إسلام ويب

أرسل الله تعالى رسله لتبليغ شرعه، وأمر خلقه باتباعهم واقتفاء سنتهم، ولما أرسل الله محمداً صلى الله عليه وسلم أمر أمته باتباع شرعه، ونهاهم عن مخالفته حتى ولو أدال عليهم الأمم، وجعل أصحاب نبيه عليه الصلاة والسلام وعلماء الأمة سرجاً يهتدى بها.. كل هذا حتى لا يكون للناس حجة على الله.

الترغيب في تعلم السنة والسيرة النبوية

بسم الله الرحمن الرحيم

إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

أما بعد:

فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102] ، يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1] ، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71] .

وبعد:

إن سيرة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم هي خير السير على الإطلاق، وكلامه صلى الله عليه وسلم هو أحسن الكلام، وهديه هو خير الهدي، وحديثه أصدق الحديث صلوات الله وسلامه عليه، ومن ثَم أمر الله سبحانه وتعالى أصحاب نبيه صلى الله عليه وسلم أن يخرجوا معه ويتفقهوا في دينهم منه، فقال الله جل ذكره: فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ [التوبة:122] أي: فهلا خرج من كل قبيلة فرقة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في المغازي، تأتم به، وتتأسى به، وتتعلم منه، ثم ترجع إلى أهلها فتنذرهم وتحذرهم، (فلولا نفر) أي: فهلا خرج نافراً مع رسول الله في المغازي، مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ، فيحث الله سبحانه وتعالى أصحاب نبيه صلى الله عليه وسلم على الخروج معه في مغازيه للتعلم منه ونقل هذا العلم إلى القبائل، أما وقد مات رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا نستطيع الخروج مع النبي صلى الله عليه وسلم في مغازيه فلا يسعنا إلا اتباع سننه، والاطلاع على سيرته صلوات الله وسلامه عليه، وقد شاب السيرة كثيرٌ من الأحاديث الضعيفة والموضوعة التي لا تثبت، ولكن ثم قدر كبير كاف ووافٍ ثابت من الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن الصحابة، فضلاً عما في كتاب الله سبحانه وتعالى من بيان لهذه السير والمغازي.

فلنتناول شيئاً من هذا الثابت من خلال كتاب ربنا سبحانه، ومن خلال سنة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم الثابتة الصحيحة، ففيها مدّكر ومعتبر.

سنة الابتلاء

يقول الله سبحانه وتعالى مخاطباً أصحاب نبيه صلى الله عليه وسلم، والناس لهم تبع، وذلك عقب غزوة أحد: إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ [آل عمران:140-141] ، حزن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بعد الهم والغم الذي لحقهم وأصابهم في غزوة أحد، كيف يحدث هذا وهم مسلمون مؤمنون ومعهم سيد ولد آدم محمد صلى الله عليه وسلم؟ تنالهم الهزيمة وتلحقهم الجروح، يشج رأس نبيهم صلى الله عليه وسلم، وتكسر رباعيته -أي: السن التي في المقدمة-، ويقتل أحب رجل إليه وهو عمه حمزة ، ويمثّل به، فتبقر بطنه، وتستخرج كبده وتلوكها هند بنت عتبة زوجة أبي سفيان ، ويمثّل بـأنس بن النضر ويمزق جسمه، ولا يعرفه أحد إلا أخته وعرفته ببنانه، أي: بأطراف أصابعه.

حزن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لذلك، وحزنوا لمقالة أبي سفيان : أعل هبل، فقال الله لهم مخففاً ومسرياً عنهم، ومعلماً لهم ولمن جاء من بعدهم: إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ [آل عمران:140] قتل وجرح، فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ [آل عمران:140] وذلك يوم بدر، وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ [آل عمران:140]، سنة الله في الحياة أن الأيام دول، أنت اليوم منتصر وغداً مهزوم، أنت اليوم صحيح معافى تعزي الناس، وتشهد جنائزهم، وهم غداً معك يعزونك في مصابك، ويشهدون جنائزك، هذه حال الحياة الدنيا، الكافر والمؤمن فيها سواء، لم يقدر على الكفار دائماً بالهزيمة، ولم يقدر على المؤمنين دائماً بالنصر، بل الأيام دول كما أخبر الله جل ذكره، وقد سأل هرقل أبا سفيان عن حالهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل حاربتموه؟

قال: نعم.

قال: كيف كانت الأيام بينكم وبينه؟ وكيف كانت الحروب؟

قال: الحروب بيننا وبينه دول، ننال منه مرة، وينال منا مرة.

قال هرقل : وهكذا حال الرسل، يدال عليهم ثم تكون لهم العاقبة.

فهذا هو شأن الحياة الدنيا، لا تبقى لشخص على وتيرة واحدة، ولو كان النصر دائماً حليفاً للمؤمنين لأورثهم طغياناً وكبراً واستغناء عن الله سبحانه وتعالى، ولكن يكسروا ويدال عليهم مرة، ثم يعلو أمرهم وينتشر قولهم، هذه سنة الله سبحانه وتعالى في خلقه.

يشترك الكفار وأهل الإيمان في مصائب الدنيا وفي حلاوتها قال الله جل ذكره: قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا أي: فمتاع الحياة الدنيا يشترك فيه الكفار والمؤمنون: خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ [الأعراف:32]، أي: لا يشارك المؤمنين فيها أحد يوم القيامة، فهكذا حال الحياة الدنيا.

حكمة الله في الابتلاء

قال الله تعالى ذكره: وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ ، ولكن فضلتم عليهم بشيء وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ [النساء:104]، فرجاؤكم يستلزم منكم صبراً وجهداً؛ فاصبروا على طاعة الله، وجاهدوا ابتغاء مرضات الله، هكذا الحياة الدنيا، تصاب -أيها المؤمن- مرة، والكافر كذلك هو الآخر يصاب مرة، هكذا تتداول الأيام بين الناس.

ولكن شتانٌ بين مصيبة يصاب بها المؤمن فترتفع درجاته، ومصيبة يصاب بها الكافر أو الفاجر كمقدمة للعقوبات التي تنزل عليه من الله سبحانه وتعالى، فعقوبات المؤمن كفارة له حتى الشوكة يشاكها، أما الكافر والفاسق فهي بشائر انتقام من رب العالمين من هذا الكافر وذاك الأثيم، قال سبحانه: إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فلا تحزنوا، فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ ، يوم بدر، وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ [آل عمران:140]، فرب رجل لم يوصله عمل صالح إلى منازل من منازل الكرامة التي أعدها الله له في الجنان، قد تكون لك في الجنة درجة عالية رفيعة، وعملك الصالح قصر ولم يوصلك إليها؛ صلواتك قليلة، صدقاتك قليلة، حجك قليل، ذكرك قليل، ولكن كُتبت لك عند الله الحسنى، فحينئذ تبتلى بأنواع من الابتلاءات في بدنك وأهلك وأولادك حتى ترفع درجتك وتعلو منزلتك عند الله سبحانه وتعالى.

قال الله تعالى: وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ [آل عمران:140]، وقد كان اتخذ الله شهداء كثير من أصحاب نبيه محمد صلى الله عليه وسلم يوم أحد، وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا -ليبتلي الله أهل الإيمان- وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ [آل عمران:140-141].

ثم قال سبحانه: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ [آل عمران:142]، أم حسبتم: أفظننتم أن تدخلوا الجنة ولم تبتلوا حتى يظهر منكم الكاذب في دعواه من الصادق؟ هذا ظن خاطئ، فمن ظن أن الحياة السعيدة تدوم له دائماً وأبداً، فقد أخطأ وخالف سنن الله سبحانه وتعالى، فإن الله قال: أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ [العنكبوت:2]، فلا تظن هذا الظن أبداً، وتوقع البلاء في أي لحظة من السراء أو الضراء، فالابتلاءات تتشكل وتتنوع، ولا يفقهها ولا يعلمها إلا أولو الأبصار وأصحاب العقول، أما رأيت سليمان عليه السلام لما رأى العرش مستقراً عنده : قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ [النمل:40]؟ هذا نوع بلاء، فغاية الإكرام تحمل غاية الابتلاء، وما يعقلها إلا العالمون.

ابتلاء الصحابة يوم أحد

قال الله جل ذكره: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ * وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ [آل عمران:142-143]، كان أصحاب رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم يتمنون الموت، والمراد بالموت هنا -كما قال فريق من المفسرين- الشهادة في سبيل الله، فجاء يوم أحد واتخذ الله فيه الشهداء؛ فمنهم من أطاق وأقدم وتحمل، ومنهم من تكاسل عن ذلك وقصر، بل ومنهم فرّ وولى الأدبار.

فهذا أنس بن النضر رضي الله تعالى عنه غاب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر، وحزن حزناً شديداً لكونه غاب عن رسول الله عليه الصلاة والسلام، فقال: غبت عن رسول الله يوم بدر، وإن أشهدني الله مشهداً مع رسول الله ليرين الله ما أصنع، فكان يوم أحد، فتقدم، ولقي سعد بن معاذ الذي اهتز له عرش الرحمن لما مات، فقال له وقد احتدمت المعركة: يا سعد ! تقدم وأقبل يا سعد! فوالله! إني أشم رائحة الجنة خلف أحد، قال سعد : فما استطعت أن أصنع الذي صنع! تقدم أنس بن النضر فتمزق جسمه عن آخره، تمزق وجهه وسائر بدنه بالسيوف وبالسهام، ولم يظهر أي شيء منه إلا أطراف الأصابع، حتى قال سعد بن معاذ : والله! ما استطعت أن أصنع الذي صنع! وفيه نزل قول الله تعالى: مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا [الأحزاب:23].

أما بعض الصحابة الأفاضل فولوا الأدبار، فـعثمان رضي الله عنه فر يوم أحد، لكن الله عفا عنهم كما قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ [آل عمران:155]، وسيأتي لها مزيد تأويل إن شاء الله.

موت النبي ابتلاء عظيم

قال الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ [آل عمران:140-141]، إلى قوله: وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ * وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِينْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ [آل عمران:143-144]، وهذه الآية كانت إرهاصاً وتقدمة لموت رسول الله عليه الصلاة والسلام؛ فليستعد المسلمون لاستقبال موت رسولهم وحبيبهم صلى الله عليه وسلم، ولكن منهم من وعى الآية وعقلها وحفظها، ومنهم من لم يكد يتصور أن نبيه سوف يموت صلى الله عليه وسلم، مع توافر الآيات في هذا الباب، كقوله تعالى: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ [الزمر:30]، وكقوله تعالى: وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِينْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ [الأنبياء:34]، وكقوله تعالى: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ [آل عمران:185]، مع توافر هذه الآيات لم يكد بعض الصحابة يتصور أن النبي صلى الله عليه وسلم سوف يموت، فقدم الله ذكر ذلك في غزوة أحد تمهيداً لوفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فليستعد المستعد وليتأهب المتأهب، قال الله جل ذكره: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ [آل عمران:144]، هذا شأنه: أنه بشر، لكنه رسول من عند الله: قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ ، أي: مضت من قبله الرسل، رسول كشأن سائر المرسلين، كإبراهيم، ونوح، وموسى، وعيسى، وإخوانه من المرسلين ليس بإله، ولا بملك، ولا من حملة العرش، بل هو رسولٌ قد خلت من قبله الرسل: أَفَإِينْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ [آل عمران:144].

هذه الآيات نزلت في غزوة أحد لما تفشى في الناس أن النبي صلى الله عليه وسلم قد قتل، ولما قال أبو سفيان : ( أفي القوم محمد؟ قال الرسول صلى الله عليه وسلم: لا تجيبوه، ثم قال أبو سفيان : أفي القوم أبو بكر ؟ قال: لا تجيبوه، ثم قال أبو سفيان : أفي القوم ابن الخطاب ؟ قال الرسول صلى الله عليه وسلم: لا تجيبوه، فحينئذ انتشى أبو سفيان وسعِد لأن هؤلاء قد قتلوا، ثم قال: يوم بيوم بدر، والحرب سجال، والأيام دول، كذا قال أبو سفيان ، ثم استطرد قائلا: وفي القوم مُثلة -أي: مثلنا برجل وهو حمزة- لم آمر بها ولم تسوءني، ثم طفق قائلاً: أعل هبل، فـعمر ما أطاق هذه الكلمات: فرد عليه قائلاً: أي عدو الله! قد أبقى الله لك ما يسوءك. انتشر بين الناس أن النبي صلى الله عليه وسلم قتل، فحزن قومٌ لذلك أشد الحزن، وقال فريقٌ منهم: وما لنا في الحياة بعد موت نبينا عليه الصلاة والسلام؛ وتقدموا للقتال، وحزن آخرون واستكانوا، فعاتب ربنا الجميع فقال: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِينْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ [آل عمران:144] ولما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك في الأجل الذي كتبه الله له وحدده، أخبر عمر بموت الرسول صلى الله عليه وسلم فما صدق أن الرسول قد مات، وذهب ينهر ويزجر من زعم أن النبي قد مات، وقال: إنه سيرجع ويقطع أيدي رجالاً وأرجلهم، وأبى أن يقر بموت رسول الله، والناس من حوله يلتفون؛ فجاء أبو بكر ذلكم البار الراشد العاقل الحافظ، فقال: أيها الرجل المتكلم! على رسلك، فالتف الناس حول أبي بكر، وتركوا عمر، فقال: أيها الناس! من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ثم تلا قوله: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِينْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ [آل عمران:144].

فلا تعلق عبادتك على موت شخص أو حياته، أياً كان هذا الشخص، وأياً كانت منزلته وقدرهُ، فربك سبحانه حيٌ لا يموت، قريبٌ يجيب دعوة الداعي إذا دعاه، يقترب منك ذراعاً إذا اقتربت منه شبراً، يقترب منك باعاً إذا اقتربت منه ذراعاً، يأتيك هرولة إذا أتيته تمشي، فكن على صلة بربك، وكن على ثقة به سبحانه وتعالى، قال سبحانه: وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ [آل عمران:145]، فلماذا الحزن والهم؟ ولماذا النكد والجبن؟ ولماذا الخوف؟ فالأرزاق مقسومة، والآجال مقدرةٌ مضروبة.

صبر أتباع الرسل عند البلاء

قال الله: وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ * وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ [آل عمران:145-146]، (ربيون) في تفسيرها أقوال، أحدها: العلماء، والثاني: الألوف، وكأينٍ من نبي قاتل معه ألوف كثيرون، وعلماء كثيرون، وأبرار كثيرون، وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [آل عمران:146]، ما وهنوا وما ضعفوا في سبيل الله، بل احتسبوا ذلك عند الله، ليسوا كمن قال الله فيهم: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ [الحج:11]، فمن الناس من يظهر تمسكاً بالكتاب والسنة ثم أمام أدنى ابتلاء يسقط ويولي الأدبار، نعوذ بالله من تولية الأدبار!

أما الربيون فليسوا كذلك، ثبتهم الله، قال تعالى: وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا [آل عمران:146]، إمامهم محمد صلى الله عليه وسلم يبتلى فيصبر، تسيل يديه بالدماء فيقول لإصبعه والدم ينزف منها: (وهل أنت إلا إصبع دميت، وفي سبيل الله ما لقيت)، أما إخواننا الآن فليسوا كذلك: أخٌ يلتحي، فتأخذه الشرطة يوماً فلا يرجع إلا وهو منتكس! كأن الهموم استحوذت عليه -والعياذ بالله-، أي خورٍ أشد من هذا الخور؟ لم يضرب ولم يلطم ولم يؤذ فترك الجمعة والجماعات، وولى الأدبار من أجل شرطيّ قبض عليه في كمين لاتباعه لسنة النبي الأمين عليه الصلاة والسلام! الربانيون ليسوا كذلك، فالربانيون أو الربيون ما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا، فالله يحبهم، والله يحب الصابرين، فما كانوا قولهم -حتى تتأسوا بهم- إلا أن قالوا عند حلول المصائب ونزول البلايا ولقاء العدو: رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا [آل عمران:147]، هكذا قالوا؛ علموا أن عدوهم ينتصر عليهم بسبب ذنوبهم، فطلبوا من الله المغفرة، قالوا: رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ [آل عمران:147]، طلبوا من الله المغفرة، لم يزكوا أنفسهم بل اعترفوا بإسرافهم على أنفسهم بالذنوب، وهذا حال المؤمن لا يزكي نفسه بل يتواضع ويخشى من صغار الذنوب، قالوا: رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا فلا يثبت إلا من ثبته الله وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ .

إذاً: قبل طلب النصر نطلب مغفرة الذنوب، هكذا ينبغي أن يكون العبد قبل طلب النصر والرزق يطلب مغفرة الذنوب، لا ترفع الأكف إلى الله وأنت ظالم ومعتد وآثم، لا ترفع أكف الضراعة إلى الله وقد لوثت نفسك بمظالم العباد، بل اطلب من الله غفران الذنوب والحط من الخطايا ثم سله الرزق والعافية: وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ * فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [آل عمران:147-148].

قبض الله العلم من الأرض

صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من قلوب العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالماً اتخذ الناس رءوساً جهالاً -وفي رواية: رؤساء جهالاً- فسئلوا فأفتوا بغير علمٍ؛ فضلوا وأضلوا).

قوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من قلوب العباد)، هذا قبل أشراط الساعة الكبرى، أما من أشراط الساعة الكبرى: أن ينتزع العلم من قلوب العباد، قال حذيفة بن اليمان رضي الله تعالى عنه: (يدرس الإسلام كما يدرس وشي الثوب، فيسرى على كتاب الله في ليلة؛ فلا يبقى في الأرض منه آية، ويقول الشيخ الكبير كلمة واحدة علقت بذهنه من الدين: لا إله إلا الله، فيقول له ولده: يا أبت! ما هذه الكلمة التي تقولها، فيقول: يا بني! وجدنا آباءنا يقولونها فنحن نقولها)، هذا بين يدي الساعة، لكن قبل الأشراط الكبرى للساعة، العلم يقل، قال عليه الصلاة والسلام: (من أشراط الساعة أن يقل العلم، ويكثر الجهل).

قبض العلم بموت العلماء

تقدم أن العلم يقبض بقبض العلماء، وفي الحقيقة أنه قد مضى من أمة محمد علماء أجلاء، خيرهم وأفضلهم على الإطلاق رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم، فإن كان لنا معزى فعزاؤنا برسولنا محمد صلوات الله وسلامه عليه، سيد ولد آدم، فخير معلم هو عليه الصلاة والسلام، فمن أراد أن يتذكر مصيبته فليتعز بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فقد جرى عليه ما يجري على البشر، حتى قالت ابنته فاطمة لـأنس بعد أن أتى من دفنه عليه الصلاة والسلام: يا أنس ! أطابت نفسك أن تحثو على رسول الله صلى الله عليه وسلم التراب؟

ولكن وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا [الأحزاب:38]، مات بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه، وهم خير قرن، وخير أمة أخرجت للناس، مات الصحابي الجليل أبي بن كعب الذي كان سيداً من السادات، وكان أعلم الناس بالقراءات كما قال عمر: (أقرؤنا أبيُّ ، مات الحَبر ابن مسعود الذي قال عن نفسه: (والله! ما من آية في كتاب الله إلا وأنا أعلم أين أنزلت وفيمن أنزلت، فوالله! لو كنت أعلم أحداً أعلم بكتاب الله مني تبلغه المطايا لأتيه)، كل ذلك قال والصحابة لا يردون عليه بشيء، احتراماً لعلمه وتقديراً لقدره، حتى أن عمر نظر إليه وقال: (كنيف ملئ فقهاً رضي الله تعالى عنه).

مات كذلك أعلم الصحابة بالفرائض: زيد بن ثابت العالم الجليل الذكي التقي، تعلم لغة قوم في خمسة عشر يوماً لما أمره رسوله صلى الله عليه وسلم أن يتعلم السريانية، مات وذهب يشيع جنازته عبد الله بن عباس الذي كان في يوم من الأيام يأخذ بلجام الدابة ويبركها له، فيقول زيد بن ثابت : (يا ابن عم رسول الله! دع عنك لجام الدابة، فيقول: لا، هكذا أمرنا أن نفعل بعلمائنا، وبعظمائنا وبكبرائنا، ويأخذ له بلجام الدابة ويبركها له)، فينزل زيد لـابن عباس ويقبل رأسه ويقول: (هكذا أمرنا أن نفعل بآل بيت رسول الله عليه الصلاة والسلام)، تواضع متبادل من الطرفين، كل يعطي الآخر حقه الذي هو له، ولا يبخسه حقه، مات زيد بن ثابت وذهب ابن عباس يشيع جنازته؛ فدفن زيد وأهيل عليه التراب، فقال ابن عباس وهو ينظر إلى التراب الذي يهال عليه: إنا لله وإنا إليه راجعون، لقد دفن اليوم علمٌ كثير).

ولما مات حذيفة بن اليمان صاحب سر رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي أعلمه رسول الله بأسماء أهل النفاق، كما في أحاديث الفتن، لما أدركته الوفاة التي كتبت على العباد، ما كان يزكي نفسه بأنه ليس من أهل النفاق، لا يزكيها ولا يثني عليها، وكذلك من حوله، ينظر إليهم حذيفة فيقول: (اللهم! إني أعوذ بك أن يكون ممساي في النار) هكذا يقول حذيفة تواضعاً منه رضي الله عنه وأرضاه.

إلى غير هؤلاء العلماء الكرام من التابعين كـابن المسيب وعروة وقتادة ، ثم من بعدهم كـمالك والشافعي وأحمد، وأبي حنيفة وغيرهم من العلماء، ثم غير هؤلاء كثير، جمٌ غفير: قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ [الجمعة:8].

كل هؤلاء الكرام لم يكونوا معصومين من الأخطاء، كلهم جهلوا مسائل وعلموا مسائل، وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ [يوسف:76]، كل الصحابة والتابعين وأتباع التابعين منهم من أفتى وأصاب في فتواه، ومنهم من أفتى فتاوى جانبت الصواب، أما نحن أهل الاتباع فلا يسعنا أن نتابع أحداً على مسألة أخطأ فيها أياً كان شأنه بعد ظهور الدليل من كتاب الله ومن سنة رسولنا محمد عليه الصلاة والسلام.

السنة في قبر الموتى والعلماء وغيرهم

ثم مات أقوامٌ معاصرون، ففي بلدنا هذا مات بعض أهل العلم، فالتف الناس حول جنازته كما هو وارد عن رسول الله، وفي الدعاء للأموات خير، والميت رحمه الله تعالى كان محسناً، ولكنه بشر من البشر، يجري عليه ما يجري على البشر، فقد قال الله عن نبيه صلى الله عليه وسلم: قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا [الكهف:110]، لكن نحن الذين جئنا بعد الأموات لا ينبغي أبداً أن نفتن بأي شخصٍ كائناً من كان؛ فعبادتنا لربنا هي الأصل، من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، وليس من الأموات أحد بمعصوم، فأقوال كل شخص يحكم عليها بموافقتها للكتاب والسنة أو بمخالفتها للكتاب والسنة، ولكن الذي أحزننا -ونسأل الله العوض والخير- أن يتخذ قبر الشيخ المتوفى رحمه الله تعالى بجوار المسجد، وتنشأ حوله مقصورة، وقد علمنا جميعاً حديث نبينا محمد عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم حين قال في مرض موته: (لا تجعلوا قبري عيداً، لا تجعلوا قبري عيداً)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ألا إن من كان قبلكم اتخذوا قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد؛ فإني أنهاكم عن ذلك).

معشر الإخوة: لنا شرعٌ يتبع مهما كان الميت، مات الشيخ محمد شعراوي رحمه الله تعالى، ونسأل الله أن يوسع له في قبره، وأن ينور له فيه، ولأمواتنا ولعموم المسلمين، آمين يا رب العالمين! ولكنه بشر، ملزم بشريعة رسول الله كما يلزم بها غيره، لكن عندما تفشى في أصحاب الوجاهات مخالفات للسنن، وفارقوا بها غيرهم؛ والناس يهتمون بأصحاب الوجاهات ويصلون عليهم صلاة الغائب، وصلاة الغائب لم تصلَّ إلا على من لم يصل عليه أصلاً، أما إذا مات شخص وصُلي عليه في بلدته أو مكانه فلا تشرع عليه صلاة الغائب، فنبينا ما ثبت عنه أنه صلى صلاة الغائب إلا على النجاشي، وكان النجاشي بأرض الحبشة، فمات بها وكان أهلها من الكفار، فصلى عليه النبي صلى الله عليه وسلم قائلاً لأصحابه: (إن أخاً لكم قد مات بالحبشة، فصف أصحابه، وكبر بهم أربع تكبيرات)، أما حال الناس الآن: أنهم إذا مات شخصٌ له وجاهة صلوا عليه صلاة الغائب، وإذا مات مسلم آخر لم يصلوا عليه صلاة الغائب، فهذه التفرقة لا دليل عليها لا من كتاب ولا من سنة.

مات الشيخ محمد متولي شعراوي رحمه الله، وجعلوا قبره مجاوراً للمسجد محاطاً بمقصورة؛ فنخشى غاية الخشية ألا يمر عام إلا وقد أُنشئ له مولد، وقد أقيمت حول قبره بدعة، ونبينا محمد عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم يوصي فيقول لـعلي : (لا تدع قبراً مشرفاً إلا سويته)، مشرفاً، أي: عالياً، إلا سويته.

وعمر لما ذهب يستأذن عائشة أن يقبر بجوار رسول الله صلى الله عليه وسلم، أرسل ابن عمر وقال له: قل لها: إن عمر يستأذن أن يدفن بجوار صاحبيه، فإن أذنت فالحمد لله، وإن لم تأذن فردوني إلى مقابر المسلمين، فأذنت عائشة ، وعثمان الخليفة البار الراشد دُفن في مقابر المسلمين، فما أخال ولا أظن أحداً أكثر منه غنى، عثمان من أهل الجنة، صاحب رسول الله، الحيي الكريم يدفن مع سائر المسلمين، وكذلك طلحة والزبير وسائر أصحاب النبي الأمين، رضي الله تعالى عنهم أجمعين.

فالشاهد: أن الشيخ رحمه الله تعالى لا نعلم أبداً أنه أوصى أن يبنى له هذا القبر وأن يدفن فيه، ولا نعلم هل دفن فيه أم لا؟ بل يخبرنا إخواننا أنه جزاه الله خيراً دفن في مقابر المسلمين، لكن نخشى أن هذا البناء الموجود القائم الآن يحال إلى قبر، وأن ينتقل برفاته إليه، فيصبح عنده عيد من الأعياد المبتدعة، ومولد من الموالد المستقبحة المستهينة التي نهى عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ليس للشيخ رحمه الله ذنبٌ فيما أحدثوه من بعده، فالعزير ليس له ذنبٌ مع الذين قالوا: عزير ابن الله، والمسيح ليس له ذنبٌ مع الذين قالوا: المسيح ابن الله، فإن الله قال: إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ [الأنبياء:101]، وقال تعالى: وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى [الأنعام:164]، أما نحن فيلزمنا اتباع سنة رسول الله عليه الصلاة والسلام، وندعوا للميت بالرحمة، ولا نفتن به، ولا نصرف عن ديننا بسببه، ولا نحدث في ديننا إحداثاً ونتحمل نحن آثامها وآثام من ارتكبها، لنا ديننا ولنا هدي نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فنحذر أيما تحذير من اتخاذ القبور مساجد، ومن المغالاة في حب الأشخاص حتى لا نفتن، ليس الشيخ محمد رحمه الله بأفضل من الحسين سيد شباب أهل الجنة، ولا بأفضل من الحسن ، ولكن له منا جميعاً أن نكثر من الدعاء له ولسائر الأموات أن يرحمهم الله سبحانه، وأن يفسح لهم في قبورهم وأن ينور لهم فيها، نسأل الله سبحانه أن يوسع لهم جميعاً في القبور، وأن ينور لهم فيها.

ثم أيضاً أقواله كأقوال غيره من أهل العلم لا تؤخذ بالتسليم المطلق، بل هو قد أصاب في مسائل وأخطأ في أخرى، كما أصاب الصحابة في مسائل وأخطئوا، أقواله كأقوال غيره تعرض على الكتاب والسنة، فهما خير حكم، بل لا حكم غيرهما على الأقوال والأشخاص، فكلٌ يؤخذ من قوله ويرد إلا صاحب هذا القبر كما قال الإمام مالك رحمه الله، فيا عباد الله! الله الله! في سنة نبيكم محمد وفي اتباع الشرع، لا تحيدوا عنه ولا تنحرفوا عنه.

التحذير من إيواء أهل البدع والمحدثين

ثم نذكركم بحديث لرسول الله صلوات الله وسلامه عليه؛ إذ قد خالفه الكثيرون إما جهلاً منهم وإما استخفافاً به، ألا وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لعن الله من آوى محدثاً، لعن الله من غير منار الأرض)، أما تغيير منار الأرض، فتغيير العلامة التي تحدد حد الأرض التي لك ولصاحبك.

أما الذي يعنينا هو حديث: (لعن الله من آوى محدثاً) ، فكثير من الناس يؤجرون بيوتهم لأقوام لا أخلاق لهم ولا دين، فإذا رفع إيجار السكن أو الدكان، يؤجر له بصرف النظر عن دينه، فإذا أسكنت رجلاً فاسداً في بيتك أو امرأة من البغايا أو تاجرة للمخدرات، أو أسكنت رجلاً فاسقاً في البيت أو يبيع الدخان في محل لك، أو يتخذه مقهى أو ملهى من الملاهي المحرمة؛ فأنت آثم، ولا تبعد عن الذين آووا المحدثين، ولا عن اللعنة التي توعدك بها رسول الله محمد عليه الصلاة والسلام، كذلك الذين يئوون أصحاب الموالد، ويستقبلونهم، ويحيون البدع في بيوتهم، هؤلاء أيضاً ينسحب عليهم حديث رسول الله: (لعن الله من آوى محدثاً)، فجدير بكل صاحب بيت ومحل وعمل ألا يئوي إليه محدثاً من المحدثين، بل عليه أن يفكر أن الفاسد إذا سكن البيت، فأول من تصاب به أنت، وأول من تبتلى به ذراريك، لا تسكن في بيتك رجلاً قبيحاً غير محترم، لا تسكن في بيتك نساء كاسيات عاريات يفتنك وأبناءك، لا تسكن في البيت امرأة متبرجة تتبرج أمامك وأمام أبنائك، فكم من بلية حدثت بسبب هذا الاختلاط المزري! فيا عباد الله! اتقوا الله في أنفسكم، وتعاونوا على البر والتقوى، ولا تعاونوا على الإثم والعدوان، لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ [المائدة:78-79].

اللهم! أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله ملتبساً علينا فنضل، واجعلنا للمتقين إماماً. اللهم! طهرنا من عيوبنا، وأعنا على إصلاح أخطائنا، واسترنا في حياتنا وبعد مماتنا وعند لقائك، يا رب العالمين! اللهم! صل وسلم وبارك على نبينا محمد أفضل صلاة وأتم تسليم، اللهم! ارحم أمواتنا وأموات المسلمين يا رب العالمين! وصل اللهم وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , اتباع سنة الرسول صلى الله عليه وسلم في السراء والضراء للشيخ : مصطفى العدوي

https://audio.islamweb.net