إسلام ويب

الحجر الأسود نزل من الجنة أشد بياضاً من اللبن، وإنما سودته خطايا بني آدم، ويوصف بالأسود لسواده، والحجر الأسود فيه مسائل عديدة؛ منها الفقهية وذلك فيما يتعلق بالمناسك، ومنها التاريخية، وذلك فيما يتعلق بأصله، ومن أين جاء؟ وكم عمره؟ وما إلى ذلك.

استلام الحجر الأسود وتقبيله والسجود عليه

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين وعلى آله وصحبه. أما بعد:

قال المؤلف رحمه الله: [وعن ابن عباس رضي الله عنهما: (أنه كان يقبل الحجر الأسود ويسجد عليه) رواه الحاكم مرفوعاً والبيهقي موقوفاً].

الواقع يا إخوان! أن القضايا المتعلقة بالحجر الأسود كثيرة، ومما يرد فيه من المسائل: من أين أصله؟ وكيف جاء؟ وكم تاريخه في المكان الذي هو فيه؟ وفي أحكامه، وما طرأ عليه في التاريخ من القرامطة وغيرهم، فلو أن إنساناً أفرد الحجر الأسود بمبحث مستقل لوجد مادة واسعة ينهل منها.

وقد أتت آثار وأحاديث في الحجر الأسود ولا نستطيع أن نناقش أسانيدها، ومنها: (بأنه نزل من الجنة) وهذا مما يتفق عليه العلماء، يقولون في أسانيد الأخبار التي جاءت فيه: يقوي بعضها بعضاً، وفي بعض الآثار: (أنه نزل مضيئاً مشعاً) حتى قال بعض العلماء: إن اختلاف حدود الحرم لمكة هو بحسب ما وصل إليه ضوء الحجر أول ما نزل، ولكن التحقيق العلمي: أن حدود الحرم هي كما أوقف جبريل عليه السلام الخليل عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام عليها، فإنه وقف معه على أماكن حدود الحرم وعلّم له عليها.

وقيل: إن البيت أول ما بني بنته الملائكة لآدم، لما نزل من السماء؛ لأن في السماء البيت المعمور فجعل الله الكعبة لبني آدم في الأرض مكان البيت المعمور في السماء، ولهذا فهو على سمته عمودياً، فوضع الحجر الأسود في الكعبة، ومر عليه الزمن، ولما جاء الطوفان هدم الجميع، وحفظ الله الحجر الأسود في جبل أبي قيس، حتى جاء إبراهيم وإسماعيل وقاما ببناء ووضع الحجر الأسود في مكانه، ثم جاء القرامطة وأخذوه إلى بلادهم ومكث عندهم فترة ثم ردوه.

بناء الكعبة في زمن النبي صلى الله عليه وسلم

وكان بناء الكعبة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم قبل البعثة، وقد اختلفت قريش في بناء الكعبة وقضية اختلافهم معروفة فيمن ينال شرف وضع الحجر في مكانه من بناية الكعبة، فإنهم لما هدمت الكعبة، اتفقوا على بنائها، ولما بدءوا بالبناء قسموا الجهات الأربع على قبائل قريش، وكل جهة قامت بالبناء إلى أن ارتفع البناء إلى مكان الحجر الأسود، فتنازعوا فيمن يضعه حتى كادوا أن يقتتلوا، فألهم الله سبحانه وتعالى بعض عقلائهم، وقال: علامَ نقتتل، لنحكم أوّل من يخرج علينا من هذا الطريق، فنظروا فإذا أول من خرج عليهم هو محمد بن عبد الله -وهذا قبل الرسالة- فأنطق الله الجميع: هذا الأمين ارتضيناه.

إذاً: هو قبل ما يقول لكم: قولوا: لا إله إلا الله كان الأمين، وبعدما قالها كان المجنون؟! هذا تناقض واضح، لكن الله سجل عليهم هذا الاعتراف، فلما جاء صلى الله عليه وسلم أخذ رداءه ووضعه على الأرض، وأخذ الحجر بيديه الكريمتين ووضعه في وسط الرداء وقال: لتأخذ كل قبيلة بطرف الرداء ولترفع، فاشتركوا في حمله وفي رفعه جميعاً، ولما رفعوه إلى أن ساوى موضعه من الجدار أخذه صلى الله عليه وسلم بيديه الشريفتين ووضعه في مكانه إذاً: هذا الشرف الذي كادوا يقتتلون عليه جميعاً ظفر به النبي صلى الله عليه وسلم، وهذه من أول المقدمات للتكريم، ومن أول الاعترافات المنتزعة منهم إجبارياً بأنه الأمين.

الحكمة من تقبيل الحجر الأسود

ولما جاء الإسلام جاء بتقبيل الحجر واستلامه، وقد يعجب المرء من هذا التشريع كيف أن الله سبحانه وتعالى أمر عباده بتحطيم الأصنام، وبإنكار عبادة الحجارة وتعظيمها ثم يأمرهم بتقبيل الحجر، بل يأمرهم أن يطوفوا ببنية الكعبة وهي عبارة عن كتل حجرية! والذي يزيل هذا العجب أنك بعد هذا الفعل تأتي بسنة الطواف التي تقرأ فيها: قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ [الكافرون:1] وقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص:1]؛ لتنفي عنك الشرك، ولتثبت أنك ما قدست الحجر عبادة ولا تقديساً له، ولكن عملت ذلك طاعة لله.

كما جاء عن عمر رضي الله عنه أنه قال حينما قبّله: (إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك). ففي هذا تقديم النص والاتباع على العقل، أي: أنا أعلم أنك لا تنفع ولا تضر، ولكن مع ذلك أنا أقبّلك، فلماذا يقبله وهو لا ينفع ولا يضر؟ الجواب: لأن الإنسان لا يسعى في حياته إلا لجلب نفع أو لدفع ضر كما قال الشاعر:

إذا أنت لم تنفع فضر فإنمايرجى الفتى كيما يضر وينفع

ولهذا قال عمر رضي الله عنه: (لولا أني رأيت..) فهو قدم النص على العقل؛ لأن النص معصوم، فإذا كان النص صحيحاً ثابتاً فألغ عقلك، واعمل بما جاء في هذا النص، ولكن نبه عقلك بالتأمل والتدبر. يقولون في هذا الأثر: إن علياً رضي الله عنه قال: (لا يا عمر ! إنه ينفع، فقال له: بم ينفع؟ قال: يأتي يوم القيامة وله عينان ولسان، يشهد لكل من استلمه أو قبّله يوم القيامة.

صفة تقبيل الحجر واستلامه

وقد جاء أن ابن عمر كان يسجد عليه، وكذلك ابن عباس كان يسجد عليه، وكان يقبله من غير صوت، أي: يلمسه بشفتيه دون أن يُسمع صوت للشفتين عند التقبيل، ويقولون: صفة التقبيل هي: أن يضع الإنسان كفيه على طرفي الحجر، ويضع شفتيه بين كفيه ويقبل، هكذا يقولون في صفة تقبيل الحجر واستلامه.

وعلى هذا فكلام الفقهاء في تقبيل الحجر: أنك إن استطعت أن تقبل وتستلم على هذه الصفة فهي أكمل الصفات، وإن لم تستطع فمد يدك ولو من بعيد والمس أي جزء منه وقبل يدك، وإن لم تستطع فمد طرف العمامة واطلب من الذي عند الحجر أن يلمسها بالحجر ثم خذها وقبل طرفها الذي لمس الحجر، وإن لم تستطع لا هذا ولا ذاك فأشر بيدك وامض. والله سبحانه وتعالى أعلم.

الرمل في الطواف حول الكعبة في الثلاثة الأشواط الأولى

قال المؤلف رحمه الله: [وعن ابن عمر رض الله عنهما: (أنه كان إذا طاف بالبيت الطواف الأول خبب ثلاثاً ومشى أربعاً) ].

الطواف الأول هو إما طواف القدوم للمفرد والقارن، وإما طواف العمرة، والرمل والخبب سواء.

قال المؤلف رحمه الله: [وفي رواية: (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا طاف في الحج أو العمرة أول ما يقدم فإنه يسعى ثلاثة أشواط بالبيت ويمشي أربعة) متفق عليه].

يسعى المحرم ثلاثة أشواط من سبعة؛ لأن الطواف هو سبعة أشواط، ويمشي أربعة، يعني: بدون خبب وبدون إسراع.

وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد أمرهم بهذا قيل: في حجة الوداع، وقيل: في عمرة القضية، وهو الصحيح، فأمرهم أن يرملوا ثلاثاً، ويمشوا أربعاً، والرمل في الطواف هو أن يمشي الإنسان في صورة المسرع، وتكون خطاه متقاربة إظهاراً للقوة والنشاط، ويكون مع الرمل الاضطباع على ما سيذكره المؤلف رحمه الله، والاضطباع هو: أن تجعل منتصف الرداء تحت إبطك الأيمن، وتجعل طرفيه على عاتقك الأيسر.

سبب الاضطباع والرمل

ويقولون: إن سبب الاضطباع والرمل هو ما كان من المشركين حينما قدم النبي صلى الله عليه وسلم في عمرة القضية، وبعضهم يسميها: عمرة القضاء، وهي: العمرة التي جاءت بعد صلح الحديبية، وصلح الحديبية كان في السنة السادسة، حين رأى النبي صلى الله عليه وسلم في المنام أنه قادم إلى البيت معتمراً، فأخبر أصحابه، فخرجوا معه، ولما علم المشركون بمجيئهم، استكثروا على أنفسهم أن يدخل المسلمون عليهم مكة بدون إذن ولا علم منهم، واعتبروا أن ذلك عنوة وعدم مبالاة، فخرجوا ليصدوهم عن البيت.

فلما علم صلى الله عليه وسلم أن المشركين قد خرجوا ليصدوهم قال: (من رجل يدلنا على الطريق بعيداً عن مواقعهم؟) لأنهم خرجوا ليصدوهم من الطريق المعهود، فقام رجل وقاد الركب إلى أن وصلوا إلى الحديبية من غير الطريق المعروف للمار إلى مكة.

والحديبية تقع على مشارف حدود الحرم، فنزلوا بخيامهم في الحل، وكانوا يصلون الصلوات في الحرم؛ لأنه ليس بينهما فاصل كبير، وقضية الحديبية قضية طويلة معروفة، وكانت في الواقع فتحاً مبيناً، وأنزل الله سبحانه وتعالى فيها سورة الفتح، وتم فيها الصلح والمفاهمة بين المسلمين والمشركين، وكان من ضمن بنود هذا الصلح: أن يرجع المسلمون من مكانهم دون أن يدخلوا مكة، ولهم أن يأتوا في العام المقبل معتمرين، وتخلي لهم قريش مكة لمدة ثلاثة أيام ليعتمروا فيها ولا يزعجهم أحد، ثم بعد ذلك يخرجون ويرجعون من حيث أتوا.

فأتى النبي صلى الله عليه وسلم في السنة التي بعدها معتمراً، فسميت عمرة القضية، أي: لما تقاضوا به في الصحيفة التي كتبت بين الطرفين، وقيل: سميت عمرة القضاء، أي: لصدور القضاء بين الطرفين، وليس من القضاء الذي هو ضد الأداء؛ لأن العمرة التي سبقت وتحللوا منها على الحدود اعتبرت لهم عمرة، واعتبرت لهم غزوة، والعمرة الثانية كانت مستقلة، وكانت بناءً على اشتراط الطرفين أن يأتي النبي صلى الله عليه وسلم في العام المقبل، وأن تخلي لهم قريش مكة، فجاءوا ودخلوا المسجد الحرام، وجلس كفار قريش على قعيقعان وهو: الذي يطل على الكعبة من جهة الحِجْر، وقبل أن يبدأ المسلمون بالطواف جاء الشيطان إلى كفار قريش وقال لهم: أين أنتم؟ ها هم المسلمون قد جاءوا، وقد أنهكتهم حمى يثرب، وأضناهم طول السفر، فلو ملتم عليم ميلة رجل واحد لقضيتم عليهم.

وتم هذا التآمر بين الشيطان وبين أعوانه وأتباعه للقضاء على المسلمين في ذلك الوقت وفي ذلك المكان، ولا يقدِّر هذا الموقف إلا القادة العسكريون؛ لأن المسلمين عزَّل، فقد اشترط عليهم أهل مكة أن لا يأتوا بسلاح إلا سلاح المسافر، السيف في القراب، وهؤلاء الكفار لو تسلطوا عليهم بالنبل من فوق الجبال بل حتى ولو بالحجارة لقضوا عليهم؛ لأن موقع الكعبة في أخفض مكان في مكة، والجبال مرتفعة من حولها، كما أن موقع المسجد النبوي في أخفض مكان في المدينة، ولذا فإن السيول تأتيه من كل جانب، فلو أنهم نفذوا مخططهم لقضوا عليهم، وليس هناك موالٍ قريب ليمد المسلمين بالمدد، والرسول صلى الله عليه وسلم كان قد جاء بالسلاح معه، وتركه في العيس، وترك حراساً عليه، ولكن لو انقضوا عليهم فلن يجدوا وقتاً ليأتوا بالسلاح! ولابد أن يكون هناك ضيم على المسلمين.

فكان الحل من رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أخبر المسلمين بتآمر المشركين مع الشيطان، وكما ننبه دائماً أن الغزو الفكري لا يقاوم بالقوة، ولكن تقاوم الفكرة بفكرة ضدها، وهنا فكرة المشركين أن المسلمين ضعاف من آثار حمى يثرب، وهذا كان أمراً معروفاً في الجاهلية، فقد كانوا يعتقدون في الجاهلية أن من دخل المدينة تصيبه الحمى، فإذا أراد أن يسلم من الحمى فعليه أن يقف عند بابها وينهق ثلاث مرات، فإذا ما نهق ثلاث مرات في اعتقادهم فإنها تشرد عنه الحمى، إذاً: الحمى كانت مشهورة عندهم، ويقول العلماء المتأخرون: هذا أمر طبيعي؛ لأن المدينة كانت مليئة بمياه السيول، وكانت العيون تفيض على وجه الأرض، فينتج عن ذلك غدران ومستنقعات الماء، ومستنقعات الماء في العالم إنما هي حواضن للبعوض، والبعوض هو الذي يسبب الحمى وينقلها.

إذاً: كانت المدينة موطناً طبيعياً للحمى.

فجاء جبريل عليه السلام إلى النبي وأخبره: أن المشركين قد تآمروا بكذا وكذا، فلم يقل النبي صلى الله عليه وسلم: يا رب! أنزل لي جنوداً.. أو أنزل لي ملائكة؟!! وإذا كان الله سينزل له ملائكة فغيره ماذا يفعل؟ ولكن النبي صلى الله عليه وسلم عنده السياسة الحكيمة، والفكر الثاقب، ونور النبوة، فقال لأصحابه: إن المشركين تآمروا عليكم بكذا وكذا بسبب كذا، فأروهم من أنفسكم اليوم قوة، يعني: اقلبوا عليهم ظنهم، كما يقال: اعكسوا عليهم الفكرة، فهم يقولون: إنكم ضعاف بسبب الحمى، وإنكم منهكون بسبب طول السفر من المدينة إلى مكة، فإذا رأوكم كذلك فإنهم سيطمعون فيكم ويتحقق فيكم القول، ولكن اعكسوا عليهم الفكرة، وبماذا تعكس؟

قال: (أروهم اليوم من أنفسكم قوة) وليس المراد المصارعة عند البيت، وإنما المراد أروهم القوة في عنصر العمرة، فأمرهم بالاضطباع، وهو: جعل وسط الرداء تحت الإبط الأيمن، وطرفيه على الكتف الأيسر، يعني: شمروا، وهذه هي هيئة الإنسان الذي يريد أن يعمل، وأمرهم بالهرولة. وبداية الطواف هو من عند الحجر الأسود، فكانوا يرملون من عند الحجر الأسود ويطوفون بالبيت من وراء الحجر إلى أن يأتوا إلى الركن اليماني، يعني: ثلاثة أركان من أركان الكعبة يقطعونها هرولة، وإذا وصلوا إلى الركن اليماني ودخلوا في ظل الكعبة وسترتهم الكعبة عن أهل مكة الذين ينظرون إليهم من المقابل، فيمشون على مهل ليكون ذلك أرفق بهم ليستأنفوا الشوط الثاني بنشاط، ولو كانت الهرولة في الأشواط الثلاثة كاملة فقد يظهر عليهم الضعف في الآخر، ولو كانت الهرولة في السبعة الأشواط لكان ذلك شاقاً عليهم، ولكن حينما تبدأ طائفة بالهرولة ثم تتبعها طائفة أخرى في الهرولة تكون الطائفة الأولى قد أنهت الشوط الأول، والطائفة الثالثة تبدأ، وإذا جاءت الطائفة الرابعة تكون الثانية قد انتهت، وهكذا تستمر الهرولة طيلة مدة الطواف، وإن كان الكل لم يهرول السبعة الأشواط، وكذلك أمرهم أن يمشوا ما بين الركن اليماني والحجر الأسود إرفاقاً بهم من أن يواصلوا الشوط كاملاً، وهكذا الشوط الثاني والثالث حتى لا يظهر عليهم الإعياء.

وهذا الأمر بالرمل التحقيق أنه كان في عمرة القضية، وكان من أجل إظهار القوة، وإحباط فكرة المشركين. فهل السبب مستمر في الرمل أو قد زال؟ الجواب: السبب قد زال، والرسول صلى الله عليه وسلم حينما فتح مكة سنة ثمان، يعني: بعدها بسنة واحدة، حينما طاف بالعمرة التي أهل بها من حنين عند عودته من الطائف من ثقيف رمل، ومكة فتحت في العام الثامن وهو اعتمر في نفس العام بعد الفتح، وقد أصبحت مكة في إمرة رسول الله وله عليها أمير، ومع ذلك رمل، وفي حجة الوداع سنة عشر من الهجرة حج وطاف بالبيت ورمل.

إذاً: العلة كانت موجودة في أول رمل، وبعد ذلك انتفت تلك العلة ولم تعد موجودة، فلماذا بقي الرمل إذاً؟

الجواب: سأل رجل عمر رضي الله تعالى عنه في خلافته وقال: يا أمير المؤمنين! في نفسي شيء، رملنا لما كنا خائفين، يعني: أول ما رملنا، فعلامَ الرمل الآن؟ قال: يا ابن أخي! حج رسول الله، وطاف ورمل فرملنا، أي: لم تكن العلة موجودة في الحج، ولم يكن هناك خوف ولا مؤامرة، ولكن أمر شرع فاستمرت مشروعيته.

وعلى هذا يتفقون على أن الرمل يكون في الطواف الأول الذي يعقبه سعي، وهذه قاعدة: أن كل طواف يعقبه سعي ففيه رمل، وكل طواف بدأ به الحاج أو المعتمر فإن فيه رملاً، فالذي يأتي مفرداً الحج سيطوف طواف القدوم، وله أن يسعى بعده سعي الحج ففي طوافه رمل، والذي يأتي معتمراً فإنه سيأتي ويطوف وطوافه ركن في العمرة، وبعده سعي ففي طوافه رمل.

وأما طواف الإفاضة فمن كان قد سعى قبل عرفات فلا سعي عليه، وعلى هذا لا رمل فيه، وأما طواف الوداع فلا سعي بعده وعلى هذا لا رمل فيه، وهكذا أصبح الرمل مشروعاً في أول طواف يطوفه الناسك حاجاً كان أو معتمراً، وإن كان قد انتهى سببه وانقطعت علته إلا أنه أمر شرع وداوم عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وفعله مع انتفاء العلة، وهي التي يقول الأصوليون: فيه الاعتراض أو الإيماء وهو بقاء الحكم مع انتفاء العلة.

حكم الرمل في الطواف للنساء

والرمل هو حركة سريعة، وفيها إظهار قوة، فهل كل من طاف يرمل أو أن هذا خاص بالرجال؟

الجواب: هو خاص بالرجال؛ لأن القضية في أساسها كانت للرجال الذين رملوا عند أن تآمر عليهم المشركون، إذاً: المرأة لا تضطبع؛ لأنه ليس عندها رداء، وإنما تلبس لباسها العادي، ولا ترمل بل تمشي المشي العادي، ومن كان معه امرأة ويخشى من تركها ويضطر أن يسايرها فليمش معها في هيئة الرمل لكن بخطىً متقاربة، كما لو كان معك طفل، وأردت أن تجرّيه فهو يجري بأقصى ما يستطيع، وأنت أرجلك متقاربة مع بعضها كما يقال: محلك سر، فتكون في صورة الذي يجري وهو لا يجري.

إذاً: الرمل سنة في طواف الرجال وليس سنة في طواف النساء.

استلام الركنين اليمانيين

قال المؤلف رحمه الله: [وعنه رضي الله عنه قال: (لم أر رسول الله صلى الله عليه وسلم يستلم من البيت غير الركنين اليمانيين) رواه مسلم ].

تقدم الكلام عن استلام الحجر وتقبيله والسجود عليه، والحجر الأسود هو في أحد الركنين اليمانيين، وهو الركن المجاور لباب الكعبة، وبقي ثلاثة أركان في الكعبة، فما حكم استلامها؟

الجواب: ابن عمر يقول: ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يستلم من البيت إلا الركنين اليمانيين، (اليمانيين) تغليباً كما يقال: القمرين للشمس والقمر، والعمرين لـأبي بكر وعمر ، فهذه من باب التغليب، وهذا جزء من حديث طويل وفيه أن رجلاً سأل ابن عمر فقال: (أراك تفعل شيئاً لم تكن تفعله من قبل أراك تطوف بالسبتيتين -وهما: نوع من أنواع النعال- وأراك لا تستلم من البيت إلا الركنين، فقال: أما لبس السبتيتين فإني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبسهما، وأما استلام الركنين فما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يستلم من البيت إلا الركنين اليمانيين).

والركنان الآخران يسميان بالركنين الشاميين؛ لأنهما في الجهة الشمالية، ويقولون: إن الذي يواجه المدينة من الكعبة هو الحجر والميزاب، ويقولون: إن الميزاب الذي فوق الكعبة على خط مستقيم مع محراب مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالركنان اللذان يليان الحجر، واحد من الفتحة اليمنى وواحد من الفتحة اليسرى يقال لهما: الشاميان، واللذان مقابلهما من الجهة الأخرى يقال لهما: اليمانيان.

سبب استلام الركنين اليمانيين دون الشاميين

وسبب استلام الركنين اليمانيين وعدم استلام الركنين الشاميين يرجع إلى تاريخ الكعبة؛ لأن الكعبة في العهد الأخير قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم كما أشرنا سابقاً قد جددت قريش بناءها، والكعبة كانت على قواعد إبراهيم، فلما أرادوا أن يبنوها من جديد حينما تصدعت، أو أحرقت أو إلخ، قال قائل منهم: لا تدخلوا في بيت الله إلا مالاً حلالاً، والقصة من أولها: أن أهل مكة حينما اتفقوا على الهدم كانت تأتي حية في الضحى وتطلع وتستشرف على جدران الكعبة، فكانوا يخافون أن يتقدموا إلى الكعبة، فأرسل الله طائراً وهم يرونه وأخذ الحية بمخالبه وذهب بها، فقالوا عند ذلك: قد أذن الله لكم بالهدم، ولكن لم يتجرأ أحد -تقديساً للبيت واحتراماً له- أن يتقدم للهدم، فجاء رجل وتجرأ وتقدم فتناول حجراً، فانتثر الحجر من يده ورجع إلى مكانه، فقال: يا معشر قريش! لا تدخلوا في بناء البيت مالاً محرماً، فلا تدخلوا فيه مهر بغي، ولا حلوان كاهن، ولا مالاً ربوياً، فقالوا: وكيف نصنع وغالب أموالنا من هذه الأمور الثلاثة؟

قال: انظروا إلى حلي النساء، وهو ما يسمى بالمال الصامت، أي: الذي لا يكون متحركاً في الأسواق، فجمعوا من حلي النساء ما أمكنهم، ونظروا في قيمته فوجدوه لا يفي بالقدر المطلوب لإعادة بناء الكعبة على قواعد إبراهيم الأربعة، فقالوا: ماذا نصنع؟!

فاجتمعوا وقالوا: إذاً: نختصر من البيت من جهة الشمال، ونحجر على الجزء الذي اختصرناه بحجر يحفظه من أن يضيع في المسجد، وفعلوا ذلك.

وفي هذا معانٍ عظيمة جداً فلو تأملنا في هذا النظر من المشركين، لرأينا أنهم كانوا يتأثمون من أن يدخلوا في بناء بيت الله مالاً حراماً، فكيف بالمسلمين الذين جاءهم الشرع الحكيم؟! فحلوان الكاهن ومهر البغي والربا كل ذلك محرم عقلاً وشرعاً، وأهل الجاهلية كانوا يقيمون تجاراتهم على الربا، فقالوا: لا تدخلوا الربا في بناء الكعبة.

وأقول -والله تعالى أعلم-: أراد الله سبحانه أن يقيم من آياته الكبرى عند بيته للعالم كله على مدى الأزمان شاهداً على تحريم الربا من زمن الجاهلية إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها؛ لأن كل إنسان يأتي إلى البيت الحرام وينظر إلى هذا الحجر سيتساءل: لماذا احتجروه، ولماذا لم يضيفوه إلى البيت، ولماذا اقتطعوه من الكعبة؟

فسيكون الجواب: لأن أهل مكة قصرت بهم النفقة، ولم يدخلوا فيه الربا.

ولما طلبت عائشة من رسول الله أن يدخلها البيت لتصلي فيه كما صلى فيه صلى الله عليه وسلم، أخذ بيدها إلى الحجر وقال: (صلي هاهنا فإنه من البيت، فصلت، ثم قالت: ما بال هذا من البيت ولم يدخل فيه؟ فقال لها: إن قومك قصرت بهم النفقة...) وذكر لها السبب، فكل إنسان سيأتي ويرى هذا الأمر سيسأل سؤال عائشة : ما باله لم يدخل فيه؟! وسيتلقى الجواب كما تلقته أم المؤمنين رضي الله عنها أن السبب في ذلك هو التورع عن إدخال الربا في بناء الكعبة، والحجر هو: الستة الأذرع الممتدة من جدار الكعبة إلى جهة الشمال.

إذاً: كل من أتى البيت وطاف ورأى الحجر وتساءل سيتلقى نفس الجواب، إذاً: هذا الحجر فيه آيات بينات وفيه دلالة واضحة قائمة شاهدة تنادي على العالم أجمع: أن الربا محرم.

فأقاموا البناء من جهة الركنين اليمانيين على قواعد إبراهيم سواء، واختصروا البناء من الجهة الشامية فقطعوا الركنين عن قواعد إبراهيم إلى حيث وصلت بهم النفقة، ولما أبقوا من البيت مكاناً خارجاً عنه حجروه بهذا البناء. ومن ناحية أخرى كون النفقة قصرت بهم وجعلوا جزءاً من البيت حجراً مفتوح الطرفين فإنه إتاح الفرصة للمساكين، ولمن أراد أن يصلي في البيت أن يصلي فيه؛ لأنه لا يجد من يفتح له الكعبة، كما قال الرسول لـعائشة عند أن سألته: (ما بالهم جعلوا له باباً مرتفعاً؟ قال: ليدخلوا من شاءوا ويمنعوا من شاءوا) فبقي الحجر مفتوحاً من هنا ومن هناك، وفي إبقاء الحجر على هذه الحالة آية، فليس كل أحد يستطيع أن يأتي إلى بني شيبة ويقول: افتحوا لي الكعبة، أو يأتي إلى من يتولى شئون الحرمين ويقول: افتحوا لي الكعبة؛ لأنها لا تفتح إلا للرؤساء والعظماء إلخ، أو في المناسبات المعهودة، فجعل الله الحجر -رغماً عنهم- مرجعاً ومأوى وموئلاً للضعفاء الذين لا يستطيعون دخول البيت، وأصبح الحجر جزءاً من البيت مفتوحاً ليلاً ونهاراً لا يرد عنه أحد.

والذي يهمنا في هذا أن الركنين اللذين يليان الحجر ليسا على قواعد إبراهيم، ولهذا يقولون: للركنين اليمانيين خصيصة، وأحدهما له خصيصتان والآخر له خصيصة واحدة، فالركن الذي فيه الحجر الأسود له خصيصتان: الأولى: كونه على قواعد إبراهيم، والثانية: كونه فيه الحجر الأسود، ولهذا يقبل ويستلم، ويقبل ما وصل إليه، وأما الركن اليماني فله خصيصة واحدة: وهو أنه على قواعد إبراهيم، فيستلم ولا يقبل، فليس من السنة أن يقبل الركن اليماني، ولكن يستلم باليد، ولا تقبل اليد بعد استلامه، وهكذا فعل ابن عمر رضي الله عنه، وعزا ذلك وأسنده ورفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم.

يقول بعض العلماء: كان الخلاف موجوداً في السابق عن معاوية رضي الله عنه، فقد جاء عنه: أنه كان يستلم جميع الأركان، فسئل عن ذلك، فقال: ليس من البيت شيء مهجور، ولكن كما يقول العلماء: هذا الخلاف قد انقضى وانتهى، ولم يبق استلام إلا للركنين اليمانيين.

حكم الزحام على الحجر الأسود

عند الاستلام للحجر الأسود يجب التحذير من التزاحم عليه، ومن إيذاء الضعفاء، كما جاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال لـعمر حينما قال له: (يا رسول الله! إني كنت نذرت أن أعتكف ليلة في الجاهلية في المسجد الحرام، فقال له: أوف بنذرك، ثم قال: لا تنسنا من صالح دعائك يا أخي! ثم قال: يا عمر ! إنك رجل قوي، فلا تزاحمن على الحجر فتؤذي) ونحن نقول أيضاً: يا ضعيف! لا تزاحمن على الحجر فتؤذى وتعرض نفسك للإيذاء من القوي، إذاً: النهي عن المزاحمة يتوجه للطرفين: للقوي حتى لا يؤذي، وللضعيف حتى لا يؤذى، ومن الضعفاء النسوة، فلا ينبغي لهن أن يزاحمن على الحجر. ويذكر بعض العلماء أن رجلاً يمانياً قال لـابن عمر : أرأيت لو زاحمت على الركن، قال: اجعل أرأيت باليمن، ولم يقبل منه هذا العذر، ومعلوم أن ابن عمر كان عنده شيء من التشديد في هذه المسألة، وقوله صلى الله عليه وسلم: (يا عمر ! إنك رجل قوي فلا تزاحمن) هذا هو المعمول به عند جميع العلماء، وهذا الذي ينبغي مراعاته، والله تعالى أعلم.

بيان أن تقبيل الحجر ليس لذاته وإنما للتأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم

قال المؤلف رحمه الله: [وعن عمر أنه قبل الحجر وقال: (إني أعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك). متفق عليه ].

هذه القضية قد أشرنا إليها فيما تقدم، فقلنا: إن الأصنام كانت مثبتة على جدران الكعبة بالرصاص، ولما دخل صلى الله عليه وسلم مكة فاتحاً كان يشير إلى الصنم بقضيب في يده، فما أشار إلى صنم في قفاه إلا انكب على وجهه، ولا أشار إلى صنم في وجهه إلا خر على قفاه، وما كان يلمسه بالسوط ولكن بمجرد الإشارة.

ففي هذا معجزة كبرى، وقد يقال: أليس هذا القضيب كان في يده قبل فتح مكة، ألم يكن يصلي حول الكعبة وظلت الأصنام عليها، فلماذا لم يسلط عليها هذا القضيب؟ الجواب: أنه لم يكن قد حان أوان ذلك، ولهذا من الحكمة للداعية أن ينظر في عواقب الأمور، وأن لا يتعجل الأمور قبل أوانها، والحكمة هي: وضع الشيء في موضعه.

إذاً: عمر رأى أنه قبل سنين كانت الأصنام معلقة، فخاف على العامة أو الدهماء، أو الذين لم يدركوا ذلك، أن يقع في أذهانهم أن في تقبيل الحجر تكريماً للحجر لذاته، فقال لهم: لا، الحجر لذاته لا ضر فيه ولا نفع، فهو حجر وجماد، ولكن قبّله لأمر آخر، فقال: (ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك) إذاً: عمر قبل الحجر امتثالاً واقتداءً برسول الله، علم الحكمة أو لم يعلم، وعلى هذا فإن الواجب على كل مسلم، فيما لم تنكشف له الحكمة فيه أن يسلم وأن يمتثل الأمر. وكذلك إذا انكشفت له بعض الجوانب وخفي عليه الكثير منها فإنه يسلم ويمتثل.

إذاً: إذا جاء الشرع ثابتاً واضح الدلالة، فلا قول للعقل في قبول التشريع، ولا يجوز أن نعرض الشرع على عقولنا، بل نعرض عقولنا على الشرع، فإذا ما ثبت التشريع بطريق سليم صحيح، وكان المعنى واضحاً، والنص صريحاً.. فلا مكان للرأي ولا محل للاجتهاد فيه، كما يقول العسكريون في تلقي الأمر: نفذ ثم اسأل، أي: نفذ أولاً ما أمرت به، وقد يكون الأمر غير موافق لعقلك وما تدري لماذا أمرك القائد بهذا؟ فلا ترفض الأمر، وتقول: لماذا؟ فإنك قد تفوت الوقت وتضيع الفرصة، وإنما نفذ ما أمرت به ثم اذهب واسأل ما بدا لك، وهكذا الشرع، ولهذا قال عمر : (إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا -هذا محل التشريع- أني رأيت) ويا نعم ما رأى! رأى عمل رسول الله مباشرة ومشافهة؛ لأنهم كانوا يتلقون عنه مباشرة، لا بنقل ينقل، ولا برواية تروى، بل رأوا بأعينهم، وسمعوا بآذانهم، فامتثلوا أوامره طواعية: (لولا أني رأيته يقبلك ما قبلتك).

في هذا الموطن يذكر العلماء ومنهم الصنعاني شارح هذا الكتاب أن هناك رواية فيها: أن علياً سمع ذلك من عمر ، فقال: (لا يا أمير المؤمنين! إنه ينفع، قال: وكيف ذلك؟ قال: لأنه يأتي يوم القيامة وله عينان ولسان، يشهد لكل من استلمه بحق) (وقد جاءت فيه أحاديث منها: (هو يمين الله في أرضه فقال عمر : (من أين يا علي ؟! قال: من كتاب الله، قال: وأين ذلك في كتاب الله؟ قال: في قوله سبحانه: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا [الأعراف:172]، فكتب ذلك في رق، وأودع هذا الرق الحجر، وكان له فم ولسان وعينان) ونحن نقول: إن هذه الأشياء يتوقف في سماعها على صحة إسنادها، وصراحة مدلولها، ونحن لا نستبعد هذا كما لا نستبعد كيف أخذ الله الذرية بعضها من بعض إلى آخر واحد من آدم، وكيف اجتمع العالم كله في عالم الذر بعرفة؟! أنا وأنت ومن سيأتي بعدنا أرواحنا اجتمعت في عالم الذر؟! ونحن لا ندرك هذا، ولكنه عالم آخر يعلمه الله سبحانه وتعالى.

فإذا جاءت القضايا إلى القدرة الإلهية فاسترح؛ لأنه لا يستعصي على القدرة الإلهية شيء.

إذاً: عمر ينبه بهذا المعنى على أن المسلمين إنما يقبلون الحجر لا لذات الحجر ولا لمعنى فيه، ولكن امتثالاً وطاعة واتباعاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم.

وكذلك الطواف حول الكعبة ليس لأنها زمردة أو ياقوتة، ولو كانت زمردة أو ياقوته، أو أغلى جوهر في العالم فليس الطواف حولها لذاتها، فكيف وهي بنيَّة من حجارة وهذه الحجارة موجودة في مكة، ولكن نطوف حولها لقداستها، ولتعظيمها، فقد عني به المولى سبحانه فقال: وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنْ الْبَيْتِ [البقرة:127]. وقال: وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً [البقرة:125] ونحن نطوف أيضاً امتثالاً لأمر الله في قوله: وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ [الحج:29].

مشروعية استلام الركن بمحجن ونحوه

قال المؤلف رحمه الله: [وعن أبي الطفيل قال: (رأيت رسول الله صلى الله عليه سلم يطوف بالبيت ويستلم الركن بمحجن معه، ويقبل المحجن) رواه مسلم ].

هذا فيه تتمة لاستلام الحجر، فإن استطعت أن تأتي إلى الحجر وتضع كفيك على جانبيه، وتضع شفتيك عليه وتقبل، بل وتضع جبهتك عليه وتسجد، فهذه هي أكمل الصور، وإذا لم يمكنك واستلمته من بعيد بيدك أو بأنامل أصابعك فقبل يدك أو أناملك وامض، وإذا لم تستطع فبمحجن، يعني: عصا معوجة، فإذا مددته ولمست الحجر به فقبل طرفه ولكن احرص على أن لا تؤذي أحداً، وقلنا: لو أنك مددت رداءك إلى إنسان عند الحجر وقلت له: ألمسه لي، فمسحه بالحجر ورده إليك فقبله وهكذا، فقبل الحجر بذاته أو ما لامسه، أما إذا لم يحصل هذا ولا ذاك، فأشر من بعيد وارفع يدك وقل: باسم الله، الله أكبر، ولا تقبل يدك؛ لأنها في الهواء، لم تلمس الحجر فلا تقبل.

والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً مزيداً إلى يوم الدين.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , كتاب الحج - باب صفة الحج ودخول مكة [8] للشيخ : عطية محمد سالم

https://audio.islamweb.net