اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , وصايا لطلبة العلم للشيخ : محمد مختار الشنقيطي
أما بعد:
فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وفي بداية هذا اللقاء فإنني أشكر بعد شكر الله عز وجل جامعة أم القرى ، ممثلةً في عمادة شئون الطلاب، أن هيأت هذا اللقاء بكم على هذه الأرض الطيبة المباركة، وأسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يكتب لنا ولكم الخُطا، وأن يجعلها موجبةً عنده للمحبة والرضا.
أيها الأحبة في الله! يا معشر طلاب العلم! يا من اختاركم الله عز وجل من بين الناس، لكي تأخذوا مشاعل النور والهداية، فيفتح الله بكم إذا شاء قلوباً طالما أُغْلِقت، وأسماعاً قد صُمَّت، وأعيناً طالما عَمِيت، والله على كل شيء قدير، فلِلَّهِ في أهل الخير نعم، ومن أجلِّها أنه شرفهم بالخير وجعلهم هداةً وحَمَلةً له، وأنتم يا معشر طلاب العلم! يا من فتح الله قلوبكم بكتابه، ونوّر أبصاركم وبصائركم بسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، كم نحن بحاجة إلى أن نقف أمام هذا الحق العظيم، وهو حق طلب العلم، وكم يحتاج طالب العلم دائماً إلى من يذكره بجليل هذه النعمة وعظيم هذا الحق، فلذلك كانت هذه الكلمة، التي أسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يرزقنا فيها القول السديد، وأن يجعلها نافعةً لنا ولكم يوم البأس الشديد.
أيها الأحبة في الله! إن العلم كالغيث للقلوب، يُحيي الله عز وجل به الأفئدة بعد موتها، ويُوقظها بعد غفلتها، وينبهها من بعد منامها.
هذا العلم لا يكون رحمةً حقيقيةً للإنسان إلا إذا أخلص فيه لوجه الله الكريم، فأول ما يُوصَى به طالب العلم، أن يكون قلبه لله جل جلاله، أن تكون السريرةُ سريرةً تقيةً نقيةً، تراقب اللهَ جل جلاله، وتريد ما عند الله عز وجل، في كل صغيرٍ وكبير، وفي كل جليلٍ وحقير.
أن نتجه إلى الله بقلوبٍ ليس فيها أحدٌ سواه، فيأخذ طالب العلم هذا النور وهذه الرحمة وقلبه يريد ما عند الله جل جلاله، يأخذ هذا النور وهو يرجو رحمة الله في كل كلمةٍ يسمعها ويقولها، فتكون أشجانُه وأحزانُه لله جل جلاله، فلا يزال بهذا الإخلاص تخطو به في صحيفة عمله الحسنات، ويستوجب بها عند الله رِفْعة الدرجات.
الإخلاص الذي رفع الله به شأن العلماء، وجعل عبادتهم بريئة من غير الله عز وجل، وهو السر الذي فضَّل الله به سلف هذه الأمة على خَلَفها، ولذلك قال الإمام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: بل إخلاص الدين لله هو: الدين الذي لا يقبل الله سواه. فلا قبول لهذا العلم، ولا قبول للتعلم والتعليم إلا إذا أراد الإنسان وجه الله الكريم.
أن ينطلق طالب العلم وهو يشتعل قلبه شوقاً لكلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، فيفتح قلبه وقالَبه لماء الوحي، حتى إذا نزل ذلك الماء على ذلك القلب كان كالغيث الطيب على الأرض الطيبة؛ وما من إنسان يُعطِي العلم سمعه وقلبه، إلا نفعه الله بهذا العلم، ولذلك كانت أول وصيةٍ من الله لموسى: وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى [طه:13].
وأن نستمع للعلم، وأن يكون عندنا الشوق والتلهف إلى مجالس العلماء، وإلى حِلَقِ العلماء، وأن ننطلق إلى رياض الجنة ننافس فيها إخواننا، ونسابق فيها خلاننا، حتى نكون على أفضل ما يكون عليه المجد في طاعة الله عز وجل.
إن هذا العلم رحمةٌ من الله عز وجل، وكلما ازداد الإنسان من هذه الرحمة رفع الله قدره، وأجلَّ مكانه، وأعلى ذكره.
وأن نفتح لهذا العلم أسماعنا، وأن نفتح له قلوبنا، وكان بعض السلف يقول: [من استمع للعلم وأعطاه قلبه، فإن الله ينفعه لا محالة بهذا الاستماع للعلم].
وأن نفتح لهذا العلم كل جوارحنا.
فإذا وفق الله طالب العلم لكي يكون عنده الشوق إلى مجالس الذِكر ومجالس العلماء ورياض العلماء؛ فإنه لا يلبث بعد فترة حتى يجمع خيراً كثيراً.
أن يخرجه الإنسان من قرارة القلب إلى القالَب، أن نخرج الأقوال والهدي الذي نسمعه إلى الواقع، فبعد أن يتأثر طالب العلم بالوحي، ويسكن في قرارة قلبه يستمسك به، ويطبقه، ويلتزمه، قال الله لنبيه صلى الله عليه وسلم: فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ [الزخرف:43] قال: استمسك، ولم يقل له: أمْسِك، وإنما قال له: استمسك؛ فالاستمساك بهذا الدين: إذا تعلم طالب العلم سنة أو حكمة تمسك بها، وعمل بها، وأشهد الله على أنه من أهلها؛ فإذا سمعتَ حديثاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو إلى سنة أو يدعو إلى خيرٍ وهدى؛ فكن عاملاً بذلك العلم، كن مطبقاً له، تترجمه على جوارحك، ولذلك إذا وفق الله طلاب العلم إلى العمل بعد العلم، جعلهم قدوة، قال الله في كتابه عـن علماء بني إسرائيل: وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ [السجدة:24].
ترجمة العلم إلى الجوارح فيه حياة العلم، وكم من سننٍ حيت لما خرج طلاب العلم، فنشروها أمام الأمة بلسانٍ يذكرُ الله وجوارح تترسم هدي الله وهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، تطبيقُ العلم وترجمتُه بالعمل، وإخراجِه إلى الواقع حتى تراه الناس، فحينما تراك ترى السنن في أقوالك، وترى السنن في أفعالك، فبعض طلاب العلم إذا رأيته تذكرت هدي النبي صلى الله عليه وسلم، ومن طلاب العلم من شرح الله صدره للعلم والعمل، حتى إذا رأيته ذكرت الله، إذا رأيته قد عمل بما عَلِم.
طالب العلم يعامل الله، والمعاملة مع الله فيها ابتلاء واختبار وامتحان، ولا بد لطالب العلم أن يَجِدَ الشدائد، وأن يَجِدَ المحن، وأن يَجِدَ من يثبطه ومن يخذِّله.
فأول صبرٍ يُوصَى به طالب العلم: الصبر على وساوس الشيطان:
فإن الشيطان لن يدع لطالب العلم باب خيرٍ يطرقه إلا وجاءه من كل حدبٍ وصوبٍ حتى لا يَبْلُغَه، لا يمكن أن يترك طالب العلم وأن يُخَلِّي بينه وبين الخير؛ لأن الله عز وجل أخبر أن المؤمن مبتلىً، ودرجة طالب العلم فوق درجة المؤمنٍ العامِّي، فلا بد أن يكون مبتلىً، تعيش مع نفسك في الوساوس، فأول ما يأتي الشيطان للإنسان يخذِّله، يقول له: مَن أنت؟! من أنت حتى تطلب العلم؟! فلستَ بعالم، ولا أبوك بعالم، ولستَ من بيت علم، حتى يخذِّله عدو الله، ويجعلَ في قلبه اليأس من رحمة الله، والقنوط من روح الله.
فما على طالب العلم إلا أن يُحسن الظن بالله، وأن يقول: ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [المائدة:54].
فمَن فهَّم سليمان وعلَّم داوُد قادرٌ على أن يفهِّمك ويعلِّمك؛ فأحسِن الظن بالله جل جلاله، وكم من طلاب علمٍ كانوا على جاهلية وبُعْدٍ من الله تبارك وتعالى؛ ولكنهم أحسنوا الظن بالله! فما مضت الأيام ولا انقضت الأعوام إلا وهم أئمة هدى، ومشاعل خيرٍ وحب لله ورضا، فأحسِن الظن بالله جل جلاله، وكن قوي العزيمة على طاعة الله، وقد تأتيك المحن التي تحتاج إلى الصبر في أهلك وذويك؛ فتجد من يخذِّلك عن طلب العلم، ويجعل العوائق بينك وبين طلب العلم من حاجات الناس، وحاجات الأهل وأغراضهم، فاستعن بالله، فإنه نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ.
لا بد من الامتحان والاختبار حتى في طلب العلم، ولا يزال طالب العلم يُبتلَى ويمتحَن، حتى أنه يبتلَى وهو في مجلس العلم، ويُختبَر حتى في العلم الذي يتعلمه، ولذلك إذا نظرت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وجدته من أول لحظةٍ في الوحي إلى آخر لحظةً من الدنيا وهو يتقلب في البلاء صلوات الله وسلامه عليه.
فأول لحظةٍ في الوحي: أخَذَه جبريل فغَطَّه حتى رأى الموت.
وآخر لحظةٍ من الدنيا قال فيها: (آه! إن للموت لسكرات).
فلا بد من البلاء، ولا بد من الامتحان، ولذلك حكمةٌ من الله عز وجل أنه جعل الدنيا دار بلاءٍ وعناءٍ وعِنَّةٍ على المؤمن؛ ولكن هذا البلاء رفعةٌ للدرجات، وتكفيرٌ للسيئات، ومضاعفةٌ للأجور والحسنات، وكم من إنسانٍ صُبَّ عليه البلاء فأمسى يوم أمسى وصحيفته مملوءةٌ بأجورٍ لا يجدها بكثير صلاةٍ ولا صيام.
فاصبر على طلب العلم واحتسب البلاء الذي تجده، واحتسب عند الله ما يقال عليكَ أو يقال لك، فقد يُبْتَلى الإنسان حتى بمدح الناس وَثنائهم، فإن الجاه والسمعة والشهرة قد تقتل الإنسان من حيث لا يدري، فما على الإنسان إلا أن يجاهد ويحتسب عند الله عز وجل أن يثبته وأن يوفقه.
ونسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجعلنا وإياكم أئمة هدى، هداة مهتدين غير ضالين ولا مضلين.
أحبتي في الله: إن العلم مسئوليةٌ عظيمة، وواللهِ ما من جماعةٍ انفردوا بهذا العلم وأخذوا على أنفسهم أن يكونوا طلاب علم إلا تحملوا المسئولية بين يدي الله عن ذلك، ولذلك كل طالب علمٍ دخل إلى جامعة، أو جلس في حلقة، أو لازمَ شيخاً فليعلم أنه بمجرد دخوله وبمجرد ملازمته قد وَضَع قدمه على عتبة المسئولية بين يدي الله جل جلاله، وأنه سيحمل على ظهره أمانة يُوقف بها بين يدي الله، إما أن تشقيه وإما أن تسعده وترضيه.
فاعلموا إخواني أن التخصص في العلم وحل هذه الحِكَم من الكتاب والسنة ما هي إلا حجج تكون للإنسان أو على الإنسان. جاء بعض السلف إلى أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، وكان يسألها المسائل، فقالت له يوماً من الأيام: [أَيْ بُنَي، أَكُلَّ ما عَلِمْتَه عَمِلْتَ به؟! فقال: يا أماه، إني مُقصر. وجلس يشتكي من تقصيره، فقالت له: يا بُنَي! لِمَ تستكثر من حُجَج الله عليك؟!].
فينبغي لنا أن نستشعر أن هذا العلم الذي نتعلمه حُجَجٌ لله علينا، وأن وراءنا أمم تنتظر هذا الوحي بفارغ الصبر، وراءك أهلُك ينتظرون هذا العلم الذي تتعلمه، وراءك حيُّك ينتظر هذا العلم الذي تتعلمه، وراءك أهلُ بلدتك وعشيرتك ينتظرون هذا العلم الذي تتعلمه، فاتقِ الله فيما تعلمتَ، وكن غيوراً على هذا الدين، وبُث الحِكَم من كتاب الله وسنة سيد المرسلين صلوات الله وسلامه عليه إلى يوم الدين.
فاحتسبوا -إخواني- الأجر عند الله، واعلموا أن هذا العلم لا يُراد به الدنيا، وإنما يُراد به ما عند الله، قال صلى الله عليه وسلم: (مَن تعلم علماً مما يُبتغى به وجه الله لينال به عرضاً من الدنيا لم يرِح رائحة الجنة).
اللهم إن نسألك الإخلاص في العلم والعمل، ونسألك بعزتك وجلالك أن تجعل هذا العلم حجةً لنا لا حجةً علينا.
وآخر دعوانا أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وصلى الله وسلم وبارك على نبيه، وآله وصحبه أجمعين.
الجواب: باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد:
فَهْم العلم وضبطُه يحتاج إلى تفريغ القلب له، وقلبُك مشغولٌ بما أنت تحبه، وإذا تعلق القلب بحب شيء انصرف عن كل شيءٍ سواه، فلعل ضعف فَهمك وإدراكك سببه أنك لم تعطِ العلم ما يستحقه من الإقبال ومن العناية، ولذلك لم تجد له أثراً في نفسك، فأنت تحب شيئاً غير العلم، وقلبك منصرفٌ إلى هذا الشيء، ومَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ [الأحزاب:4].
فإذا كنت تريد العلم فأعطِ العلم كُلَّك يعطيك بعضَه، فكيف إذا لم تعطِه شيئاً؟!
الأمر الثاني: قضية الجهاد: فلا يجوز لمن كان عنده والدان أو أحدهما أن يخرج إلى الجهاد إلا بعد استئذانهما، ثبت في الصحيحين من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص : (أن رجلاً أتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم يستأذنه في الجهاد، قال: أحيٌ والداك؟ قال: نعم، قال: ففيهما فجاهد) هذا الحديث الصحيح فيه فوائد:
أولها: أن الرجل جاء يبايع النبي صلى الله عليه وسلم على الجهاد، كما ورد في الروايات الأخرى في السنن، وفي روايةٍ في السنن أيضاً صحيحة: (قال: يا رسول الله! أقبلتُ أبايعك على الهجرة والجهاد، قال: أفتبتغي الأجر من الله؟ قال: نعم، قال: أحيٌّ والداك أو أحدهما؟ قال: نعم، قال: ارجع إليهما فأحسن صحبتهما) رجل يأتي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيقول: أريد أن أهاجر وأكون معك، وأجاهد، مِن أفضل ما يكون: عِلْمٌ وجهادٌ، فقال له: (أحيٌّ والداك أو أحدهما؟ قال: بل كلاهما، قال: أفتبتغي الأجر من الله؟ قال: نعم، قال: ارجع إليهما فأحسن صحبتهما).
وفي الحديث الصحيح أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (يا رسول الله! أقبلتُ من اليمن -أكثر من ألف كم- أبايعك على الهجرة والجهاد، قال: أحَيَّةٌ أمك؟ قال: نعم، قال: الزم رجلها فإن الجنة ثَمَّ).
فالذي يريد رحمة الله عز وجل إذا وجد الوالدان فإن حقهما مقدمٌ على الجهاد، ففي الصحيحين من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال: (سألتُ النبي صلى الله عليه وسلم: أي العمل أحب إلى الله؟ قال: الصلاة على وقتها، قلتُ: ثم أيُّ؟ قال: بر الوالدين، قلتُ: ثم أي؟ قال: الجهاد في سبيل الله).
ثانيها: أخذ العلماء من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص المتقدم حُكْماً شرعياً، هو: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما سأل الصحابي: (أحيٌّ والداك؟ قال: نعم) لم يسأله: أهما كافرَين أم مسلمَين؟ أهما بحاجة إليك أو ليسا بحاجة إليك؟ أعندك إخوة أو ليس عندك إخوة؟ بل سأله: (أحيٌّ والداك؟ قال: نعم، قال: ففيهما فجاهد).
والقاعدة في الأصول: أن (ترك الاستفصال في مقام الاحتمال ينزل منزلة العموم في المقال).
ترك الاستفصال، أي: لم يستفصل النبي صلى الله عليه وسلم منه.
في مقام الاحتمال، أي: في مقام يحتمل أن يكون الوالد بحاجة أو ليس بحاجة.
ينزل منزلة العموم في المقال، أي: الْزَمْ والدَيك سواءً كانا بحاجةٍ إليك أو لم يكونا بحاجة إليك.
السبب في هذا أنه ليست القضية قضاء حاجة الوالدين أبداً، القضية تقوم على حكم جليلة:
منها: أن الوالد والوالدة لا يستطيعان فراق الابن، وهذا شيء لا يملكه الوالد ولا تملكه الوالدة، نبي من أنبياء الله، يعقوب عليه السلام يعلم أن ابنه سيعود إليه، يقول تعالى: وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ [يوسف:84] فهو نبي من أنبياء الله، ويعلم أن ابنه سيعود إليه وتبيضُّ عينه من البكاء، وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ [يوسف:84] فكيف بغيره؟!
هذه نماذج وقصص ما ذكرها الله في القرآن عبثاً، ذكر لك نموذجين للأب والأم:
الأب: في يعقوب.
والأم: يقول تعالى عن مريم: فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ … [مريم:23] أي: ألجأها فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيّاً [مريم:23] كأن الله يقول: إذا كان هذه التي يقال لها: فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً [مريم:24] فمع هذه العناية الإلهية تقول: يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيّاً [مريم:23] فكيف بالأمهات الأخريات؟!
هذه نماذج ذكرها الله من حنان الوالدَين وعطفهما وعظيم حقهما، حتى يعلم الإنسان أن القضية ليست قضية كونهما بحاجة إليك أو ليسا بحاجة، القضية قضية العاطفة، ولذلك قد يخرج الابن للجهاد دون استئذان والدَيه، فيبلغ استشهاده الوالدان، فيتسخطان على القدر، فينجو الابن ويهلك الوالدان، ويكون ذلك أعظم ما يكون من العقوبة، وهذا ذكره العلماء في الحِكَم المترتبة على استئذان الوالدَين.
ولعل الله له حكمة؛ يعلم أن خروج الإنسان للجهاد في هذه الفترة فيه فتنةٌ له، أو أنه لا يخلُص، أو أن هناك أمامه أمورٌ تعيقه عن أن تكون شهادته مقبولة، فيبتليه الله بالوالدين، يقول له الوالد: لا، لا تخرج، وتقول الوالدة: لا تخرج، فيصبر ويحتسب حتى يبلغ رضا الوالدين، ثم يجمع الله له بين الحسنيين، فوالله ما أرضى أحدٌ والديه وترك الجهاد إرضاءً لهما إلا جعل الله له باب شهادة قريبة أو بعيدة، فيحتسب الإنسان، ما دام النص يقول: بالاستئذان، ما نخرج إلا بعد الاستئذان، لا اجتهاد مع النص، ولا آراء مع النصوص، ونقف مع قول الله وقول رسوله صلى الله عليه وسلم.
وبالنسبة للقضية الثانية وهي: قضية خروج الإنسان للجهاد: حبذا لو يسبقه علمٌ أو تسبقه درجة من العلم حتى يكون أرفع ما يكون؛ لأن:
أعلى المراتب عند الله: مرتبة النبوة.
ثم بعد مرتبة النبوة: مرتبة العلم.
ثم بعد مرتبة العلم: الشهادة.
ثم: الصلاح.
أربع مراتب جمعها الله في قوله: فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ ... [النساء:69] هذه أعلى درجة من الجنة ... وَالصِّدِّيقِينَ ... [النساء:69] تعرفون مَن هم الصديقون؟ إنهم العلماء العاملون ... وَالشُّهَدَاءِ ... [النساء:69] بعدَهم ... وَالصَّالِحِينَ ... [النساء:69].
وإنما علت مرتبة العلماء؛ لأنها وراثة وخلافة تلي مقام النبوة، ولذلك كان مقامها أعلى من مقام الشهادة.
المقصود: أن يحتسب الإنسان إذا أبى والداه، وينبغي أن يُعلم أنه ينبغي للإنسان إذا أبى والداه عن الاستئذان ألا يلح عليهما، ولذلك قرر طائفة من العلماء على أنه لو ألح على والديه وأحرجهما بالإذن أنَّ الإذن وجوده وعدمه على حدٍ سواء؛ لأنه لم يأخذ برضاهما، وإنما أَخذ بكُرهٍ لهما.
فينبغي للإنسان أن يحتسب، إذا وجد الرضا فليعلم أن الله قد اختار له الرضا، وإن لم يجد فما عليه إلا أن يصبر والله يأجره، يقول صلى الله عليه وسلم: (إن بـالمدينة رجالاً ما سلكتم وادياً -يقول هذا وهو في طخوم الشام، في غزوة العسرة- ولا قطعتم شِعباً إلا كانوا معكم، إلا شاركوكم الأجر، قالوا: يا رسول الله، وكيف وهم في المدينة؟! قال: حبَسهم العذر).
فإذا امتنع الوالدان من الإذن لك فقد حبَسَك عذرٌ شرعي، فاعلم أن الله يأجرك، وأن الله يبلغك مراتب المجاهدين.
والله تعالى أعلم.
الجواب: أما بالنسبة للمسألة الأولى: فإن ترتيب الوقت عاملٌ مهمٌ جداً في الاستفادة لطالب العلم، يُرتب طالب العلم الوقتَ، والأفضل والأكمل بل هو الأصل أن طالب العلم يلتزم بشيخ، ويكون شيخه عالماً عاملاً ملتزماً بالكتاب والسنة، يلتزم به، ويصحبه، ويرافقه، يتأسى بـالسلف رحمهم الله، فإذا لازم هذا العالِمَ كان معه، ورتب وقته على حسب دروس هذا العالم، وعلى حسب مجالسه.
وأما بالنسبة لإضاعة الوقت فهذا من أعظم المصائب التي تكون على طالب العلم، أعز شيء يملكه طالب العلم: الوقت، والذي يريد العلم يحفظ وقته. وكان الوالد رحمه الله إذا ذُكر عنده أحد -أعني: من طلاب العلم- يقول: نِعْم طالب العلم؛ لأنه يراه حريصاً على وقته، وإذا رأى إنساناً كثير الزيارة للناس، كثير الاشتغال بفُضول الدنيا لا يَعُدُّه طالبَ علم؛ لأن مفتاح طلب العلم: الحفاظ على الوقت. ولا أعرف مثله رحمه الله في حرصه على الوقت، وأذكر أنه كان بمجرد ما يدخل البيت يستفتح بالصلاة، فيصلي ما كُتِب له، ولا أذكر أنه دخل وجلس على فراشه في حياته كلها معي، أو أنه دخل وجلس على فراشه قبل أن يصلي، إلا إذا كان وقتَ نهي، فيدخل، ثم ينقلب على كتبه، ويقرأ فيها ما شاء الله أن يقرأ، حتى إنه في بعض الأحيان يستمر إلى قرابة منتصف الليل، وإذا دعي إلى مناسبات أو ولائم يأخذ كتابه معه، فإن وجد في هذه المناسبة الفوائدَ أو مجلسَ ذكرٍ وعلمٍ جَلَسَ، فإن وجدهم فلانٌ قال وفلانٌ قال، أخذ كتابه وذهب في ظل شجرة يقرأ حتى يحضر وقت الغداء فيتغدى، ثم يمضي.
فطالب العلم أعز شيء عنده الوقت، خاصة إذا كان خرج من مدينته لطلب العلم في مدينة ثانية، وما ترك والديه، ولا ترك إخوانه، ولا قرابته عبثاً، فينبغي للشخص الذي يسافر عن أهله أن يحترق في قرارة قلبه على كل ساعة؛ لأنه حَرَم والديه رؤيته، فينبغي أن يكون الشيءُ الذي من أجله فارقهم أعزَّ من الشيء الذي يكون من أجله موجوداً بينهم.
فينبغي الحرص على الوقت، وإضاعةُ الأوقات في القيل والقال والتراهات من أعظم الآفات التي تُضَيِّع على طالب العلم الخيرَ الكثير.
فأهم شيء: الحرص على الوقت.
ومن الحرص على الوقت أيضاً: إذا جلس طالب العلم مع عالم أو مع طالب علم، فإنه يستفيد، أعني: إذا جلس مع طلاب العلم لا يجلس هكذا صامتاً، بل يسألهم مسألة إن كانوا دونه في العلم، ويطرح عليهم مسألة، ثم يفيدهم بها، وإن كانوا أعلى منه ذاكَرَهم وتواضَعَ للعلم، فهو دائماً يكون في مذاكرةٍ للعلم، فإن مذاكرة العلم عبادة، والإنسان يشتري رحمة الله في طلب العلم في كل لحظاته وحركاته، ويحتسب، حتى إذا جلس مع الناس فإنه يستفيد أو يفيد.
هذه رسالة لطالب العلم.
أما قضية المجاز في القرآن: فهذه مسألة خلافية:
من العلماء من قال: لا مجاز في القرآن.
ومنهم من قال: فيه المجاز.
والصحيح: أن المجاز موجودٌ في القرآن في غير أسماء الله وصفاته، والدليل على وجوده: أنه لا يستطيع أحد أن ينكر وجود المجاز في اللغة، فالمجاز موجودٌ في اللغة، وهو بلسان العرب، قال الله تعالى في كتابه: إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً [الإنسان:10] فهل يوم القيامة يعبس على الحقيقة؟!
وقال تعالى: وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ [الأحزاب:10] هل القلوب بلغت الحناجر حقيقة؟! لا، إنما هو كناية.
وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ [الأحزاب:49] تَمسوهن: كناية عن الجماع.
فهذا كله تجوُّزٌ في العبارة.
ولكن في أسماء الله وصفاته ليس هناك مجاز.
والسبب الذي جعل العلماء يقولون: بنفي المجاز عموماً في القرآن إقفال باب التأويل على الأشاعرة؛ ولكن من الممكن أن نُقْفِل عليهم باب التأويل بأن نقر بوجود الأسلوب؛ ولكن في أسماء الله وصفاته نناقشهم بالطريقة التالية وهي:
نقول لهم: إن مما اتفق العلماء عليه: أنه إذا تعارضت الحقيقة والمجاز، فإن الأصح حمل الدلائل في الكتاب والسنة على الحقيقة ما لم يدل الدليل على المجاز، فلما قال الله: بِيَدَيَّ [ص:75] أي: يديه، حملناها على الحقيقة، فلما لم يوجد دليل من الكتاب والسنة على صرف اللفظ عن الحقيقة بقينا عليها، فقلتم: بالصرف - أعني: الأشاعرة - بدلالة العقل، ولا نعتبرها دليلاً كافياً للعدول عن ظاهر القرآن، فمن الممكن مناقشة الأشاعرة -حينما قالوا بالمجاز في الأسماء والصفات- مناقشةً بهذا الأصل، وهذا الأصل قرره الأصوليون في باب تعارض الحقائق.
وعلى العموم فإن القول بوجوده أو عدم وجوده يقرر بعض العلماء أنه خلاف لفظي؛ لأنهم يقولون: الأسلوب موجود؛ ولكن اختلفوا هل يُسَمى مجازاً أو أن العرب تكلمت به على هذه الصفة؟! لأن الكلام موجود، قال صلى الله عليه وسلم لـمعاذ : (ثكلتك أمك) ما معنى ثكلتك أمك؟! معناها: فقدتك، هل يقصد النبي صلى الله عليه وسلم الفَقد؟! (رَغِم أنف امرئ أدرك أحد أبويه أو كلاهما فلم يدخلاه الجنة) هل رَغِم المراد به الرُّغام حقيقة؟! كل هذا كنايات؛ لأن اللغة العربية لغةٌ واسعة، وهذا هو الذي يعتبر من سماتها وهو: سعتها، فإنه قد يراد ظاهر اللفظ وقد يراد غير اللفظ.
فالمقصود أن الأسلوب موجود، قال صلى الله عليه وسلم: (عقرى حلقى! أحابِسَتُنا هي؟!) عقرى حلقى، معناهما: عَقَرَها الله، حَلَقَها الله، كناية عن مصيبة، هل يراد أن المصيبة تصيبها؟! ليس المراد ذلك، إنما المراد كناية، كل هذا كنايات، ويعتبر من التجوُّز في العبارة.
والله تعالى أعلم.
الجواب: لاشك أنه لا بد للدعوة من العلم؛ ولكن -يا إخواني- ينبغي أن يُفَرَّق بين قضيتين:
الدعوةُ إلى أصولِ الدين، والقواعدِ العامة، أو النهيُ عن المنكرات العامة الواضحة التي لا تحتاج إلى كثيرِ علم.
والدعوة الخاصة.
فالدعوة العامة: مثل الدعوة إلى التوحيد، شخصٌ أمامك يعبد الوثن، لا تقل: أنا لن أدعوه حتى أتعلم؛ لأن هذا أمر يستوي فيه عامة المسلمين وهو الدعوة إلى أصل الدين، ويعتبر فرض عين على كل إنسان رأى إنساناً يعبد غير الله أن يدعوه إلى توحيد الله جل وعلا، ولا يُعْذَر أحد بترك هذا الأصل؛ لأنه أمر من الواضحات، أعني: لا يقول أحد: لا، أنا لن أدعو أحداً كائناً من كان حتى أتسلح بالعلم الكامل!
كذلك أيضاً: لو رأيتَ إنساناً على الزنا، أو على شرب الخمر -والعياذ بالله- فإن الزنا وشرب الخمر منكران واضحان لا يحتاجان إلى كثيرِ علم، فالنهي عنهما أو التحذير منهما لا يحتاج إلى كثيرِ علم، فهذان يستوي في الدعوة فيهما العلماء والعامة، ولا يُعذر أحدٌ بتركهما.
الأمر الثاني: وهو الدعوة إلى خصوصيات الأحكام والمصائب التي تنزل بالناس، ويحتاج فيها إلى علم، وبصيرة، ونور، ومعرفة، فهذه للعلماء، ولا يقف أحد أمام الناس يتكلم في مسألة أو حكم شرعي إلا على بيِّنة: قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي [الأنعام:57].
قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ [يوسف:108] لا بد من نور الوحي.
هذا في الدعوة إلى المسائل والأحكام الخاصة.
أما بالنسبة للدعوة العامة، فهذه يستوي فيها كل أحد.
ومن هنا ندرك خطأ بعض الناس، حيث يقولون: كل واحد يدعو، وإذا شئت تقول: تتكلم بما فتح الله عليك أمام الناس، فقد يأتي هذا الجاهل حديث العهد بالجاهلية ويقف أمام طلاب علم، وأناس لهم معرفة؛ لكي يتكلم بما فتح الله عليه، فيخبط خبط عشواء.
هذا من التفريط ومن الإفراط.
فأما التفريط: أن نجد -مثلاً- من يقول: نترك الدعوة حتى يكتمل علم الإنسان؛ فلا يزال الشخص قابعاً على الكتب وعلى العلم، تاركاً المنكرات عن يمينه ويساره، ومن أمامه وخلفه، قرير العين عليها يقول: لا بأس، حتى أنتهي من العلم كاملاً ثم أدعو الناس، لا.
القضية وسطية، فالمسائل التي لا يُعذر أحدٌ بجهلها ومسائل أصول الدين مثل شخص لا يصلي فكل إنسانٍ مطالب بدعوته، شخص -مثلاً- لا يزكي كل إنسانٍ مطالب بدعوته. هذه أمور واضحة.
أما المسائل الدقيقة فهذه تُعطى لطلاب العلم، وتترك للعلماء، ويُترك القول الفصل فيها لأهل العلم.
والمقصود: أن كون طالب العلم يبقى ويقول: أنا لا أدعو حتى أنتهي من طلب العلم، فهذا تقصير، ويتحمل التَّبِعَة، بل يدعو على قدر علمه، ونحن لا نطالِب أن يدعو بما هو فوق علمه؛ ولكن نطالبه بالدعوة على قدر علمه، فطالب العلم -مثلاً- الذي تعلم هدي النبي صلى الله عليه وسلم في مسائل، حتى ولو كان في أحكام العبادات، فيا أخي! لو قام بعد صلاة العصر كل يوم يتكلم عن هدي من هدي النبي صلى الله عليه وسلم وهو طالب علم، أو يتحدث عن صفة وضوء النبي صلى الله عليه وسلم، هل هذا صعب؟! أو يتحدث عن صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم من خلال السنة! ويبين للناس، فما يتعلم أحد سنة منه إلا كان شريكاً له في الأجر، ولا يدل إنساناً على هدي إلا كان لك مثل أجره، ولو أن هذا الإنسان علم أبناءه وبناته وأهله أو جيرانه أو نطق بهذه السنة كان له مثل أجرهم، فهذا فضلٌ عظيم!
فلذلك أقول: إن طالب العلم يعلِّم؛ ولكن على قدر علمه.
القضية الثانية: أنه ينبغي أن يصحب هذا العلم شيءٌ من القدوة الحسنة ما أمكن.
والله تعالى أعلم.
الجواب: أكثر من الاستغفار، فهذا سببه ذنب، فمن وجد أنه في طلب العلم يحال بينه وبين العلم فليعلم أن هناك ذنباً حال بينه وبين العلم. فأكثِر من الاستغفار حتى يرحمك الله عز وجل، ولذلك قال تعالى: لَوْلا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [النمل:46].
والأمر الثاني: أن تأخذ جدولاً مرتباً للمراجعة، فترتب ختمك للقرآن كل ثلاثة أيام أو عشرة أيام، كل ليلة ثلاثة أجزاء، أو كل يوم ثلاثة أجزاء، ثم تحافظ على هذا ولو بلغ الأمر مبلغه، فلو أنك كل يوم تقرأ جزءاً ولو حدث ما حدث فلا تترك هذا الجزء، وبإذن الله بعد فترة يقوى حفظك، ويسهل عليك القرآن، هذا مِن تَعاهُدِ القرآن، أقل شيء: أن تجعل لك في اليوم جزءاً، ولو حدث ما حدث لا تترك هذا الجزء، واللهِ إن الأمر يسير، فالآن لو خرجتَ من هذا المكان إلى البيت، جرِّب وابتدئ بجزء، فما تصل إلى نصف الطريق إلا وأنت خاتِمُه؛ لكن مَن يعمل؟! الأمر يسير؛ لكن مَن الذي يعمل؟!
فلذلك الإنسان يجاهد، يجعل له برنامجاً أو يرتب له وقتاً معيناً لمراجعة القرآن، ويكون ترتيبه للمراجعة على قدْرٍ يتناسب مع ظروفه.
هذا بالنسبة للمراجعة، أمْثَلُ طريقة: أن يحدد له جزءاً أو قدراً معيناً من القرآن يراجعه خلال شهر أو خلال عشرة أيام أو خلال ثلاثة أيام، وهذا أكمل.
ولذلك الإمام الشافعي لما جاءته امرأة وسألته عن حجية السنة، قال: أنظريني ثلاثة أيام، لماذا؟! لأنه كان يختم القرآن كل ثلاث ليال، فلما كانت الليلة الثالثة كَبَّر في السحر؛ لأنه بلغ قول الله تعالى: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [الحشر:7] وهذا إنما يكون في الثلث الأخير من القرآن.
فهكذا كان السلف ، ولذلك لما تقرأ كتب السلف تجد عندهم شواهد عجيبة من القرآن، أحياناً يأتيك بآية يستنبط منها معنىً لطيفاً، تستعجب كيف استحضروا هذه المسألة! لماذا؟! لأنهم قوامون الليل بالقرآن، فيختم أحدهم كل ثلاثة أيام، فالمسائل التي تنزل به خلال الثلاثة أيام وهو مشغول بتلاوة القرآن تمر عليه الحجج، وكل شيء كان عندهم يعرضونه على كلام الله، وكان الإمام الشافعي يقول في كلامٍ معناه: أنه ما من معضلة إلا وقد جعل الله حلها في القرآن، فكانوا مع هذا القرآن.
فالإنسان يجعل له برنامجاً معيناً يختم فيه القرآن، وبإذن الله يعينه على ذلك.
والله تعالى أعلم.
فقلت له: صل ركعتين، وبإذن الله سيزول هذا الاضطراب.
وكان هذا في وقت الضحى، فأريد أن أنصحه بفائدة ركعتي الضحى.
فقال لي عبارة: لا تتعب معي، هل تعرف من متى أنا لَمْ أصلِّ؟! منذُ رمضان العام الماضي.
فأُصِبْتُ بالذهول، فنصحته أن يبدأ من هذه الصلاة؛ من صلاة الظهر. فأريد منك يا فضيلة الشيخ! توجيهي كيف أبدأ مع هذا وهو زميلٌ لي؟!
الجواب: يقول الله تعالى: مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ [المدثر:42-43] فمِن أعظم الرزايا والبلايا على الإنسان: تركُ الصلاة، ولذلك لا يُؤمَن على الإنسان الذي يترك الصلاة غالباً، لا تُؤمَن له سوء الخاتمة؛ لأنها هي الصلة بين العبد وربه، وكان عمر بن عبد العزيز رحمه الله يقول: [إذا حضرت الصلاة فلا تشتغل بشيءٍ سواها؛ فإن من ضيعها فهو لما سواها أضيع] تأسياً بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (فإن صلحت صلح عمله، وإن فسدت فسد عمله).
فالمقصود: أن ترك الصلاة مصيبة عظيمة، والذي أراه أن تداوم على نصح هذا الشاب.
الأمر الثاني: أن تنقله من بيئته إلى بيئة صالحة، فكثيرٌ من الشباب يكون فيهم خير؛ ولكن الشر يأتيهم من البيئة الفاسدة، فخذه وانتشله من بيئة الضلالة إلى بيئة الهدى، وخذه إلى الأخيار ومجالس الأخيار حتى يدخل النور إلى قلبه؛ فينشرح صدره، ويطمئن فؤاده، وبإذن الله عز وجل سيجد خيراً كثيراً.
وإذا لم تتمكن من أخذه لانشغالك أو نحو ذلك فمن الممكن أن توصي أحد الأخيار أن يتعاهده، وتتعاهده أنت، وأوصيك أن تحتسب، فلعل هذا العبد إذا أنقذه الله على يديك أن يكون لك طريقاً إلى الجنة؛ لأنه ما من إنسان يهتدي على يديك إلا كانت صلاته وزكاته وعبادته وطاعته كلها في ميزان حسناتك، وهذا فضل عظيم.
فأوصيك أن تجتهد، فهذه تجارة رابحة، ولذلك فإن الأخيار والدعاة الصادقين يفرحون لَمَّا يرون مثل هذه النماذج؛ لأنهم يعاملون الله جل جلاله، يفرحون؛ لأنها تجارة رابحة مع الله، صلاته وعبادته كلها في ميزان حسناتك.
ولذلك ورد في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص : (أن العبد إذا قام يوم القيامة جاءت أعماله كالغمامات، يُنشر له ديوانه، ثم تأتي أعماله كالغمامات يقول: يا ربِّ! ما هذا؟ فيقول: سننٌ هَدَيتَ أو دَعَيتَ إليها كان لك مثل أجور من عمل بها).
فيحتسب الإنسان في هذا. ونسأل الله العظيم أن يشرح صدره على يديك، وأن يهدينا وإياه إلى سواء السبيل.
والله تعالى أعلم.
وسؤالي يقول: أنا إنسان منَّ الله عليَّ أن هداني منذُ سنوات ولله الحمد، إلا أنني أرتكب معصيةً في الخفاء، وهي شرب الدخان، ولا أستطيع تركه، فما توجيهكم لي جزاكم الله خيراً؟
الجواب: أولاً: أُشْهِد الله على حبكم جميعاً فيه، وأسأل الله العظيم كما جمعنا في هذا المكان أن يجمعنا في مستقر رحمته فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ [القمر:55] وأحبك الله الذي أحببتني من أجله.
وأما ما سألتَ عنه من معصية الدخان، فأسأل الله العظيم -أمِّنُوا- أن ينزع من قلبك حبَّه، وأن يوفقك إلى تركه، وأن يعجِّل لك بالفرج.
أخي في الله! إن كل شيء يشربه الإنسان أو يطعمه يحاسِبه الله عز وجل عليه، ففي كل لحظة يشرب الإنسان فيها هذا البلاء يكوِي نفسه بنار؛ نار الدنيا قبل نار الآخرة، ولو كان الإنسان -والعياذ بالله- مبتلىً بالدخان، فإن هذه الصغيرة قد تكون وسيلة للكبيرة؛ لأن الإنسان -كما يقول العلماء- إذا داوم على الصغائر قد تنتهي به إلى الكبائر، والذي جعلك تهجر فراشك في جوف الليل إذا سمعتَ المنادي ينادي إلى الصلاة، والذي جعلك تخرج في شدة النهار، وفي شدة الحر والقَرِّ للعبادة والصلاة، وهذا الجهاد الذي جاهدت به نفسك، واهتديت والتزمت به، أهونُ منه تركُ الدخان؛ ولكن الشيطان خبيث، يقول لك: لن تستطيع، وهذا أمر صعب، فأنت داومتَ عليه سنوات؛ ولكن أقول: اعزم، فوالله الذي لا إله إلا هو ما من إنسان يصاب بذنب ويَصْدُق مع الله إلا صَدَق الله معه؛ لكن المهم الصدق؛ ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم في دعائه: (وأسألك العزيمة على الرشد).
فالأمر يحتاج إلى عزيمة فقط: وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً [طه:115] فالمشكلة في العزم، وإلا لو أنك عقدتَ العزم على ترك الدخان، فأول ما تجد المعونة والتوفيق مِن الله جل جلاله، وأول ما تجد الحب مِن الله؛ لأنه بمجرد ما تجد في نفسك الكراهية لهذا الشيء فإن الكراهية تعتبر من أعمال القلوب، وقُرْبَةٌ بينك وبين الله، يقول الله: إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً [الأنفال:70] فإذا علم الله في قلبك أنك تكره الدخان أعانك؛ لكن اصْدُق مع الله.
وأوصيك بوصية ثالثة حتى تترك الدخان: إذا أصبحت فاجعل آخر عهدك بالدنيا غروب الشمس، وهذا أمر خطير جداً، حتى أن بعض العلماء قال: لا آمن على من شرب الدخان مسٌ -والعياذ بالله-، فهَبْ أنك ستموت عند غروب الشمس، واللهِ -بإذن الله عز وجل- ستجد معونة من الله في تركه، وهذا يكون في أي معصية، فاعتبر أن غروب الشمس هو آخر أمد لك، وهذا من أعظم العون الذي يعين على الطاعة، ويعين على ترك المعصية، فقصِّر الأمل في الدنيا، فالدخان مَن ابتلي بمرض من أمراضه ومات منه ربما يكون قاتلاً لنفسه -والعياذ بالله-، فلا آمَنُ عليه من ذلك، وهذا -حقيقة- فيه شبهة، أعني أن هذا الحكم ليس ببعيد؛ لأن الله يقول: وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ [النساء:29] فإذا كان هو يعلم أنه سبيلٌ للسرطان، والسرطان سبيلٌ للموت -والعياذ بالله-، أو سبيل للأمراض الخطيرة في الرئة، فكأنه يعلم أن هذا السم الذي يتحسَّاه ينتهي به إلى نار جهنم، ولذلك ثبت الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (مَن تحسَّى سُمَّاً فمات منه فهو في نار جهنم يتحسَّاه خالداً مخلداً فيها) -والعياذ بالله-.
فالأمر خطير جداً -يا إخوان-، فمسألة الدخان يقرر بعض العلماء أنه لا يُؤمَن على الإنسان إذا بُلِي بمرضٍ بسبب هذا الدخان أن يكون قاتلاً لنفسه!
وتُحْكَى حول هذا الأمر عِبَرٌ عن الثقات، ينبغي للإنسان أن يعتبر بها:
فقد بلغ ببعضهم أنه وُجِّه إلى القبلة ولم يتوجه -نسأل الله السلامة والعافية- وما عُرِفَ عنه إلا شرب الدخان.
ومنهم من كان -والعياذ بالله- يشرب هذه البلاء التي تسمى الشيشة، فيقول مُلَحِّده: فلما وضعتُه في القبر وجدتُ رائحتها في قبره، نسأل الله السلامة والعافية.
فالأمر خطير جداً؛ لأن هذه الأرواح أمانة، فالله سبحانه وتعالى يحاسب صاحبها عليها.
فنسأل الله العظيم أن يسلمنا من ذلك، وأن يعافينا وإياكم وذرياتنا من هذا البلاء، فقد قال صلى الله عليه وسلم: (إن لنفسك عليك حقاً).
والله تعالى أعلم.
الجواب: الله المستعان.
أما الـوقاية من الشيطـان فقـد بيَّنـها الله عز وجل في قوله: وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ [الأعراف:200].
فمِن أعظم الحرز، ومِن أعظم الحفظ، ومِن أعظم الحياطة: كثرةُ ذكرِ الله جل جلاله. فالذي يريد أن يكون في مأمَن من الشيطان عليه أن يُكْثِر من ذكر الله، وألا يفْتُر لسانه عن الاستغفار، والتهليل، والتسبيح، والتحميد، والتكبير، فإن ذكرتَ الله ذَكَرك الله، فإن ذكرته في نفسك ذكرك في نفسه، وإن ذكرته في مَلَأٍ ذكرك في مَلَأٍ خير من الملأ الذي ذكرته فيه: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ [البقرة:152].
فالذي يريد من الله أن يعصمه من الشيطان ويحفظه من الشيطان: يكثر من ذكر الله، خاصة تلاوة القرآن، فإن العبد إذا كان تَلَّاءً للقرآن هابه الشيطان وخافه؛ ولذلك ذكر شيخ الإسلام رحمه الله: عن عمر رضي الله عنه أنه قدم على امرأةٍ كان عندها ابنٌ به مس، وقال لها: [انظري إلى نجي صاحبك، فاسأليه عن أبي موسى -غاب عليه خبر أبي موسى ، وكان أبو موسى من أكثر خلق الله تلاوةً للقرآن هو ومعاذ بن جبل كما هو معروف من سِيَرهم- قالت: أتسألني عنه؟! ذاك الذي يخرج منه كالشهب لا أستطيع أن أقربه؟!] تعني: لا أستطيع أن اقترب منه، والشهب هذا هو: القرآن؛ لأن القرآن على الشيطان مثل الشهب، لا يطيق كلام الله عز وجل، ولذلك لا يستطيع أن يمكث في البيت الذي تُقْرأ فيه سورة البقرة ثلاثة أيام، فهو في حرز من الله أن يدخله الشيطان.
فالقرآنُ وكثرةُ تلاوتِه يورث انشراح الصدر، والذي يريد أن يكون من الصالحين والسابقين إلى الخيرات عليه أن يكثر من ذكر الله، واللهُ قد أثنى على هؤلاء فقال: وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ [الأحزاب:35].
وقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً [الأحزاب:41-42] والله يا إخوان إن هاتين الآيتين ما يقرأهما الإنسان إلا ويتفطر قلبه حزناً، إن الله يوصيك من فوق سبع سماوات أن تذكره، وهو غنيٌ عن الذكر وأنت أفقر ما تكون إلى هذا الذكر؟! وإذا أمسى الواحد نظر في صحيفة عمله كم ذكر الله جل جلاله! فلا يجد إلا أذكار الصلاة، هذا إذا كان يحافظ على أذكار الصلاة، فأين تلاوة القرآن؟! كم جزءاً قرأ؟! ثم كم تسبيحه؟! كم استغفاره؟! كم تهليله؟! كم تحميده؟! كم تكبيره؟! لا يجد إلا القليل. هذا من الرزايا.
ولذلك ليس غريباً أن تجد الشخص سَمْتُه سَمْتٌ صالح؛ لكن قلبه خاوٍ، وذلك لأن ذكر الله قليل.
فلا تنشرح الصدور إلا بذكر الله: أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد:28] ولا ترتاح النفوس، ولا تبتهج إلا بذكر الله جل جلاله، والذي يريد السعادة والأنس يأنس بالله، ولذلك واللهِ تجد إنساناً ولو كان وحيداً فريداً مع كتاب الله تجده كأن الدنيا بين يديه حقيرة؛ لكثرة ذكر الله، يقول صلى الله عليه وسلم في صحيح مسلم في جبلٍ قريبٍ منَّا، هنا بجوار منطقة خليص اسمه: جمدان وهم مسافرون، يقول لأصحابه: (سيروا، هذا جمدان ، سبق المفرِدون، قالوا: وما المفرِدون يا رسول الله؟ قال: الذاكرون الله كثيراً والذاكرات) سبقوا، ولذلك تأتي يوم القيامة فتجد الصالحين قد سبقوك بمراحل كثيرة، وناساً كانوا يتقلبون أناء الليل وأطراف النهار مع كتاب الله، ومع الاستغفار، ومع الدعوة إلى الله، ومع الذكر، وفي الخيرات، يُشْغِلُون أنفسهم بطاعة الله.
فالذي يريد أن يكون في عصمةٍ من الشيطان، وحفظٍ من الشيطان عليه أن يكثر من ذكر الله، فإن مَن ذَكَرَ الله ذَكَرَه الله، ومَن ذَكَر الله فنِعْمَ -واللهِ- الحالُ حاله، نسأل الله العظيم أن يعيننا على ذلك، وأن يجعلنا من أهله.
والله تعالى أعلم.
الجواب: عليه أن يدعو الله، ويأخذ بالأسباب:
فيدعو الله عز وجل أن يعافيه من هذا البلاء، ولا يجلس معهم، ولا يحرص على مجالسهم، وإذا وجد الفتنة يقوم، ولا يحل له أن يجلس في مجلس يجد فيه الفتنة مِن أمرد، وكان السلف الصالح رحمهم الله يحذرون من صحبتهم، والجلوس معهم.
فعليه أن يدعو الله، ويأخذ بالأسباب، فإذا وفق الله الإنسان للدعاء والأخذ بالأسباب -التي مِن أعظمِها: أنه لا يكثر من مجالستهم ولا صحبتهم ما أمكن- فإن الله يعصمه.
أيضاً القضية الثالثة: أن المحبة والتعلق سببها ضعف الإيمان، فالغالب أن الإنسان لا يتعلق ولا يحب محبة غير شرعية إلا بضعف الإيمان -والعياذ بالله-، والذي يريد من الله عز وجل أن يشفيه من هذا عليه أن يعالِج هذا البلاء بقوة الحب لله جل جلاله؛ لأن القلب هو وعاء الحب، فإذا مُلِئ بمحبة الله وأصبح مليئاً بحب الله لم يجد حبُّ ما سواه مكاناً في ذلك القلب، ولذلك لا بد أن تحاول دائماً على هذا، فهو من أهم ما ينبغي أن يعتني به الشاب المهتدي، أول ما يعتني به بعد التوفيق للهداية أن يقوي الإيمان في قلبه، وذلك بمحبة الله المحبة الصادقة، قال الله تعالى: وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ [البقرة:165].
فالذي يريد أن يكون على كمال الإيمان عليه أن يملأ قلبَه حباً لله، فإذا جاءت محبة مَن سواه هانت عليه؛ لأن أمامه محبة الله جل جلاله، فإن كان يحبه لجمال؛ فإن الله جميل، لِمَا ثبت في الحديث الصحيح: (وإذا كشف الحجاب عن وجهه لأهل الجنة نسوا النعيم الذي هم فيه، وتركوه، واشتغلوا بذلك الجمال، ورؤية ذلك الجمال، ثم ينقلبون إلى أهلهم - كما في صحيح مسلم - فيقولون: لقد ازددتم بعدنا جمالاً، فيقولون: والله لقد ازددتم بعدنا جمالاً).
من جمال النظر، يقول الله تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ [القيامة:22] النضرة هذه كمال النعيم والبهجة والسرور الذي تراه في وجه الإنسان، وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ [القيامة:22] لكن هذه النضرة بماذا؟ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ [القيامة:23].
فإذا كنت تحب الجمال فالله كمال الجمال والجلال جل جلاله، وتقدست أسماؤه.
وإن كنت تحب المال فالله بيده خزائن السماوات والأرض، بيده سحاء الليل والنهار لا تُغِيضُهَا نفقة.
تَفَكَّر في أي شيء أنت تحب من أجله أحداً، وانظر إليه في جوار الله جل جلاله، ستجده لا يُعَدُّ شيئاً، فالإنسان الذي يريد أن ينصرف قلبُه عن الخلق إلى الخالق جل جلاله يُعَظِّم في قلبه حبَّ الله، فيصبح القلب مملوءاً بحب الله، فإذا امتلأ القلب بحب الله أتت المرحلة الثانية وهي أن القلب لا يتجه إلى حب شيء إلا من خلال حب الله، ولذلك بيَّن النبي صلى الله عليه وسلم أن الولاء والبراء، وأن الحب في الله والبغض في الله مِن أوثق عُرَى الإيمان، لماذا؟! لأن معناه أن القلب قد امتلأ إيماناً إلى درجة أنه لا يتجه إلا إلى حبيب الله، ولا ينقبض إلا عن عدو الله، كما قال الله عن هؤلاء: أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ [المجادلة:22] ثم انظر إلى تعبير القرآن! قال: كَتَبَ [المجادلة:22] كأن الإيمان نُقِش في هذه القلوب، الله أكبر! كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ [المجادلة:22].
فالإنسان الذي يريد ألا يتجه قلبه إلى حب شيء غير الله عليه أن يملأ قلبه بحب الله، فحب المردان والتعلق بالمردان جاء من فراغ، وهذا الفراغ هو ضعف الإيمان، فنسأل الله العظيم أن يكتب لنا ولكم السلامة والعافية.
ثم ماذا تستفيد؟!
هب أنك نظرت إلى مَن جَمَّل الله صورتَه! ما الذي تستفيده؟! ما الذي تجده؟! ما هي الفائدة؟! ما هو الأثر؟! هل يزداد إيمانك؟!
لا والله، حتى إن بعض السلف لما نظر إلى أحد الناس وهو ينظر إلى الأمرد قال: [والله لتَجِدَنَّ غِبَّةَ هذا ولو بعد حين]، فمكث عشرين سنة، وذات ليلةٍ أُنْسِيَ القرآنَ فيها -والعياذ بالله-.
فالإنسان لا يأمن مكر الله عز وجل؛ ولكن يأخذ بالأسباب التي تعينه، فإذا نظر اللهُ إليك وأنت في معصية؛ ولكنك تأخذ بالأسباب التي تريد أن تنجو بها من هذه المعصية، وتفر من الله إلى الله، فأبشر بكل خير.
ونسأل الله العظيم أن يرزقنا وإياك السلامة والعافية.
والله أعلم.
الجواب: هذه المسألة أحب أن أنبِّه عليها؛ لأن فيها سُنَّةً عن النبي صلى الله عليه وسلم أضاعها كثير من طلاب العلم اليوم، وقد يوجد من يقول: إنه بهذا القول -الذي يُعْتَبر خلاف السنة- يقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة في صحيح مسلم : (فإذا أقيمت الصلاة فلا تأتوها وأنتم تسعون، وأتوها وعليكم السكينة، فما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فأتموا)، فقال عليه الصلاة والسلام: (فما أدركتم) أي: أيَّ شيءٍ أدركتموه، حتى لو أدركتم الإمام قبل السلام ولو بلحظةٍ واحدة فكبروا، ولا يجوز لأحد دخل المسجد أن ينفرد عن الإمام، ولذلك لما رأى النبي صلى الله عليه وسلم الرجلين اللذين صَلَّيا مُفْرِدَين قال: (ألستما بمسلمَين؟! ما منعكما أن تصليا في القوم؟!)، والإسلام يحارب الشذوذ، هذا الشذوذ الذي ينفرد فيه عن جماعة المسلمين يحاربه، ولذلك قال: (ألستما بمسلمين؟! ما منعكما أن تصليا في القوم؟!)، فدل على أن كل من دخل إلى المسجد ينبغي عليه أن يدخل مع الإمام، حتى أنهما قالا: (صلينا في رحالنا، قال: إذا صليتما في رحالكما ثم أتيتما المسجد فصليا؛ فإنها لكما نافلة) كل هذا من أجل ألا ينفرد الإنسان عن إخوانه؛ لأنه إذا انفرد ساءت به الظنون، وفُتح بابٌ لأهل الأهواء والبدع أن يتركوا أهل السنة ويحتجون بجواز ذلك في الشرع.
فالمقصود: أنه لا يجوز لأحد دخل المسجد أن ينفرد عن الإمام، وإنما ينبغي الدخول معه.
المسألة الثانية: إذا دخلتَ مع الإمام وأدركتَ التشهد، وكان أحد بجوارك، فقل له: إذا سلم الإمام فأْتَمَّ أنت بي. هذا لأنك منفرد، فإذا سلم الإمام قُم فكبِّر ويكبر معك، واقرأ وصلِّ به كأنكما لم تدركا شيئاً مع الإمام، أي: كأنكما منفردين، هذا إذا كنتما أدركتما الإمام في التشهد الأخير، أو أدركتماه بعد رفعه من الركعة الأخيرة، هذا كله تعتبر أنت فيه منفرداً يجوز للغير أن يأتم بك.
فالمسألة التي ذكرتَها هي: أن تكبر معه.
وذهب طائفة من العلماء إلى أن فضل الجماعة يُدْرَك بالتسليم، فمن أدرك الإمام في التشهد، فسلم الإمام وقد دخل في الصلاة، قالوا: فقد أدرك الفضل؛ فضلَ الجماعة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم بيَّن أن خمساً وعشرين ضعفاً من الأجر يكون على المشي إلى المسجد، فأنت مدركٌ لفضل الجماعة.
وبناء ًعلى هذا فإنه لا يجوز الانفراد، ولا يجوز الوقوف إلى أن تدخل الجماعة الثانية، وإنما يكبر الإنسان ويدرك الإمام.
أما أيهما أفضل: الجماعة الأولى أم الثانية؟ فأقول: تكبِّر؛ لأن تكبيرة الإحرام منك قد وقعت في وقتٍ سابقٍ للجماعة الثانية، ولذلك فإن العبرة بتكبيرة الإحرام، فمن كبر تكبيرة الإحرام -مثلاً- في الساعة الثانية، وصلى ولو مع واحدٍ جماعةً أفضل مما لو انتظر جماعةً كثيرةً إلى الساعة الثانية وعشر دقائق؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إن العبد ليصلي الصلاة، وما يصليها في وقتها، ولما فاته من وقتها خيرٌ له من الدنيا وما فيها) فقوله: (ولما فاته من وقتها) أي: قليلاً كان أو كثيراً.
فاحرص على فضل الوقت، فإنه لا شك أن دخولك مع الجماعة الأولى مع إحداث جماعةٍ ثانية بعد السلام أفضل من بقائك وانتظارك.
والله تعالى أعلم.
الجواب: الذي تفعله: أن تدعو هؤلاء الذين يتكلمون في عقيدتك، وأن تجتمع أنت وإياهم بين يدي إنسان من أهل العلم، فيعرضوا ما عندهم من الشبه والمآخذ، وتتقي الله فيما يقولون؛ فإن كانوا صادقين صَدَقْتَ وبيَّنْتَ حجتك بكلامك، فما كان من صوابٍ قَبِلْتَه وما كان من خطأٍ رددتَه.
فإن كان القوم قومٌ بُهْتٌ، وأصحابُ استعجال وأغراضٍ وأهواء فاصبر أخي في الله؛ فإنه لا بد من الابتلاء، يقول الله عز وجل عن نبيه موسى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا [الأحزاب:69] الله أكبر! قال: آذَوْا مُوسَى [الأحزاب:69] فَلَمْ يتركْه، بل قال: فَبَرَّأَهُ اللَّهُ [الأحزاب:69].
فكل من تقلَّد إمامة أو منصباً دينياً، وطُعِنَ فيه، فالله هو الذي يتولى أمره، فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً [الأحزاب:69] فما ذكر صلاة موسى، ولا عبادته؛ ولكن ذكر بلاءه، وطَعْنَ الناس فيه، ثم قال بعده: وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً [الأحزاب:69].
فإذاً: على طالب العلم أن يعلم أن الوجاهة التي يريدها سوف يجد أمامها الطعنَ في عقيدته، والطعنَ في منهجه، والطعن في رأيه.
ثم إننا نقول لكل طلاب العلم: اتقوا الله في أنفسكم، فإن الله ما أرسلنا حَفَظَة على العباد، وما أرسلنا متتبعين لعورات الناس: (فإن من تتبع عورة مسلم تتبع الله عورته، ومن تتبع الله عورته فضحه ولو كان في عقر بيته).
فعلينا أن نتقي الله في عورات المسلمين، وأن نتقي الله في أعراض المسلمين، وأن نتقي الله فيما نقوله في إخواننا، وأن نحب لإخواننا ما نحب لأنفسنا، وأن نكره لهم ما نكره لأنفسنا، فهذا من دلائل الإيمان، وليس معنى هذا أن نترك الحبل على الغارب لأهل البدع والأهواء، لا؛ ولكن انتقدْ ببَيِّنة، وإذا رأيت إنساناً من أهل البدع فاذهب إليه، وانصحه، وذكِّره بالله، وأقِمِ حجة الله عليه.
فيا أخي! إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأتي إلى عبدة الأوثان، فيقول: (اللهم اهدِ قومي فإنهم قومٌ لا يعلمون) فكيف بإنسان قد يكون عنده خطأ أو شبهة، ولعل الله أن يشرح صدره على يديك؟!
ولذلك فإن من أفضل ما تكون الدعوة: الدعوة إلى سلامة المعتقد، فمِن أَحَبِّ الدعواتِ إلى الله، ومِن أَحَبِّ العلمِ وأشرفِه وأكرمِه: علمُ العقيدة، فإذا كان الإنسان يحس بجلالة هذا العلم وفضله وعظيم منزلته عند الله فينبغي أن يكون أفضل الناس في غرسه في قلوب الناس، فتكون عنده المنهجية السديدة، فلا ينفِّر الناس، بمعنى: أنك بمجرد أن ترى خطأ على شخص لا تجلس فتثلِّب فيه حتى يكره الحق، فهذا صعب -يا أخي- ولكن هيئ له أمراً يدعوه إلى ترك هذه البدعة، وترك هذا الهوى، زُرْه -مثلاً- المرة الأولى، والمرة الثانية لوحدك، والمرة الثالثة مع طلاب العلم، والمرة الرابعة مع شيخ؛ وأوصي بالعلماء الذين يعرفون نصحه. فابذل كل ما تستطيع وكأنك أمام إنسان غريق، فإن الله عز وجل قد ينقذه على يديك. وهذا أمر مهم جداً؛ أن نكون ناصحين، وأن يكون النصح لعامة المسلمين، وأئمة المسلمين، وعلمائهم، بالشكل الذي يُرَغِّب في الحق لا الذي يُنَفِّر منه.
إن التُّهَمَ هذه التي تقال والتي تحاك لا يجوز لمسلم أن ينقلها بلسانه إلا على بيِّنة، فلو أنك سمعتَ عن إنسان يقال عنه: أن في عقيدته كذا، فإن هذه الكلمة -ولو نقلتها نقلاً فقط- فإنك تحاسب عنها بين يدي الله، ويكون هذا الشخص خصماً لك بين يدي الله، واللهِ إنك ما تقول عن إنسان في عقيدته شيئاً إلا جاء يوم القيامة يخاصمك بين يدي الله عز وجل، فيقول: يا رب، سَلْ هذا، فقد قال فيَّ كذا وكذا: إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ [النور:15] هذا إذا كان عظيماً في القذف وفي الإفك، فكيف في العقيدة؟! سبحان الله! فقد أخبر الله أن (( الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [النور:23] هذا في ماذا؟! هذا في ما إذا قذف في العرض، فكيف بمن يقذف في الأفكار والمناهج! فيقال: فلان ضال في منهجه، وفلان زائغ في منهجه، وفلان كذا، فلا يُتَحَرَّى؟!
نحن لا نفتح الباب -بما نقول- لأهل البدع والأهواء، فلا مانع أن تحذر من أهل البدع، وأن تبين خطأهم، وأن تبين ما هم عليه؛ ولكن على بيِّنة.
والمراد: أن نتقي الله في أعراض المسلمين الذين تقال فيهم الشائعات من العلماء والدعاة والأخيار والأئمة دون بيِّنة، فهذا ليس من شأن المسلم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا [الحجرات:6] وفي قراءة: ... فَتَثَبَّتُوا [الحجرات:6].
وجاء في الحديث: (ألا إن التَبَيُّن من الله، والعجلة من الشيطان) وهو حديثٌ مُتَكَلَّمٌ في سنده؛ لكن معناه صحيح، فإن العجلة من الشيطان؛ لأن الشيطان يريد نقل الشائعة بسرعة، ولذلك تجد من ينقل هذه الشائعات مريضَ القلب يعتني بسرعة نقلها، وواللهِ إنه ليبلغ ببعضهم أنه يفرح أن يجد على الداعية أو على الشيخ مآخذاً، فيكون -نسأل الله السلامة والعافية- كالذباب؛ لا يقع إلا على النجس والخبث -والعياذ بالله-، وهذا من آفات القلوب وأمراض القلوب، نسأل الله أن يسلمنا منها.
وهذا كلام عام للناس جميعاً، واللهِ لا نعني به طائفة ولا أمة؛ ولكن نعني به كل مَن خالف هذا المنهج الذي قامت عليه نصوص الكتاب والسنة.
فينبغي علينا أن نحفظ أعراض المسلمين، وأن يكون عندنا الحرص على توجيه الناس أكثر من تنفيرهم، يقول صلى الله عليه وسلم لـمعاذ وأبي موسى وهما ذاهبان إلى قومٍ كافرين من أهل الكتاب : (يَسِّرَا ولا تُعَسِّرَا، بَشِّرَا ولا تُنَفِّرَا).
فالإنسان المُعَسِّر لَمَّا يأتي ليدعو فإنه يُنَفِّر غيره بالأسلوب، يقول عبادة بن الصامت: [يُحْكَى عن معاذ رضي الله عنه كلمة حكيمة: إنكم تسمعون الزلة عن العالم، فلا تعجَلوا عليه -لا يوجد أحد كاملاً، بل لا بد للعالِم أن يقع في الخطأ، فلا تعجَلوا عليه- فإنه أحرى أن يراجع نفسه ]. أي: أن العالم إذا جئتَ إليه فلا تقل له: قال فلان، وقال فلان، فتُهَيِّئَ له وَضْعاً يجعله يُصِر على خطئه؛ لأنك بهذا تكون قد أسأت في حقه؛ لكن لا تعجَل عليه، بل تراجعه وتذكره بالله، وتبين له الحجة من الكتاب والسنة، وإذا بك تجده قد استفاق وانجلت عنه العماية؛ فيدعو لك بخير؛ فتكون سبباً في توجيهه، وهذا من حق العالِم علينا.
المقصود من هذا كله: أن هذه الأمور ينبغي التنبُّه لها.
وأما ما ذكرتَه -أخي السائل- فإني أوصيك بشأنه أن تَعْرِض ما أنت فيه وتَعْرِضهم على كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، فإن وجدت منهم إعراضاً ووجدتهم قوماً لا يعتنون إلا بأذيتك، ولمست منهم الحسد فاصبر، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لك فيه أسوةٌ حسنة، فقد قيل عنه: الساحر، والأفاك الأثيم، والمجنون، والأبتر، والصابئ، ومات وهو سيد الأولين والآخرين.
والله إن الله سيضعك في مرتبةٍ إذا أحبك، ولو أن الخلق كلهم أرادوا أن ينزلوك عنها شعرة واحدة ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً، وإذا غضب الله على العبد وأراد الخلق كلهم أن يرفعوه درجة واحدة ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً، فلا تأبه بهم.
يقول الشاعر:
إن يحسدوك فلا تعبأ بقائلهـمهم الغثاء وأنت السيد البطلُ
قيلت هذه في الإمام الحافظ/ عبد الغني المقدسي -رحمة الله عليه- واقرأ في التاريخ، وابدأ بصحابة النبي -صلى الله عليه وسلم-.
كنتُ أقرأ في سيرة أبي هريرة ، فوقفتُ أمام عبارة عجيبةٍ مِن القِدَم! عجيبةٌ والله! أبو هريرة يُتْرَك بلا طعـام ولا شـراب -كما في صحيح مسلم- وكان يُصرع حتى يأتي الرجل ويضع قدمه عليه، ويظن أنه مجنون، وما به إلا الجوع، رضي الله عنه وأرضاه، يُصرع من أجل ماذا؟! من أجل أن يصحب النبي صلى الله عليه وسلم مُؤْثِراً به على ملء بطنه؛ لأنه يريد أن يحفظ لنا سنته -رضي الله عنه وأرضاه، وجعل أعالي الخلد مثواه ومأواه-. هذا الصحابي الجليل يلقبه الحافظ ابن حجر بحافظ الصحابة ، أسلم يوم خيبر، ومع ذلك حفظ ما لم يحفظه مَن كان قبله في الإسلام مِن كثرةِ حفظه وملازَمَتِه للنبي صلى الله عليه وسلم. هذا الصحابي لَمَّا حفظ أتعرفون ماذا جرى له؟!
جاء في الخبر عنه رضي الله عنه أنه في يوم من الأيام -تعرفون أنه كان يحدِّث بالأحاديث، فلما أَكْثَرَ أصبح الناس يشكِّكون في الكلام الذي يقوله- فقال ذات يوم: [يا أهل الكوفة! أنا أكذب على رسول الله؟! أنا أكذب على رسول الله؟! اللهُ الموعد] وقَبَضَ على لحيته!
سبحان الله! نظرتُ إلى هذا فعلمتُ أن لطلاب العلم أسوة بهذا الصحابي الجليل، فأنت تحفظ العلم، وتتجند للدعوة إلى الله، ثم تجد فلاناً يطعن في رأيك، وفلاناً يطعن في منهجك، وفلاناً فيه -أقل ما فيه- أنه إذا وجدك صالحاً قال: فلانٌ ليس عنده علم؛ حَسَداً منه، المهم عنده أنك لا تأخذ أحداً، ولا يجلس معك أحد. فأقول لمثل هذا: لماذا يا أخي؟! ينبغي التآلف والتكاتف، وأن يحس الإنسان أنه يشد على يد أخيه!
فنسأل الله العظيم أن يسلمنا من أمراض القلوب، وأن يصلح الحال، وأن يوجب لنا من عصمته فيما عند الله تعالى.
الجواب: والله إن هذا سؤالٌ مفاجئ، والمشكلة أن الشخص إذا فوجئ بالسؤال لا يكون مستحضراً، فالله المستعان.
من أهم الأمور التي كنتُ ألمسها في الوالد -رحمة الله عليه-: قضية الإخلاص:
فقد كان أهم ما يعتني به -عليه رحمة الله- قضية إخلاص العمل لله جل جلاله، وأذكر أني ذات مرة راجعتُه في مسألة، وكان فيها دَخْلٌ من الدنيا؛ فقال لي: يا بني! إن الله عليم بذات الصدور. واللهِ إن هذه الكلمة إلى الآن في قلبي، كلَّما وجدتُ شيئاً مِن دَخْل الدنيا تذكرتُ قوله: إن الله عليم بذات الصدور، فقال: بذات ولم يقل: بالصدور: إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ [الأنفال:43] أي: بحقائق ما فيها من إرادةِ وَجْهِهِ، أو إرادةِ الدنيا.
كذلك مما أذكره فيه -رحمة الله عليه-: كثرة العبادة الخفية:
فقد كان يجلس مع الناس ولا تَظْهَر عليه كثرة العبادة؛ ولكن ما إن يخلو بجوف الليل حتى أسمع نشيجه وبكاءه من غرفته رحمة الله عليه.
وأذكر أنه كان كثير القيام في الليل:
حتى إنني أذكر ذات مرة أنه كان هناك أحد المشايخ يستبعد أن يختم الشخصُ القرآنَ في ليلة، ويقول: إنه بعيد جداً.
فجئت إلى الوالد رحمه الله، وكنت حينها في السنة الثانية من الكلية، وقلت له: إن هناك مَن يستبعد ختم القرآن في ليلة، وأنا -في الحقيقة- قلت للشيخ: هذا ليس ببعيد -أي: أثناء إلقائه للمحاضرة-؛ لأن الشخص خلال ربع ساعة أو اثنتي عشرة دقيقة يكون قد انتهى من الجزء، هذا إذا كان في ليالي الشتاء، فمن الممكن أن يختم في ليلة واحدة.
فالشاهد أنني ذهبت إلى الوالد رحمة الله عليه فذكرت له ذلك.
فقال: هذا بسيط، ختم القرآن في ليلة بسيط، وهو خلاف السنة -فكما تعلمون أن السنة ألا يُخْتَم القرآنُ في أقل من ثلاث ليال-؛ لكن الشاهد أنه قال: هذا سهل جداً.
فما زلتُ به رحمة الله عليه، فقلت له: كأني أشكِّك، وكأني مع الشيخ إذْ يقول: إن هذا بعيد.
حتى قال لي: واللهِ يا بني! الحمد لله، مرَّت علي في بداية الطلب سنوات، لا أستفتح بعد العشاء بالقرآن إلا ويأتي السحر وأنا في آخر القرآن. رحمة الله عليه.
وكان معروفاً عنه أنه ما كانت عنده صبوة إلى الحرام.
وكان أهم شيء عنده الوقت:
حتى أنه كان في أيام الطلب -كما يذكر لي أحد كبار السن الموجودين الآن عن خالٍ له كان قريباً من الشيخ الذي ارتحل الوالد لأخذ العلم عنه- يقول: كان يقْدُمُ وما يخالط أحداً من طلاب العلم؛ لأنه كان رحمة الله عليه لا يحب الاختلاط بالناس إلا إذا كان فيه فائدة، ولا يأنس بكل أحد، ولا يرتاح لكل أحد، فهو حريص على شغل الوقت بالفائدة.
فمن أهم ما لاحظتُ فيه: الحرص على الوقت، كان إذا دخل البيت -كما ذكرتُ- أولَ ما يستفتح بالصلاة، وما أذكر في حياته أنه دخل المنزل وجلس، حتى والله في المرض يصلي جالساً؛ لا يدخل البيت إلا ويستفتح بما كتب الله له، ثم ينقلب مباشرة إلى فراشه، وأمام فراشه ما لا يقل عن عشرين كتاباً، فمكتبته فيها ما لا يقل عن أربعة آلاف أو خمسة آلاف كتاب، والمكتبة الأساسية في البيت التي كان جمعها رحمه الله ليس فيها كتاب إلا وقرأه من جلدته إلى جلدته، رحمة الله عليه، فقد كان كثير القراءة والمطالعة بشكل عجيب جداً!
وعنده خصلة وجدتها فيه، في مسألة العلم: أنه لا يمكن أن يتكلم في شيءٍ يجهله:
فأي شيء يجهله لا يتكلم فيه أبداً ولو كان الأمر ما كان، ولو كان من أوضح الواضحات إلى الله، فالشيء الذي لا يعرفه يمسك عنه، وكان يستشهد بقول الله تعالى: قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ [ص:86] فيقول: هذا هو التكلف.
ويستشهد أيضاً بقوله تعالى: وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً [الإسراء:36].
فلا يتكلف في شيء لا يعرفه، وهذا -في الحقيقة- من أجلِّ نعم الله على طالب العلم إذا رزقه الله هذا العلم، وهو أنه لا يتكلم في شيء يجهله؛ فإن هذا من دليل أمانته، ولذلك هما العالِم وطالب العلم إذا كانا وقَّافَين عند حدود الله، لا يتكلمان في شيء يجهلانه!
أيضاً من الخصال التي وجدتُها فيه رحمة الله عليه: عدم مبالاته بالدنيا؛ أقبلت أو أدبرت:
حتى أنني أذكر أنه ذات مرة -وهذه قَصَص عادية؛ لكن لعل الله أن ينفع بها- حفر بئراً، وكان قد كلَّفه ما لا يقل عن مائتين وخمسين ألفاً، ولم يشأ الله أن يخرج فيه ماء، فجاء هذا الذي حفره وقال: والله يا شيخ! إن هذا يُحْتَمل أن يكون شيئاً قد سد الماء الجاري. يريد أن يخفف الصدمة على الوالد. أي: الظاهر أن الماء الجاري قد سده شيء ما أثناء الحفر، وإن شاء الله ربما في المستقبل يتحسن.
فقال: يا بني! والله لو أن هذه المزرعة كلها ذهبت فإني راضٍ عن الله.
كان لا يبالي أبداً بهذه الدنيا، سواءً أقبلت أو أدبرت، وقلَّ أن يُسأل شيئاً فلا يعطيه، رحمة الله عليه.
دخلت عليه ذات يوم فوجدته يبكي، فلما رآني قلب وجهه إلى جهة الأخرى للفراش، ومسح الدموع، ثم جلس عادياً، وكان قليل البكاء رحمة الله عليه، إلا أني لا أذكر أني رأيته يبكي غالباً إلا في فقد عزيز، أو في عبرة، أو في الليل؛ لأني كنتُ أدخل عليه في بعض الساعات في جوف الليل. فنَشَجَ ثم جلس معي كأنه ما به شيء، وأنا قد رأيته يبكي؛ فخشيتُ أن يكون جاءه شيءٌ يسوءُه، فنزلتُ به وقلت: يا شيخ، خيراً إن شاء الله!
قال: لا. خير، ماذا تريد؟!
يريد أن يصرفني عن الشيء الذي رأيته، فألححت عليه وقلت: يا شيخ رأيتك تبكي، وكنتُ أحب أن أعرف السبب!
فقال لي -والله بهذا الحرف-: ما لي لا أبكي وأيتام فلان توفي أبوهم، وليس عندي شيء أرسل لهم. أي والله قال هذه الكلمة.
وأذكر فيه -رحمة الله عليه- أنه كان يعودنا على الرأفة بالمساكين والأيتام:
وهذه كانت فيه خصلةً عجيبة! حتى أنه كان يقول لي: إذا مررتَ على المرأة تسأل فلا تجاوزها حتى تعطيها شيئاً، ولو أن تعطيها غُتْرَتَكَ التي على رأسك.
فكأني استعجبتُ من هذا الكلام.
فقال: لأنك تعرف المرأةَ إذا احتاجت ماذا تفعل؟! لأنها إذا احتاجت قد تقع في الزنا، وهي عورة من عورات المسلمين، فلا يليق بك أن تمر بها إلا وقد كفيتها، فلو كانت كاذبة فإن الله يأجرك على حُسْن النية، ويعاملك على حُسْن نيتك.
فكان -رحمة الله عليه- عطوفاً، ربما كان راتبه أكثر من سبعة آلاف أو ثمانية آلاف في ذلك الزمان، فما كان يأتي عليه منتصف الشهر إلا وقد استدان رحمة الله عليه.
الدنيا هذه سواءً أقبل منها أو أدبر عنها لم ينفعه الله بها كثيراً، فإذا أراد الله أن يفرِّغ طالب العلم للعلم نَزَعَ من قلبه الدنيا، ولذلك تجده أغنى ما يكون بالله، وأفقر ما يكون لله جل جلاله.
فهذه من بعض المواقف التي تَحْضُرني.
الموقف الأخير: وأقوله لعله أن يكون سبباً في الترحُّم عليه:
فإني أشهد الله العظيم -والله شهيدٌ على ما أقول- أنني دخلتُ عليه قبل أن يتوفى بقرابة ثلث ساعة أو نصف ساعة واللهِ العظيمِ لا أذكر أنني رأيته أشرق وجهاً ولا أبهج نفساً من تلك الساعة، رحمة الله عليه.
أسأل الله العظيم أن يجمعنا به في مستقر رحمته.
فكلمةً نودُّها من شيخنا الفاضل لإخوانه ولطلابه تحثهم على الاهتمام بهذا الأمر، وعلى جمع التبرع لإخواننا المسلمين، علماً بأن هناك مكتباً خاصاً لهيئة الإغاثة قد عمل معرضاً في هذا؟
الجواب: الله المستعان! وإلى الله المشتكى، ماذا يقول الإنسان -حقيقةً- في جراحٍ لا تزداد إلا نزيفاً؟! لكن نسأل الله العظيم أن يجبر كسرهم.
الحقيقة: عَظُمَت الفتن والمحن، وخاصة في هذا الزمان، وتكالَب أعداء الله ورسوله على أولياء الله: وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ [البروج:8] تكالب الأعداء من كل حدبٍ وصوب على أولياء الله، يقتِّلونهم، ويشرِّدونهم، وييتِّمون أطفالهم، ويرمِّلون نساءهم، وكان من البلاء ما لا يعلمه إلا الله جل جلاله.
فالذي أوصي به إخواني في خضم هذه الفتن والمحن ما يلي:
أولاً: التعلق بالله جل جلاله واليقين بِهِ سبحانه:
فما يقف المؤمن أمام الفتن والمحن بشيء مثل وقوفه باليقين بالله جل جلاله، وهذا اليقين يغرس في قلبه إيماناً كاملاً بأن الكلمة كلمة الله، وأن الدين دين الله، وأن الرسالة رسالة الله، وأنها ستَبْلُغ ما أراد الله أن تَبْلُغ وإن رَغِمَت الأنوف، وذلت لله جل جلاله.
فأول ما أوصي به: ألا تكون هذه الفتن سبباً لتحبيط الهمة، وضعف النفوس؛ ولكن تكون سبباً لقوة الإيمان بالله، وقوة التعلق بالله، والالتجاء إلى الله سبحانه وتعالى.
فينبغي أن يكون عندك يقين بأن أعداء الإسلام مهما فعلوا فإن الله وراءهم، ولهم الرصد، وهو بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ [آل عمران:120].
عندما دخل التتار على دولة الإسلام وخلافة المسلمين وضعوا تراث الأمة في نهر دجلة ، حتى ساح بلون المداد، تراثُ أمةِ قرونٍ عديدة وُضِع في النهر ؛ لكي تسير الخيول عليه لتعبر نهر دجلة ، حتى أصبح ماء دجلة متلوِّناً بلون المداد، فهل انتهى الإسلام؟! أبداً، بل عاد يُمَكَّن أقوى مما كان عليه، فالإسلام دين يَغْلِب ولا يُغْلَب، ويَنْفُذُ ولا يُرَدُّ، لا يستطيع أحدٌ أن يقف في وجهه.
جاءت سخينة كي تغالب ربهاوليغلبن مغالب الغُلابِ
مَن هذا الذي يستطيع أن يقف أمام ملك الملوك؟! ومن هذا الذي يستطيع أن يطفئ نور الله جل جلاله؟!
إن هذه الفتن لَمَّا نسمعها تؤلم القلوب؛ ولكن الذي نخشاه أن شباب الصحوة أو الشباب الأخيار قد تخور قواهم أمام هذا السيل الجارف من الكيد للإسلام والأذية لعباد الله؛ ولكن صبرٌ جميلٌ، فإن الله بالرَصَدِ، والله يُمْهِل ولا يُهْمِل، والقوة لله، والأرض أرضُ الله، والكون كونُ الله، والخلق خلقُ الله، والأمر أمرُ الله، ولَيُنَفَّذَنَّ أمرُ الله جل جلاله.
فعندما كان النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة كان من عجيب ما يقع غالباً أنه إذا اشتدت الفتن والمحن يجعل الله فَرَجَها من حيث لا يدور بالحسبان، فكل ما اشتدت الفتن على المؤمنين خاصةً الفتن التي يراد بها الدين يأتي الفرج منها غالباً من حيث لا يحتسب المؤمن.
فانظر في غزوة بدر ، حيث التقى المسلمون بالكفار، فكانت الغلبة للمسلمين؛ لكن القتال قتال ماذا؟! قتالٌ حِسِّي.
لكن يوم الأحزاب قال الله تعالى: وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ ... [الأحزاب:10] الله أكبر! نبي الله والصحابة الذين هم صفوة الأمة يقول الله عنهم: وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ ... [الأحزاب:10]! وماذا بعدها؟! ... وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا [الأحزاب:10] ما معنى وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا [الأحزاب:10]؟! معناه: أنه بلغ بالصحابي، مرتبةً مِن كيد الشيطان، سبحان الله العظيم! قد يدخل الشيطان على الإنسان بشيء من الهم والغم ما يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى!
يقول الله عن هذا الأمر العظيم: هُنَالِكَ ... [الأحزاب:11] ما قال: هناك؛ لأن زيادة المبنى تـدل على زيادة المعنى هُنَالِكَ ... [الأحزاب:11] أي: في ذلك المقام العظيم من الابتلاء والامتحان، ... ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ ... [الأحزاب:11] ليس ابتلاءً واحداً، بل ... وَزُلْزِلُوا ... [الأحزاب:11] انظر كيف يكون الزلزال إذا ضرب أرضاً! فكيف بزلازل القلوب؟! فكذلك تُزَلْزَل مثلما زُلْزِلَ الصحابة، وَزُلْزِلُوا ... [الأحزاب:11] كما قال الله عن الأنبياء وصفوة الأنبياء في ذلك الأزمنة، قال: وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً [الأحزاب:11] إذا كان الله زلزل الصحابة زلزالاً شديداً؛ فكيف بنا نحن الفقراء؟! فالكُفْرُ مِثْلَما مَرَّ، الحق هو الحق، والباطل هو الباطل، وإن تغير الستار، وتبدل الشعار؛ فهو ملة الكفار، شئنا أم أبينا؛ وإنما هي أيامٌ تَمُرُّ؛ ولكن الحقيقة واحدة، حقٌّ وباطل.
فإياكم ثم إياكم أن تكون هذه المآسي المؤلمة -ولا شك أنها جارحة للقلوب ومؤلمة للقلوب- لكن لا ينبغي أن تكون سبباً للتخذيل، بل ينبغي أن تكون سبباً لقوة الشكيمة: وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ [آل عمران:146] إنه اليقين، فما تقف أمام الشدائد والمحن والفتن بشيء أقوى من اليقين بالله جل جلاله، وأن يكون عندك قوة ثقة بالله سبحانه وتعالى في أن الكلمة ستَنْفُذ، وأن الأمر سيمضي، إن عاجلاً أو آجلاً.
الأمر الثاني: ينبغي أن نأخذ بالأسباب:
وهي: إلهية، وكونية، أي: شرعية، وكونية.
فالشرعية هي: ما أمرنا الله عز وجل بها، ومن أعظمها: الدعاء :-
أن نكثر من الدعاء لإخواننا، فأقل ما فيه أنك في السحر إذا أوترت ودعوت لإخوانك تترجم عما في قلبك من أنك بذلت شيئاً لإخوانك، فتدعو لهم، وتذكَّر -أخي- أرملة من المسلمين فقدت زوجها من أجل لا إله إلا الله! تصوَّر أنها لو كانت قريبتك أو كانت أمك أو أختك أو ابنتك فكيف يكون حالك؟! هل يهنأ لك العيش؟! هل يهنأ لك البال؟! هل ترتاح؟!
فلذلك يجب أن تدعو لهم وأن تستشعر أن إخوانك يفتقرون منك الدعوة الصالحة، والدعاء سلاح المؤمن، فيجب أن نكثر من الدعاء لإخواننا، وأن نجعل هذا الدعاء أشجاناً وأحزاناً مع أشجان إخواننا وأحزانهم.
والكونية هي: الأخذ بالأسباب التي نؤمر بها في الدين :-
بأن نعد لأعدائنا ما أمر الله بإعداده، فمن استطاع أن يعين بنفسه فليُعِن بنفسه، ومن استطاع أن يعين بماله فليُعِن بماله، ومن استطاع أن يعين بالكلمة التي تدل على افتقاره وحاجته للوقوف معي فليَقُل.
فينبغي أن نكون مع إخواننا، فنعيش أشجانهم وأحزانهم، ولذلك لما بلغ خبر مقتل عثمان رضي الله عنه إلى أبي حميد الساعدي قال: [اللهم لك عليَّ ألاَّ أضحك أبداً] وذلك من شدة ما سمع من مصاب أخيه في الله عثمان الخليفة الراشد، فكيف بأعراض تُنْتَهك! ودماء تُسْفَك! وغيرِ ذلك مِن نساءٍ للمسلمين يُرَمَّلْن! ويُيَتَّم أطفالهن؟! وإلى الله المشتكى.
فالذي نحب أن نقوله: أنه ينبغي أن نوطِّن أنفسنا، وأن نعد العدة لأعداء الله عز وجل -وذلك لِمَا ذكرنا-، على قدر استطاعة الإنسان ووسعه، فيبذل كل ما يستطيع لإعانة إخوانه والوقوف معهم، ويقف الوقفة الصادقة.
الأمر الأخير: الإخلاص:-
إذا أردنا أن نقف مع إخواننا يجب أن نقف بإخلاص، ولَمَّا يتحدث الإنسان في هذه القضايا يجب أن يتحدث بإخلاص، فلا يتحدث من أجل غَلَبَة شخصية، أو حَنَقٍ شخصي أبداً، بل يجب أن يتحدث من واقع إسلامي وبشعور إسلامي نابع من القلب يريد وجه الله، حتى تكون الكلمات هادفةً ومؤثرةً وبالغةً إلى القلوب.
اللهم إن نسألك بأسمائك الحسنى وصفاتك العلى أن تعجِّل لإخواننا بالفرج.
اللهم انصر المستضعفين من عبادك المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها أجمعين.
اللهم عليك بأعداء الدين، اللهم عليك بأعداء الدين.
اللهم يتِم أطفالهم، ورمل نساءهم، وشتت شملهم، وفرق جموعهم، وأنزل عليهم بأسك الذي لا يرد على القوم الظالمين.
اللهم إنا نسألك ثباتاً في هذه المحنة يرضيك عنا يوم لقائك.
اللهم ثبت قلوبنا بتثبيتك.
اللهم إنا نسألك اليقين بك، والتوكل عليك، وصدق الالتجاء إليك.
لا إله إلا أنت سبحانك إنا كنا من الظالمين.
اللهم إنا نسألك لإخواننا المستضعفين في مشارق الأرض ومغاربها أن تشفي مُصابهم.
اللهم اجبر كسرهم.
اللهم أطعم جوعاهم.
اللهم اسقِ ظمآهم.
اللهم ارحم موتاهم.
اللهم ارحمهم برحمتك الواسعة.
اللهم أنزل عليهم من الصبر والسلوان والثبات أضعاف ما أُنْزِل عليهم من البلاء.
اللهم أزل عنهم العناء.
اللهم اكشف عنهم البلاء.
اللهم كفر بذلك ذنوبهم.
اللهم ثقل به موازين حسناتهم، وارفع به درجاتهم، وتقبل شهداءهم، برحمتك يا أرحم الراحمين.
لا إله إلا أنت سبحانك إنا كنا من الظالمين.
وآخر دعوانا أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , وصايا لطلبة العلم للشيخ : محمد مختار الشنقيطي
https://audio.islamweb.net