف رحمه الله: [وأصل كلام هؤلاء كلهم على أن إثبات الصفات يستلزم التجسيم، والأجسام متماثلة].

هذا ما يسمى بدليل الأعراض، فهم قالوا: إن الصفات أعراض، والعرض لا يقوم إلا بجسم، والأجسام متماثلة. لكنهم ينازَعون في هذه المقدمات؛ فيقال مثلاً: ما معنى أن الأجسام متماثلة؟ فإذا قصد بالتماثل أن الأجسام موصوفة بالصفات، فهذا وجه، ثم ما المقصود بالأجسام نفسها؟

فيقال: كلمة الأجسام كلمة فيها إجمال، فما المقصود بالجسم؟ فإن قصدتم بالجسم الموصوف بالصفات أو القائم بنفسه، فهذا معنى، ولا يلزم أن يسمى جسماً في لسان العرب على هذا الاطراد، فإن الجسم في لسان العرب هو البدن الكثيف.

وأيضاً: ما معنى التماثل الذي يقال في الأجسام؟ فإن هذه كلها كلمات مجملة مشتركة، ما أنزل الله بها من سلطان.

قال المصنف رحمه الله: [والمثبتون يجيبون عن هذا تارةً بمنع المقدمة الأولى، وتارةً بمنع المقدمة الثانية، وتارة بمنع كلتا المقدمتين، وتارةً بالاستفصال].

وهذا من فقه المناظرة والجواب، أنه تارةً تمنع المقدمة الأولى، وتارةً تمنع المقدمة الثانية، وتارة تمنع المقدمتان، وتارةً بالاستفصال، فإنهم يقولون: إن إثبات الصفات يستلزم التجسيم -وهذه هي المقدمة الأولى- والأجسام متماثلة -وهذه هي المقدمة الثانية- والنتيجة نفي الصفات.

فيقول المصنف: إما أن تنفى المقدمة الأولى، فيقال: إثبات الصفات لا يستلزم التجسيم، أو تنفى المقدمة الثانية، وهي قولهم بتماثل الأجسام؛ بل يقال: هي مختلفة، أو تنفى المقدمتان، أو يستفصل، فيقال: ماذا تقصدون بالتجسيم؟ وماذا تقصدون بالتماثل؟

قال المصنف رحمه الله: [ولا ريب أن قولهم بتماثل الأجسام قول باطل، سواء فسروا الجسم بما يشار إليه، أو بالقائم بنفسه، أو بالموجود، أو بالمركب من الهيولى والصورة، ونحو ذلك].

لأن معنى التماثل في العقل: أن الماهيتين ليس بينهما قدر من الامتياز، وهذا المعنى بيِّن الامتناع بين المخلوقات، فإذا كان بين الامتناع بين المخلوقات -كما سبق في المثلين المضروبين- فبين الخالق والمخلوق من باب أولى.

وقوله: (أو بالمركب من الهيولى والصورة):

أي: من المادة والصورة.

مسألة الجوهر والعرض

قال المصنف رحمه الله: [فأما إذا فسروه بالمركب من الجواهر المفردة على أنها متماثلة، فهذا يبنى على صحة ذلك، وعلى إثبات الجواهر المفردة، وعلى أنها متماثلة، وجمهور العقلاء يخالفونهم في ذلك].

قوله: (الجواهر المفردة):

هذا مصطلح مولد من الفلسفة، وهم يجعلون الجوهر ما يقابل العرض، ويجعلون الأشياء مركبة إما من الجواهر، وإما من الأعراض، ويجعلون العرض مقابلاً للجوهر، ويجعلون الجوهر: إما جوهراً فرداً، وإما جوهراً مركباً، ويجعلون الجوهر الفرد هو الجزء من المادة الذي لا يقبل الانقسام، ويقولون: إن الأجسام مركبة من الأعراض والجواهر.

وهذا كله سفسطة خيالية عقلية، مناسبة لحال الممكنات، ولو صحت هذه الفرضية فإنها فرضية من خيال الذهن، ومعروف أن العقل إذا تخيل فإنه يتخيل شيئاً ممكناً.

وهذه النظرية المولدة من الفلسفة هي دخيلة على المسلمين، ولذلك يروى في كتب الأخبار: أن إبراهيم بن سيار النظام قال لـأبي الهذيل العلاف -وكان العلاف أكبر منه سناً-: يا أستاذ! فررت من أن يكون الرب عرضاً، فيلزم أن يكون جوهراً. فإن المعارض إذا قيل له: لا يلزم ذلك، قيل: فلا يلزم الأول، بمعنى: أنه إما أن يكون القول في المسائل الإلهية يتصل بمسألة العرض والجوهر أو لا يتصل، فإن لم يتصل لم يلزم لا العرضية ولا الجوهرية، وإن اتصل ونفيتم العرضية؛ لزم أن تبقى الجوهرية وهي التجسيم.

يقول: أنتم إذا فرضتم أن يكون الرب عرضاً؛ لزم أن يكون جوهراً، وإذا فرضتم أن يكون جوهراً؛ لزم أن يكون عرضاً، فإن قلتم: إن هذا لا يلزم؛ علم أن هذا المقام بعيد عن هذا القول من أصله. حتى قيل: إن العلاف بصق في وجهه، وقد كان إبراهيم بن سيار من أكثر الناس ذكاءً؛ بل كان من أعيان الأذكياء والمناظرين؛ لكنه زل زلات كثيرة، وإن كان بعض ما نقل عنه قد لا يصح. ولذلك فإن بعض الناس تردد في تكفير النظام ؛ لأنه نقل عنه ما يوجب ذلك، وفي نظري أن ما لم يعلم انضباطه من المسلمين من أهل القبلة فلا ينبغي أن يتكلف فيه، فما دام أنها رواية تاريخية، فلا يجوز أن يحكم على شخص بمجرد تلك الرواية التاريخية، لكن يقال: من قال كذا وكذا فإنه يكفر، كمن يقول مثلاً بالصدفة، فإن هذا الكلام كفر، لكن هل قال النظام بذلك أم لم يقل؟ الله أعلم.

وفي الغالب أنه لم يقل به؛ لأنه لم ينقل عنه إظهار الزندقة إظهاراً صريحاً، كما نقل عن ابن الراوندي مثلاً، وإن كان الناقلون لذلك هم المعتزلة؛ لأن ابن الراوندي قد رد على المعتزلة كثيراً.

فهنا يجب أن تكون الحقائق بينة، فما كان معلوماً في التاريخ مستفيضاً منضبطاً، أخذ به وبني عليه، وأما ما نقله بعض الإخباريين، فلا يلزم أن يضاف حكم شرعي إلى معين على رواية معينة من الروايات التاريخية التي قد تصدق وقد تكذب.

بطلان القول بتماثل الأجسام

قال المصنف رحمه الله: [والمقصود أنهم يطلقون التشبيه على ما يعتقدونه تجسيماً بناءً على تماثل الأجسام، والمثبتون ينازعونهم في اعتقادهم، كإطلاق الرافضة للنصب على من تولى أبا بكر وعمر رضي الله عنهما، بناء على أن من أحبهما فقد أبغض علياً رضي الله عنه، ومن أبغضه فهو ناصبي، وأهل السنة ينازعونهم في المقدمة الأولى].

إذاً: مسألة تماثل الأجسام يجاب عنها بأحد جوابين:

الأول: بالمنع، فإن الأجسام مختلفة؛ لأن التماثل بين المعنيين يعني امتناع الامتياز، وهذا لا وجود له في الخارج؛ فإن الأشياء بينها امتياز، وهذا من ضرورات تعدد الماهيات بين المخلوقات، فبين الخالق والمخلوق من باب أولى. فتماثل الأجسام باطراد أمر لا وجود في الخارج، وهو مخالف لمدارك العقل الأول، ومخالف للاطراد الحسي، فإن العلم بتباين واختلاف الماهيات من العلم الضروري في العقل فضلاً عن الشرع.

الثاني: أن يقال بالاستفصال: ما المقصود بتماثل الأجسام؟ فإن قيل: المقصود أنها تشترك في إثبات الصفات مثلاً، فإن هذا ليس هو التماثل المعروف عند العقلاء.

وقوله: (كإطلاق الرافضة للنصب على من تولى أبا بكر وعمر رضي الله عنهما، بناء على أن من أحبهما فقد أبغض علياً رضي الله عنه، ومن أبغضه فهو ناصبي، وأهل السنة ينازعونهم في المقدمة الأولى):

فإنه لا يلزم من محبة أبي بكر وعمر البغض لـعلي ؛ بل طريقة أهل السنة والجماعة وعامة المسلمين هي التولي لسائر أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ويحفظون ما حفظه رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ بل وما ذكره الله في القرآن من مراتبهم، فيقدمون من قدم الله، ويفضلون من فضل الله، مع القول بأن جملة الصحابة عدول خيار، وإن كانوا يفضلون أبا بكر وعمر وعثمان وعلياً وأمثالهم على جمهور الصحابة.

سبب انحراف المتكلمين وضلالهم

قال المصنف رحمه الله: [ولهذا يقول هؤلاء: إن الشيئين لا يشتبهان من وجه ويختلفان من وجه. وأكثر العقلاء على خلاف ذلك، وقد بسطنا الكلام على هذا في غير هذا الموضع، وبينا فيه حجج من يقول بتماثل الأجسام وحجج من نفى ذلك، وبينا فساد قول من يقول بتماثلها].

قد يقول قائل -وهذا سؤال قد يرد على البعض ولا سيما الناظر في كتب المتكلمين-: إن هؤلاء أوتوا ذكاءً، وعندهم سعة في العلم في مسائل النظر والجدل والعقليات وما إلى ذلك، فلماذا اضطرب أمرهم؟

فيقال: إن الاضطراب إنما دخل عليهم ليس لنقص في ذكائهم، ولا لنقص في أحاطتهم بالمعارف التي قد يدركها من هم دونهم بمراتب في العلم، ولكنهم لما فرضوا بعض المعاني، وأرادوا تصديق هذه المعاني التي فرضوها؛ اصطدموا بقدر متسلسل من الحقائق العقلية والحقائق الشرعية، فذهبوا يتأولون الشرعي، ويوردون السؤال على العقلي، ومن هنا حصل عندهم هذا الاضطراب، وإلا فإنهم أهل نظر، ولذلك فإن محمد بن عمر الرازي -وهو عمدة المتأخرين من أصحاب الأشعري - رجل واسع العلم، وفقيه، وأصولي، وقد صنف كتباً مطولة؛ كالمطالب العالية، والمباحث المشرقية، وصنف في آخر عمره كتاباً سماه: (أقسام اللذات)، وقال في هذا الكتاب: "إن لكل قوة وحاسة لذة، ولذة العقل العلم، وأشرف العلم: العلم بالله وأسمائه وصفاته وأفعاله"، ثم قال: "وعلى كل واحدةٍ منها عقدة لم تنحل"، أي: أن عنده إشكالاً، ثم قال: "لقد تأملت الطرق الكلامية، والمناهج الفلسفية، فما رأيتها تشفي عليلاً، ولا تروي غليلاً"، أي: أن من عنده شبهة فهو بمنزلة المريض المعلول، وهذه الطرق الكلامية، والمناهج الفلسفية، لا يجد جواباً محققاً فيها.

وقوله: (ولا تروي غليلاً) أي: أن الرجل الذي ليس هو صاحب شبهة ولا ثقافة معينة، هو بمنزلة العطشان، فهو يريد أن يعرف الحقائق من جهة المناهج الكلامية والفلسفية، ولكنها لا ترويه، فهي لا تصلح لا لمن جهله بسيطاً، ولا لمن جهله مركباً، أي أنها لا تدفع شبهة صاحب الجهل المركب.

قال: "ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن".

وكذلك أبو حامد الغزالي ، خاب في هذا الباب، وانتهى إلى أن هذا الباب لا يحصل نتائج علمية دقيقة، لكنه قال: إنه باب من باب المناظرة، ودفع صول الصائلين على الإسلام، فنجيبهم بهذه الطرق، وهذه التشقيقات، وهذه النظريات، وهذه المحاولات العقلية.

إذاً: هؤلاء لم ينقص مقامهم في الذكاء، أو في ذات المعارف؛ لكنهم لما وضعوا أصولاً ليست محكمة، وتعصبوا لها، وتسلسل تعصبهم؛ وصلوا إلى هذا المقام، ولذلك فإن من وفقه الله إلى نوع من الصدق، فإنه ينفك انفكاكاً ليس بالضرورة أنه يعرف الحق المفصل، لكنه يعرف أن الذي هو فيه كان غلطاً؛ كأمثال أبي الحسن الأشعري لما أعلن رجوعه عن الاعتزال، والجويني لما أعلن رجوعه عن التأويل، والغزالي لما أعلن رجوعه عن الطريقة الكلامية، وتمسك بالطريقة الصوفية، وإن كان لم يحقق الصواب مع أنه كان قاصداً له.

الاعتماد بالقول بتماثل الأجسام على نفي التشبيه اعتماد باطل

قال المصنف رحمه الله: [وأيضاً: فالاعتماد بهذا الطريق على نفي التشبيه اعتماد باطل؛ وذلك أنه إذا ثبت تماثل الأجسام، فهم لا ينفون ذلك إلا بالحجة التي ينفون بها الجسم، وإذا ثبت أن هذا يستلزم الجسم، وثبت امتناع الجسم؛ كان هذا وحده كافياً في نفي ذلك، لا يحتاج نفي ذلك إلى نفي مسمى التشبيه].

أي أنه إذا كان القول بأن الأجسام متماثلة قول صحيح؛ اقتضى هذا المقام بذاته، دون أن يبنى على مقدمة أن هذا من باب التشبيه.

قال رحمه الله: [لكن نفي الجسم يكون مبنياً على نفي هذا التشبيه، بأن يقال: لو ثبت له كذا وكذا لكان جسماً، ثم يقال: والأجسام متماثلة، فيجب اشتراكها فيما يجب، ويجوز ويمتنع، وهذا ممتنع عليه. لكن حينئذ يكون من سلك هذا المسلك معتمداً في نفي التشبيه على نفي التجسيم، فيكون أصل نفيه نفي الجسم، وهذا مسلك آخر سنتكلم عليه إن شاء الله تعالى].

وهذا فيه تفريق من المصنف رحمه الله تعالى بين الطريقتين، فإن من اعتمد في نفيه على نفي التشبيه، يقول المصنف: إن حقيقة هذه الطريقة، وإن ركبها من نفس مسألة التجسيم، فإن مقام التشبيه عندهم يختلف عن مقام التجسيم، فإنهم إذا فسروا التشبيه بالتجسيم امتنع أن يكون هذا الاشتراك الذي ورد به القرآن من باب التشبيه، أما إذا كان التشبيه عندهم على معنى الاشتراك، فإنه يمتنع أن يكون هو التجسيم، فيكون المقام منفكاً بين الجهتين.

الاعتماد في نفي ما ينفى على نفي التشبيه لا يفيد في مقام الاحتجاج

قال المصنف رحمه الله: [وإنما المقصود هنا أن مجرد الاعتماد في نفي ما ينفى على مجرد نفي التشبيه لا يفيد؛ إذ ما من شيئين إلا ويشتبهان من وجه ويفترقان من وجه، بخلاف الاعتماد على نفي النقص والعيب، ونحو ذلك مما هو سبحانه وتعالى مقدس عنه، فإن هذه طريقة صحيحة].

قوله: (وإنما المقصود هنا أن مجرد الاعتماد في نفي ما ينفى على مجرد نفي التشبيه لا يفيد):

هذا في ذكر مقام الاحتجاج، وإلا فمعلوم أن الله سبحانه وتعالى منزه عن مشابهة مخلوقاته، وأن التشبيه قد استقر عند سائر أهل العلم بل عند جماهير المسلمين أن الله منزه عنه، ولكن قول المصنف رحمه الله: (إن مجرد الاعتماد) أي: في باب الاحتجاج، (على مجرد نفي التشبيه لا يفيد)، وقوله: (لا يفيد) فيه قدر من التعيين لمراده, بمعنى: أنه لا يصح أن يفهم أحد عن المصنف أنه يصف الله بالتشبيه، فإن قوله في هذه الحجة بهذا الوجه، ليس معناه أنه يقول: إن الله موصوف بالتشبيه، وإنما مقصوده: أنه إذا ذكرت الحجج في مقام الإثبات ومقام النفي، فإن تعليق الحجة على هذا اللفظ -وهو لفظ التشبه- لا يكون محكماً من كل جهة؛ لأن هذا اللفظ متضمن لقدر من الاشتراك، فضلاً عما أدخل عليه من الاشتراك؛ ولهذا فإن من نفى صفات الله سبحانه وتعالى من المعتزلة ونحوهم يجعلون الحجة في نفيهم: أن هذا الإثبات يستلزم التشبيه. فيقول المصنف: إن كلمة التشبيه من هذا الوجه كلمة مجملة متضمنة لغير معناه، فإن التشبيه إذا ما فسر بالاشتراك في الاسم فهذا وجه، وإذا فسر التشبيه بالاشتراك في المسمى الكلي الذهني فهذا وجه آخر، وإذا فسر التشبيه بالاشتراك فيما هو من الخصائص فهذا وجه ثالث، فإن المصطلح والمخالف لطائفة قد يسمي هذا تشبيهاً، أو هذا تشبيهاً، أو هذا تشبيهاً.

ولذلك يقول: إن المعتزلة عندما جعلت الاشتراك في المسمى الكلي تشبيهاً، وذهبت تتأول الصفات، لأن هذا من التشبيه الذي نفاه القرآن، قال: فإن هذا يمكن أن يتسلسل عليهم في سائر الموارد، بمعنى: أنه يتسلسل في موارده الثلاثة: في باب الاسم واللفظ، أو في باب المسمى الكلي الذهني، أو فيما هو من الخصائص.

وإن كان يعلم بالضرورة أن المصنف إذا ما ورد عليه ما يتعلق بالوجه الثالث -وهو الاشتراك فيما هو من الخصائص- فإنه لا شك ينفي التشبيه بهذا المعنى؛ فإنه لا هو ولا غيره من أهل السنة؛ بل ولا من جماهير المسلمين؛ بل لا يوجد أن أحداً من المسلمين يلتزم بمسألة الخصائص التزاماً مطلقاً؛ أي: يقول بأن المخلوق تتحقق له صفات الكمال المطلق اللائقة بالخالق، أو يقول بأن الخالق تتحقق له صفات النقص اللائقة بالمخلوق، أي: أن تكون الصفة المضافة إلى الخالق هي من حيث الماهية والحقيقة بمعنى الصفة المضافة للمخلوق، فلا يفرق بين ما أضيف إلى الله سبحانه وتعالى، وبين ما أضيف إلى المخلوقين، بل يقول: إن عين صفة الخالق من حيث المعاني المختصة الإضافية هي عين صفة المخلوق، فيجعل صفة الله كصفة خلقه؛ وهذا قدر من التشبيه، أو يقول بعكس ذلك، فيجعل صفات بعض المخلوقين كصفات الباري المطلقة بالكمال.

فهذا الوجه من التشبيه قد اتفق المسلمون على إبطاله، وإن كان بعض أهل القبلة -وهم من سموا بالمجسمة وغيرهم- قد عرض لهم مقام من هذا التشبيه، ودخلت عليهم مادة من هذا التشبيه، لكن الذي يقصد قوله: أنه لم ينضبط عن أحد من المسلمين أنه قال: إن الباري مثل المخلوق من كل وجه، أي: لم يجعل ثمة فرقاً بين الخالق والمخلوق، فإن من التزم بهذا القول على هذا التحقيق والجزم والكمال؛ فإنه لا يكون من أهل القبلة، وإن كان يقال: إن مادة من التشبيه الذي قد علم إبطاله بالإجماع قد دخلت على بعض أصحاب الطوائف كالمجسمة.

ثم إن المصنف لم يقصد منع تسمية ما يعلم نفيه -وهو ما لا يليق به سبحانه وتعالى من المعاني المشابهة أو المماثلة لصفات المخلوقين- لم يقصد منع تسمية هذا من باب التشبيه، فإنه ينفيه؛ بل ويسميه نقصاً، ويسميه أيضاً تشبيهاً. وقد سبق في تقريره لمذهب أهل السنة أن قال: إنهم يثبتون صفات الله من غير تشبيه ولا تمثيل.

إذاً: لا بد أن يفهم كلامه هنا أنه لا يقصد عدم القول بنفي التشبيه عن الله سبحانه وتعالى، وإنما يقول: إنه في باب الاحتجاج إذا ما كانت الحجة مبنية على هذا اللفظ الذي دخله كثير من الاشتراك من وجه آخر، فإنّ هذه الحجة لا تكون منضبطة على هذا التقدير؛ لأنه يلزم أن تكون مطردة في سائر مواردها الثلاثة، فإذا ما جوز واحد منها، فقد ينازع المنازع في تجويز غيره، وإذا ما نفي واحد منها، فقد ينازع المنازع في نفي غيره.

فهذا وجه من كلام المصنف: أنه يقول: إن التشبيه هنا يراد به الشبيه في الاسم، أو في المسمى الذهني، أو في المعنى الإضافي المختص، فهنا قال: إن نفي التشبيه لا يفيد في مقام الاحتجاج؛ لأنه إن جُوز وجه واحد من هذا التشبيه؛ فإن المنازع قد يحتج على جواز غيره، وإذا نفي واحد منها، فإن المنازع قد يحتج على نفي غيره، ومن المعلوم شرعاً وعقلاً أن نفي واحدٍ من هذه الأوجه عند التحقيق لا يلزم منه النفي للآخر، كما أن إثبات واحد منها لا يستلزم شرعاً وعقلاً إثبات الآخر؛ فإن من قال: إن الاشتراك في الاسم المطلق تشبيه، وجوز ذلك، وصححه؛ لم يلزم منه أن يجوز غيره، وإن كان ينازَع في تسمية هذا تشبيهاً؛ بل يقال: إن هذا ليس من باب التشبيه، لكن تصحيح المعنى هنا لم يستلزم تصحيح المعنى الثاني.

ولذلك لو قال: إذاً أجوز غيره من الأوجه ولا أسميها تشبيهاً، قيل: هذا لا يصح، فإن جواز واحد منها -وهو الاشتراك في الاسم المطلق- لا يستلزم أن يجوز الثالث، وهو الاشتراك في الخصائص، أو يقال: الاشتراك في المسمى الذهني لا يستلزم الاشتراك في الخصائص، كما تقدم أن الاشتراك في الاسم المطلق لا يستلزم التطابق في الحقيقة عند الإضافة والتخصيص.

إذاً: هذا هو معنى كلام المصنف رحمه الله، فإنه عندما قال هذا الكلام، لم يقصد به أن ما لا يليق بالباري سبحانه وتعالى يمنع أن يسمى تشبيهاً؛ بل ما ينفى عنه سبحانه وتعالى لك أن تقول: إن الله منزه عن هذا؛ لأنه نقص وعيب وتشبيه بما لا يليق بالله من خصائص المخلوقين. كما أنه ليس معنى كلام المصنف أن ما يكون ثابتاً في نفس الأمر يجوز أن يسمى تشبيهاً بإطلاق، والثابت في نفس الأمر عند أهل السنة هو الاشتراك في الاسم المطلق، فالمصنف لا يقول: إن هذا يسمى تشيبهاً بإطلاق، فهو لم يقصد نفي الأول، ولا إثبات الثاني، وإنما مقصوده ما تقدم، ولعله قد تحقق مراده هنا.

وقد غلط بعض المعلقين على هذه الرسالة، فعلق على كلام المصنف بما لا يصح ولا يجوز أن ينسب إليه أو إلى أمثاله.

صحة الاعتماد في نفي ما ينفى على التنزيه عن النقص والعيب

ولذلك قال المصنف بعد ذلك: (بخلاف الاعتماد على نفي النقص والعيب)، فإن من بنى حجته على أن الله سبحانه وتعالى منزه عن النقص والعيب؛ كان هذا أحكم، ووجه كونه أحكم: لأن ما هو نقص أو عيب لا يمكن أن يكون مشتركاً، فبعضه ثابت، والبعض الآخر غير ثابت؛ بل إن هذا الاسم معناه مطرد في النفي على التحقيق، ولهذا لا يسوغ بحال أن يسمى ما يكون ثابتاً في نفس الأمر نقصاً، بخلاف الأول.

وقد يقول قائل: إن الاشتراك في الاسم المطلق تشابه في الاسم المطلق. فإذا قال قائل هذا فإنه قد بنى نفيه على اسم التشبيه، فيكون هذا اللفظ ليس محكماً من هذا الوجه، بخلاف الاشتراك في الاسم المطلق، فلا يحق لأحد لا من جهة اللغة ولا من جهة الاصطلاح أن يقول: إن الاشتراك في الاسم المطلق هو نقص، فإن هذا يكون ممتنعاً من جهة العقل، ومن جهة الأسماء والمصطلحات.

إذاً: لفظ النقص أحكم في النفي، ولا شك أن كل ما نفي عن الله سبحانه وتعالى يلزم أن يكون نقصاً، أو يسمى كذلك، ومن هنا كان التعليق في مناط الحجة على هذا الاسم أحكم من جهة اللفظ، وأحكم من جهة المعنى.

صحة الاعتماد في نفي ما ينفى على نفي المماثلة في صفات الكمال

قال المصنف رحمه الله: [وكذلك إذا أُثبت له صفات الكمال، ونٌفي مماثلة غيره له فيها، فإن هذا نفي المماثلة فيما هو مستحق له، وهذا حقيقة التوحيد، وهو أن لا يشركه شيء من الأشياء فيما هو من خصائصه، وكل صفة من صفات الكمال فهو متصف بها على وجه لا يماثله فيه أحد، ولهذا كان مذهب سلف الأمة وأئمتها إثبات ما وصف به نفسه من الصفات، ونفي مماثلته لشيء من المخلوقات].

يقول المصنف: إن من الطرق الصحيحة أيضاً: الاعتماد في تقرير مسألة النفي على نفي المماثلة، وهذا بين من جهة العقل، ومن جهة الشرع في مثل قوله تعالى: فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ [النحل:74] وقول الله تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11].

قول النفاة: أن الشيء إذا شابه غيره من وجه جاز عليه ما يجوز عليه من ذلك الوجه

قال المصنف رحمه الله: [فإن قيل: إن الشيء إذا شابه غيره من وجه، جاز عليه ما يجوز عليه من ذلك الوجه، ووجب له ما وجب له، وامتنع عليه ما امتنع عليه].

لا يقصد المصنف في هذا المقام من تقريره إلى دفع جهة من جهات الغلط، وهذا من شرف فقهه، وإن كانت حالاً لا يصل إليها إلا أصحاب التحقيق، فإن الذي يسع الكثير من المناظرين والمجادلين في المسائل أنه ربما استطاع أن ينفي جهة من جهات الإشكال على قوله, لكن إذا حقق نفي هذه الجهة من جهات الإشكال، فإنه لا يتفطن أنه أغلق جهة، لكن هذا الطريق من الإغلاق قد يستعمل عليه في جهة مقابلة، بمعنى: أنه يعلم أن مذهب أهل السنة والجماعة وسط بين أهل التعطيل وأهل التشبيه.

فمثلاً: من قال: إن الله ليس بجسم، وأطلق، لم يكن إطلاقه محكماً؛ لأن هذا لفظ مجمل حادث، ومن قال: إن الله جسم -تعالى الله عن هذه الإطلاقات- أيضاً لم يكن إطلاقه محكماً، لا في الإثبات ولا في النفي.

فالمقصود: أن المصنف أراد التحقيق في رده على من خالف من أهل النفي والتأويل, أو من أهل التجسيم والتمثيل والتشبيه، فإنه إذا تكلم بالكلام الأول، فلا بد أن يكون له قدر من الالتزام به، حتى لا يرد عليه من طائفة أخرى فيكون متناقضاً.

بمعنى: أنه إذا تكلم مع أهل التأويل تكلم بوجه, وإذا تكلم مع أهل التجسيم لم يتكلم بوجه يناقض الحجة الأولى؛ بل أراد أن تكون حجته مطردة، بمعنى: أنه قال: إن الاعتماد على نفي التشبيه المفسر بالنقص والعيب والمماثلة اعتماد صحيح، فإنه نفى التشبيه عن الله، والمقصود بالتشبيه هنا: ما ثبت في نفس الأمر وفي الحقائق العقلية والشرعية أنه نقص, ولهذا فإن أهل السنة نطقوا بنفي التشبيه، والمصنف نفسه نطق بنفي التشبيه، فهو لا يريد هنا رفع هذا الاسم مطلقاً، ولكنه يقول: إنه لفظ مشترك، فإذا ذكرت الحجج فإما أن يفصل هذا الاسم، وإما -عند الإطلاق- أن يذكر اسم لا لبس فيه ولا اشتباه ولا اشتراك.

فالخلاصة: أنه يريد أن يقول: في مقام الاحتجاج إما أن يذكر الاسم المشترك مفسراً، وإما أن يستعمل غيره من الأسماء التي ليس فيها مادة من الاشتراك والاشتباه.

فيقول المصنف: (فإن قيل: إن الشيء إذا شابه غيره من وجه...) أي: إذا قيل: إن مجرد الاعتماد على نفي التشبيه لا يكون محكماً؛ لأن هذا اللفظ فيه اشتراك، وهو أحد أوجه ثلاثة في استعمال المستعملين واصطلاح المصطلحين، فمعنى ذلك: أن منه ما هو يكون جائزاً؛ لأن الأوجه الثلاثة لو كانت كلها ممنوعة لكان اللفظ مفصلاً أو مشتركاً، أي: مفصلاً من جهة الحكم، وإن كان مشتركاً من جهة تعدد المراد به، لكن الإشكال ليس في تعدد المراد فحسب؛ بل الإشكال في تعدد المراد واختلاف الحكم، فإن المعنى الأول -وهو الاشتراك في الاسم- له حكم يختلف عن المعنى الثالث، وهو الاشتراك في الإضافة والتخصيص، فتعدد المعنى واختلف الحكم.

فيقول المصنف: لو اعترض معترض فقال: ما دام أنه تعدد المعنى واختلف الحكم؛ فقد صار أحد معانيه جائزاً، فإننا نسلم أن المعنى الأول جائز، وقد نطق به القرآن، فإن الله سبحانه وتعالى قد سمى نفسه سميعاً بصيراً، ووصف عبده بأنه سميع بصير، وسمى نفسه بالملك، وسمى بعض عباده بالملك، وما إلى ذلك.

وإن سلمنا أن الأول ثابت وصحيح، وهذا مطرد في الأسماء واللغات، فإننا لا نسلم أن هذا من باب أن يسمى تشبيهاً؛ لأن هذا اللفظ -وهو لفظ التشبيه- إذا أطلق تبادر منه قدر مشترك من النقص, ولذلك وجب نفيه في موارد الإطلاق، وإن كان لا يصلح حجة في موارد النفي.

الجواب عن هذا الاعتراض

قال المصنف رحمه الله: [قيل: هب أن الأمر كذلك، ولكن إذا كان ذلك القدر المشترك لا يستلزم إثبات ما يمتنع على الرب سبحانه وتعالى، ولا نفي ما يستحقه، لم يكن ممتنعاً؛ كما إذا قيل: إنه موجود حي عليم سميع بصير، وقد سمى بعض المخلوقات حياً عليماً سميعاً بصيراً، فإذا قيل: يلزم أن يجوز عليه ما يجوز على ذلك من جهة كونه موجوداً حياً عليماً سميعاً بصيراً.

قيل: لازم هذا القدر المشترك ليس ممتنعاً على الرب تعالى؛ فإن ذلك لا يقتضي حدوثاً، ولا إمكاناً، ولا نقصاً، ولا شيئاً مما ينافي صفات الربوبية].

فقول المعترض: إن الشيء إذا شابه غيره من وجه -أي: اشترك معه من وجه- جاز عليه ما يجوز عليه من ذلك الوجه. يقال له: هذا التلازم فيه إجمال، فإن قصد بالجواز الجواز الاسمي، فهذا الاسم ليس ممنوعاً، لكن الجواز الاسمي لا حقيقة له -حتى في مقام الأسماء- إلا مضافاً مختصاً، بمعنى: أن الجواز الاسمي لا حقيقة له في الأسماء إلا مضافاً مختصاً، فمثلاً: إذا قيل: السمع، فإنه إذا أطلق كان هذا لفظاً مطلقاً، بخلاف إذا ما أضيف فقيل: سمعه سبحانه وتعالى لكلام خلقه، أو قيل: سمع زيد لكلام عمرو، فإن الاسم هنا وقع مختصاً، ووقوعه مختصاً يقطع التماثل الاسمي من كل وجه، حتى في السياق والكلمات، فإنه لا يوجد في الخارج تطابق مطلق عند الإضافة والتخصيص؛ بل إن الاسم إذا أضيف كان المعنى مختصاً عند الإضافة والتخصيص، وإنما الاشتراك في الاسم المطلق ليس اسماً إضافياً، ولذلك سمي مطلقاً.

فالمقصود: أن المصنف يقول عن قولهم: إن الشيء إذا شابه غيره من وجه جاز عليه ما يجوز عليه: ماذا تقصدون بالجواز؟ فإن قصدتم الجواز الاسمي، قيل: هذا يقع، لكنه لا يوجد في الأسماء إلا مضافاً أو مختصاً, وأما إذا أطلق فإنه يمتنع أن يكون معيناً بالخالق سبحانه وتعالى، أو بمخلوق معين من المخلوقات.

وكذلك إذا ما قصدوا بالاشتراك الجائز هنا ما يتعلق بالمسمى الكلي، فإن هذا مقام آخر، أو قصدوا بالجواز ما يتعلق بالمسمى الإضافي المختص، فإن هذا مقام آخر، فالمقصود: أن قولهم: إن الشيء إذا شابه غيره جاز عليه ما يجوز عليه، يقال لهم: ما المقصود بهذا التشابه؟ وما المقصود بهذا الجواز؟ فإذا فسَّروا التشابه والجواز بما هو من الحقائق الصادقة؛ صدقت هذه الحقائق، وإن كان ينازع في تسمية هذا تشبيهاً.

القدر المشترك لا يستلزم التشبيه والتمثيل

قال المصنف رحمه الله: [وذلك أن القدر المشترك هو مسمى الوجود أو الموجود، أو الحياة أو الحي، أو العلم أو العليم، أو السمع والبصر، أو السميع والبصير، أو القدرة أو القدير].

القدر المشترك: هو الاسم المطلق، والمسمى الكلي الذهني, وهذا من باب تحصيل المناظرات، وإلا فإنك لو ابتدأت الكلام لم تحتج إلى تقرير هذا المعتقد، وقد نبهت عليه فيما سبق، ومما يؤكد هذا: أن شيخ الإسلام ابن تيمية لا يستعمل هذه الطريقة في باب تقرير المعتقد لآحاد المسلمين، وإنما في بيان الحقائق العلمية، حتى لا يعترض المخالف على الحقائق الشرعية بحجج يظنها إما شرعية وإما عقلية؛ بل يقول: إن ما يتكلمون به من الحجج فإنها حجج مجملة.

ومن القواعد التي يستعملها المصنف أنه يقول: إن المخالفين لأهل السنة والجماعة إما أن يتكلموا بحجة باطلة في نفس الأمر، أي: باطلة من أصلها, وإما أن يتكلموا بحجة صحيحة، فما كان من الحجج صحيحاً فإنه غير مفصل فيما عينوه من المعاني؛ بل يكون حجة مجملة قد دلّت على نفي معنى ليس هو المعنى الذي يعينونه بالنفي؛ كاستدلالهم بقوله تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11] فهذه حجة صحيحة، لكنها تدل على معنى قد أجمع المسلمون على نفيه، وأما أن هذه الحجة تدل على أن الله سبحانه وتعالى لا يوصف بالصفات، أو لا تقوم به الصفات، فإن هذا استدلال غلط، وموجب الغلط: أن هذه الحجة فيها إجمال، فإن قدراً من معناها يعلم بالضرورة عند سائر المسلمين الإحاطة به في تقرير كمال الرب سبحانه وتعالى.

قال رحمه الله: [والقدر المشترك مطلق كلي لا يختص بأحدهما دون الآخر، فلم يقع بينهما اشتراك لا فيما يختص بالممكن المحدث، ولا فيما يختص بالواجب القديم، فإن ما يختص به أحدهما يمتنع اشتراكهما فيه].

أي: أنه لم يقع اشتراك حتى يقال بنفيه، أو يقال: إن من أثبته يكون مجسماً مشبهاً، فإن هذا القول إنما يكون فرعاً عن الأمور الإضافية، فلما لم يقع اختصاص وإضافة؛ امتنع أن يقال: إن هذا يجب نفيه، بمعنى أن من أثبته كان مجسماً، فإن التشبيه بمعين آخر لا يقع إلا في مقام الإضافة والتخصيص، وليس في مقام الإطلاق، فليس هناك تعيين لواحد بصفة يكون الآخر مماثلاً له فيها، أو ما إلى ذلك.

قال رحمه الله: [فإذا كان القدر المشترك الذي اشتركا فيه صفة كمال؛ كالوجود، والحياة، والعلم، والقدرة، ولم يكن في ذلك ما يدل على شيء من خصائص المخلوقين، كما لا يدل على شيء من خصائص الخالق؛ لم يكن في إثبات هذا محذور أصلاً؛ بل إثبات هذا من لوازم الوجود، فكل موجودين لابد بينهما من مثل هذا، ومن نفى هذا لزمه تعطيل وجود كل موجود].

قوله: (لم يكن في إثبات هذا محذورٌ أصلاً):

فإن من يسمي هذا تشبيهاً، فإن هذه حجة داحضة؛ لأنه لا يمكن أن ترفع الحقائق الشرعية العقلية باسم مشترك؛ بل للمنازع أن ينازع فيقول: إن لفظ التشبيه -وهذا من باب التسلسل في المناظرات- لم يرد ذكر نفيه في الكتاب ولا في السنة. فإن قيل: إن المسلمين درجوا على أن الله منزه عن مشابهة خلقه. قيل: ما درج عليه المسلمون هو قدر مما يقوم في عقولهم وفطرهم ومحكم الشرائع، فإذا تكلم به المسلمون على هذا الوجه فقد صدقوا في كلامهم، وهو أن الله منزه عن مشابهة خلقه.

إذاً: فأهل العلم بل وعامة المسلمين درجوا على أنه يقال: إن الله سبحانه وتعالى منزه عن مشابهة خلقه, فإذا ما حكيت هذه الجملة على قدر من الحقائق البينة المنضبطة عند عامة أهل الإسلام من أهل السنة أو غيرهم، فإن هذا الإطلاق على مثل هذا المورد من السياق وعلى مثل هذا المورد من المعنى يكون مناسباً، لكن إذا تكلم قوم بالتأويل، وبقدر من الاصطلاح، فإنهم ينازعون ويناظرون بحسب ما يسلمون به من تعدد مادة الاصطلاح.

اعتماد الجهمية على نفي التشبيه هو عين التعطيل

قال المصنف رحمه الله: [ولهذا لما اطلع الأئمة على أن هذا حقيقة قول الجهمية، سموهم معطلة، وكان جهم ينكر أن يسمى الله شيئاً، وربما قال الجهمية: هو شيء لا كالأشياء، فإذا نفى القدر المشترك مطلقاً لزم التعطيل التام].

حينما يقول المصنف: إنه لا يعتمد في النفي على مجرد نفي التشبيه، فإن المقصود: أن مجرد الاعتماد على نفي التشبيه في المناظرات فيه تضييق لتحصيل الحقائق ودفع الشبه؛ بل يعتمد في المناظرات أو التقريرات على نفي التشبيه ونفي النقص والعيب، فإذا ذكر مقترناً معه مفسراً له؛ كان اللفظ هنا منفكاً عن الإشكال والاشتباه. ولذلك يقول: إن السلف سموا الجهمية معطلة، مع أن الجهمية وأمثالهم يجعلون قولهم نفياً للتشبيه.

وقد يقول قائل: وأيضاً فإن المعتزلة الجهمية وأمثالهم يجعلون قولهم نفياً للنقص، فهل يلزم من ذلك أنه يفصل في مسألة النقص كما فصل المصنف في مسألة التشبيه؟

والجواب: لا يلزم ذلك؛ لأنه مع أن الجهمية يجعلون قولهم نفياً للتشبيه ونفياً للنقص، لكنهم حين يقولون: إن إثبات الصفات من باب النقص، فإن منع ذلك يكون منعاً بدهياً من جهة الأسماء ومن جهة المعاني: أن هذا ليس نقصاً لا في الاسم ولا في المعنى، لكن إذا قالوا: إن الإثبات يكون من باب التشبيه، فإنه قد يشكل على مخالفيهم؛ لأن الاشتراك في الاسم وجه من أوجه التشبيه في الاصطلاح، ولا يوجد في الاصطلاح أن الاشتراك في الاسم وجه من أوجه النقص، فإن هذا ليس اصطلاحاً، ولا حكماً عقلياً مطرداً؛ لا حكماً عقلياً نظرياً اصطلاحياً، ولا حكماً عقلياً بسيطاً مضبوطاً بكليات العقول أو ما إلى ذلك.

حكم إطلاق وصف (شيء) على الله تعالى

وقوله: [وكان جهم ينكر أن يسمى الله شيئاً، وربما قالت الجهمية: هو شيء لا كالأشياء، فإذا نفي القدر المشترك مطلقاً لزم التعطيل التام].

الإنكار الذي روي ونقل عن الجهم هو قدر من التعطيل الذي كان عليه، لكن من المعلوم أن وجوده سبحانه وتعالى، وقيامه بنفسه أمر معلوم عند سائر أهل القبلة؛ بل وعامة بني آدم, وهذا أصل معنى ربوبيته سبحانه وتعالى.

لكن التعبير عنه سبحانه وتعالى بأنه (شيء) ليس من التعبير الفاضل؛ لأنه لو قيل -ولله المثل الأعلى- عن بني آدم: إن هذا شيء، كان هذا تعبيراً قاصراً؛ لأن هذا الوصف وصف كلي تشترك فيه جميع الأشياء، بخلاف إذا ما قيل: إنه رب العالمين سبحانه وتعالى، وإنه العلي الأعلى، وإنه الأول والأخر والظاهر والباطن؛ فإن هذه هي الأسماء التي سمى الله سبحانه وتعالى بها نفسه.

وحينما يقال: إن هذا الاسم ليس فاضلاً، ليس معناه أن ثمة تردداً في معناه المراد به على الوجه الصحيح، وإنما المقصود أنه حتى المعاني اللائقة به سبحانه وتعالى، فإنه يخبر بها فيما يتعلق به سبحانه وتعالى بالأسماء الشرعية، أو الأسماء التي تصححها الشريعة تصحيحاً مطلقاً وتمتدحها، وهي ما قد يسميه أهل العلم: بباب الإخبار عن الله تعالى.

ثبوت الملزوم يقتضي ثبوت اللازم

قال المصنف رحمه الله: [والمعاني التي يوصف بها الرب سبحانه وتعالى، كالحياة والعلم والقدرة؛ بل الوجود والثبوت والحقيقة، ونحو ذلك، تجب له لوازمها، فإن ثبوت الملزوم يقتضي ثبوت اللازم, وخصائص المخلوق التي يجب تنزيه الرب عنها ليست من لوازم ذلك أصلاً].

لو تسلسل بحثهم, وقال أهل التأويل: إن الاشتراك في المسمى الكلي الذهني يلزم عليه إثبات اللوازم، فإن كل شيء من الحقائق يكون له لوازم، ومعلوم أن ثبوت هذا يكون موجباً لثبوت هذا، فيلزمكم أن تثبتوا اللوازم من المعنى الكلي. فيقال: إن اللوازم من المعنى الكلي تكون حقاً، فإن ما كان حقاً يلزمه حق، لكن لا يمكن أن يقال: إن هذا معنىً كلي، وإن لازمه من باب الخصائص والإضافات, فإن هذا تناقض؛ لأنه إذا كان الملزوم كلياً؛ لزم أن يكون اللازم كلياً، إذا كان الملزوم ليس مختصاً إضافياً؛ لزم أن يكون اللازم كذلك, فإنه تبع له، وعليه فلا يكون هناك إشكال.

فمن قال: إن من لازم المسمى الكلي ما هو من النقص المختص بالمخلوقين أو ما إلى ذلك، قيل: هذا ليس بلازم للمعنى الكلي، إنما هو لازم للمسمى الإضافي، والمسمى الإضافي ليس مثبتاً عند أهل السنة والجماعة.

قال رحمه الله: [بل تلك من لوازم ما يختص بالمخلوق، من وجود وحياة وعلم ونحو ذلك، والله سبحانه وتعالى منزه عن خصائص المخلوق وملزومات خصائصه].

وهذا مما يعترض به بعض النظار من أهل التأويل، فيقولون: إن المسمى الكلي يلزم له لوازم -كقاعدة- فإثباته يستلزم إثبات لوازمه، ثم إذا قيل لهم: ما هي لوازمه؟ فسروا اللوازم بما هو من مقام الخصائص والإضافة، فيقال: هذا غلط من جهة العقل نفسه، فإن ما كان كلياً؛ لزم أن يكون لازمه كلياً، وما كان مختصاً؛ لزم أن يكون لازمه مختصاً.

غلط المتكلمين في مسألة اللازم والملزوم

قال المصنف رحمه الله: [وهذا الموضع من فهمه فهماً جيداً وتدبره، زالت عنه عامة الشبهات، وانكشف له غلط كثير من الأذكياء في هذا المقام].

قوله: (زالت عنه عامة الشبهات)؛ لأن هذه القاعدة -وهي أن الاشتراك في الاسم المطلق لا يستلزم التماثل في الحقيقة عند الإضافة والتخصيص بين المخلوقات- قاعدة عقلية ضرورية الثبوت، فإذا كان ذلك بين المخلوقات، فبين الخالق والمخلوق من باب أولى؛ بل إن الأمر بين الخالق والمخلوق يكون ممتنعاً.

فما دام أن هذه قاعدة ثابتة في الشريعة، وثابتة في العقل الكلي المجرد، المبني على الحقائق الكلية المجردة الضرورية، وعلى الاطراد الحسي والدليل العقلي، فلماذا اشتبه الأمر على عامة الأذكياء من النظار والمتكلمين؟

الجواب: إن الذي دخل على عامة الأذكياء من النظار هو في مسألة التلازم، فإنهم في أول مقام يستشكلون مسألة الاسم، ثم ورد عليهم المقام الثاني وهو مسألة المسمى الكلي، فاقتضى مقام النظر الأول أنهم لا يستشكلونه، ولكن دخل عليهم وهمٌ من هنا، وهو أنهم قطعوا -وقطعهم صحيح من حيث الأصل- بأن ثبوت المعنى الكلي يستلزم إثبات لوازمه، وهذا المعنى من حيث الإطلاق يسلم به، كضرورة عقلية؛ أن ثبوت الملزوم يقتضي ثبوت اللازم.

فلما وصلوا إلى هذا المقام من الحكم العقلي الضروري، أخطئوا في تفسيره، فذهبوا لا يعينون اللوازم إلا بالخصائص، فكأن المصنف يقول هنا: إنهم ظنوا أن اللوازم لا تكون إلا مختصة، فلم يفرقوا بين لازم كلي ولازم مختص؛ بل جعلوا اللوازم في موردها الأول وموردها الثاني لا تكون إلا مختصة، ومن هنا نفوا المعنى الكلي من جهة لازمه؛ لأنه لزم عندهم تحته لازم مختص ينزه الله عنه. وإن كان كلامهم صحيحاً، وهو أن هذا اللازم المختص ينفى عن الله؛ لكن نفيه لا يوجب نفي الملزوم الكلي؛ لأن هذا اللازم المختص إنما هو تبع للملزوم المختص، وليس للملزوم الكلي.

إذاً: هذا المورد الذي يشير المصنف إليه في قوله: (وهذا الموضع من فهمه فهماً جيداً)، وهو مسألة اللزوم، هو مكان الإشكال، فإنهم رتبوا على المعنى الكلي لازماً كضرورة عقلية، أو أن الملزوم يقتضي لازماً بحكم العقل، وهذا صحيح كقاعدة عقلية، ولكنهم لم يفهموا اللوازم إلا مختصة معينة، فلما جعلوا اللوازم مختصة إضافية معينة على المعنى الكلي؛ لزم من ذلك عندهم النفي للمعنى الكلي، وهذا هو وجه الغلط.

والقاعدة العقلية تقول: إن اللازم تابع للملزوم، فإذا كان الملزوم كلياً لزم أن يكون اللازم كلياً، وإذا كان مختصاً لزم أن يكون مختصاً.

معنى القدر المشترك بين الأشياء

قال المصنف رحمه الله: [وقد بسط هذا في مواضع كثيرة، وبين فيها أن القدر المشترك الكلي لا يوجد في الخارج إلا معيناً مقيداً، وأن معنى اشتراك الموجودات في أمر من الأمور هو تشابهها من ذلك الوجه، وأن ذلك المعنى العام يطلق على هذا وهذا، لا أن الموجودات في الخارج يشارك أحدها الآخر في شيء موجود فيه، بل كل موجود متميز عن غيره بذاته وصفاته وأفعاله].

قوله: (لا أن الموجودات في الخارج يشارك أحدها الآخر في شيء موجود فيه):

أي: في معنىً إضافي مختص، فإن قيل: هل المعنى الكلي هو الذي يقال، ويفرق بينه وبين المعنى الإضافي؟ قيل: المعنى الكلي لا وجود له في الخارج، ولهذا لو قالوا: هل المعنى الكلي لائق بالله أم لائق بالمخلوق؟ قيل: إيراد هذا السؤال بهذه الصورة لا يكون محكماً من جهة العقليات؛ لأنه حينما يقال: إما أن يكون لائقاً بالله، وإما أن يكون لائقاً بالمخلوق, فإن كان لائقاً بالله امتنع في حق المخلوق، وإن كان لائقاً بالمخلوق امتنع في حق الخالق, فيكون هذا من باب التشبيه.

فيقال إذاً: إن هذا من باب الفروضات الذهنية، فإذا دخلنا في مسائل الإضافات، امتنع الإطلاق الكلي في الذهن، فإذا قيل: هذا المعنى هل هو لائق بالله أم بالمخلوق؟ قيل: هو معنى كلي.

وأما المعنى المختص بالخالق فلا شك أنه يختلف عن المعنى المختص بالمخلوق، وأما المعنى الكلي فإنه ليس مضافاً إلى الخالق بحيث يختص به ويكون ممنوعاً على مخلوقه، وليس مختصاً بالمخلوق فيكون مختصاً به ولا يليق بالله؛ بل هو معنى كلي مشترك.

عدم فهم هذا المعنى يوقع في الغلط والتناقض

قال المصنف رحمه الله: [ولما كان الأمر كذلك، كان كثير من الناس يتناقض في هذا المقام، فتارةً يظن أن إثبات القدر المشترك يوجب التشبيه الباطل، فيجعل ذلك له حجة فيما يظن نفيه من الصفات، حذراً من ملزومات التشبيه، وتارة يتفطن أنه لا بد من إثبات هذا على كل تقدير، فيجيب به فيما يثبته من الصفات لمن احتج به من النفاة].

وهذا هو مقام الاضطراب بين هؤلاء وهؤلاء.

أمثلة على تناقض النفاة واضطرابهم

المثال الأول: وجود الرب هل هو عين ماهيته أو زائد على ماهيته؟

قال رحمه الله: [ولكثرة الاشتباه في هذا المقام وقعت الشبهة في أن وجود الرب هل هو عين ماهيته، أو زائد على ماهيته؟]

ولا شك أن هذه الجمل وهذه السؤالات لم يبتدئها أئمة السنة، فإذا قيل: كيف تقرر هذه الجمل في الاعتقاد؟ قيل: هذا ليس من باب التقرير الأول، فإن هذه الجمل -كمسألة الذات، والماهية، وهل هي زائدة أو ليست زائدة- هذه السؤالات لم تكن واردة في الأصل؛ لأن الحقائق السابقة المرادة هنا حقائق بينة، قائمة في الفطر، وقائمة في العقول, وإذا عبر عنها أمكن أن يعبر بألفاظ مختلفة.

فالقول بأنه سبحانه وتعالى هو رب العالمين، الموصوف بصفات الكمال، هذه كلمات محكمة، بخلاف هذه الكلمات التي يعبر بها من يعبر بها من المتكلمين.

ومسألة الزيادة على الذات أو عدم الزيادة على الذات، لا شك أنه استدعاء استدعاه المتكلمون، ولكن لما كثر استدعاؤه عندهم، وكان موجباً لغلطهم إما بالإفراط أو بالتفريط؛ كان لا بد من دفع هذا الغلط، وبيان الحق لهم ولغيرهم من المسلمين الذين قد يكون عندهم شيء من التأثر بهم.

المثال الثاني: هل لفظ الوجود مقول بالاشتراك اللفظي أو بالتواطؤ أو بالتشكيك؟

قال رحمه الله: [وهل لفظ الوجود مقول بالاشتراك اللفظي، أو بالتواطؤ، أو التشكيك؟]

الاشتراك اللفظي: هو أن يكون الاشتراك في الاسم اللفظي وحده، دون أن يكون هناك قدر من المعنى المشترك، وأما التشكيك -بمعنى أنه يشكك السامع له- فإنه يدخل في التواطؤ على التحقيق، وإن كان بعض المصطلحين يجعله ثالثاً، فهذا باب من الاصطلاح ليس إلا.

والفرق بين التواطؤ وبين التشكيك: أن التواطؤ يكون المعنى المشترك نسبته واحدة؛ بخلاف التشكيك؛ فإن النسبة تكون متفاضلة، فإذا كانت النسبة متفاضلة، سماه المصطلحون من باب التشكيك، وإذا كانت النسبة واحدة سموه متواطئاً, وإذا كانت النسبة ليست موجودةً سموه: مشتركاً لفظياً.

وهذا كله اصطلاح, ولك أن تقول: إنه كلام لا معنى له؛ لأن هذه الأشياء أصلاً هي موجودة في أذهان الناس، ولا تحتاج أن يصطلح عليها بهذا الاصطلاح المدقق المعين، ولذلك يقول ابن تيمية عن المنطق: "إنه لا يحتاجه الذكي، ولا ينتفع به البليد"، وهذه الاصطلاحات كذلك، فإنه يمكن أن تسمى بجملة من الأسماء، فمسألة أن يقال: هذا تواطؤ وهذا تشكيك، هي مصطلحات، وليس معنى ذلك أن فقه باب الاعتقاد، أو فقه أسماء الشريعة، أو فقه أصول الفقه لا يكون إلا من هذه المشكاة، فإن هذا كلام لا معنى له، وهو كما قال ابن تيمية عن المنطق: " إنه لحم جمل غث على رأس جبل، لا سهل فيرتقى، ولا سمين فينتقل"، فلا يفهم فاهم، ولا يظن ظان أن فقه ما يتعلق بصفات الله، أو ما يتعلق بأسماء الشريعة وفقهها وفروعها لا يكون إلا من هذه المشكاة، وأن من لم يفقه حد المتواطئ وحد التشكيك وحد الترادف، والفرق بين المشكك وبين المتواطئ، وبين المشترك اللفظي وغير اللفظي، والجنس، والخاص، والفصل القريب، وما إلى ذلك من أسماء المنطق -أن من لم يفقه هذا لا يكون أصولياً يعرف أصول الشريعة، ويعرف قواعدها.

وهذا ليس معناه الإبطال لهذا الباب، لكن الإبطال لهذه الأسماء، وأن هذه الأسماء والحدود هي أسماء جائزة موجودة، لكن لا يلزم أن الحقائق لا تعرف إلا من مشكاتها وحدودها.

ولما بالغ وغلا من غلا في مسألة المنطق، ركبوا صعباً، ولم يحصلوا فقهاً صحيحاً, وهناك فرق بشكل بدهي بين المنطق وبين علم أصول الفقه، ولكن بعض الأصوليين يجعل للأصول مقدمة منطقية، أو يبني كثيراً من معانيه على المصطلح المنطقي.

ومن الذين بالغوا في علم المنطق مثلاً: أبو محمد ابن حزم ، فقد امتدح المنطق مدحاً صارماً؛ بل إنه يقول: "إن أرسطو كان نعمة من الله على خلقه لما وضع هذا المنطق ورتبه"، ويقول ابن حزم : "إننا نتقرب إلى الله بتقريب هذا المنطق إلى العامة"، وإذا قيل: إن المنطق هو الأسماء، فإن هذا حقيقة باطلة؛ لأن المنطق هو العقليات، فإذا جعل المنطق له اصطلاح، قيل: إن من الممكن منازعة شخص لا يتكلم العربية، والحقائق عندهم واحدة، ويكون موجب الاختلاف أوجه أخرى.

إذاً: هذا الاصطلاح هو اصطلاح داخل لغة واحدة، هذا إذا سلم أن المصطلحات مصطلحات عربية فصيحة، فلو كانت مصطلحات عربية فصيحة، لقلنا: إنه اصطلاح داخل لغة.

فالمنطق إذا ما فسر بالاصطلاح قيل: لكل أحد أن يصطلح بمصطلح، وإذا ما فسر المنطق بالحقائق، فإن الحقائق موجودة عند بني آدم، والوجه الذي قد يكون حسناً في المنطق -حتى يكون الكلام معتدلاً مقتصداً- هو أن بعض الطرق المنطقية تكون منظمة للجدول العقلي الذهني، فإذا ما فسر المنطق بأنه نوع من التنظيم فيما كان صحيحاً؛ فإن هذا كلام صحيح.

أما إذا فسر بأنه نوع من التأويل، فالحق أنه ليس تأويلاً؛ لأن الحقائق قائمة في نفوس الناس بأي اسم عبروا بها، وأما أنه نوع من التنظيم فهذا صحيح، ولذلك قال ابن تيمية : "لا يحتاجه الذكي"؛ لأن الذكي يستطيع أن ينظم بأكثر من طريقة، "ولا ينتفع به البليد"؛ لأن البليد به يعرف التعيين لكن لا يعرف التنظيم.

فمثلاً: إذا تلكم متكلم بنظام عقلي منطقي معين، فإن السامع يصدق هذا الكلام، ويعتبره من الأشياء البينة، لكن هل يستطيع أن ينظم هذا التعيين على هذا التقرير الذي قرره هذا المعين؟ الجواب: لا يلزم ذلك.

ولذلك يقول ابن تيمية : إن الأصل في بني آدم أنه تقوم في نفوسهم من المعارف والعلوم ما لا يستطيعون أن يعبروا عنه من جنس هذا التعبير، وهو التعبير المنطقي، ولذلك فإن المتفلسفة عندما صرفوا أنظار العالم حقيقةً ليس ذلك من باب أنهم يعينون حقائق؛ بل غلطهم في الحقائق أكثر من صوابهم، ولكن الذي جعل الكثير ينصرف إليهم، ويكون معجباً بهم، حتى عندما دخلت على المسلمين تأثر بها من تأثر، هو أن هؤلاء عندهم نوع من التنظيم للمعارف، سواء قيل: إنها صادقة، أو قيل: إنها غلط.

إذاً: هذا باب ينبغي أن يكون مقتصداً فيه، حتى لا يظن أو يفهم من هذا النقد للمنطق إهداره جملة؛ بل إن من يقرأ المنطق ليتعلم طرق التنظيم، وطرق التحصيل بمسائل الحجج وما إلى ذلك، فإن هذا وجه حسن، لكن من يقرأ المنطق، ويظن أنه يعين به الحقائق، أو أن الحقائق الشرعية والعلمية لا تعين إلا من مشكاته؛ فهذا غلط.

وهذا هو الوسط في علم المنطق بين من غلا في شأنه، وبين من حرمه وسفهه من كل وجه.

المثال الثالث: هل المعدوم شيء أم لا؟

قال المصنف رحمه الله: [كما وقع الاشتباه في إثبات الأحوال ونفيها، وفي أن المعدوم هل هو شيء أم لا؟ وفي وجود الموجودات هل هو زائد على ماهيتها أم لا؟]

هذه كلها سؤالات مجملة، والإشكال: أن هذه السؤالات المجملة المبنية على اصطلاح دخله الاشتراط، قد جعلها البعض هي المحصل، فإذا حصل جواباً عن هذا السؤال، ربما جعل هذا الجواب موجباً لحكمه على قاعدة ضرورية من قواعد العقل والفطرة، وربما خالف ما هو فطريٌ عقلي ضروري من باب التزامه لجوابه عن هذا السؤال أو ذاك.

فمثلاً: هل المعدوم شيء؟ نجد أنهم التزموا نتيجة لهذا الجواب الذي رتبوه بطريقة محصلة في علوم الفلسفة، وبعض من التزم بهذا الجواب التزم له لوازم غالية، ولذلك فإن ابن عربي بنى ما عرف في فلسفته بوحدة الوجود على مقدمات فلسفية؛ بل بناه في جملته على أحد هاتين المقدمتين.

وهل المعدوم شيء؟ هذه الكلمة إذا أطلقت على بسائط العقول فإنه يقال: إن المعدوم ليس بشيء؛ لأن بسائط العقول الآدمية إذا ذكر الشيء عندها قصد به ما كان موجوداً، وأما قول من يقول: إن الشيء قد يفسر بالممكن، فيقال: هذا التفسير صحيح، ولكن يبقى أن هذا الاسم لا يكون على إطلاقه إلا حيث اقترن به التفسير.

فالمقصود: أن هؤلاء ربما دخلوا على بعض هذه السؤالات فأجابوا عنها، والتزموا لهذا الجواب ما هو من اللوازم الغالية في البطلان، كبناء مسألة وحدة الوجود على مثل هذه المقدمات التي ليس لها شأن عند التحقيق؛ لا من جهة الحقائق العقلية، ولا من جهة الحقائق الشرعية من باب أولى.

تناقض النظار في هذه المقامات واضطرابهم

قال المصنف رحمه الله: [وقد كثر من أئمة النظار الاضطراب والتناقض في هذه المقامات، فتارةً يقول أحدهم القولين المتناقضين، ويحكي عن الناس مقالات ما قالوها، وتارة يبقى في الشك والتحير].

قوله: (فتارة يقول أحدهم القولين المتناقضين):

وهذا لا عجب منه؛ لأن هذه الجمل وهذه السؤالات يدخل عليها اشتراك كثير، ولا سيما أنها جمل وكلمات مركبة، أي: أنها ليست من بسائط الجمل الدارجة في لسان العرب؛ بل إما أن تكون ليست من لسانهم، وإما أن تكون قد دخلها ترتيب لا يستطاع به أن تفهم فهماً عربياً على بسائط لغة العرب، فإذا كانت كذلك فهو يغلب عليها الاشتراك في المعنى، كما حصل الاشتراك في لفظها، فتجد أن بعض النظار يتناقضون، فربما صحح المعنى ونفى الآخر، وفي مقام آخر يكون على عكس ذلك.

الصواب في الماهية والوجود

قال المصنف رحمه الله: [وقد بسطنا من الكلام في هذه المقامات، وما وقع من الاشتباه والغلط والحيرة فيها لأئمة الكلام والفلسفة ما لا تتسع له هذه الجمل المختصرة، وبينا أن الصواب هو أن وجود كل شيء في الخارج هو ماهيته الموجودة في الخارج].

قوله: (وبينا أن الصواب...) لك أن تقول: إن هذا قاله في مسألة الوجود، أما المسائل الأخرى فقاعدة المصنف فيها: أن الصواب هو الاستفصال. وهذا كقاعدة عقلية مطردة أو عامة: (ما كان مشتركاً فإن من حسن الجواب فيه هو الاستفصال)، وهذا هو أحكم من جهة، وأبسط من جهة، فإذا أتيت إلى كلمة مشتركة، أو جملة مشتركة تحتمل أكثر من معنى، واستعملت معها التفصيل؛ كان هذا التفصيل أحكم من جهة ربط المعاني، وأبسط من جهة تحصيل الحقائق للسامع أو للمخاطب، وهذه القاعدة هي ما درج عليها المصنف في مناظراته، وهذا هو الذي يحرج المخالف الإحراج العلمي، بمعنى: أنه يقطع إشكاله واعتراضه.

قال رحمه الله: [بخلاف الماهية التي في الذهن، فإنها مغايرة للموجود في الخارج].

وذلك حتى يفرق بينها وبين الماهية المختصة، ولذلك فإن المصنف يقول: إنما نفي عن الله ما كان مختصاً، بخلاف ما كان مطلقاً، فإن هذا قدر مطلق لا يضاف إلى الخالق ولا إلى المخلوق؛ بل هو كلي في الذهن، والذهن لا يعينه بمعين مختص.

قال رحمه الله: [وأن لفظ الوجود كلفظ الذات، والشيء، والماهية، والحقيقة، ونحو ذلك، وهذه الألفاظ كلها متواطئة، وإذا قيل: إنها مشككة لتفاضل معانيها، فالمشكك نوع من المتواطئ العام الذي يراعى فيه دلالة اللفظ على القدر المشترك، سواء كان المعنى متفاضلاً في موارده أو متماثلاً].

سبق أن التشكيك هو أن تكون النسبة متفاضلة، والمتواطئ في اصطلاحهم: هو أن تكون النسبة متماثلة، فإذا تماثلت النسبة سموه: تواطئاً، وإذا تفاضلت النسبة سموه: تشكيكاً، وبعضهم يقول: إن كل هذا يسمى متواطئاً.

تعقيد علم الكلام للبسائط العقلية

من الإشكالات في علم الكلام: أنه عقَّد البسائط العقلية، بمعنى: أنه أصبح الإدراك لبسيطة من البسائط العقلية يحتاج إلى سلسلة من التنظيمات العقلية والاصطلاحية وما إلى ذلك، وفي الأخير يكتشف أن النتيجة سهلة ويسيرة، فإذا أرادوا -مثلاً- أن يثبتوا أن زيداً موجود، دخلوا في مسألة طويلة، وقالوا: إن الإنسان حيوان، وتقوم به صفة الحيوان، وهو حيوان ناطق، ثم يفسرون هذا الكلام، وفي الأخير يخلصون إلى أن زيداً موجود لأنه حيوان, والحيوان متصل بالحياة، والحياة تقود إلى الوجود... وهكذا.

ونجد في المنطق أن الإنسان حيوان ناطق، مع أنه لو قيل: الإنسان، لعرف مباشرة؛ لأن الإنسان هو الذي يستوعب نفسه، فهذا التعريف -وهو أن الإنسان حيوان ناطق- هل اكتشف بعض الخصائص في الإنسان لم يصل إليها العلم؟ وهل فصل نظام الروح في الإنسان؟ وهل فسر كل حقيقة الحياة في الإنسان؟ وهل ذكر علاقة الروح بالجسد؟ وما إلى ذلك، فهل أفاد هذا التعريف هذه المعاني الدقيقة المعتاصة على إدراك الإنسان نفسه؟ الجواب: لا. بل لم يفد إلا أن الإنسان شيء يتكلم.

إذاً: فهم أحياناً يعقدون القضية، مع أنها من الواضحات.

وعلى كل حال: فإن كتب المنطق وكتب علم الكلام لا فائدة فيها في الجملة إلا -كما سبق- أنها نظمت معلومة، ولا سيما في علوم آلات المنطق، وقد تقوى بها بعض الناس على الفك والربط والجدل والمناظرة، وإن كان هذا غير داعٍ إلى قراءتها، لكن من اشتغل بها فإنه ربما استفاد هذا الوجه، فتجد مناظرة الماتريدية مثلاً للمعتزلة فيها مثل هذا الفوائد من هذا الوجه.

الأصل الذي بنى عليه ابن عربي قوله بوحدة الوجود

قال المصنف رحمه الله: [وبينا أن المعدوم شيء أيضاً في العلم والذهن، لا في الخارج, فلا فرق بين الثبوت والوجود].

وهذا من باب مما يقوله ابن عربي ، فقد بنى فلسفته في وحدة الوجود على مسألة المعدوم، وهل هو شيء أم ليس بشيء؟ وعلى مسألة: هل يفرق بين الثبوت والوجود أم لا يفرق؟ فعلى جوابه عن هاتين المقدمتين بنى قوله في مسألة وحدة الوجود، وهي نظرية فلسفية، وليس المقصود هنا أن نجيب عنها، إنما المقصود أن يقال: إنها لم تنشأ من سلوك فاضل عند ابن عربي ، فإنه وإن كان متصوفاً وله سلوك معروف على طريقته، إلا أن هذه لم تنشأ عنده عن حال من التعبد الخاص، وإن كان الرجل له اشتغال بمقام من التنسك على طريقته، وهي طريقة غير مناسبة للطريقة الشرعية، فالرجل صوفي، وأيضاً متفلسف، وليس بالضرورة أن كل الصوفية متفلسفة، فإن جمهور الصوفية ليس متفلسفاً؛ بل من الصوفية من هم مقتصدون، ومنهم من هو من أهل السنة والجماعة، وهو لم يسمِ نفسه صوفياً، وإنما سماه بعض الناس صوفياً، وذلك كالفضيل كـالفضيل بن عياض ، وسهل بن عبد الله التستري ، فهؤلاء لم يكونوا يسمون أنفسهم صوفية، إنما سماهم الناس صوفية، وبعضهم قد يسمي نفسه صوفياً، وينتسب إلى طريقة التصوف، لكن تكون حاله في الجملة مقاربة للسنة والجماعة، فهو ينتسب إلى أهل السنة والجماعة، وإن كان يوصف بالبدعة والتصوف من وجه آخر.

ولذلك فإن ابن تيمية يقسم الصوفية فيقول: صوفية المتفلسفة، وصوفية المتكلمين، وصوفية أصحاب السنة والحديث. وهذا من باب التفصيل؛ لأن الإطلاق على الصوفية بحكم واحد لا يكون عدلاً في الجملة.

الفرق بين الوجود العيني والوجود العلمي

قال المصنف رحمه الله: [لكن الفرق ثابت بين الوجود العلمي والعيني، مع أن ما في العيني ليس هو الحقيقة الموجودة، ولكن هو العلم التابع للعالم القائم به].

أي أن ثمة فرقاً بين الوجود العيني والوجود العلمي (المطلق)، بين الوجود المطلق في الذهن، وبين الوجود المعين في الخارج، وهذه كلها من بدهيات الإدراك، ولذلك فإن من خالفها من متقدمي المتفلسفة -كـأفلاطون الذي تكلم في مسألة الكليات المجردة القائمة في الخارج- فإنه هو الذي تكون مخالفته ممتنعة من جهة العقل والتحصيل، وذلك عندما قال: إن ثمة كليات موجودة في الخارج، وهذا ممتنع، فلا يوجد في الخارج إلا ما هو معين، فمثلاً: لا يوجد في الخارج إنسان كلي، إنما يوجد في الخارج الإنسان على معنى زيد وعمرو، وما إلى ذلك من أعداد بني آدم.

قال رحمه الله: [وكذلك الأحوال التي تتماثل فيها الموجودات وتختلف، لها وجود في الأذهان، وليس في الأعيان إلا الأعيان الموجودة، وصفاتها القائمة بها المعينة، فتتشابه بذلك وتختلف به. وأما هذه الجمل المختصرة، فإن المقصود بها التنبيه على جمل مختصرة جامعة، من فهمها علم قدر نفعها، وانفتح له باب الهدى، وإمكان إغلاق باب الضلال، ثم بسطها وشرحها له مقام آخر، إذ لكل مقام مقال].

من أحسن ما يراجع في هذا كتاب: درء تعارض العقل والنقل، وبغية المرتاب، والصفدية، وكتاب منهاج السنة، ففيه اصطلاحات وأبحاث في بعض الموارد مناسبة لهذا المقام. فهذه الكتب الأربعة في الجملة أن كلام المصنف يكون مجموعاً فيها.

قال رحمه الله: [والمقصود هنا أن الاعتماد على مثل هذه الحجة فيما ينفى عن الرب، وينزه عنه -كما يفعله الكثير من المصنفين- خطأ لمن تدبر ذلك، وهذا من طرق النفي الباطلة].

وهذا من باب الاحتجاج، وهناك فرق بين أن تقول: الاعتماد في النفي على مجرد نفي التشبيه، وبين أن تقول: إن التشبيه منفي، والمصنف لا يريد أن يقول: إن التشبيه مثبت، وليس منفياً، إنما يقول: إن الاعتماد (الاعتماد بالحجة) على مجرد نفي التشبيه ليس محكماً، ومعنى قوله: (على مجرد نفي التشبيه) أي: هذا الاسم بإطلاقه، أما إذا ذكر مفصلاً، أو مقترناً بما يفسره، وما إلى ذلك؛ فإن هذا يكون وجهاً آخر ليس على ما ذكر المصنف، إنما الذي يمنعه، ويقول بأنه ليس محكماً من جهة الحجج: هو الاعتماد على مجرد نفي التشبيه في مقام الاحتجاج.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , شرح القواعد السبع من التدمرية [19] للشيخ : يوسف الغفيص

https://audio.islamweb.net