إسلام ويب

فرض الله زكاة الفطر طهرة للصائم وطعمة للمساكين، وقد حدد الشرع مقدارها ومحل وجوبها، وأشار إلى ما يمثله أداؤها من صور التكافل الاجتماعي التي ندب إليها الشرع وحض عليها.

أهمية صدقة الفطر

باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:

فيقول المؤلف: [ عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر صاعاً من تمر أو صاعاً من شعير على العبد والحر والذكر والأنثى والصغير والكبير من المسلمين، وأمر بها أن تؤدى قبل خروج الناس إلى الصلاة) متفق عليه.

ولـابن عدي والدارقطني بإسناد ضعيف: (أغنوهم عن الطواف في هذا اليوم) ].

زكاة الفطر طهرة للصائم

بعدما أنهى المؤلف رحمه الله تعالى بيان زكاة الأموال بأجناسها المتفق عليه والمختلف فيه جاء إلى هذا الباب العام الشامل، وهو: زكاة الفطرة، ويقال لها أيضاً: زكاة الفطرة، فعلى أنها زكاة الفطر -أي: الفطر من رمضان- حينما يفطر الصائمون يخرجون هذه الزكاة كما بين صلى الله عليه وسلم الغرض منها من جانبين:

طهرة للصائم، وكما يقول بعض العلماء: زكاة الفطر بالنسبة إلى الصوم كسجدتي السهو، فسجدتا السهو تجبر ما كان من نقص أو خلل في الصلاة بالزيادة أو النقص، وصدقة الفطر تجبر أيضاً ما كان من الصائم من خلل في صومه، فهناك بعض الأمور التي يغفل عنها الصائم: كلمة بلسانه، أو نظرة بعينه، أو حركة بيده.. أو نحو ذلك.

يقول جابر رضي الله تعالى عنه: (لا يتم صوم الصائم حتى تصوم جوارحه) ، وكذلك الحديث الآخر: (من لم يدع قول الزور والعمل به، فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه).

كذلك جاء في الحديث: (الصوم جنة ما لم يخرقها، قالوا: بم يخرقها يا رسول الله؟ قال: بكذب أو بسباب) أو كما قال صلى الله عليه وسلم، والصائم أو المسلم ليس معصوماً، فقد يقع منه بعض تلك الأشياء التي لا تبطل الصوم، ليست بأكل ولا شرب ولا وطء، فصومه صحيح، ولكنه مجروح، فتأتي زكاة الفطر وتعالج تلك الجراح التي وقعت على صومه في نهار رمضان.

صدقة الفطر طعمة للمساكين

والجانب الثاني: طعمة للمساكين في يوم العيد كما سيأتي (أغنوهم عن الطواف في هذا اليوم) .

هذا معنى زكاة الفطر: أي الفطر من رمضان. وسميت زكاة الفطرة، والفطرة: الخلقة الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [فاطر:1] أي: خالقها، وقال تعالى: فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا [الروم:30] أي: خلقهم جبلة عليها، وفطرة الإنسان بمعنى: صدقة عن بدنه وخلقته في جسمه، ويؤيد هذا أيضاً الحديث الآخر: (على كل سلامى كل يوم تطلع فيه الشمس صدقة، وأمر بمعروف صدقة، ونهي عن منكر صدقة، وتعين الرجل على دابته صدقة، وأن تلقى أخاك بوجه طلق صدقة، ويجزئ عن هذا كله ركعتان من الضحى).

فالرسول صلى الله عليه وسلم جعل على الإنسان في أعضائه وحركاته صدقة لكل عضو يتحرك، ولعل هذا في مفهوم العصر الحاضر من عوامل الصيانة، فهذا الجسم فيه ثلاثمائة وستون مفصلاً، من فقار الظهر.. إلى أنامل اليد.. إلى حركة الفك إلى الأسنان... إلى غير ذلك، وكل عضو يتحرك يحتاج إلى صيانة، فتكون الصدقة هي عوامل الصيانة لجسم الإنسان، وهي شكر لله سبحانه وتعالى على سلامى من بدنه بعد أداء فريضة الصوم.

وسواء سميت صدقة الفطر أو سميت صدقة الفطرة، إلا أن بعض العلماء علق تسميتها صدقة الفطر حكماً في وقت وجوبها، لأن معنى صدقة الفطر، أي: الفطر من رمضان في آخر يوم يفطر فيه الإنسان، وذلك عند غروب الشمس، فقال: تجب بغروب الشمس من ليلة العيد.

والآخرون يقولون: تجب بطلوع فجر يوم العيد، أي: فالخلاف في مدة الليل فقط من غروب الشمس إلى طلوع الفجر، هذا محل الخلاف، ويترتب على هذا الخلاف أمر بسيط، وهو: أن من قال بغروب الشمس لو ولد مولود بعد الغروب، أو مات ميت بعد الغروب فمن قال بغروب الشمس قال: إنها وجبت عليه، ومن قال بطلوع الفجر قال: لا تجب عليه؛ لأنه لم يدرك الفجر حياً.

المهم أن نتيجة الخلاف نتيجة بسيطة وخفيفة وعلى القول بأن زكاة الفطر تكون متعلقة بصوم رمضان.

وجاءت بعض الآثار تفيد أن الصوم معلق بين السماء والأرض بزكاة الفطر، وعلى أنها زكاة الفطرة تكون شكراً لله على سلامة البدن.

فرضية صدقة الفطر

وبدأ المؤلف رحمه الله بحديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما بقوله: فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر صاعاً وذكر الأشياء الثلاثة: التمر والزبيب والشعير.

عند قوله: (فرض رسول الله) الفرض: بمعنى القطع، تقول: فرض الحبلُ الحجر بمعنى: حز فيه ولم يفصله، ومنه الفرائض: القطعة من الواجبات، وتقول فرض، بمعنى ألزم، أي: أوجب، فهنا الجمهور يقولون: فرض بمعنى أوجب وألزم، كما تقول: فريضة الصلاة، فريضة الصيام، فريضة الحج؛ بمعنى الوجوب، فمعناه: أوجب صدقة الفطر صاعاً ..، ويكون في هذا الحديث الحكمان: وجوب زكاة الفطر ومقدارها.

وبعضهم يقول: فرض بمعنى: قدر، ومنه الفرائض: أي بيان قدر استحقاق الورثة، كل بحسبه وبفرضه، ولكن الجمهور على أن فرض بمعنى أوجب وألزم، والفرق بين القولين: هو الحكم على زكاة الفطر، أهي فريضة واجبة كزكاة المال والصلوات الخمس أم هي ليست واجبة؟

فمن حمل كلمة (فرض) على ظاهرها، وقال: معناها أوجب، تكون فريضة، والأئمة الثلاثة مالك والشافعي وأحمد لهم أقوال في هذه الناحية، والقول المشهور: أن زكاة الفطر واجبة، وواجبة على رأي الجمهور مع اختلافهم في اصطلاح الوجوب، فالأئمة الثلاثة: مالك والشافعي وأحمد أن الفرض والواجب والركن سواء إلا في الحج، فالفرض فيه شيء والواجب شيء آخر، فالواجب فيه يجبر بدم أو نحوه، والفرض أو الركن لا يجبر ببديل عنه، بل لابد من الإتيان به.

والأحناف عندهم فرق عام بين الفرض وبين الواجب في الصلاة وفي الزكاة وفي الصيام وفي الحج، يقولون: هذا فرض، ويقولون: هذا واجب. في كل التكاليف، وهذا اصطلاح خاص بالأحناف، وعندهم أن الفرض: ما ثبت بدليل قطعي الثبوت، فالثابت بخبر قطعي وهو نص القرآن الكريم أو السنة المتواترة يعتبر فرضاً، وما ثبت بأحاديث الآحاد فهذا واجب، أي أنه دون الفرض بشيء.

فالأحناف يقولون: صدقة الفطر واجبة، أي: ليست فريضة. والمالكية لهم أقوال وتفصيلات في ذلك، وأما الحنابلة فالثابت عندهم أنها فرض بمعنى الوجوب واللزوم، وكذلك المالكية المشهور عنهم هذا.

وبعضهم يورد بعض النصوص فيقول: زكاة الفطر وجبت أولاً، ثم جاءت زكاة الأموال ثانياً، فبعضهم قال: زكاة الأموال نسخت وجوب زكاة الفطر، ولكن حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما في هذا الباب: محمول على الإيجاب ولم يرد له ناسخ، وعلى هذا يمكن أن نقول بعد مضي هذا الزمان، وبعد طول الوقت وعمل المسلمين: الكل يتفق على أنها واجبة، سواء قلنا: وجوب الأحناف، أو قلنا: وجوب الجمهور، فهي واجبة ومن لم يؤدها فهو آثم.

إذاً: حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما هو الأصل في هذا الباب، ويبحث في باب زكاة الفطر: فرضيتها -وقد تقدم شيء من ذلك- ومقدارها، وعلى من تجب، وعمن تجب، ولمن تجب، ومتى وجوبها، ومما تجب أيضاً، هذه النقاط الرئيسية -سبع نقاط في هذا الباب- يتناولها الفقهاء، ويبينون ما جاء فيها على اتفاق أو على اختلاف.

فقول ابن عمر رضي الله تعالى عنه: (فرض رسول الله) أسند الفرض هنا -وهو الإيجاب والإلزام- لرسول الله صلى الله عليه وسلم، إذاً: في ظاهر هذا اللفظ أن الفرضية والتشريع والإيجاب من رسول الله، وإذا شرع أو فرض رسول الله يكون هذا من عند رسول الله، وهو بلغ عن الله، لأنه لا شك أنه لا ينطق عن الهوى، ولكن هل له حق الفرض والتشريع والندب أم ليس له حق؟

له حق في ذلك، والله سبحانه وتعالى أمر بطاعته صلوات الله وسلامه عليه فقال: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ [النساء:80].

وقد جاءت نصوص فيها تشاريع منها عن الله، ومنها عن رسول الله متممة لما جاء عن الله، فمثلاً: جاء عن الله سبحانه وتعالى في المحرمات من النساء الأمهات والبنات والأخوات... وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ [النساء:23] بصرف النظر عن النقاش في الأختين بالعقد أو الأختين بملك اليمين، فالجمع بين الأختين محرم بكتاب الله، ثم جاء عنه صلى الله عليه وسلم: (نهى أن تنكح المرأة مع خالتها، أو مع عمتها) ، فالقرآن جاء بالنهي عن الجمع بين الأختين، وهنا السنة زادت: الجمع بين المرأة وخالتها، والمرأة وعمتها، إذاً: هذه المحرمات في السنة زائدة عما جاء في القرآن، إذاً: له صلى الله عليه وسلم أن يفرض وأن يوجب وأن يندب إلى الفعل؛ لأن له حق التشريع؛ ولأنه لا ينطق عن الهوى؛ ولأنه إنما هو وحي إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى [النجم:4].

وعلى هذا سواء قلنا: إن الأصل في الفرض كان من الله أو من الرسول صلى الله عليه وسلم.

وهناك العموم: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ [البقرة:43] ثم في بعث معاذ إلى اليمن صرح الرسول صلى الله عليه وسلم أن الله الذي فرض الزكاة، والمقصود هنا في بعث معاذ زكاة الأموال: (إنك ستأتي قوماً أهل كتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله قد افترض عليهم صدقة في أموالهم تؤخذ من أغنيائهم وترد على فقرائهم)، قد يقول قائل: هذا في زكاة الأموال، وهذا الذي قام به معاذ وأبو موسى الأشعري في اليمن، لكن يقال: عموم الزكاة في أموالهم تشمل زكاة الفطر أيضاً لأنها زكاة.

إذاً: المشروعية أساساً كانت من الله سبحانه وتعالى، والرسول مبلغ عن الله، سواء ذكر لنا المصدر من الله أو منه صلى الله عليه وسلم، فهو لا ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى.

ثم جاء بالمقدار وبالأصناف التي تخرج منها زكاة الفطر، وإذا أراد إنسان أن يتكلم في النواحي الجانبية أو الاجتماعية أو الأخوية يجد أن هذا التشريع الكريم قوى عوامل ارتباط المسلم بأخيه؛ لأنه العامل الذي يجمع بين طبقات المجتمع على اختلاف أنواعها، فنجد التعميم والشمول: الذكر والأنثى والحر والعبد والصغير، الكبير، فهي أشمل من زكاة المال في من تجب عليه، فكل مسلم عليه زكاة الفطر، ولو كان رقيقاً لا يملك شيئاً، فسيده يدفع عنه، والصغير لا يملك شيئاً فوليه يدفع عنه.

وقد يقول بعض القائلين: هي طهرة للصائم، والصغير ليس عليه صيام، فلماذا نخرج الزكاة عنه؟! وقد نقل عن بعض السلف أنه لا زكاة عليه، ولكن نقول: ليست المهمة طهرة للصائم الفعلي فقط، بل إنها لعامة أفراد الأمة المسلمة: الذكر، الأنثى، الحر، العبد، الصغير، الكبير؛ لشمول العطاء.

وإذا نظرنا إلى المجتمع الفقير والغني، الأغنياء فيهم كبار وفيهم أطفال صغار، والفقراء فيهم كبار وفيهم أطفال صغار، فتكون زكاة الصغار من الأغنياء تقابل الصغار من الفقراء، ويكون الشمول عاماً، وسيأتي الحديث عنه إن شاء الله عند قوله: (أغنوهم عن الطواف في هذا اليوم) .

الصاع النبوي والمسائل المتعلقة به

أما قوله صلى الله عليه وسلم: (صاعاً) فالصاع وحدة مكيال، وهو المأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم، وكان في زمن النبي صلوات الله وسلامه عليه المد، وهو ربع الصاع ، والصاع هو المكيال العام، وما كان يوجد أنواع من المكاييل في زمن النبي صلى الله عليه وسلم إلا هذين النوعين: الصاع والمد النبويين.

والصاع كان معروفاً ومتداولاً، ولا حاجة إلى بيان الرسول لكميته أو مقداره، وكما يقول صلى الله عليه وسلم: (ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة)، فلا حاجة إلى التعريف بأن يقول: بيتي يقع في الشرق، المنبر يقع في الغرب، طوله كذا وعرضه كذا.. لا حاجة لهذا؛ لأنها معروفة بالتواجد والمشاهدة والحس، فكذلك الصاع، ولكننا مع طول الزمن وتغير الأحوال أصبحنا الآن قد لا نجد الصاع، وقد لا يعرفه إنسان، فكيف نعرف هذا؟

سبق أن نبهنا مراراً بأنه واجب على كل مسلم، أو كل حارة، أو كل بيت كبير أن يوجد الصاع لديهم؛ لأنه على هذا الصاع تتوقف أحكام كثيرة: الإطعام في الكفارة، الفطر في رمضان، أنصبة الزكاة، خمسة أوسق، والوسق ستون صاعاً، فإذا فقد الصاع كيف نعرف أنصبة الحبوب والتمور؟ وكيف نعرف مقدار صدقة الفطر؟ وكيف نعرف الإطعام في الكفارات على من كفارته الإطعام؟

فهذه أمور شرعية يكلف بها الإنسان ويضطر إليها، فلابد أن يكون عند كل شخص صاع، وخاصة في المدينة؛ لأنها الأصل الذي يرجع إليها عامة بلاد المسلمين، الذي في الأندلس، والذي في أوروبا أو في أي جهة كانت، وأراد أن يطبق الشريعة الإسلامية فيما يجب عليه من ناحية المقدار بالمكيال، فإنه سيأتي ويسأل أهل المدينة: ما هو الصاع عندكم يا أهل المدينة؟

ولهذا لما اختلف أبو يوسف مع مالك رحمهما الله، وذلك حين جاء أبو يوسف من العراق إلى المدينة وسأل عن الصاع؛ لأن المدينة هي الأصل في ذلك، فالمكيال مكيال المدينة، والوزن وزن مكة، ولهذا ذكرنا سابقاً ضرورة توحيد المكيال والميزان في الدولة، سواء اتفقوا على الصاع أو على الرطل أو على الأوقية -أي: الكيلو- يجب أن تكون الموازين والمكاييل موحدة في الدولة، حتى لا يختلف الناس.

ولما جاء أبو يوسف إلى المدينة وكان مع هارون الرشيد سأل مالكاً : كم الصاع عندكم؟ قال: خمسة أرطال وثلث، أي: بالرطل العراقي. قال: لكنه عندنا ثمانية أرطال. يعني: هناك فرق زائد، وهو رطلان وثلثان زيادة، فبماذا أجابه مالك ؟ طلب من الحاضرين أن من كان عنده صاع في بيته يخرج عليه زكاة الفطر فليأتنا به غداً، ومن الغد يأتي الآتي ويخرج من تحت ردائه مكيالاً ويقول: حدثني أبي عن جدي أنهم كانوا يخرجون الزكاة به على عهد رسول الله، واجتمع عند مالك في الحلقة نحو خمسون صاعاً، وأبو يوسف حاضر وشاهد، وما هناك اتفاق ولا تواطؤ على أن نصنع صياعاً ونقدمها، فهي موجودة قبل الطلب، وهذا يأتي من يمين وهذا يأتي من يسار، وهذا يروي عن أبيه عن جده عن جدته، فوجد أبو يوسف الأمر قطعياً، وهذا هو مدلول التواتر.

فيقول أبو يوسف : فنظرت في تلك الصيعان فوجدتها متحدة. يعني: في مقاس واحد، فأخذت واحدة منها -لأن الواحد يغني عن الجميع- فذهبت إلى السوق فعايرته بعدس الماش فإذا وزنه خمسة أرطال وثلث.

ولما رجع إلى العراق قال لهم: أتيتكم بعلم جديد. قالوا: وما هو؟! قال: وجدت الصاع خمسة أرطال وثلث. قالوا: خالفت شيخ القوم! يعني: خالفت الإمام أبا حنيفة رحمه الله، فقال: رأيت أمراً لم أجد له مدفعاً.

وهذا هو العلم الضروري الذي يقول عنه علماء الحديث: إن التواتر يفيد العلم بخلاف الآحاد فإنه يفيد غلبة الظن، وغلبة الظن يمكن أن تنفيها، ويمكن أن تشكك فيها، لكن علم اليقين لا يمكن أن تدفعه عن نفسك، لأنه علم ضروري. ومعنى (ضروري): لو أردت أن تدفعه عن مخيلتك لم تستطع، هذا رجل وتلك امرأة، لا تستطيع أن تدفع عن ذاكرتك الفارق بين الرجل والمرأة؛ لأنها حقيقة واقعية.

وهنا: الصاع كان معلوماً زمن النبي صلى الله عليه وسلم، ولهذا ذكره دون أن يتعرض إلى مقداره، وظل الصاع موجوداً دائماً إلى عهد بني أمية فجعلوا صاعاً للسوق، يسع ثلاثة آصع من صاع النبي صلى الله عليه وسلم، والصاع النبوي أربعة أمداد، وهؤلاء جاءوا بمد يعادل ثلاثة صيعان، يعني: اثني عشر مداً بالمد النبوي، فاختلفت المكاييل.

ثم لا زال الناس يتوارثون الصاع في المدينة إلى عهد قريب لا يزيد عن عشر سنوات، وكان هو وحدة المكيال في السوق في البيع والشراء، إلى أن دخل تلاعب في التمور في الأسواق مع الحجاج، فجاء الأمر بإبدال الكيل إلى الوزن، وأصبح الوزن بوحدة الكيلوجرام هي المقدار الذي يتبايع عليه الناس، سواء كان المبيع الأصل فيه الكيل كجميع الحبوب والتمور، أو كان الأصل فيه إنما هو الوزن فهو على طريقه.

وجاء عن العز بن عبد السلام رحمه الله أنه قال: يجب على الأمة اتباع ولي أمرها في أربعة أمور: وحدة الكيل، ووحدة الوزن، ونوعية النقد، وأمر الحرب إعلاناً أو هدنة: فإذا اختار ولي أمر أمة نوعاً من المكيال سواء الصاع النبوي، أو مكيالاً يسع صاعين أو ثلاثة، أو غير ذلك، وجب اتباعه، وكذلك وحدة الوزن من أوقية أو رطل أو كيلو فعلى الأمة أن تمتثل بذلك لتحقيق وحدة الوزن في الدولة، وهكذا أصبحت كل دولة لها وحدة مكيال تتعامل به في الأسواق، وهذا لا غبار عليه، يبيع الناس كيف شاءوا، إذا قيل: مقدار هذا الوعاء يسع خمسة آصع بعشرة ريال، وجيء بنصفه وبربعه واعتبرت هذه وحدة مكاييل تجزأ بالأنصبة نصف.. وثلث.. وربع... إلخ فلا مانع من ذلك؛ لأنها معاوضة سلعة بمال، ولكن إذا جئنا إلى الحكم الشرعي فلابد من تعيين المقدار الذي عينه الشارع، والشارع عين بالصاع.

ولهذا نحث الإخوة على أن يكون الصاع موجوداً في بيوتهم، بل إن أهل المدينة إلى العهد القريب -كما قلنا- كانوا يجعلون الصاع في بيوتهم، وعلى موضع الدقيق أو البر أو الأرز يغرفون به التماساً لبركة دعوة النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم بارك لنا في صاعنا وفي مدنا) فكان بدلاً من أن يأتي بإناء يغرف به أو يغرف بيده، يأتي بالمد ويغرف به من الدقيق إلى الوعاء الذي يريد أن يصنع فيه الطعام، ويقول: اللهم بارك لنا في مدنا، فاغترافه بالمد يلتمس بركة دعوة رسول الله.

ولما أوقف التعامل بالصاع والمد تغافل الناس عن ذلك، وأصبحوا يتعاملون بالوزن على وحدة الكيل كوحدة مئوية -يعني: ألف جرام- وأصبحت وحدة عالمية يتعامل بها العالم كله أو يعرفها العالم كله.

والوقت الحاضر بالبحث عن أجرام الصيعان التي كانت موجودة، ووجود بعض النوادر عن بعض من يحتفظ بها، قد يقع بعض الاختلاف، وهناك لجنة المواصفات في الرياض عملت مسحاً لجميع أطراف المملكة، وأخذت نماذج مما يوجد من الصيعان، فتقاربت؛ لأن أصل التقدير التقارب.

فالصاع أربعة أمداد، والمد ملء كفين متوسطتين لإنسان متوسط، وطبعاً لا يمكن أن تتعادل جميع الحفنات بالجرام، أنت بنفسك لو حفنت مرة وجعلتها في كفة، ثم حفنت مرة أخرى في كفة ثانية ستختلف، إذاً: المسألة تقريبية، والصيعان التي وجدوها في مناطق المملكة متقاربة، تختلف في مائة جرام.. في خمسين.. في مائة وخمسين.. في مائتين جرام، يعني: حفنة يد لا أقل ولا أكثر.

فمما وجدناه بالتجارب أن مكيلة الصاع نوعان: مكيلة تملأ إلى الحافة وتزيد فيها التسنيم الذي فوق حافة الصاع، كالشكل الهرمي الذي يكون على حافة الصاع من فوق، فتبدأ قاعدته بسعة فتحة الصاع وينتهي إلى أعلى على شكل الهرم، هذه التي فوق فتحة الصاع على شكل الهرم تختلف باختلاف فتحات الصيعان، فهناك صاع يكون طويلاً وفتحته قطرها (5 سم)، فطبعاً قاعدة هرمها ستكون صغيرة، ومساحة المثلث -كما يقولون- نصف القاعدة في الارتفاع، فإذا كانت فتحة الصاع كبيرة سيكون التسنيم فوق الفتحة كبيراً بلا شك، إذاً: العبرة هنا في التعبير أو في التعيير أو في المعايرة تكون على فتحة الصاع بدون تلك الزيادة، وبتجربة ذلك: أنواع الحبوب يختلف وزنها، كما يقول الفقهاء: فيوجد فرق بين التمر وبين الحمص، فليس الحمص في رزانة وثقل التمر، لأن التمر أثقل.

فقالوا: هناك أمور تقديرية؛ لأن بعض الحبوب أرزن وأثقل من بعض، وكذلك بعض الحبوب يكون مرصوفاً، وبعض الحبوب يكون متجافياً -فيه فجوات وفراغ- فعندما تكيل صاعاً من الشعير وتكيل صاعاً من الأرز، هل فجوات الأرز بعضها مع بعض تكون مثل فجوات حبات الشعير، أم أن حبات الشعير فيها فراغ أكثر؟

فيها فراغ أكثر، إذاً: يرجع إلى الرزانة وإلى تلاصق الحبات التي تكيلها.

إذاً: المسألة تقريبية، ولكن لو كان التعيير بالماء، فالماء وحدة تتفق في المقياس وفي الوزن، أي: المقياس التعكيبي وهو الجرم، والوزن بالجرام، فبالتجارب وجدنا أن الصاع الذي يتفق مع غلبة الظن بالصاع النبوي الذي كان يتعامل به في المدينة المنورة، وكان الملك عبد العزيز رحمه الله إذا صنع الصاع من الخشب، ختم عليه إذا عوير بالصاع المعترف به عند العلماء، ولذلك كانوا يقولون: الصاع المختوم. يعني: الذي ختم بختم الدولة بأنه مطابق للصاع الشرعي.

الآن وجدت صيعان من الحديد، ومن الزنك، ومن النحاس، فبتعيير تلك الصيعان التي صنعت جديداً على الصيعان التي وجدت قديماً مختومة، وجدنا سعة الصاع بالماء ثلاثمائة وثلاثة آلاف جرام، فإذا كنا وجدنا أي مكيال: (جلن)، أو علبة حليب، أو علبة سمن، وكان سعتها بالماء ثلاثة كيلو فهذا أول وزن الصاع، فثلاثة كيلو أحياناً يكون فيها زيادة مائة جرام أو خمسين جراماً على ما أظن، وهذا أمر تقريبي، ومساحتها بالعدس اثنين كيلو وستمائة جرام، فإذا وجدنا أي ظرف، أو أي وعاء يحمل من الماء ثلاثة كيلو ومائة جرام على التحديد فهذا هو الصاع، ثلاثة كيلو وخمسين جراماً، ثلاثة كيلو تنقص شيئاً بسيطاً، فلا يضر، والحق المعتدل: ثلاثة كيلو من الماء، وإذا كان يحمل من العدس خاصة -لأنهم يقولون العدس المجروش يتلاصق ولا يكون هناك فجوات بين الحبة والأخرى- اثنين كيلو وستمائة جرام، فهذا الحجم في ذاته هو مقدار الصاع.

إذاً: إن وجدنا صاعاً وحصلنا عليه، فعلينا اقتناؤه في البيت للبركة، ولمعرفة المقدار الشرعي، وأداء الواجب على الإنسان، وقد يكون واجباً شرعاً للقاعدة: (ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب) فلا يمكن أن تؤدي زكاة الفطر إلا بالصاع، وزكاة الفطر واجبة، إذاً: وجود الصاع واجب، ولا نقول: إننا نفتي بالتقريب ونزيد بالاحتياط، فالإمام مالك يمنع هذا، وسيأتي له نوع من البيان إن شاء الله.

والإمام النووي رحمه الله يقول: تقدير الصاع بالوزن أمر تقريبي.

وعلى هذا إذا عرفنا مقدار الصاع فإن مكيلة الصاع من الأصناف التي سميت في الحديث هو مخرج الزكاة -زكاة الفطر- والحديث جاء فيه تمر، وجاء زبيب، وجاء طعام، وجاء شعير، وجاء أقط، وجاء دقيق، وجاء سويق، كل هذه المسميات يخرج منها زكاة الفطر.

الأصناف التي تُخرج منها زكاة الفطر

وعلى هذا إذا عرفنا مقدار الصاع فإن مكيلة الصاع من الأصناف التي سميت في الحديث هو مخرج زكاة الفطر، والحديث جاء فيه تمر، وجاء فيه زبيب، وجاء فيه طعام، وجاء فيه شعير، وجاء فيه أقط، وجاء فيه دقيق، وجاء سويق، كل هذه المسميات يخرج منها زكاة الفطر.

ثم نجد بعض الناس يتكلم على الدقيق أو الأقط، ومنهم من يقول: إن إخراج الأقط يكون إذا كانت الزكاة في البادية؛ لأن أهل البادية هم الذين يستفيدون منه دون أهل الحاضرة، ويلاحظ عند الدقيق أن يكون الكيل زائداً عن الحب؛ لأن الحب إذا طُحن يزيد في مكياله، وإن كان لا يزيد في وزنه، لكن في المكيال قد يختلف، فإذ كان سيكيل دقيقاً فإنه يزيد في المكيال ما يعوض الفرق بين الحب المضغوط وبين الدقيق المنفوش.

والله تعالى أعلم.

إخراج الزكاة من غالب قوت البلد

وهنا مسألة: هذا الحديث نص على أعيان بذاتها، إذا لم توجد هذه الأصناف أو وجد غيرها معها، فهل يتعين إخراج زكاة الفطر من المسميات: تمر، زبيب، شعير، قمح، أقط، دقيق، سويق، أو يجوز إخراجها مما يأكل منه الناس؟

نجد الفقهاء يقولون: تجب من غالب قوت البلد، فإذا وجد صنف جديد لم يكن موجوداً من قبل، فمثلاً: الآن وجد الأرز والذرة والدخن، وكل هذه مطعومات، فإذا لم توجد تلك الأصناف المسماة في الحديث فهل تجزئ من هذه الأصناف الجديدة أم لا؟

الجمهور على إجزائها؛ لأنها تتفق مع الأصناف الأخرى في أنها قوت المواطنين، وعلى هذا يجوز إخراج الأرز، بل هو الآن أكثر وأغلب أنواع الأقوات الموجودة، ويجوز إخراج الذرة إذا كانت تستعمل في الخبز، وكذلك الدخن، وكل ما استجد من حبوب تكون قوتاً للناس ومن غالب قوت البلد.

إخراج الزكاة من غالب قوت المزكي

وبعضهم يقول: من غالب قوت المزكي، فإذا كان المزكي يأكل دُخناً، ويوجد البر والشعير والذرة والتمر، فهل يتعين أن يخرج مما يأكل منه؟

قالوا: إن كان يأكل من الأدنى وترك الأعلى شحاً وبخلاً لم يجزئه إلا الأعلى، وإن كان يأكل ذلك لنزوله في البلد فهو كسائر الناس، فإنه يجزئ ذلك.

وابن عمر رضي الله تعالى عنه كان يتحرى إخراجها من التمر؛ لأنه عنده أفضل من غيره، وهو في الواقع طعام جاهز لا يحتاج إلى طحن كالبر، ولا إلى عجن وخبز كالحبوب، وكما قيل: (هو طعام المسافر، وفاكهة المقيم، أو: طعام الفقير وفاكهة الغني) فالتمر طعام جاهز، ولهذا كان ابن عمر رضي الله تعالى عنهما يزكي كل سنة بالتمر إلا سنة واحدة أعوز فيها التمر فأخرج البر.

حديث أبي سعيد الخدري في زكاة الفطر

قال المؤلف: [وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: (كنا نعطيها في زمن النبي صلى الله عليه وسلم صاعاً من طعام أو صاعاً من تمر أو صاعاً من شعير أو صاعاً من زبيب) ].

قول أبي سعيد رضي الله عنه: (كنا نعطيها في زمن النبي صلى الله عليه وسلم)، أي: وهذا هو زمن التشريع؛ لأنه بإشراف وتوجيه من النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يصلح آخر الأمة إلا بما صلح عليه أولها، وهذا من ميزة المدينة وسكانها زمن النبي صلى الله عليه وسلم ومن بعده؛ لأنهم يأخذون مباشرة عن رسول الله، أو يعملون ويقرهم على عملهم رسول الله، ثم بعد ذلك خلفاؤه الراشدون، ثم بعد ذلك التابعون لهم بإحسان، وهلم جرا.

فهنا يذكر الشعير مع الحنطة (الطعام)، وأنه يخرج منها صاع، إذاً: هذا العمل يخالف ما رآه معاوية ، ولكن لا ينبغي أن نكثر القول على معاوية ؛ لأنه لم يقل: (سمعت رسول الله) فيتعارض مع قول أبي سعيد أو مع قول غيره، وإنما قال: (أرى)، وما دامت القضية قضية رأي، والرأي متبادل إما قبلتموه أو رفضتموه، فإذا وجدتم غيره أفضل فأنتم ترفضونه، وقد وجدنا هذا الأثر عن أبي سعيد، وأثبت أنه كان يعطي زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم صاعاً من البر الذي يرى معاوية أن نصف الصاع منه يجزئ، وهذا كاف في رد الرأي الذي رآه معاوية بما ذكره غيره مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم.

قال المؤلف: [ وفي رواية: (أو صاعاً من أقط) قال أبو سعيد : أما أنا فلا أزال أخرجه كما كنت أخرجه في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولـأبي داود : لا أخرجه أبداً إلا صاعاً ].

هذا الأسلوب له دلالته البلاغية، يقول: (أما أنا)، أي: أنا أتحدث عن نفسي، إذاً: هناك من يتحدث عن غيره.

أما قوله: (أما أنا) فهو رد على رأي معاوية لأنه يقول: أنا أرى أن نصف صاع من البر يكفي، أي: فأنت ترى نصف صاع من البر يكفي (أما أنا فلا أزال أخرجها كما كنت أخرجها زمن النبي صاعاً).

إذاً: نعلم من هذا الأسلوب (أما أنا) بأن هناك رأياً مقابل رأي، وهذا المقابل مغاير، إذاً: تقابل رأي برأي، وأحد الرأيين مجرد رأي واجتهاد، والرأي الثاني مبني على العمل الذي كان في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم.

فإذاً: لا شك أننا نأخذ برأي أبي سعيد الخدري، وهذا لم يعد رأياً، بل أصبح قولاً ينقله وخبراً يسوقه إلينا، كأنه يقول: لا تأخذوا برأي معاوية ؛ لأننا كنا زمن النبي صلى الله عليه وسلم نخرج صاعاً، لكن تأدباً مع ولي الأمر معاوية فلا ينبغي أن يجابه بهذه الصيغة ولا بهذا الأسلوب، ومن أساليب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أن يكون بالحكمة والموعظة الحسنة. فكأنه قال: يا معاوية ! لك رأيك، ويا من أخذتم برأيه لكم آراؤكم، ولكن أنا في خاصة نفسي، ولا أملك إلزاماً عليكم، ولا أطاوعكم فيما أعتقد خلافه.

إذاً: هذا المنهج يعطينا طريقة المغايرة، وطريقة الإنكار بأدب وبحكمة دون تجريح أو مجابهة، فقال: أما أنا، أي: في حد نفسي، والذي يريد أن يأخذ بكلامي فهو حر، والذي يريد أن يأخذ برأي معاوية فهو حر.

حديث ابن عباس في زكاة الفطر

قال المؤلف: [ وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر طهرة للصائم من اللغو والرفث وطعمة للمساكين، فمن أداها قبل الصلاة فهي زكاة مقبولة، ومن أداها بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقات) رواه أبو داود وابن ماجة، وصححه الحاكم ].

زكاة الفطر تجبر الصوم الناقص

حديث ابن عباس هذا رضي الله تعالى عنه قال: (فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر طهرة للصائم من اللغو والرفث، وطعمة للمساكين).

إذاً: صدقة الفطر لها مهمة مزدوجة، مهمة للمعطي ومهمة للآخذ، فمهمتها مع من يعطيها سلامة صومه، وجبر ما عساه قد طرأ عليه من نقص، وقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (الصوم جنة ما لم يخرقه. قالوا: بماذا يا رسول الله؟ قال: بسباب أو فسوق أو شتام أو نحو ذلك) .

إذاً: الصوم قد يكون درعاً سابغاً سليماً وافراً، وقد يكون مخرقاً يحتاج إلى ترقيع وتلحيم، فتأتي زكاة الفطر وتلحم هذه الثقوب أو تصلح هذا الفساد الذي طرأ على الصوم من لغو أو رفث.

فالزكاة من حيث هي عبادة تجبر النقص، وتكفر المعصية؛ لأن ما خرق جنة الصوم إلا بعصيان، والعصيان يحتاج إلى تكفير، فكانت زكاة الفطر تكفر أخطاء الصائم، قال تعالى: إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ [هود:114].

وهكذا كما جاء عنه صلى الله عليه وسلم فيما يتعلق بربط نافلة الصلاة مع فريضتها، وكذلك نافلة الصوم مع فريضتها، ويأتي هذا العامل الجديد وهو زكاة الفطر مع الصوم وهي من غير نوع الصيام، فنافلة الصلاة كما جاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه حينما يحاسب العبد على الفريضة في الصلاة ويوجد فيها نقص أو خلل، يقول المولى سبحانه للملائكة: (انظروا هل لعبدي من نوافل؟ فيقولون: بلى يا رب. فيقول: اجبروا فريضته من نوافله).

إذاً: هذه النافلة جبرت نقص الفريضة من نوعها، وجاء خبر عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما فيه: (وكذلك الصيام)، يعني أنه ينظر في فريضة الصيام، فإذا كان فيها نقص سأل المولى سبحانه الملائكة -وهو أعلم بذلك-: هل له من نافلة في الصوم؟ فيقولون: بلى. فيقول: اجبروا فريضته من نوافله.

وسيأتي في نافلة الصدقة المقارنة بينها وبين الفريضة، وفي الحديث: (ما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه) وسيأتي التنبيه عليه في باب صدقة التطوع.

كيف تكون الفطرة طهرة للصغير وليس عليه صوم؟

قوله: (طهرة للصائم) يفيد أن زكاة الفطر تعمل لمعطيها أعظم نعمة عليه، وهي: أنها تجبر صومه مما يكون قد ألم به.

وهنا يقول بعض العلماء: صدقة الفطر طهرة للصائم، وأول حديث سمعناه في هذا الباب: (فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر على الصغير والكبير، والذكر والأنثى) فالصغير ليس عليه صيام؛ وفي الحديث الآخر: (طهرة للصائم) فماذا تفعل زكاة الصغير؟ ولماذا نزكي عن الصغير زكاة الفطر؟

فأجابوا عن ذلك بأنه كما يوجد صغير غني لم يصم، هناك صغير فقير لم يصم يحتاج إلى أن يطعم، وجعل الله سبحانه وتعالى على ولي هذا الصغير القادر وطعمة للصغير المحتاج الذي يعوزه الطعام، ونحن قلنا: تسمى زكاة الفطر الذي هو ضد الصوم، وتسمى زكاة الفطرة التي هي الخلقة، فعلى تسميتها زكاة الفطرة فالصغير مفطور ومخلوق، عليه شكر النعمة في سلامته، وفي وجوده، والذي يؤدي على الصغير وليه، إذاً: لا اعتراض على ذلك، وتعميم التشريع يكون على الصغير والكبير، وهو له حظ أيضاً في قوله: (طهرة للصائم) .

فإذا زكى ولي الصغير عن صغيره، وصغيره ليس يصوم ولا يحتاج إلى طهرة صومه، فيعود أثر هذه الفطرة وهذه الزكاة على ولي الصغير، والله تعالى أعلم.

علاقة الزكاة بتطهير الغني والفقير

قال: (طهرة للصائم وطعمة للمساكين) أي: مقابل ما يحصل عليه المتصدق يحصل عليه الآخذ المتصدق عليه، فتكون الفائدة مشتركة بينهما، وطعمة المسكين في ذلك اليوم هي ما جاء بقوله: (اغنوهم).

وإذا نظرنا إلى القرآن الكريم نجد هذه الازدواجية في مهمة الزكاة العامة وهي زكاة الأموال؛ لأن المولى سبحانه وتعالى يقول لرسوله الكريم صلوات الله وسلامه عليه: خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً [التوبة:103] فاسم الصدقة شمل زكاة المال، وشمل صدقة الفطر، فماذا تصنع هذه الزكاة؟

قال: تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ [التوبة:103] قالوا: تطهرهم وتزكيهم البعض يقول: تطهر الأغنياء في نفوسهم، وتزكي أموالهم، والآخرون يقولون: لكل واحدة من هاتين الكلمتين جهة، فعندما ينظر الفقير إلى مال الغني، ويذهب الغني ويجني ماله، وليكن مثلاً مما تنبت الأرض، وذهب صاحب البستان وجذ نخله، وأخذ التمر إلى مخازنه، والمسكين يتطلع إليه ولم يجد تمرة واحدة منه، فالذي يحدث في نفس المسكين بغريزته وطبيعته أنه يحسده ويحقد عليه؛ لأنه يرى بعينه ما يتمتع به هذا الغني مما أعطاه الله، وهو والله ما أنبت النخلة حينما غرسها، ولا أطلع طلعها حينما أطلعت، ولا أنضج ثمرتها حينما طابت، ولا أتى بثمارها وتمرها، بل الله الذي صنع له كل ذلك وهو نائم في بيته، نائم في ظل النخلة وهي تعمل كل ذلك بإرادة الله.

فهذا الفقير الذي بجانبك هو عبد لله مثلك، صلته بالله كصلتك، وهو مخلوق مثلك تماماً.. فلماذا لا تفيض عليه مما أفاض الله عليك؟!

فإمساك الغني لماله وعدم إخراج زكاته، والفقير يرى بعينه، يجعله يحقد عليه ويحسده؛ ولهذا جاءت المبادئ الإسلامية تلزم الغني أن يشرك الفقير في ماله بقدر معلوم وهو الزكاة.

فهنا الفقير إذا تعطلت فريضة الزكاة حقد على الغني، وتدنس الغني بحق الفقير الذي في ذمته، وأصبحت الجريمة في الجانبين، فتأتي الزكاة وتصلح هذا الفقير وتطهره من حقده وحسده ونظرته وعداوته إلى الغني؛ لأنه أخذ حقه وافياً، فيقف ويقول: اللهم بارك له فيما أعطيته، اللهم بارك له في ثمره وفي ماله.

وتزكيهم أي: وتنمي أموال هؤلاء، ولقد علمنا -يا إخوان- وجاءتنا الأخبار الصادقة من كتاب الله ومن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصدقة بعينها، بل نجد القرآن الكريم يذكر قصة أصحاب الجنة: إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ * وَلا يَسْتَثْنُونَ [القلم:17-18] ماذا كانت النتيجة؟

فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ * فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ * فَتَنَادَوا مُصْبِحِينَ * أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَارِمِينَ * فَانطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ * أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ [القلم:19-24] فهؤلاء منعوا الصدقة، فماذا كانت النتيجة؟

فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ [القلم:19]، إلى أن قال: فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ * بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ * قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ [القلم:26-28].

وهناك في السنة النبوية : قصة الرجل الذي كان يمشي في فلاة من الأرض فيسمع صوتاً في السحاب: (اذهبي فأمطري في مزرعة فلان)، فتطلع إلى أن يرى من هو فلان الذي يسوق الله السحاب إلى مزرعته لتسقيها، ولأي شيء؟

فيسير في ظل السحابة، فإذا بها تأتي إلى حرة وإلى مكان متسع فتمطر، والماء يتجمع ويتحول ويمشي في طريقه ويصب في مزرعة فلان، وفلان قائم يحول الماء بمسحاته في الأحواض، فقال له: السلام عليك يا فلان. نظر إليه فلان هذا فلم يعرفه، قال: وكيف عرفت اسمي وأنا لم أعرفك؟! قال: أخبرني أولاً ماذا تفعل في مزرعتك هذه؟ قال: ولماذا تسأل؟ قال: سمعت صوتاً في السحاب... وأخبره بالخبر، قال: فجئت حتى وصلت إليك وعرفت اسمك من صوت السحاب. قال: إن كان الأمر كذلك فإني عندما أحصد أقسم الغلة ثلاثة أقسام، قسم أحتفظ به لأرده فيها، وقسم أدخره لنفسي وأهلي سنة، والقسم الثالث أتصدق به. قال: بهذا سقيت.

فهنا المسكين إذا لم يأخذ شيئاً فنار حقده في قلبه تحرق هذا المال؛ لأن فيه حقاً له، وإذا أخذ حقه بات ليله يحرس مال جاره؛ لأنه اطمأن أنه سيأتيه منه الرزق.

إذاً: هي طهرة للصائم وطعمة للمساكين، وهما متقابلان، وكذلك هناك: تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا [التوبة:103].

وقت وجوب زكاة الفطر

قال: [(فمن أداها قبل الصلاة فهي زكاة مقبولة، ومن أداها بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقات). رواه أبو داود وابن ماجة وصححه الحاكم].

هذا القسم من الحديث أشكل على كثير من الناس، هي طعمة وهي طهرة، ومع ذلك قال: (فمن أداها قبل صلاة العيد فهي زكاة، ومن أداها بعد صلاة العيد فهي صدقة من الصدقات) فهذه صدقة والأخرى صدقة! لكن قال: صدقة من الصدقات، يعني: كمن تصدق في أي وقت كان وبأي شيء كان قليلاً أو كثيراً، فإنها خرجت عن خصوص فريضة الزكاة إلى مطلق الصدقة، فكأن صاحبها متطوع بها، ومعلوم أن هناك فرقاً بين صدقة الفرض كما تقدمت الإشارة إليه: (ما تقرب إلي عبدي بشيء أحب مما افترضته عليه) وإذا كانت خرجت عن حدود الفرض دخلت في النوافل، وهي صدقة من الصدقات.

وهل تبرأ ذمته من فرضية زكاة الفطر أم لا؟

البعض يقول: نعم، لأنه أداها، ولكن أجرها لا يحتسب له كغيره الذي أداها في فترة الفرضية، إنما تحسب له صدقة من الصدقات التي تحسب الحسنة فيها بعشر أمثالها، أما كونها فريضة فلا يعلم أجرها إلا الله. وهل تسقط الفريضة أم لا؟ الأكثرون على أنها تسقط فريضة زكاة الفطر.

وبعض العلماء تباعد وقال: زكاة الفطر لم تؤد وهي باقية في ذمته؛ لأن وقتها خرج، ولا يجزئ عنها صدقة من الصدقات، إذاً: يترك إخراجها؛ لأنها صدقة من الصدقات إن شاء تصدق وإن شاء أمسك!

لكن الأكثرين على أنه يخرجها، ولو تأخر في إخراجها إلى ما بعد العيد فهي دين في ذمته وعليه أن يخرجها، مع أنه لن يحصل على الأجر كما لو أداها قبل صلاة العيد في وقتها.

والله تعالى أعلم.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , كتاب الزكاة - باب صدقة الفطر للشيخ : عطية محمد سالم

https://audio.islamweb.net