إسلام ويب

تضمنت سورة الفاتحة إفراد الله تعالى بالعبادة والاستعانة، فلا يعبد إلا الله، ولا يستعان إلا بالله فيما لا يقدر عليه إلا الله، وهذه العبادة الخالصة هي الصراط المستقيم الذي يسأل العبد ربه أن يوفقه ويهديه إلى سلوكه في كل ركعة، والابتعاد عن صراط المغضوب عليهم والضالين.

تفسير قوله تعالى: (مالك يوم الدين)

قال تعالى: مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [الفاتحة:4]: في قوله تعالى: مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [الفاتحة:4] قراءتان مشهورتان:

إحداهما: مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ [الفاتحة:3]، بدون ألف.

والأخرى: مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [الفاتحة:4].

ومن ناحية الشواهد العامة فـ: (ملك يوم الدين) تشهد لها: مَلِكِ النَّاسِ [الناس:2]، ومَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [الفاتحة:4] تشهد لها: قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ [آل عمران:26]، فالقراءتان صحيحتان.

أما يَوْمِ الدِّينِ [الفاتحة:4] فهو يوم الجزاء والحساب، فإن سأل سائل: كيف والله سبحانه وتعالى مالك الدنيا ومالك الآخرة، هو المالك الآن والمالك بالأمس والمالك في الغد، وهو مالك على الدوام وملك على الدوام، فكيف قيل: ملك يوم الدين؟

أجاب فريق من أهل العلم على ذلك بما حاصله: أن الدنيا قد ينازع منازع ويدعي لنفسه الملك، كهذا العتل الجبار الذي قال: أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ [البقرة:258]، أو كالآخر الذي قال: أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى [النازعات:24]، وقال: مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي [القصص:38]، لكن كل هذا ينتهي يوم القيامة، ويقول الله سبحانه وتعالى: لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ [غافر:16]، فلا منازع آنذاك ينازع، والله سبحانه وتعالى أعلم.

قال تعالى: مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ * إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:4-5]، كما تقدم أن العبد إذا قال: مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [الفاتحة:4] قال الله: مجدني عبدي.

تفسير قوله تعالى: (إياك نعبد وإياك نستعين)

قال تعالى: إِيَّاكَ نَعْبُدُ [الفاتحة:5] قدم المفعول على الفاعل للاختصاص، أي: لا نعبد إلا إياك، ولا نستعين إلا بك، وكما قال أعرابي لرجل حليم عاقل جلس يسبه ويلعنه، والحليم العاقل هادئ وساكن، فقال له الأعرابي الجاهل: إياك أعني -أي: أنا أقصدك أنت بشخصك، لما وجده لا يرد- قال: وعنك أعرض.

وقوله: (نَعْبُدُ) العبادة كما يقول كثير من أهل العلم: هي اسم جامع لما يحبه الله ويرضاه.

وقوله: وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5] الاستعانة هي طلب العون على العبادة، فلماذا قدم العبادة على الاستعانة؟

نقول: معنى كلمة: (نستعين) أي: نطلب منك العون يا رب، فدخول السين والتاء على الفعل تعني الطلب، ومنه: (نستهديك) أي: نطلب هدايتك، (نستغفرك): نطلب مغفرتك.

فمن أهل العلم من قال: إنها من باب عطف الخاص على العام؛ لبيان أهمية هذا الخاص، كما قال الله سبحانه وتعالى: وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ [التحريم:4] ، فالملائكة عطفوا على جبريل، لكن مع الفارق، هذا عطف عام على خاص، وكما قال تعالى: فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ [الرحمن:68] ، فعطف الرمان الذي هو من الفاكهة على الفاكهة من باب عطف الخاص على العام؛ لبيان أهمية هذا الخاص.

ومنه قوله تعالى: وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ [الأحزاب:7] ونوح من النبيين، وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا [الأحزاب:7]، وكما قال تعالى: إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ [النساء:163]، فهذا وجه من الوجوه. قالوا: هذا من باب عطف الخاص على العام؛ لبيان أهمية هذا الخاص.

والقول الآخر: أن الاصطلاحات في كتاب الله سبحانه وتعالى قد تتسع معانيها أحياناً وتضيق أحياناً، فمثلاً: اصطلاح البر والتقوى، واصطلاح الإثم والعدوان.

فالبر إذا أفرد في السياق دخل في معناه التقوى: لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ [البقرة:177] ، فحمل البر معنى التقوى.

لكن إذا جاء (البر) مع كلمة (التقوى) في سياق واحد، فالبر يحمل على أفعال الخير التي تقرب الشخص من الله، والتقوى تحمل على اتقاء المعاصي التي يرد بها الشخص النار -والعياذ بالله-، فالتقوى تحمل على الاتقاء، والبر يحمل على فعل المعروف، هذا إذا اشتركا في سياق واحد.

وكذلك الإثم والعدوان، فالإثم يطلق على الآثام التي يرتكبها الشخص في حق نفسه، أما العدوان فهو التعدي على الآخرين.

كما قال سبحانه وتعالى: وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ [المائدة:2]، ولكن إذا جاء الإثم مفرداً دخل في معناه العدوان.

وكذلك العبادة والاستعانة، فأحياناً تأتي العبادة ويراد بها معنى أخص، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (الدعاء هو العبادة)، وأحياناً تأتي ويراد بها معنى أعم.

ومن معاني كلمة (عبد) أي: خضع ودان وذل، وتأتي العبادة ومعها المحبة، فعبد الله خاضع لله، وذليل لله مع حبه لله سبحانه وتعالى:

فهنا فرق بين العبادة التي تأتي للشخص عن كره ، فشخص مثلاً يعبد شخصاً، أي: يخضع له ويذل له ويدين له مع كراهيته، لكن آخر يخضع لشخص ويدين له ويذل له مع محبته، فيقدم أمره فوق كل أمر، ويجعل نهيه مقدماً على كل نهي.

فالعبادة تتضمن محبته سبحانه وتعالى والخضوع له والانقياد.

إذاً: معنى كلمة عبد: خضع ودان وذل، فقولنا: إِيَّاكَ نَعْبُدُ [الفاتحة:5] أي: يا رب، نحن نخضع لك، وندين لك، ونتذلل لك، ونقوم بين يديك، ونمتثل أمرك، وننتهي عما نهيتنا عنه، ولا حول لنا عن معاصيك إلا إذا أعنتنا عليها يا رب، فقوله تعالى: وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5] أي: نستعين بك يا رب على عبادتك.

ويتأيد هذا بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا معاذ ! لا تدعن دبر كل صلاة أن تقول: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك) فهو خرج من الصلاة لكنه طلب من الله العون على الذكر والشكر وحسن العبادة.

ويدخل في ذلك أيضاً قوله تعالى: وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ [هود:88].

ويدخل في هذا أيضاً قول يوسف عليه السلام: وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ [يوسف:33].

فالشاهد: أننا أعلنا أننا نعبد الله ولا نعبد غيره، ولكن طلبنا عونه سبحانه وتعالى على عبادته، فهنا اتضح وجه الربط بين: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5].

فإذا فهم الشخص هذا المعنى لم يغتر بعبادته لربه، فالذي أعانه على العبادة هو الله سبحانه وتعالى، فكما قال رسولنا:

اللهم لولا أنت ما اهتدينا ولا تصدقنا ولا صلينا

فأنزلن سكينة علينا وثبت الأقدام إن لاقينا.

وكما قال أهل الإيمان: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ [الأعراف:43]،

فإذاً كما قال العلماء: إن عبادتنا لربنا نعمة تحتاج إلى شكر منا لمن أسداها إلينا وهو الله سبحانه وتعالى.

فقوله: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5] كما أسلفنا أن العبادات أحياناً تأتي ومعناها قاصر على أشياء، كما نقول مثلاً: فقه العبادات، ونعني بها فقه الصلاة وفقه الصيام وفقه الزكاة وأبواب الطهارة ونحو ذلك، وأحياناً تأتي عامة، إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5].

تفسير قوله تعالى: (اهدنا الصراط المستقيم)

بعد هذا التمهيد الذي يؤخذ منه فقه للدعاء، جاء قولنا: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة:6].

فقدمنا الدعاء الذي هو: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة:6] بحمد الله: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة:2].

وبالثناء على الله: الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ [الفاتحة:3].

وبتمجيد الله: مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [الفاتحة:4].

وبسؤال الله العون، ثم بعد ذلك ندعو.

من آداب الدعاء

أخذ العلماء من الآية أدباً من آداب الدعاء، وهو: أنك إذا دعوت ربك سبحانه وتعالى فينبغي أن تقدم بين يدي الدعاء مقدمات، فلا تقل مباشرة: يا رب افعل لي وافعل لي، بل تأدب بآداب الدعاء وإن كان الأخير جائزاً أحياناً، لكن الأكمل أن تقدم آداباً من آداب الدعاء ومقدمات بين يدي الدعاء.

سمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً يدعو ولم يحمد الله ولم يثنِ عليه، ولم يصل على رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقال: (إذا دعا أحدكم فليبدأ بحمد الله، والثناء عليه، والصلاة على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثم يتخير من الدعاء أعجبه إليه).

كذلك في حديث الشفاعة الطويل: (عندما تدنو الشمس من رءوس الخلائق يوم القيامة، يبلغ بالناس من الهم والكرب ما لا يطيقون ولا يحتملون، فيقولون: بمن نستشفع؟ فيقولون: اذهبوا إلى آدم فإنه أبو البشر، خلقه الله بيده، وأسجد له ملائكته، وعلمه أسماء كل شيء، فيأتون إليه، فيقول: إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله، نفسي نفسي! اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى نوح..) الحديث.

وفي نهايته تنتهي الشفاعة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال النبي عليه الصلاة والسلام قبل أن يشفع: (فأخر لربي ساجداً، فيفتح الله عز وجل عليّ بأنواع المحامد والثناءات لا أحصيها الآن ثم يقال لي: يا محمد! ارفع رأسك، واشفع تشفع، وسل تعطه) فسؤاله الشفاعة جاء بعد حمد الله والثناء عليه.

وكذلك في حديث الرسول عليه الصلاة والسلام في دعائه بالليل: (اللهم لك الحمد أنت نور السماوات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت قيوم السماوات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد لك ملك السماوات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت الحق، ووعدك الحق، وقولك حق، ولقاؤك حق، والجنة حق، والنار حق، والنبيون حق، ومحمد صلى الله عليه وسلم حق، والساعة حق، اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت وما أنت أعلم به مني، أنت المقدم وأنت المؤخر لا إله إلا أنت، أو: لا إله غيرك).

فقوله: (اغفر لي ما قدمت وما أخرت) جاء بعد قوله: (اللهم لك الحمد أنت نور السماوات والأرض ومن فيهن) إلى آخر الحديث.

وكذلك في صلاة الاستخارة: (إذا هم أحدكم بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة، ثم ليقل: اللهم إني أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم، فإنك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم، وأنت علام الغيوب) ثم بعد ذلك يأتي بالدعاء -والركعات حملت حمداً وتسبيحاً وتمجيداً وتهليلاً وتكبيراً-.

فإذا أردت أن تدعو ربك فاحمد الله واثنِ عليه بين يدي الدعاء، ولذلك قال العلماء: إن هناك مناسبة في قول رسولنا محمد عليه الصلاة والسلام: (أما الركوع فعظموا فيه الرب، وأما السجود فأكثروا فيه من الدعاء فقمن -أي: جدير- أن يستجاب لكم)، حيث جاء الدعاء في السجود بعد تعظيم الرب وتمجيده وتسبيحه سبحانه وتعالى في الركوع.

فعلى ذلك عليك أن تنظر إلى كتاب الله وتستخرج منه المقدمات التي تقدم بها دعاءك، وتتوسل بها إلى ربك سبحانه، كما قال زكريا عليه السلام متأدباً بآداب الدعاء: إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا [مريم:3] وبدأ يظهر حاله من الانكسار لله: قَالَ رَبِّ [مريم:4] أي: يا رب إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي [مريم:4] أي: ضعف عظمي، وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا [مريم:4] أي: ضعفت قوتي، ونحل جسمي، وشاب شعر رأسي، وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا [مريم:4] أي: ما أشقيتني أبداً يا رب بالرد والحرمان، فأنت كريم كلما دعوتك أجبت، وكلما سألتك أعطيت، ما تعودت منك المنع، فأنت الكريم.

ثم برر أيضاً مسألته، قائلاً: وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي [مريم:5] أي: خفت من أقاربي وبني عمي ألا يقيموا الدين، فليس فيهم فيما أرى رجل من أهل الصلاح يحمل هذا الدين، ويسوس بني إسرائيل: وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا [مريم:5] وبعد هذه المقدمة كلها يقول: فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا [مريم:5-6].

فجدير بك أن تستنبط آداب الدعاء من كتاب الله ومن سنة رسول الله، وتمهد له تمهيدات، تخرج من بيتك قائلاً: يا رب! خرجت من بيتي ألتمس فضلك ورزقك، تركت أماً عجوزاً كبيرة ووالداً شيخاً كبيراً في حاجة إلى فضلك ورزقك، فيا رب ارزقني برفق هؤلاء الضعفة.

فهذه المقدمات تقربك إلى الله سبحانه، وتحيي قلبك الذي قد علاه الران، هذه المقدمات والاستهلالات بها يستجاب الدعاء بإذن الله، قال الرسول عليه الصلاة والسلام لـسعد لما رأى لنفسه فضلاً: (ابغوني ضعفاءكم، فإنما تنصرون وترزقون بضعفائكم؟).

فلتظهر حالك من الانكسار لله، كما قال موسى عليه السلام: رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ [القصص:24]، وكما قال أيوب عليه السلام: أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ [الأنبياء:83].

فقدم مقدمات تثني بها على الله، كما قال الله تعالى: وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا [الأعراف:180] ولا تمل من السؤال والدعاء، فالذي يعطي هذا وذاك هو الله سبحانه، لا يشغله كبير عن صغير، ولا جليل عن حقير.

أنواع الهداية

قال تعالى: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة:6] (اهدنا) من الهداية ومن الهدية، ومدار النعمة فيها على الإمالة، ومنه أطلق على الهدية هدية؛ لأنها تمال من مال شخص إلى مال شخص آخر، أو تمال من سقف إلى سقف آخر، ومنه: (خرج النبي صلى الله عليه وسلم يتهادى بين رجلين) أي: يتمايل بين رجلين صلى الله عليه وسلم.

فقوله تعالى: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة:6] أي: مل بقلوبنا إلى الصراط المستقيم، ومنه قوله تعالى: إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ [الأعراف:156]، أي: ملنا بقلوبنا إليك.

والهداية تنقسم إلى قسمين، وكلاهما مراد هاهنا:

1- هداية دلالة، كما قال تعالى: وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [الشورى:52].

2- هداية توفيق، ومنها قوله تعالى: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ [القصص:56] أي: لا توفق من أحببت.

فطلبنا هنا للهداية بقسميها: أن يوجهنا للخير، وأن يميل بقلوبنا إليه، ويوفقنا للعمل به.

وفي الآية الكريمة رد على القدرية الذين يزعمون أن لا قدر وأن الإنسان هو الذي يختار لنفسه ما شاء!

فنقول لهم: إذا كان الإنسان يختار لنفسه ما شاء، فلماذا تقولون في كل صلاة: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة:6]؟

ولماذا قال أهل الإيمان: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ [الأعراف:43]؟

ولماذا قال الرسول عليه الصلاة والسلام:

اللهم لولا أنت ما اهتدينا ولا تصدقنا ولا صلينا؟

فلنسأل الله الهداية.

معنى الصراط المستقيم

وقوله: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة:6] فسر الصراط المستقيم بأنه: صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ [الفاتحة:7] ففسر الصراط المستقيم بالآية التي بعدها.

ومن أهل العلم من قال: إن الصراط المستقيم هو الإسلام، والمعنى كله قريب.

وقد ورد: (أن النبي صلى الله عليه وسلم خط خطاً مستقيماً وخط خطوطاً عن يمينه وعن يساره أو عن شماله، فقال: هذا سبيل الله مستقيماً وهذه سبل، على كل سبيل منها شيطان).

تفسير قوله تعالى: (صراط الذين أنعمت عليهم..)

قال تعالى: صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ [الفاتحة:7] المنعم عليهم فسروا في سورة النساء بقوله تعالى: فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا [النساء:69].

وقوله: أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ [الفاتحة:7] أي: بالهداية والتوفيق، وأنعمت عليهم بالهداية كذلك، وأنعمت عليهم بعموم نعمك.

وقوله: غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ [الفاتحة:7] المغضوب عليهم هم اليهود، وقد قال الله سبحانه: قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُوْلَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ [المائدة:60].

قال: وَلا الضَّالِّينَ [الفاتحة:7] وهم النصارى، وقد فسر ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم.

قال بعض العلماء: لماذا اختص اليهود بأنهم مغضوب عليهم والنصارى بأنهم ضلال؟

فأجيب على ذلك: أن الغضب جاء على اليهود؛ لكونهم عرفوا الحق وجحدوه، كما اتضح ذلك من مجيئهم إلى رسولنا محمد عليه الصلاة والسلام برجل وامرأة منهم قد زنيا، فقال لهم الرسول عليه الصلاة والسلام: (ما تجدون حد الزنا في كتابكم؟ قالوا: نجد التحميم يا محمد -أي: نصبغ وجه هذا بالسواد ووجه هذه بالسواد- ويركبا على حمار ويطاف بهما في الأسواق، فقال لهم الرسول عليه الصلاة والسلام: أناشدكم بالذي أنزل التوراة على موسى هل تجدون هذا الحد في كتابكم؟ قالوا: أما وقد ناشدتنا فإن حد الزنا في كتابنا الرجم).

وفيهم نزل قوله تعالى: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ [المائدة:44] وهم اليهود حين جحدوا حكم الله، أي: أنكروه وأظهروا خلافه وأوهموا الناس أن هذا هو حكم الله.

وهنا تفهم الآية من خلال هذا المعنى، وهذا الذي اختاره الطبري رحمه الله تعالى في نهاية بحثه فيمن جحد، فاليهود أظهروا لنبينا محمد عليه الصلاة والسلام أن حد الزنا في كتابهم هو التحميم، وأخفوا عليه أن حد الزنا في كتابهم هو الرجم، فجحدوا حكم الله الذي هو الرجم وأظهروا حكماً آخر وهو التحميم.

فلذلك قال الطبري إنها فيمن جحد وإن الذي حكم بغير ما أنزل الله بلا جحود ولا استحلال فيخرج من هذا الحكم، وله تفصيل سيأتي.

فالشاهد: أن اليهود مغضوب عليهم؛ لأنهم يعرفون الحق ويجحدونه.

وأيضاً قد يطلق عليهم أنهم ضالون كذلك، فهم مغضوب عليهم وضالون، لكنهم اختصوا بالنصيب الأكبر من الغضب، والنصارى وإن كانوا مغضوباً عليهم لكنهم اختصوا بالنصيب الأكبر من الضلال.

ففسر الرسول عليه الصلاة والسلام المغضوب عليهم باليهود، والضالين بالنصارى.

ومن هنا يظهر ما تقدمت الإشارة إليه في سورة النور: لماذا اختصت المرأة في الملاعنة قوله تعالى: وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ [النور:9]؟ والجواب: لأنها تعرف وتوقن أكثر من زوجها ما الذي حدث؟ هل كانت مفاخذة أو كان هناك إيلاج، فهي أمور تتقنها أكثر من زوجها، فإذا أقسمت فإنها تقسم على علم، والله سبحانه وتعالى أعلم.

وقد جاء زيد بن عمرو بن نفيل كما في صحيح البخاري لما خرج يبحث عن دين غير دين أهل الشرك الذي يتعبد به أهل مكة، فذهب إلى اليهود، وقال: إني أريد أن أدخل في دينكم، قالوا: لن تدخل في ديننا حتى تأخذ بنصيبك من غضب الله، قال: أعوذ بالله من غضب الله، والله لا أحمل من غضب الله شيئاً أبداً، أنا فررت من غضب الله، فهل عندكم شيء آخر؟ قالوا: لا، إلا أن تكون حنيفاً، قال: وما الحنيف؟ قالوا: ملة إبراهيم عليه السلام؛ فانطلق إلى النصارى، وقال: إني أريد أن أدخل في دينكم، قالوا: لن تدخل في ديننا حتى تأخذ بنصيبك من لعنة الله، قال: أعوذ بالله من لعنة الله، والله لا أحمل منها شيئاً أبداً، فهل هناك شيء آخر؟ قالوا: لا، إلا أن تكون حنيفاً، قال: وما الحنيف؟ قالوا: ملة إبراهيم عليه السلام، فخرج وقال: اللهم إني أشهدك أني على ملة إبراهيم عليه الصلاة والسلام.

وقد كان يفتخر الشعراء من أحفاده، فيقولون:

وجدي الذي منع الوائدات وأحيا الوئيد فلم يوأد

فكان ينقذ الموءودة، ويقول لأهل الجاهلية: أعطوني إياها أنا أكفيكموها، وإذا كبرت فأردتم أن تأخذوها فخذوها.

حكم قول: (آمين)

آمين كائنة بعد الفاتحة فليست من الفاتحة إجماعاً.

أما معنى كلمة: آمين، فجمهور المفسرين على أن (آمين) معناها: اللهم استجب، فهي دعاء.

الجهر بآمين بعد قراءة الفاتحة

هل نجهر بها أو نسر؟

من العلماء من قال: إن الدعاء في العموم يسر به؛ لقوله تعالى: ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ [الأعراف:55]، فرأى هذا الفريق أن (آمين) يسر بها.

ورأى آخرون من أهل العلم: أنه يجهر بها وإن كانت دعاء؛ لأن من صور الدعاء ما يجهر به أحياناً، ومن الأدلة التي استدل بها على الجهر بآمين، قول أبي هريرة : (لا تفتني بآمين)، وصلى ابن الزبير صلاة فجهر فيها هو ومن معه بآمين حتى إن للمسجد ضجة، وقال عليه الصلاة والسلام: (ما حسدتكم اليهود على شيء ما حسدتكم على التأمين والسلام) فلا تحسدنا على شيء خاص وسري وإنما تحسدنا على شيء ظاهر.

الرد على الشيعة في الجهر بآمين

أما قول الشيعة البعداء البغضاء: إن من قال: (آمين) فقد بطلت صلاته، فهذا جهل وتخريف منهم وبعد عن سنة رسول الله عليه الصلاة والسلام.

وسندهم في ذلك أن هذا كلام ليس من القرآن، والكلام في الصلاة يبطلها؛ هكذا قالوا وزعموا، وهو قول باطل وزعم أبطل، فإن الدعاء مشروع في الصلاة، والنبي صلى الله عليه وسلم حث على الدعاء في السجود، وهو عليه الصلاة والسلام دعا في صلاته وقال: (اللهم انصر المستضعفين من المؤمنين)، ثم إن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (من وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه) ، وحث على ذلك بقوله: (إذا قال الإمام: غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ [الفاتحة:7] فقولوا: آمين).

وقت قول المأموم: آمين

متى يقول المأموم: آمين: هل بعد أن يقولها الإمام، أم يقولها مع الإمام؟

ففريق قال: يقولها إذا انتهى الإمام من مقولته؛ لأن الإمام إنما جعل ليؤتم به؛ ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا أمن فأمنوا) وهذا الحديث صحيح، لكن الاستدلال به ليس بصحيح؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الرواية الأخرى: (إذا قال الإمام: غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ [الفاتحة:7] فقولوا: آمين) فهي ثلاث موافقات كما قال العلماء: موافقة الإمام مع المأمومين مع الملائكة، وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام: (من وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه) هذا والله أعلم.

وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , تفسير سورة الفاتحة [2] للشيخ : مصطفى العدوي

https://audio.islamweb.net