إسلام ويب

إن الحاجة شديدة إلى تزكية النفس وتطهيرها مما علق بها من الأدران والشهوات، إذ بالتزكية تسمو النفس، وتعلو الهمة، وتتجه الروح نحو خالقها. وذلك لا يأتي من فراغ وعبث، وإنما له أسباب توصل إليه، وطرق تدل عليه، وهي مأخوذة من الكتاب والسنة وسير السلف الصالح.

أهمية التزكية

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

أما بعد:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].

يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1].

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].

أما بعد:

فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، وإن ما قل وكفى خير مما كثر وألهى، وإِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ [الأنعام:134]، ثم أما بعد:

بادئ ذي بدء شكر الله لكم حسن استقبالكم لي، وأن مكنتموني من العودة إليكم مرة أخرى، وقديماً قال الشاعر:

ومن عجب أني أحن إليهم وأسأل شوقاً عنهم وهم معي

وتبكيهم عيني وهم في سوادهاويشكو النوى قلبي وهم بين أضلعي

موضوع اليوم موضوع هام متعلق بالدعوة التي تنتسب إلى السلف وترفع راية السلف، وكأنا نقول لكل المسلمين: هذه بضاعتنا ردت إلينا، ومن أولى بالتزكية ممن يقتفون أثر رسول الله صلى الله عليه وسلم!

وعجباً للناس يبكون على من مات جسده ولا يبكون على من مات قلبه، وهو أشد! وموت القلوب يكون بالبعد عن علام الغيوب، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي حسنه شيخنا الشيخ الألباني : (من أراد أن يعلم ما له عند الله فلينظر ما لله عنده).

وموضوع التزكية موضوع هام، ونحمد الله، وله المنة والفضل من أن الذنوب لا تفوح رائحتها في دار الدنيا، وهذا من فضل الله تبارك وتعالى علينا، أن ستر علينا الذنوب، فلو فاحت لضجت المشام.

قال محمد بن واسع: لو كانت للذنوب رائحة ما استطاع أحد أن يجالسني من نتن رائحتي. وهو من هو، هذا الذي كان يسمى بزين القرآن!

فإذا ما مات الإنسان وكان صالحاً فإنها تفوح منه رائحة كأحسن رائحة مسك على وجه الأرض؛ حتى تقول الملائكة: روح من هذه الطيبة؟ وإذا كان العبد قد دنس نفسه بالمعصية في دار الدنيا فإنها تفوح منه كأنتن جيفة على وجه الأرض، فتتأذى منها الملائكة، حتى يقولون: روح من هذه الخبيثة وفي أي جسد خبيث كانت؟

التزكية ربع الرسالة

إن تزكية النفوس مطلب عظيم من مطالب الرسالة، بل هي ربع الرسالة المحمدية، وهي وظيفة الأنبياء، قال الله تبارك وتعالى: كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ [البقرة:151].

وقال الله عز وجل: لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ [آل عمران:164].

وقال الله تبارك وتعالى: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ [الجمعة:2].

ولقد دعا خليل الرحمن إبراهيم لنبينا صلى الله عليه وسلم فقال: رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [البقرة:129].

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح بمجموع طرقه كما رواه البخاري في الأدب المفرد وأحمد والحاكم والخرائطي في مكارم الأخلاق: (إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق) صححه الحافظ ابن عبد البر.

الفلاح معلق بالتزكية

ولقد أقسم الله تبارك وتعالى أحد عشر قسماً متتالياً ما أتت إلا في موضع واحد من كتاب الله عز وجل، على أن فلاح النفوس منوط بتزكيتها، فقال تعالى: وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا * وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا * وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا * وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا * وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا * وَالأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا * وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:1-10].

وتزكية النفوس ملاك دعوة الرسل بعد التوحيد، فهذا موسى عليه السلام يقول لفرعون: هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى * وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى [النازعات:18-19].

وتزكية النفوس يا إخوتاه! سبب للفوز بالدرجات العلا والنعيم المقيم، قال الله عز وجل: وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلى * جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى [طه:75-76].

الرسول صلى الله عليه وسلم يدعو بالتزكية

وقد كان من دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اللهم آت نفسي تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها).

وتزكية النفوس عمل شاق، والأمر كله بيد الله عز وجل، وبعد فضله ومنته، فتزكية النفوس بالله لا بالنفس، قال الله تبارك وتعالى: وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ [النور:21].

وكان من دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اللهم جنبني منكرات الأخلاق والأعمال والأهواء والأدواء).

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اللهم كما حسنت خلقي فحسن خلقي).

وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم تزكية النفس إحدى الخصال الموجبة لذوق طعم الإيمان، فإن للإيمان ذوقاً وحلاوةً، كما أن له فرحاً، قال تعالى: قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ [يونس:58].

وقد قال أحد الزهاد: لو يعلم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه من سعادة لجالدونا عليها بالسيوف.

وقال الآخر: إنه لتمر بالقلب أوقات يرقص فيها القلب طرباً وأقول: إن كان أهل الجنة في مثل هذا العيش إنهم لفي عيش طيب.

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية : ما يصنع أعدائي بي، أنا جنتي وبستاني في صدري، أينما ذهبت فهي معي، إنما هي كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، إن قتلوني فقتلي شهادة، وإن نفوني عن بلدي فنفيي سياحة، وإن سجنوني فأنا في خلوة مع ربي.

إن المحبوس من حبس عن ربه، وإن الأسير من أسره هواه.

معاني التزكية

التزكية هي مراقبة الله عز وجل

وفسر رسول الله صلى الله عليه وسلم التزكية بمقام الإحسان، وهو أعلى مقامات الدين، وفسرها بالمراقبة، وجعلها موجبة لذوق طعم الإيمان، ففي الحديث الصحيح قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ثلاث من فعلهن فقد ذاق طعم الإيمان: من عبد الله عز وجل وحده بأنه لا إله إلا هو، وأعطى زكاة ماله طيبةً بها نفسه في كل عام، ولم يعط الهرمة ولا الدرنة ولا المريضة، ولكن من أواسط أموالكم، فإن الله لم يسألكم خيرها ولم يأمركم بشرها، وزكى نفسه، فقال رجل: وما تزكية النفس؟ قال: أن يعلم أن الله عز وجل معه حيث كان).

إذا ما خلوت الدهر يوماً فلا تقلخلوت ولكن قل علي رقيب

ولا تحسبن الله يغفل ساعةً ولا أن ما تخفيه عنه يغيب

وكما قال الشاعر:

إذا ما قال لي ربي أما استحييت تعصيني

وتخفي الذنب من خلقي وبالعصيان تأتيني

فما قولي له لما يعاتبني ويقصيني

لا تنظر إلى صغر الخطيئة ولكن انظر إلى كبرياء من واجهته بها.

التزكية هي التقوى

وتزكية النفوس يا إخوتاه! هي التقوى، ويشهد لذلك قول الله عز وجل: فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى [النجم:32]، فهذه الآية نص صريح على أن التزكية هي التقوى.

وقال الله عز وجل: وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى * الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى [الليل:17-18].

وقال الله عز وجل: وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا [الشمس:7-9].

وحديث الرسول صلى الله عليه وسلم أيضاً ينص على أن التقوى هي التزكية، كما في قوله صلى الله عليه وسلم: (اللهم آت نفسي تقواها وزكها أنت خير من زكاها).

قال شيخ الإسلام ابن تيمية : النفس تزكو بترك المحرمات مع فعل المأمورات. وترك المحرمات مع فعل المأمورات هي التقوى.

وقال ابن عيينة وقتادة في قول الله عز وجل: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى [الأعلى:14]: قد أفلح من زكى نفسه بطاعة الله وصالح الأعمال.

وقال ابن قيم الجوزية رحمه الله: زكاها أي: طهرها من الذنوب وأصلحها بالطاعة.

معنى التزكية في اللغة والشرع

والتزكية -يا إخوتاه- في اللغة تدور حول الطهارة والنماء والبركة.

وهي شرعاً تدور حول هذه أيضاً. فالتزكية شرعاً: تطهير النفس والقلب من أمراضها ومن ظلماتها ومن نجاستها ومن شهواتها الحسية والمعنوية.

هذا هو المراد بالتزكية، أي: تطهير النفس من أمراض النفوس، من الكفر والنفاق والفسوق والبدعة والشرك والرياء -فمن سمع سمع الله به مسامع خلقه، وصغره وحقره يوم القيامة- ومن حب الجاه والرئاسة.

وإن الرجل قد يزهد في المال ولا يزهد في الجاه، ولهذا كان صفوة الزهاد من عباد هذه الأمة أبعد الناس عن الجاه والرئاسة، فهذا محمد بن يوسف الأصبهاني المسمى بعروس العباد ما كان يشتري خبزه من بقال واحد، ولما سئل عن ذلك قال: أخاف أن يعرفوني فيكرموني من أجل ديني، فأكون ممن يعيش بدينه، أو ممن يأكل بدينه.

ويدخل عبد الله بن محيريز عالم الشام وعابدها -الذي قال فيه الأوزاعي : إني أعد بقاء ابن محيريز أماناً لأهل الأرض- السوق فيشتري من بائع ولا يعرفه البائع، وبعد أن انتهى من الشراء أتى رجل إلى البائع فقال: إنه ابن محيريز عابد أهل الشام، فقال: ما كنت أعرفه، فولى عبد الله بن محيريز تاركاً السوق وقال: إنما نشتري بأموالنا لا بديننا.

وأيضاً التزكية تطهير النفس من الحسد والعجب والكبر والسحت والغرور والغضب وحب الدنيا واتباع الهوى.

وأيضاً تطهير النفس من طول الأمل، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (صلاح أول هذه الأمة بالزهد واليقين، وهلاك آخرها بالبخل والأمل).

وإن سيد التابعين الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: (سيد التابعين أويس القرني رجل بار بأمه، لو أقسم على الله لأبره، مروه فليستغفر لكم)، يقول فيه الإمام أحمد: الزهد زهد أويس كان يمنعه العري من حضور الجماعات، فكان يجلس في قوصرة وربما منعه العري أحياناً من حضور الجماعات، وهو سيد التابعين.

وأيضاً التزكية تطهير النفس من حب الدنيا، والعيش للدنيا لا يليق بمن شبوا عن الطوق، قال تعالى: إِنَّمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ [محمد:36].

فاللعب لا يليق بمن شبوا عن الطوق من الرجال، وأنت عندما تجد رجلاً كبيراً في السن يلعب بلعبة لطفل سنه خمس سنين، تقول له: يا رجل! اتركها للأطفال الصغار. فالعيش للدنيا والعمل للدنيا لا يليق بمن شبوا عن الطوق، والعيش في المستنقع الآسن والوحل وشهوات هذه الدنيا لا يليق بالرجال.

يقول سيدنا يحيى بن زكريا: أو للعلب خلقنا؟! إنما خلقنا لنحيا مع الخالق في دار غرسها الرحمن بيده.

موعظة في تكريم الله للإنسان وغناه عنه وفقر الإنسان إليه

يا جوهرة بمزبلة لا تعرف قدرها، أنت المراد من هذا الكون، إن الله يريدك لجواره، كم من ملك في السماوات ما ذاقوا طعاماً وما شربوا شراباً منذ أن خلقهم الله عز وجل ليس لهم مدحة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ولخلوف فم الصائم أطيب عند الله تعالى من ريح المسك).

كم من ملك في السماوات ما ذاقوا غمضاً منذ أن خلقهم الله عز وجل، ليس لهم مدحة، وأما المؤمن فقد قال تعالى: تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا [السجدة:16].

يا من أسجد الله لأبيك الملائكة وأنت في صلبه، يا من أقام الله الأطهار من عباده الذين زكت أنفسهم يستغفرون لك قبل مجيئك إلى دار الدنيا، فهذا نوح عليه السلام يقول: رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ [نوح:28] بل يأمر الله نبيه أن يستغفر لك، قال تعالى: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ [محمد:19].

بل يجعل الله عز وجل حملة العرش يستغفرون لك.

تطوي المراحل عن حبيبك جاهداً وتظل تبكيه بدمع ساخن

كذبتك نفسك لست من أحبابه تشكو البعاد وأنت عين الظالم

كيف لا تحب من أنت به، وبقاؤك منه، وتسييرك بيده، ورجوعك إليه؟

وكل مستحسن في الوجود هو الذي حسنه، وهو الذي جمله وزينه وعطف النفوس إليه، فقد أعطاك أيتها النفس مالاً فأملي، وبلغك ما لم تطلبي، وستر عليك من القبيح ما لو فاح لضجت المشام.

كم عدو حط منك بالذم فرقاك، وكم أعطش من شراب الأنام خلقاً وسقاك، وكم أمات بعض من لم يبلغ مرادك وأبقاك.

من أعجب الأشياء أن تعرفه ثم لا تحبه، وأن تسمع داعيه ثم تتأخر عن إجابته، وأن تعرف قدر غضبه ثم تتعرض له، وأن تعلم عثرة القلب عند الخوض في غير حديثه ثم لا ترتاح إلى ذكره، وأعجب من هذا علمك أنك لابد لك منه، وأنك أحوج شيء إليه، وأنت فيما يبعدك عنه راغب.

عالج النفس من شهواتها وأمراضها ثم بعد ذلك تحقق بأمهات المقامات القلبية من التوحيد والعبودية والإخلاص له عز وجل، والصدق معه، والزهد والمحبة له، والخوف والرجاء منه وحده، فإن في القلب شعثاً لا يلمه إلا إقبال على الله عز وجل وخوف منه وإنابة إليه وتبتل إليه.

والخوف والرجاء والورع والصبر والرضا والتسليم والمراقبة والتوبة مقامات لابد للإنسان أن يحققها حتى تزكو نفسه، ثم بعد ذلك الاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو خير من زكت نفسه.

بيان أن التزكية عمل الأنبياء

وتزكية النفوس هو عمل النبيين، يقول الشاعر:

ومن لا يربيه الرسول ويسقه لباناً له قد در من ثدي قدسه

فذاك لقيط ما له نسبة ولا يتعدى طور أبناء جنسه

فكل روح لم يربها الرسل لا تفلح ولا تصلح للأحوال العلية.

فساد نظريات التزكية المستمدة من غير الوحي

ومنهج التزكية ليس متروكاً لعلماء الكلام ولا للفلاسفة ولا لأصحاب المواجيد، ولا لنظريات علماء النفس ولا للمجاهدات البوذية، وإن كثيراً ممن كتبوا في أمور التربية من علماء النفس أتوا بنظريات متضاربة ومناهج متصارعة لا تسمن ولا تغني من جوع، ولو اطلعت عليها -يا أخي- لوليت منها فراراً ولملئت منها رعباً، ولكن دعاتها لا يزالون يلقون عليها من زخرف القول غروراً حتى أحلوا المريدين مستنقعاً وبوراً، واتخذوا من أجلها هذا القرآن مهجوراً.

وقد قال قائلهم: حدثني قلبي عن ربي.

وقال آخر: لكم علم الورق ونحن لنا علم الخرق.

وقال ثالث بإسقاط التكاليف. وقال الجنيد : من قال هذا فهو أشد كفراً من اليهود والنصارى، أي: الذين قالوا: إنهم وصلوا إلى الله عز وجل بإسقاط التكاليف، نعم وصلوا ولكن إلى سقر.

وما بال الشيخ سعيد حواء -رحمه الله وغفر له- يقول: لقد جربت كثيراً ورأيت كثيراً، ونادراً ما وجدت كمالاً في النفس أو إحساناً في السلوك أو قدرة على التعامل إلا وجدت معها تربية صوفية صافية، وذلك لأن مفاتيح النفس البشرية إنما هي في هذه التربية وأصولها وقواعدها؛ لأن الصوفية هم الذين ورثوا عن الرسول صلى الله عليه وسلم تربية النفس، وتخصصوا في ذلك، وتفرغوا له، وفطنوا لما لا يفطن له غيرهم، وقامت لهم ثروة من التجارب السارة في كل عصر، فما لم يأخذ الإنسان عنهم تبقى نفسه بعيدة عن الحال النبوية؛ لأن الصوفية هم الذين ملكوا العلم الذي تتهذب به النفس البشرية. هذا قول الشيخ سعيد حواء غفر الله له، ولا يقبل منه هذا الكلام في أي حال من الأحوال.

بل يقول الغزالي رحمه الله: إن الصوفية في رقصاتهم يشاهدون الملائكة وأرواح الأنبياء ويسمعون منهم فوائد، ثم يترقى الحال من مشاهدة الصور إلى درجات يضيق عنها نطاق النطق. وقوله هذا مخالف لحال السلف وعلمهم!

قال إسحاق بن راهويه : سمعت أحمد بن حنبل وقد سئل عن الوساوس والخطرات قال: ما تكلم فيها الصحابة ولا التابعون، والكلام في الوساوس والخطرات مثل رجل يمر على جب القاذورات، فإن أراد أن ينفشه لا ينتهي هذا الجب، ففي كل لحظة وفي كل مرحلة يتأذى بأنتان جديدة لا تخطر له على بال، ولكن إذا مر عليه مرور الكرام وعرض له منه عارض غسله فهذا أولى. وهذه طريقة الكمل كما يقول شيخ الإسلام ابن القيم.

فإن كان الرجل في طب الأبدان لا يذهب إلا إلى الطبيب المتخصص -ولو داوى جسده بمجرد التجارب التي لا تسمن ولا تغني من جوع فإن الناس ينكرون عليه- فما بالك بمرض القلوب؟ والقلب كالملك، والجوارح كالجنود، فهذا الأمر موكول إلى الرسل لا إلى غيرهم.

وسائل التزكية

الالتزام بالشريعة

للتزكية النفس وسائل كثيرة، والشرائع كلها تزكية، فقد كللت العبادات وزينت المعاملات وتوجت العادات بحسن الخلق، ففي الصلاة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا أتيتم الصلاة فعليكم بالسكينة)، وقال الله تبارك وتعالى: إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ [العنكبوت:45].

وفي الصيام قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الصيام جنة).

وفي الحج قال الله عز وجل: فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ [البقرة:197].

وقال في الزكاة: قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى [البقرة:263].

وفي البيوع قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن خياركم أحاسنكم قضاءً).

وفي المعاملات الزوجية قال تعالى: فَإمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ [البقرة:229].

التوحيد

إن النفوس تزكو بتوحيد الله عز وجل، كما قال شيخ الإسلام الهروي لما سئل: هل كان هناك ولي لله على غير اعتقاد الإمام أحمد بن حنبل؟ قال: ما كان هذا ولا يكون.

فكيف تزكو نفس الجهمي وهو لا يعرف له رباً عليماً ولا قادراً ولا سميعاً ولا بصيراً؟ وإنما بالتوحيد تزكو النفوس.

وأرواح المشركين نجسة ونفوسهم خبيثة، قال الله تبارك وتعالى: إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ [التوبة:28].

وقال الله تبارك وتعالى: أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ [المائدة:41].

وقال الله تبارك وتعالى: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى [الأعلى:14]، ولم تكن الزكاة قد فرضت بعد، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية ، أي: قد أفلح من تطهر من الشرك.

وقال الله تبارك وتعالى: وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ * الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ [فصلت:6-7] قال ابن عباس : أي: لا يشهدون أن لا إله إلا الله.

والإنسان إذا عرف ربه، وخشع له، وسلم له، ورضي به، وخافه ورجاه فإنه يفعل ما يحبه الله عز وجل، ويبتعد أشد البعد عما ينهى الله تبارك وتعالى عنه، وهل التزكية إلا هذا؟

فالإنسان يزكي نفسه باعتقاد أهل السنة والجماعة، ويزكي نفسه بعقيدة السلف الصالح والقرون الخيرية أفضل تزكية.

الطهارة والوضوء

ويزكي نفسه بالطهارة وبالوضوء، كما قال الله عز وجل: فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ [التوبة:108].

والطهارة في كتاب الله تنتظم طهارة القلب والجوارح، كما قال الله عز وجل: ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ [الأحزاب:53].

وقال الله عز وجل: وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ [الأنفال:11].

وطهارة الأبدان طهارة الظاهر، وقد قرنت بطهارة القلوب، كما قال الله عز وجل: وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ [الأنفال:11].

وقال الله عز وجل: وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ [المدثر:4]، أي: نفسك فطهرها.

الصلاة

الصلاة تزكية، قال تعالى: إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ [العنكبوت:45].

ومن مثلك يا ابن آدم! خلي بينك وبين المحراب فتدخل على سيدك أنى تشاء.

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من واظب على تكبيرة الإحرام أربعين يوماً كتبت له براءتان: براءة من النفاق، وبراءة من النار).

وسيدنا سعيد بن المسيب يقول: منذ أربعين سنة ما سمعت الأذان إلا بالمسجد، ومنذ أربعين سنة ما نظرت إلى قفا مسلم في صلاة.

وقال عدي بن حاتم الطائي الصحابي الجليل: ما أتى وقت صلاة إلا وأنا إليها بالأشواق.

إن الذنوب رجس، والصلاة تطهر الإنسان من ذنوبه، قال ثابت البناني مسنداً إلى سيدنا أنس بن مالك أنه قال: لا يسمى العابد عابداً ولو كان فيه كل خصلة من خصال الخير حتى تكون فيه هاتان الخصلتان: الصوم والصلاة؛ لأنهما تأخذان من لحمه ودمه، ولو كان شيء أعز من الصلاة لما قال الله عز وجل: فَنَادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ [آل عمران:39].

فالصلاة والمحافظة على السنن الرواتب وعلى قيام الليل من أسباب التزكية.

إنما قالوا التهجدفيه أسرار عجيبة

في فؤاد المتعبدطعم أذواق غريبة

وإذا طال التهجد هبت الريح الرطيبة

وأذان من بلال ادخلوها آمنين

فاز من قام الليالي بصلاة الخاشعين

وأما كون الإنسان ينام إلى الصباح فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل عن رجل نام حتى أصبح: (ذاك رجل بال الشيطان في أذنيه). وإذا قام إلى الصلاة أصبح نشيطاً طيب النفس كما جاء في الحديث؛ فالصلاة طهارة.

الزكاة والصدقة

والزكاة طهارة، فالإنسان يزكي نفسه بالإنفاق ويتخلى عن أدوى الداء، وهو البخل.

قال الله تبارك وتعالى: خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ [التوبة:103].

ومن منا يدور بخلده أن امرأة يأتي لها ثمانون ألف دينار فتفرقها، ثم لا تجد في آخر النهار طعاماً تفطر عليه وكانت صائمة؟ من منا يفعل هذا؟

ومن منا يفعل مثل ما فعل أويس القرني، كان إذا أتى الليل يتصدق بكل ما عنده، ثم يقول: اللهم إني أعتذر إليك عن كل كبد جائعة من المسلمين، فإنه ليس في بيتي إلا ما في بطني من الطعام، وما يستر عورتي من الثياب.

فهؤلاء الناس وصل بهم الإحساس بالمسلمين إلى هذا، وقد ذكر صلى الله عليه وسلم من السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: (ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه).

علي زين العابدين كان يبخل ويتهم بالبخل، فلما مات وجدوه يقوت أهل مائة بيت من بيوت المدينة، فمن منا يفعل هذا؟

الصيام

والصوم تزكية للنفوس، قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:183]، يعني: تزكو نفوسكم. فمن منا يكثر من صيام النافلة ويربط على بطنه قليلاً؟ من منا لا يطول شبعه، ويعمل بقاعدة السلف: جواز الشبع أحياناً، والأصل عدم الشبع؟ أي: يجوز لك أن تشبع أحياناً.

وقد قيل لسيدنا يوسف -وكان على خزائن الأرض-: لم لا تشبع؟ قال: أخاف أن أشبع وأنسى الجياع.

وداود بن أبي هند أحد رواة الكتب الستة، صام أربعين سنة لا تشعر به زوجه، كان يأخذ الطعام من البيت بعد الفجر ويتصدق به في عرض الطريق، ثم بعد ذلك لا يصل إلى بيته إلا بعد صلاة المغرب، فتظن زوجته أنه قد أكل ما أخذه من طعام، ويظن أهل السوق أنه قد تناول إفطاره في البيت.

وإبراهيم بن هانئ النيسابوري أخص تلاميذ الإمام أحمد بن حنبل مات وهو صائم، حتى قال الإمام أحمد لابنه إسحاق: ومن يقدر أو من يطيق ما يطيقه والدك؟

وعروة بن الزبير مات وهو صائم. وأبو طلحة الذي قال فيه المصطفى صلى الله عليه وسلم: (لصوت أبي طلحة في الجيش خير من فئة أو خير من ألف رجل) هذا الصحابي الجليل قال الإمام الذهبي : إنه سرد الصوم بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم نيفاً وعشرين سنة. وقال الحاكم : أربعين سنة.

أولئك آبائي فجئني بمثلهمإذا جمعتنا يا جرير المجامع

حسن الخلق

مكانة حسن الخلق من الدين

وتزكية النفوس -يا إخوتاه! هي التحلي بخلق رسول الله صلى الله عليه وسلم وبمكارم الأخلاق.

ولقد قال الله تبارك وتعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم:4]. قال ابن عباس: وإنك لعلى دين عظيم، -أي: لا دين أحب إلي ولا أرضى عندي من دين الإسلام. فرضي الله عن ابن عباس الذي جعل الدين كله خلقاً، ومن زاد عليك في الخلق فقد زاد عليك في الدين.

قال الحسن في قوله: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم:4] قال: آداب القرآن.

وقال ابن القيم : وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم:4] الخلق الذي آثرك الله به في القرآن.

وقالت السيدة عائشة عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كان خلقه القرآن).

وهذه الآية: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم:4] آية عظيمة، نزلت على نبينا عليه الصلاة والسلام فلم يته على العباد بها.

وسيدنا سعد بن أبي وقاص كان يقول: لقد جمع لي الرسول صلى الله عليه وسلم بين أبويه، وكان يتفاخر على الصحابة بما قاله، فما ظنك بالذي قال له الله عز وجل: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم:4]، وينزل بها كتاب الله عز وجل؟ من قائلها؟ وفي أي الكتب سطرت هذه الشهادة؟ ومع ذلك لم يتأثر بها الرسول صلى الله عليه وسلم ولم تزده إلا تواضعاً لربه.

وقوله تعالى: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم:4] يبرز أصالة الأخلاق في الإسلام، وأنها مطلب هام من مطالب الرسالة، كما قال أهل العلم.

وأجمع آية لمكارم الأخلاق قول الله تبارك وتعالى: خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ [الأعراف:199].

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أنا زعيم ببيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقاً، وببيت في وسط الجنة لمن ترك الكذب وإن كان مازحاً، وببيت في أعلى الجنة لمن حسن خلقه).

فضل حسن الخلق

فكل المقامات وكل الجهود رجعت إلى حسن الخلق، وتزكية النفوس تنقيتها من الرذائل وتحليتها بالفضائل.

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أقربكم مني مجلساً يوم القيامة أحسنكم خلقاً).

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الرجل ليدرك بحسن خلقه درجة القائم بالليل الظامئ بالهواجر).

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله تعالى يحب معالي الأمور وأشرافاها ويكره سفسافها).

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله جميل يحب الجمال، ويحب معالي الأخلاق ويكره سفسافها).

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الناس لم يعطوا شيئاً خيراً من خلق حسن).

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن لله آنية من أهل الأرض، وآنية ربكم قلوب عباده الصالحين، وأحبها إليه ألينها وأرقها).

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خيركم من يرجى خيره ويؤمن شره، وشركم من لا يرجى خيره ولا يؤمن شره).

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (عليك بحسن الخلق وطول الصمت، فوالذي نفسي بيده ما تجمل الخلائق بمثلهما).

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من كان سهلاً هيناً ليناً حرمه الله على النار).

من أقوال العلماء في حسن الخلق

قال يحيى بن معاذ : في سعة الأخلاق كنوز الأرزاق.

وقال الفضيل: لئن يصاحبني فاجر حسن الخلق أحب إلي من أن يصحبني عابد سيئ الخلق.

وأمهات محاسن الأخلاق كما قال العلامة ابن القيم : هي الصبر والعفة والشجاعة والعدل.

فالصبر يحمله على الاحتمال وكظم الغيظ والأناة والرفق وعدم الطيش، والعفة تحمله على الحياء وفعل كل جميل، والشجاعة تحمله على عزة النفس والتحلي بمعالي الأخلاق والشيم وعلى الندى والجود. وأضف إلى ذلك كما قال الهروي: العلم والعدل؛ فهذه أمهات مكارم الأخلاق.

والخلق -يا إخوتاه- يمكن اكتسابه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (زكها أنت خير من زكاها). وكما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنما العلم بالتعلم، وإنما الحلم بالتحلم).

فالأخلاق الجميلة يمكن اكتسابها بمجاورة الصالحين وبالتكيف حتى يعتادها الإنسان.

مشاهد حسن الخلق في التعامل مع أذى الخلق

والإنسان تعرض له مشاهد فيما يصيبه من أذى الخلق، وهذا بيت القصيد -إن شاء الله- الذي يمكن أن نقف عليه قليلاً.

فعلى الإنسان أن يتحلى بالعدل مع ما يصيبه من أذى الخلق، وأن يعرف كيف يتعامل مع عباد الله عز وجل، وكما قال القائل:

ستعلمي إذا انجلى الغبار أفرس تحتك أم حمار

وحسن الخلق أن يحسن الإنسان خلقه بينه وبين ربه، وبينه وبين الخلق، وله في ذلك مشاهد:

أولاً مشهد القدر

المشهد الأول: مشهد القدر:

فحينما يصيبك أذىً من بعض عباد الله عز وجل فانظر إلى ذلك مثل نظرك إلى ما يصيبك من الحر والبرد الذي يؤذيك، ومثل نزول الأمطار، وقل: إن هذا قدره الله تبارك وتعالى علي، فتفنى عن حق نفسك وتوفي حق ربك.

فإذا ضربك إنسان مثلاً أو اعتدى عليك وشتم عرضك أو تكلم فيك، فانظر إلى أن هذه مصيبة مثل المصيبة التي حلت بك من مثل نزول الأمطار والرياح، وقل: إن هذا حدث بقضاء الله عز وجل وقدره.

ولتكن لك أسوة في رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلقد قالت السيدة عائشة : (ما انتقم رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه قط، ولا نيل منه شيء فانتقم لنفسه إلا أن تنتهك محارم الله، فإذا انتهكت محارم الله لم يقم لغضبه شيء حتى ينتقم لله).

وقالت السيدة عائشة رضي الله عنها: (ما ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده خادماً ولا دابةً ولا شيئاً قط، إلا أن يجاهد في سبيل الله).

وقال سيدنا أنس رضي الله عنه: (خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين فما قال لي لشيء فعلته: لم فعلته؟ ولا لشيء لم أصنعه لم لم تصنعه؟ وكان إذا عاتبني بعض أهله قال: دعوه فلو قضي شيء لكان).

فكان الرسول صلى الله عليه وسلم يترك أنساً، وينهى أهله أن يعاتبوه ويقول: (دعوه فلو قضي شيء لكان).

ثانياً الصبر وكظم الغيظ

المشهد الثاني: الصبر:

أن تصبر على أذى الخلق؛ لأنك تعلم عاقبة الصبر، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من كظم غيظاً وهو قادر على أن ينفذه دعاه الله على رءوس الخلائق حتى يخيره من الحور العين، يزوجه منها ما يشاء).

فلو شتمك أحد مثلاً وأنت تقدر عليه ولكنك رأيت أنك لو كظمت غيظك فستتزوج من الحور العين ما تشاء؛ لأن هذا مهر لها، فلقد أسأت الخطبة إن لم تصبر.

بل قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من كظم غيظاً وهو قادر على أن ينفذه ملأ الله قلبه رضاً يوم القيامة). فكيف لا يدفعك هذا إلى الصبر على أذى الناس؟

وقد شتم رجل سيدنا سلمان الفارسي فقال له: إن خفت موازيني فأنا شر مما تقول، وإن ثقلت موازيني لم يضرني ما تقول.

وشتم رجل الربيع بن خثيم فقال له: يا هذا! قد سمع الله كلامك، وإن دون الجنة عقبة إن قطعتها لم يضرني ما تقول، وإن لم أقطعها فأنا شر مما تقول.

فعلى الإنسان أن يصبر على أذى الخلق.

ثالثاً العفو والصفح والحلم

المشهد الثالث: مشهد العفو والصفح والحلم: قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (ما زاد الله عبداً بعفو إلا عزاً).

وسيدنا الأحنف بن قيس الذي كان يضرب به المثل في الحلم قال له رجل: علمني الحلم، قال: هو الذل يا ابن أخي! أتصبر عليه؟ يعني: عندما تجد رجلاً يشتمك وأنت ساكت وتستطيع أن ترد عليه وترد له الصاع بمليون صاع، ولكنك تعفو عنه لوجه الله عز وجل، فهذا في ظاهره الذل، ولكن في باطنه كمال العز.

ومن أخبار الأحنف بن قيس أن رجلاً شتمه فسكت عنه، فشتمه الرجل مرة ثانية فسكت عنه، فأعاد فسكت عنه، فبكى الرجل وقال: والهفاه! ما يمنعه أن يرد علي إلا هواني عنده!

وشتمه رجل حتى أوصله إلى خيام أهله، أي: إلى منازل أهله، فلما وصل الأحنف بن قيس قال: يا هذا! إن كان بقي عندك شيء فهاته؛ لأنني قربت من منازل الحي، فلا يسمعك بعض سفهائنا فتلقى ما تكره. وسيدنا قيس بن عاصم المنقري الذي تعلم منه الأحنف بن قيس الحلم قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (هذا سيد أهل الوبر). قال الأحنف : ما تعلمت الحلم إلا من قيس بن عاصم ، فقد قتل ابنُ أخ له بعضَ بنيه، فأُتي بالقاتل مكتوفاً يقاد إليه، فقال: ذعرتم الفتى -أي: خوفتم الفتى- ثم أقبل على الفتى فقال: بئس ما فعلت، أنقصت عددك، وأوهنت عضدك، وأسندت عدوك، وأسأت لقومك، وأثمت بربك، وقطعت رحمك، ورميت نفسك بسهمك، خلوا سبيله واحملوا إلى أم القتيل الدية؛ فإنها من غير قومنا. ثم انصرف القاتل وما حل قيس حبوته ولا تغير وجهه.

يا من تنهش في أحشائي

يا من جزء من أجزائي

يا من تبدو للجهال كأنك دائي

إني أعلم أنك حتماً فيك شفائي

قل لي هل يأتيك ندائي

إنك مثلي إنك مسلم تشهد أن إلهك واحد

إنك فيها من شركائي

لكنك دوماً تطعنني

من خلفي وفي كعب حذائي

حين أراك تقوم بهذا

يغرقني خجلي وحيائي

ووشاة القوم إذا بانوا

تسري الطعنة في أحشائي

قل لي هل يأتيك ندائي

ابغ العزة عند إلهك

ليس العز دمي وبكائي

وغداً من قواك يميتك

إن أنت أهملت ندائي

رابعاً مشهد الرضا

ثم بعد ذلك مشهد الرضا، وهو: أن ترضى بما قسم الله تبارك وتعالى لك، وتقول: أحبه إليه أحبه إلي.

عذابه فيك عذبوبعده فيك قرب

وأنت عندي كروحي بل أنت منها أحب

حسبي من الحب أني لما تحب أحب

خامساً مشهد الإحسان

ثم فوق هذا مشهد الإحسان:

أي: أن تقابل إساءة المسيء الذي أساء إليك بالإحسان، وأن تحسن إليه كلما أساء إليك، ويهون هذا عليك علمك بأنك قد ربحت عليه وأنه يعطيك من حسناته، والعلماء قالوا: اقتضاء الهبة الثواب، وهذا المسكين قد وهبك أغلى ما عنده، وهي حسناته، فإن كنت من أهل الكرم فأثبه عليها حتى تثبت الهبة.

والحسن البصري كان إذا بلغه عن أحد أنه شتمه يهديه طبقاً من التمر ويقول: بلغنا أنك تهدي إلينا من حسناتك، وليس عندنا إلا هذا التمر.

ومما يهون عليك أيضاً مقابلة الإساءة بالإحسان علمك بأن الجزاء من جنس العمل، فإن كان هذا عملك وإحسانك إلى من أساء إليك مع ضعفك وحاجتك وفقرك وذلك، فهكذا يفعل المحسن عز وجل القادر العزيز الغني بك في إساءتك ويقابلها بما قابلت به إساءة عبده إليك، فهذا لابد لك منه.

وانظر إلى الربيع بن خثيم تلميذ سيدنا عبد الله بن مسعود لما سرقت فرسه وكان قائماً بالليل، وكان قد ذهب غلامه ليحتش، فلما أتى الغلام قال: يا ربيع أين الفرس؟ قال: سرقت، قال: سرقت وأنت تنظر إليها! قال: ما كان شغل يشغلني عن الصلاة، ثم رفع الربيع يده وقال: اللهم إنه سرقني ولم أكن لأسرقه، اللهم إن كان غنياً فاهده، وإن كان فقيراً فأغنه.

هؤلاء هم السلفيون، وهذه هي الرقة التي تذوب في الأرض، فتملأ الأرض رياحين وجناناً، فهو يدعو لسارقه.

ونحن عندنا في مصر مثلاً إذا سرق الواحد مثلاً ربع جنيه يقولون له: اقتله، ثم يدخل العناية المركزية؛ من أجل أنه سرق منه ربع جنيه، فيريد منه عشرة آلاف جنيه، والربيع بن خثيم يدعو لسارقه!

سادساً مشهد السلامة

والمشهد الذي هو أعلى من هذا السلامة وبرد القلب:

فلا تشوش على قلبك بالتفكير في أن تؤذي هذا الرجل أو تنتقم منه، فإن الرشيد لا يرضى بأن يشوش قلبه، ولا يرضى بمجرد التفكير في أذى هذا الرجل، ولا يشغل همه بهذا، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من جعل الهم هماً واحداً كفاه الله سائر همومه).

سابعاً مشهد الأمن

ثم فوق هذا مشهد الأمن، فإنك إذا تركت مقابلة الانتقام بمثله عشت في أمان، كما يقولون: عش مظلوماً سنة ولا تعش ظالماً يوماً؛ لأنك تأمن وتعيش في أمن إذا كنت مظلوماً.

اللهم ارزقنا رحمةً ترحمنا بها، اللهم اجعل في قلوبنا رأفة ورحمة ووداً للمسلمين.

ونختم بما قال عمر بن عبد العزيز: اللهم إن لم أكن أهلاً لأن أبلغ رحمتك فإن رحمتك أهل أن تبلغني، رحمتك وسعت كل شيء وأنا شيء، فلتسعني رحمتك يا أرحم الراحمين.

أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , تزكية النفس للشيخ : سيد حسين العفاني

https://audio.islamweb.net