إسلام ويب

أحداث يوم القيامة

النفخ في الصور

من بعد البرزخ يأتي كما يقول ابن كثير والطحاوي وعلماء العقائد: النفخ في الصور، وفي حديث الصور الطويل: أن الله سبحانه أول ما خلق إسرافيل وخلق الصور ألقمه فمه ينظر إلى العرش ينتظر أمر الله له بالنفخ.

ويقولون: النفخات ثلاث؛ الأولى: نفخة الفزع، يفزع فيها من في السماوات ومن في الأرض.

والثانية: نفخة الصاعقة لا يبقى معها حيٌ على وجه الأرض.

والثالثة: نفخة البعث، وعند البعث يجمع الله أرواح الخلائق فيضعها في البوق الذي هو الصور، يقول صلى الله عليه وسلم: (والله إن فتحة البوق -الصور- لكما بين المشرق والمغرب! فإذا نفخ إسرافيل انتشرت الأرواح كالنحل، ودخلت في أجسام أهلها، وانتظروا البعث).

والأمر في ذلك أحاديثه طويلة، لكن يهمنا البعث من القبور، وخروج الناس، وأحوال ذلك اليوم، فيجب الإيمان بما أخبر به صلى الله عليه وسلم من الميزان، والصراط، وتطاير الصحف، والعرض، والجنة والنار. هذه أهم أحوال يوم القيامة، وكذلك ما يتبع ذلك من شفاعة سيد الخلق صلى الله عليه وسلم.

الميزان والصراط

أما الميزان والصراط؛ فيختلفون أيهما يكون أولاً.

فبعضهم يقولون: الميزان بعد اجتياز الصراط؛ وقد أجمع العلماء على أن الصراط جسر ممدود على متن جهنم، قال الله تعالى: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا * ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا [مريم:71-72].

والصراط كما يقول العلماء: أدق من الشعرة، وأحد من السيف، ويمر الناس عليه بحسب أنوارهم؛ لأن المؤمنين يبعثون من قبورهم بنور الإيمان كلٌ على حسب عمله، منهم من يكون معه النور كالجبل، ومنهم من يكون كالنخلة، ومنهم من يكون كالشمعة، ومنهم من يكون النور في إبهام قدمه ينطفئ تارةً ويضيء تارة، فإذا أضاء مشى وإذا انطفأ قام.

ويمرون على الصراط بحسب نورهم، فمنهم من يمر كالبرق الخاطف، ومنهم من يمر كالريح المرسلة، ومنهم.. إلخ.

فإذا اجتاز الناس الصراط فهناك يأتي الميزان، ونحن نؤمن بأن الله سبحانه يضع الموازين القسط ليوم القيامة، وهو ميزانٌ له كفتان محسوستان، ولكن هل يوزن الإنسان بعمله أو توزن الأعمال فقط؟

ومن أعظم أحاديث الميزان: حديث البطاقة: بأن رجلاً عرض على الميزان وله تسعٌ وتسعون سجلاً، كل سجل مد البصر، وكلها أعمال سيئة فتوضع في كفة سيئاته، فيناديه ربه: هل ظلمك كتبتي.. أليست هذه أعمالك؟ يقول: بلى يا رب، فيقول: هل بقي لك عندنا شيء؟ فيقول: لا يا رب، فيقول: بلى! لك عندي أمانة، فإذا ببطاقة مكتوبٌ فيها لا إله إلا الله، يقول: يا ربّ وماذا تفعل تلك البطاقة بتلك السجلات، فيقول سبحانه: لا ظلم اليوم، وتوضع البطاقة في كفة الحسنات فترجح وتطيش كفة تلك السجلات بما فيها.

فلا شيء يوازن اسم الله، هكذا يقول علماء العقائد.

فالميزان موجود وهو محسوس، ولكن قد يقال: كيف توزن الأعمال وهي أمورٌ معنوية؟

والجواب: هذا مما ليس لك فيه دخل، بل إننا في الوقت الحاضر نجد موازين متعددة، موازين تزن الحرارة، موازين تزن البرودة، موازين تزن الضغط في الهواء، موازين تزن الكثافة في الحديد وفي الماء، موازين توصل إليها الناس كانت لا تخطر على قلب أحد.

إذاً: توزن الأعمال والصحف والإنسان، وليس في طاقة العقل أن يتكيف معه، وقد جاء في الحديث الصحيح عند مسلم : (سبحان الله تملأ الميزان، وسبحان الله والحمد لله تملآن ما بين السماء والأرض)، فـ(سبحان الله) تملأ الميزان، كيف وهي أمر معنوي؟ هل تتجسم الحسنات وتصير ملموسة لها ثقل؟ ليس لنا ذلك، الله سبحانه يفعل ما يريد، الذي يهمنا أن الله سبحانه أوجد الميزان.

ويتساءل العلماء: وما الحاجة إلى الميزان؟ بعض الفلاسفة يتبجحون ويقولون: إنما يحتاج إلى الميزان الفوّال والكيال، والله ليس في حاجة إلى ميزان.

والجواب: صحيح أنه ليس في حاجة إلى هذا كله، ولكن: لماذا لا تقولون: ما فائدة الصحف؟ ولماذا لا تقولون: ما الحاجة إلى وجود ملائكة كرام كاتبين؟ فإن الله لا يحتاج شيئاً من ذلك. لكن المولى يقيم الحجة على الخلق لئلا يحتج أحدٌ على الله، فكما جعل كراماً كاتبين وجعل صحفاً، كذلك جعل الميزان لتقوم الحجة على الخلائق.

الحوض

ومن الميزان إلى الحوض، وبعض العلماء يقول: إنه بعد الصراط والميزان، والقرطبي يرجح أن الحوض قبل هذا كله، لحديث: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في هذا المسجد فأغفى إغفاءة ثم انتبه يتبسم، فقالوا: ما الذي أضحكك يا رسول الله؟ قال: أنزلت عليّ آنفاً سورة خيرٌ من الدنيا وما فيها: بسم الله الرحمن الرحيم إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ * فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ * إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ [الكوثر:1-3]، أتدرون ما الكوثر؟ نهرٌ في الجنة آنيته عدد النجوم)، وفي حديث ذكر حوضه صلى الله عليه وسلم.

وقالوا في الجمع بين الرواتين: إن الكوثر نهرٌ من أنهار الجنة فيه ميزابان يصبان في حوض رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي قدره كما بين مكة وبصرى، عليه أكوابٌ عدد نجوم السماء، تربته المسك واللؤلؤ.

وهنا جاء الحديث الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إني أمتي يأتون يوم القيامة غراً محجلين من أثر الوضوء، وأنا فرطهم على الحوض، قالوا: يا رسول الله! كيف تعرف من يأتي بعدك ولم ترهم؟ قال: أرأيتم لو أن لأحدكم خيلاً بهماً دهماً، أكان يعرفها من بين الخيول؟ قالوا :بلى)، والغرة: بياض الجبين، والتحجيل: والحجل هو موضع القيد للفرس، أي: في اليدين، فإذا كان الموضع فيه بياض فهو حجل، وهذه علامة خاصة بهذه الأمة.

وفي تتمة الحديث: (إن هذا العرض على الحوض هي المفازة الأولى)، فحينما يبعث المنافقون مع المؤمنين والكل معه نوره، يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ [الحديد:12]، فهنا المؤمنون يمضون في طريقهم بأنوارهم، فإذا ما وردوا على الحوض جاءت ملائكة تفرز الناس، فيذودون أقواماً عن حوض رسول الله لا يردونه، فينادي صلى الله عليه وسلم قائلاً: (أمتي أمتي! فتقول الملائكة: إنك لا تدري ماذا أحدثوا بعدك، إنهم غيروا وبدلوا، يقول صلى الله عليه وسلم: فأقول: سحقاً وبعداً لمن غير وبدل).

موقف أهل النفاق في الآخرة

قال تعالى: يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ [الحديد:13]، الكل يبعث بنوره حتى المنافق، لكن عند العرض على الحوض يمضي المؤمنون بنورهم ويرد المنافقون فتطفأ أنوارهم، وهناك ينادون: يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ [الحديد:13] أي: انتظرونا نمشي في نوركم، أو انظروا إلينا نقتبس نوراً: قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ * يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ [الحديد:13-14]، الريب هو الشك، وهذا الشك هو النفاق.

ولكن لماذا يبعث المنافقون بالأنوار مع المؤمنين؟

هو تفسير قوله سبحانه: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ * يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ [البقرة:8-9]، فكانوا يخادعون المؤمنين ويقولون: إننا آمنا، وإذا رجعوا إلى قومهم قالوا: إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ [البقرة:14].

فتركهم الله على نفاقهم واستفادوا بظاهر قولهم: آمنا، ولهم نصيب في المغانم والميراث والزواج، ويعاملون في ظاهر الأمر معاملة المؤمنين، ولكنهم يبطنون الكفر في داخلهم، وهكذا يستهزئون والله يستهزئ بهم؛ فإذا جاء يوم القيامة بُعثوا بأنوارهم وظنوا أن الخدعة مستمرة وأنهم مع المؤمنين في الأنوار، حتى تأتي المفرزة، فهناك يردون على أعقابهم وتطفأ أنوارهم ويطلبون من المؤمنين أن ينظروهم ليلتمسوا منهم النور، فيردونهم ويقولون: لا، ارجعوا فالتمسوا نوراً من ورائكم، وهناك تنتهي الفاصلة: فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ [الحديد:13]، من جهة المؤمنين، وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ [الحديد:13] من جهة المنافقين.

أنواع الشفاعة يوم القيامة

الحوض هو المرحلة الأولى، ثم تتطاير الصحف، ثم يكون العرض على الصراط، ثم يكون الميزان، ثم المصير بعد ذلك إما إلى الجنة، وإما إلى النار، وهناك الشفاعة، وبعضهم يذكر الشفاعة قبل ذلك، والصحيح أن الشفاعة هي آخر شيء حينما يمر الناس وحينما يصعب الأمر ويشتد على الخلق.

وبعضهم يقول: تكون الشفاعة العظمى قبل ذلك، ثم تأتي الشفاعات الشخصية الفردية.

الشفاعة العظمى

والشفاعة العظمى -كما ذكر علماء السنة- أنها للرسول صلى الله عليه وسلم، وهو المقام المحمود الذي خصه الله به، يغبطه عليه الأولون والآخرون، وتكاد أحاديث الشفاعة تتواتر، وما نفاها إلا بعض الخوارج والمعتزلة، وبعضهم ينفي البعض منها ويثبت البعض.

ومجمل قضية الشفاعة حينما يشتد الأمر على الخلائق، وتدنو منهم الشمس -كما في الحديث- مقدار ميل، وهل هو ميل المكحلة أو ميل المسافة؟ الله أعلم.

يشتد الموقف على الجميع حتى يلجم الناس بالعرق؛ منهم من يكون إلى صدره أو ترقوّته أو ركبته.. حفاةً عراة غرلاً، وتقول أم المؤمنين: (واسوأتاه يا رسول الله! أيجتمع الرجال والنساء حفاةً عراة وينظر الرجال إلى النساء؟! قال: يا عائشة الأمر أخطر من ذلك، كلٌ مشغول بنفسه).

فيموج الناس بعضهم في بعض ويتمنون فصل القضاء والنهاية ولو إلى النار، فيقول بعضهم إلى بعض: ألا تذهبون تستشفعون إلى ربكم، فيأتون آدم: يا آدم أنت أبو البشر، خلقك الله بيديه وأسجد لك ملائكته إليك، وأسكنك الجنة، وعلمك الأسماء، ألا تشفع لنا عند ربنا؟ فيقول آدم عليه السلام: نفسي نفسي، إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، وقد نهاني ربي عن الشجرة فأكلت منها فأستحيي أن أسأل ربي شيئاً، اذهبوا إلى نوح، فيأتون إلى نوح: يا نوح عمرك الله في قومك، ونجاك بالسفينة، ألا ترى ما نحن فيه؛ اشفع لنا عند ربنا لفصل القضاء. فيقول: أما أنا فقد استعجلت بدعوتي فدعوت على قومي فأهلكهم، إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضبه قبله مثله، اذهبوا إلى إبراهيم خليل الرحمن، فيأتون إلى إبراهيم ويستشفعون به.

ويذكر إبراهيم عليه السلام الكذبة التي قالها، ويقول بعض العلماء: ليست بكذبة؛ لأنه لما جاء إلى مصر وأراد ملكها أخذ سارة ، فلما علم ذلك وخاف عليها قال لها: إن سألك فقولي هذا أخي، وأنا أخوك في الإسلام.

إذاً: ليست بكذبة، والله سبحانه أكرمها وكشف عنها الشر، ولما علم ذلك الملك وعرف مكانتها ومنزلتها وأخدمها جارية وأهداها غنماً وإبلاً، والجارية هي هاجر ، وسارة وهبتها لإبراهيم فيما بعد، وإبراهيم رزق منها بإسماعيل، وإسماعيل عليه السلام هو جد الرسول صلى الله عليه وسلم وأبو العرب، والرسول صلى الله عليه وسلم لما أرسل الكتب للملوك يدعوهم إلى الإسلام كتب إلى المقوقس ملك مصر، وكانت الإسكندرية عاصمتها آنذاك، فأكرم رسول رسول الله، وسأله المقوقس وقال: أليس تقول: إن محمداً نبي؟ قال: بلى، قال: لم لم يدع على قومه حينما أخرجوه ليلاً في هجرته، قال: ألست تقول: عيسى نبي، قال: بلى، قال: لِم لَم يدع على قومك حينما أرادوا صلبه؟ قال: إنك رجل حكيم، ثم قال: أخبر رسولك أني أومن به، ثم أراد أن يعلن ولكن خاف من بطارقته، وأهدى إلى رسول الله جاريتين وغلاماً وبلغةً وكسوة وطيباً وعنبراً، فأعطى النبي إحدى الجاريتين لصحابي، واختص بـمارية القبطة التي رزق منها بـإبراهيم .

بهذه المناسبة يقول صلى الله عليه وسلم: (إنكم ستفتحون أرضاً يذكر فيها القيراط، إنكم ستفتحون مصر فاستوصوا بأهلها خيراً؛ فإن لهم ذمة ورحماً)، يحفظ صلى الله عليه وسلم حق قطرٍ بكامله في رحم امرأةٍ واحدة.

نرجع إلى إبراهيم وإلى ذاك الموقف العظيم، حينما يموج الناس ويذهبون إلى آدم ويردهم إلى نوح، ثم يردهم نوح إلى إبراهيم، وكلٌ يعتذر، فيقول إبراهيم: اذهبوا إلى موسى، فيأتون إلى موسى فيعتذر، ويقول: لقد قتلت نفساً لم أومر بقتلها، إن ربي قد غضب غضباً لم يغضب قبله مثله، اذهبوا إلى عيسى كلمة الله وروح منه، فيأتون إلى عيسى فيعتذر، ولم يذكر ذنباً، ثم يقول: اذهبوا إلى محمد، فيأتون إلى سيد الخلق صلى الله عليه وسلم، فيقول صلوات الله وسلامه عليه:

(أنا لها، أنا لها، فآت فأسجد تحت العرش فيلهمني الله بمحامد لم أكن أعرفها من قبل ولم يلهمها أحد قبلي، فأحمد الله ساجداً ما شاء الله، ثم يقال لي: ارفع رأسك، وسل تعط، واشفع تشفع؛ فأقول: أمتي أمتي).

والرواية الأخرى لـأحمد وغيره: (فيأذن المولى سبحانه وتوضع الموازين، ويأتي المولى ويبدأ الحساب والعرض)، وهذه هي الشفاعة العظمى والمقام المحمود؛ لأنها شفاعة لفصل القضاء بين الخليقة كلها، وهو مقام يغبطه عليه الأولون والآخرون.

الشفاعات الأخرى

ثم بعد ذلك يشفعه الله سبحانه في أقوامٍ -وهي الشفاعة الثانية- تعادلت حسناتهم وسيئاتهم، فيشفع لهم فيدخلون الجنة، أي: بترجيح حسناتهم على سيئاتهم وبشفاعته صلى الله عليه وسلم.

الشفاعة الثالثة والرابعة: قوم يستحقون النار فيشفع فيهم فيدخلون الجنة دون دخول النار، ثم بعد ذلك يفصل بين الخلائق، ويدخل أهل النار النار، ويذهب بأهل الجنة إلى الجنة فيجدون الجنة لم تفتح، فيقولون: من يشفع لنا في دخول الجنة، فيأتي صلى الله عليه وسلم ويطرق الباب ويجيبه رضوان خازن الجنة، فيقول: أنا محمد، فيقول: أمرت أن أبدأ بك، لا أفتح لأحد قبلك، فيدخل أهل الجنة الجنة.

ثم يرجع صلى الله عليه وسلم إلى ربه ويسجد كما سجد أولاً، ويلهمه محامد كما ألهمه أولاً، ثم يقال: ارفع رأسك وسل تعط، واشفع تشفع، فيقول: يا رب شفعني فيمن كان في قلبه مثقال شعيرة من إيمان من أمتي، فيشفعه الله، فيذهب ويخرج هذا الصنف، ثم يرجع بعد ذلك ويقول: يا رب! شفعني فيمن كان في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان فيشفعه الله فيهم، ثم يرجع الأخيرة: يا رب شفعني فيمن قال: لا إله إلا الله من أمتي، وهنا يقول سبحان الله: شفع النبيون والمؤمنون والصالحون والملائكة المقربون، وبقي أرحم الراحمين، ويخرج من النار إلى الجنة كل من قال: لا إله إلا الله.

طلب الشفاعة من رسول الله صلى الله عليه وسلم

أما حكم من طلب الشفاعة منه صلى الله عليه وسلم اليوم، فيتفق علماء السلف: بأن الشفاعة لا تكون بالشخص على سبيل الإقسام به على الله، فلا يقسم على الله بأحد، ولا بالتوسل بشخصية إنسان، فأنت لا تملك تلك الشخصية، ولكن بإيمانك وبمحبتك وباتباعك لهذا الشخص وهو النبي صلى الله عليه وسلم وبما جاء عن الله وبما جاء به رسول الله، وبقدر إيمانك ومحبتك لرسول الله واتباعك له تكون شافعاً في غيرك.

والنصوص في ذلك: أن الله سبحانه جعل الشفاعة كرامة للشافع والمشفوع فيه؛ لأن الشفاعة حقٌ لله، ولا يظن إنسان أنها كشفاعة أهل الدنيا، حاشا وكلا؛ لأن الله يقول: مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ [البقرة:255]، وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى [النجم:26].

إذاً: الشفاعة يوم القيامة تكون أولاً كرامة للشافع كما أكرم الله سيد الخلق بالشفاعة العظمى، والمقام المحمود، وكذلك الصالحون من العباد يكرمهم الله، وجاء في الحديث: (إن العالم ليشفع في أربعين بيتاً من جيرانه).

فالشفاعة كرامة من الله للشافع، وإكراماً من الله للمشفوع فيه، وهل يشفع إنسان في إنسان أدخله الله النار بغير إذن من الله؟ لا يمكن هذا.

نحن في الدنيا من أجل طلب الشفاعة يجب أن نكون على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ونسألها من الله، فنقول: اللهم إنا نسألك بإيماننا بك، ومحبتنا لرسولك واتباعنا لما جاءنا به، أن تشفعه فينا يا رب العالمين، نسأل الله تعالى أن يشفعه فينا وأن يجعلنا من أهل شفاعته، وأن يوردنا حوضه، وأن يسقينا بيده الشريفة شربةً هنيئة مريئة لا نظمأ بعدها أبداً.

وبعد: فإن هذا الذي أوردناه هو مجمل ما يلزم على المؤمن أن يؤمن به تبعاً لإيمانه باليوم الآخر، وإن في اليوم الآخر أحداثاً ووقائع وأموراً يجب على المؤمن أن يؤمن بها قبلها عقله أو لم يقبلها؛ لأن وراء الموت عالم غيب، ولهذا كان الإيمان بالغيب منطلق الالتزام بالتكاليف فعلاً وتركاً كما أشرنا إلى ذلك، ودللنا عليه بقول الله: ألم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ [البقرة:1-3].

ومن أهم الإيمان بالغيب: الإيمان باليوم الآخر، الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاة وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالآخرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ [البقرة:3-4].

زيادة الإيمان ونقصانه

هذا الإيمان بأركانه، ويتفق علماء السلف على أنه يزيد وينقص، وخلاف العلماء في أن الإيمان يزيد وينقص لا نريد أن نطيل الكلام فيه، فمن الأئمة من يقول: لا زيادة ولا نقصان، وجمهور السلف على أن فيه زيادة وله نقصاناً.

وليس هناك خلافٌ حقيقي فيما أظن؛ لأن الذين يقولون إنه لا يزيد ولا ينقص ينظرون إلى الإيمان اللغوي الذي هو التصديق، والذين يقولون: يزيد وينقص ينظرون إلى الإيمان الشرعي الذي أمرنا به، وهو الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر خيره وشره.

ومما قاله العلماء في زيادة الإيمان ونقصانه: لو أردنا أن نوازن بين إيمان أبي بكر رضي الله تعالى عنه وعمر وعثمان وعلي وأبي هريرة وزيد بن ثابت ، وبين إيمان الناس في هذا الوقت، هل نجد معادلة بين إيمان أبي بكر بجميع معانيه وإيمان عامة الناس اليوم؟

يقول صلى الله عليه وسلم: (لو وزن إيمان أبي بكر بإيمان الأمة لرجح بها)، ونحن نعلم بأن أمور التصديق تزداد بالأمارات والعلامات، وأشرنا سابقاً إلى علم اليقين وعين اليقين وحق اليقين، وبأن كل مسلم في مشارق الغرب يعلم يقيناً وجود الكعبة قبلة له، فإذا جاء إلى الحج ورآها عند باب المسجد زاد علمه بعين يقينه بوجود الكعبة أكثر مما كان يعلم وهو في بلده، فإذا جاء إليها وطاف بها ولمسها، وإذا فتح الباب ودخلها؛ كان إيمانه بالكعبة أقوى من إيمانه بها وهو عند باب المسجد.

وهكذا السلف الصالح عاينوا الأمارات، ولابسوا وشاهدوا وعايشوا المعجزات، وعاصروا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهل يستوي هذا الفريق مع ذاك؟!

والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا وحبيبنا محمد.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , شرح الأربعين النووية - الحديث الثاني [8] للشيخ : عطية محمد سالم

https://audio.islamweb.net