إسلام ويب

المسلمون في رمضان يظهر جلياً اهتمامهم بالعبادة والقيام وقراءة القرآن وسائر القربات، بينما يهملون دينهم بقية شهور العام، ومن أسباب ذلك الفتور الذي يعتريهم في سائر أيام العام: سيرهم إلى الله على مركب الرجاء أو كما يسمى (دراسة الجدوى) فيستثمرون أوقاتاً تضاعف فيها الحسنات كليلة القدر مثلاً .. وكأن عملهم فيها مقبول يقيناً، ولا يلتفتون إلى الأوقات الأخرى، ولو ركبوا في إبحارهم إلى المولى الودود تعالى مركب الشوق والمحبة لما تهاونوا ولما استثقلوا العبادة والطاعة.

أحوال الناس بعد رمضان

إن الحمد لله تعالى نحمده ونستعين به ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعملنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102] .. يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1] .. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].

أما بعد..

فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

شرط الاستطاعة لامتثال الأمر والنهي

من القواعد المقررة في ديننا قول الله عز وجل: وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [الحج:78]، وقول الله عز وجل: فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا [الشرح:5-6] فكل أمرٍ أمر الله عز وجل به عباده على سبيل الوجوب فبإمكانهم أن يفعلوه، وكل نهي نهاهم عنه فبإمكانهم أن ينتهوا عنه، فليس هناك أمر فوق مقدور العبد أبداً: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة:286] .. لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا [الطلاق:7] وليس هناك نهي يعجز العبد عن فعله قط، وهذا شيء مؤكد لا يختلف فيه اثنان قط، والأمر والنهي معاً يشكلان العبادة مع توحيد الله عز وجل، فالعبادة: هي التوحيد، ومقتضى هذا التوحيد من الأمر والنهي، فمن لم يأت بالعبادة -التوحيد ومقتضاه- فإنه لم يعبد الله عز وجل، إذ إن الله قد خلق الخلق ليعبدوه؛ كما قال تبارك وتعالى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56] في الرحلة إلى الله أكثر من مركب يُمتطى، فهناك من يمتطي مركب الرجاء، وهناك من يمتطي مركب الخوف، وأعظم الواصلين إلى الله عز وجل هم الذين يمتطون مطية المحبة إليه تبارك وتعالى، فلا تكلف أبداً مع المحبة.

فهذه العبادة التي أمرنا بها الله عز وجل يجب علينا أن نأتي بها في مكاننا، فإن عجزنا فإلى مكان آخر، لم يخلقك الله تبارك وتعالى لتكون عابداً له في بلدك، بل لو اقتضى الأمر أن تخرج من بلدك ومن أهلك ومن مالك لتحقق العبادة وجب عليك ذلك، فإن لم تفعل ولم تأت ما أمرت به فالله تبارك وتعالى يقول: يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ * كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ [العنكبوت:56-57] إنما ذكر الموت بعد السياحة في البلدان طلباً للعبادة، كأنه يريد أن يقول لك: كن عبداً لله ومت حيث شئت، المهم أن تحقق العبودية لله، فلا يشترط أن تموت بأرضك وبين أهلك وخلانك: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ [العنكبوت:57] وذكر هذا بعد قوله تبارك وتعالى: يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ [العنكبوت:56] أي: حقق العبادة حيثما كنت.

وقد رأيت وأنا أقرأ ترجمة شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أنه حقق هذا المعنى، فأيام كان طليقاً كان يدعو إلى الله عز وجل ويواجه الفرق المبتدعة، وفعل هذا الرجل بالمبتدعة ما لم تفعله كتائب من العلماء، فلما سجن وجد المسجونين يلعبون ويلهون، ويقضون أوقاتهم في العبث، فأنكر عليهم ذلك أشد الإنكار، وقام فيهم بما يجب أن يقوم به العالم، فجمعهم على الصلاة، وأمهم، وشرع يعطي دروس العلم في التفسير والحديث والفقه، فاجتمع المسجونون عليه حتى ذكر الذين ترجموه أن كثيراً من المسجونين لما جاءهم الإفراج أبوا أن يخرجوا، وخرج من بين هؤلاء المسجونين علماء، فهذا الرجل قام بحق العبودية حتى وهو في السجن، فلا يضرك أين ذهبت، المهم أن تكون عبداً لله عز وجل.

دواعي الفتور في العبادة

بعد هذه المقدمة الضرورية وهي: أن الأمر والنهي في إمكان العبد، فالسؤال: لماذا يفتر الناس بعد رمضان؟ لماذا يقبلون على الله في رمضان ثم يفترون بعد ذلك؟ إذا كانت المسألة عدم الجدية في العبادة فلقد رأيناهم يجدون، إذاً: بإمكانهم أن يجدوا في غير رمضان، إذ لو كانوا عجزة لما أتوا بهذا الجد في رمضان، فإذا كان بإمكانه أن يفعل فلماذا يحجم؟ لماذا هذا الفتور؟

في ليلة السابع والعشرين من رمضان وأنا ذاهب إلى المسجد في الساعة الواحدة لفت نظري هذا العام أن أغلب المساجد ملأى بالناس، وهذا ليس وقت سعي للعبادة، وليس وقت مكوث في المساجد، إذاً: لماذا عمّر الناس المساجد في هذه الساعة المتأخرة من الليل؟ طلباً لليلة القدر، إذاً: فالناس أذكياء! ويعرفون مصالحهم، ويقبلون إذا وجدوا الأجر، لذلك تركوا فرشهم الدافئة في هذا الشتاء وذهبوا إلى المساجد يصلون لله عز وجل، بينما ليلة ثماني وعشرين لا تجد أحداً في المساجد إلا العمّار الراتبون، ما معنى هذا الكلام؟ أيضحكون على الله؟ أول ما يظن أنه أخذ ليلة القدر يذهب لينام، لماذا هذا التفريط؟ إذاً: الناس تعرف دراسة الجدوى، يعرفون المكاسب والخسارة، لكن بكل أسف لم يحسبوها صحيحة هذه المرة.

إن الله تبارك وتعالى حي قيوم يقبل العمل، سواء عملته في الليل أو في النهار، عملته في رمضان أو عملته في شوال، فهو تبارك وتعالى قيوم قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ [الرعد:33]، وهو تبارك وتعالى يعاملنا بالفضل، فبرغم قصر أعمار هذه الأمة إلا أنها أكثر الأمم أجراً، فقصر أعمارها وبارك في أعمالها؛ حتى أن الحسنة الواحدة تضاعف إلى سبعمائة ضعف، وهذا لا نعلمه لأمة من الأمم قط إلا لأمة المسلمين، الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، حتى إن العبد قد يفعل الشيء الذي لا يلتفت إليه فينجو به غداً؛ لأن الله عز وجل قبله منه، ومن الأدلة الكثيرة على ذلك قول الله تبارك وتعالى: لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ [القدر:3] وألف شهر تعني: (838) سنة وبضعة أشهر وعدة أيام، فإذا قمت ليلة القدر وأصبتها فعلاً فقد أضيف إلى عمرك القصير ثمانون عاماً، فإذا سددك الله عز وجل وكل رمضان أدركت ليلة القدر -إذا قمت العشر الأواخر بجد واجتهاد- فكل سنة تعبد الله عز وجل فيها ثمانون عاماً محسوبة إلى عمرك، فإذا لقيت الله عز وجل تلقاه بعمر قد يصل إلى ألفين أو ثلاثة آلاف عام، فيكتب لك أجر عابد ثلاثة آلاف عام، وهذا لو قدرنا أن رجلاً منذ فرض عليه الصيام من سن الثامن عشر عاماً مثلاً ومات وهو ابن ستين سنة، وصام خمسة وأربعين رمضان، وأدرك في كل رمضان ليلة القدر، فإذا ضربت خمسة وأربعين في ثلاثة وثمانين يصبح معك أكثر من ثلاثة آلاف، فكأنك عبدت الله عز وجل أكثر من ثلاثة آلاف عام، برغم أن عمرك الفعلي لا يجاوز ثلاثين عاماً عند الله عز وجل، فالعمر الفعلي الذي تحاسب عليه أمام الله لا يتجاوز ثلاثين عاماً، إذا مت على رأس ستين سنة، وهذه هي دراسة الجدوى لعمر إنسان مات وسنه ستين سنة؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أعمار أمتي ما بين الستين إلى السبعين وقليل من يتجاوز ذلك).

فلو قدرنا أن إنساناً يموت على رأس ستين عاماً، فهو لا يحاسب حتى يبلغ، والبلوغ قد يصل إلى خمسة عشر عاماً، ثم هو ينام ثمان ساعات في اليوم، إذاً: ثمان ساعات تطرح من ستين سنة تذهب عشرون سنة، تقضى في النوم وخمسة عشر سنة إلى سن البلوغ، وهذه خمسة وثلاثون سنة، فلو قدرت ساعات النوم أيضاً في البلوغ وتختصر خمس سنوات، إذاً: ثلاثون عاماً.

إذاً: رجل يموت وعمره ستون سنة يحاسب عند الله على ثلاثين عاماً فقط، فهل ثلاثون عاماً مهما فعلت فيها توصلك؟ لا توصلك. ولو عمرت عمر نوح عليه السلام لا توصلك، ولو عمرت عمر إبليس الذي قال لله عز وجل: أَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ [الأعراف:14]، فلو عمرت من أول ما خلق آدم إلى أن ينفخ في الصور فلن تدخل الجنة بعملك أبداً، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنه لن ينجي أحدكم عمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته).

وهناك قصة ضعيفة الإسناد أذكرها على سبيل التقريب لا الاحتجاج، وقد ذكرها الحاكم في المستدرك مرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وهي: (أن عبداً عبد الله عز وجل في جزيرة ستمائة عام، فأنبت الله عز وجل له قحط رمان في الصخر، وأخرج له بقدر الإصبع عيناً عذبة من الماء المالح، فكان يأكل من الرمان ويشرب من الماء ويعبد الله، فسأل الله يوماً أن يقبضه وهو ساجد، فعندما جاء أجله قبضه الله وهو ساجد، ثم قال الله عز وجل: أدخلوا عبدي الجنة برحمتي، قال: يا رب بل بعملي! قال: برحمتي! قال: بل بعملي! فقال الله عز وجل: قايسوا نعمي على عبدي بعبادته -ومسألة القيامة مسألة موازين- فأتوا بنعمة البصر ووضعوها في كفة، ووضعوا عبادة ستمائة عام في كفة، فطاشت الستمائة عام في العبادة أمام نعمة البصر، فقال الله عز وجل: خذوه إلى النار، فجعل العبد يستجير ويستغيث ويقول: يا رب، أدخل الجنة برحمتك!! فقال: أوقفوه. فوقف، قال: عبدي! من خلقك ولم تك شيئاً؟ برحمتي أم بعملك؟ قال: برحمتك يا رب! قال: من الذي أخرج لك قحط رمان في الصخر برحمتي أم بعملك؟ قال: برحمتك يا رب! قال: من أخرج لك الماء العذب من الماء المالح، برحمتي أم بعملك؟ قال: برحمتك يا رب! قال: من قواك على عبادة ستمائة عام، برحمتي أم بعملك؟ قال: برحمتك يا رب! قال: فبرحمتي أدخل الجنة، يا عبدي كنت نعم العبد)!!

وهذا الحديث وإن كان ضعيف الإسناد إلا أن الأحاديث الصحيحة تنطق على مقتضاه، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم الذي ذكرته آنفاً: (لن يدخل أحد منكم الجنة بعمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا. إلا أن يتغمدني الله برحمته).

فوضع الله عز وجل الآصار التي فرضها على بني إسرائيل عن هذه الأمة، كما قال الله عز وجل في وصف النبي صلى الله عليه وسلم: وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ [الأعراف:157] كان الواحد من بني إسرائيل إذا أصابه البول قرضه بالمقاريض، لا يكفي فيه الغسل ولا يطهره ماء، وإنما يقرضه بالمقاريض، ووضع الله عز وجل هذا الإصر عن هذه الأمة، بل إن الرجل إذا فقد الماء تيمم وصلى وأجزأته صلاته ولا يلزمه الإعادة، وإذا فقد الطهورين معاً صلى بلا وضوء ولا تيمم، وإذا قابله قاطع طريق فأخذ ثيابه كلها وتركه عارياً صلى عارياً وأجزأته صلاته، ولا تلزمه الإعادة، وهذا كله من التيسير الذي امتن الله عز وجل به على هذه الأمة.

حرم الله عز وجل على بني إسرائيل الطيبات: فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ [النساء:160] حرم عليهم الخبائث وحرم عليهم شطراً من الطيبات فضيق عليهم الحلال، فكان البحث عن الحلال في أيامهم في غاية المشقة، وهذه الأمة لطف الله عز وجل بها، ووضع الآصار التي وضعها على بني إسرائيل عن هذه الأمة.

إذاً: فالله عز وجل يعاملنا بالفضل، فما الذي غرك به وجعلك تُجبر عنه بعد رمضان؟ ألا يحصي عليك بعد رمضان، أو يغفل عنك فلا يراك؟!! لماذا نعامل الله عز وجل هذه المعاملة؟ ولماذا لا نقبل عليه دائماً في كل يوم وشهر؟ هذا عقوق لله عز وجل، وإن الكريم لا يجب عليك أن تعقه فهذا لؤم، ويوشك الله تبارك وتعالى أن يعاقب الذي حلم عليه كثيراً فلم يرجع.

معاملة الله تعالى لعباده مبنية على الفضل

إن من آيات معاملة الله تبارك وتعالى لنا بالفضل قول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة رضي الله عنه: (إذا أدرك أحدكم ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك، وإذا أدرك أحدكم ركعة من الصبح قبل أن تشرق الشمس فقد أدرك)، أي: إذا قدرنا أنه بقي على المغرب دقيقتان أو ثلاث دقائق وكان لك عذر في تأخير الصلاة فقمت فأدركت ركعة وركعت، ثم قلت: سمع الله لمن حمده فأذن المغرب، فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (فقد أدرك) وهذه معاملة بالفضل، وإلا إذا عاملنا بالعدل رد علينا ثلاث ركعات؛ لأن الثلاث الركعات الباقيات من صلاة العصر إنما صليتها في وقت المغرب، والله تبارك وتعالى يقول: إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا [النساء:103] لها وقت أول ووقت آخر، فإذا أتيت بركعة واحدة في العصر ثم الركعة الثانية والثالثة والرابعة في وقت المغرب فكان مقتضى العدل أن ترد عليك الركعات الثلاث، لكن الله عز وجل قبل منك ثلاث ركعات أوقعتها في غير الوقت بركعة أدركتها في الوقت، فوهب الكثير للقيل، وهذا فضل من الله تبارك وتعالى.

ويقول النبي صلى الله عليه وسلم كما في صحيح البخاري: (إنما بقاؤكم فيما سلف من الأمم كما بين صلاة العصر إلى غروب الشمس، أوتي أهل التوراة التوراة فعملوا حتى إذا انتصف النهار، ثم عجزوا فأعطوا قيراطاً قيراطاً، ثم أوتي أهل الإنجيل الإنجيل فعملوا به حتى صليت العصر، ثم عجزوا فأعطوا قيراطاً قيراطاً، ثم أوتيتم القرآن فعملتم به حتى غربت الشمس، فأعطيتم قيراطين قيراطين، فقال أهل الكتاب: هؤلاء أقل منا عملاً وأكثر أجراً؟ قال الله عز وجل: هل ظلمتكم من حقكم شيئاً؟ قالوا: لا، قال: فهو فضلي أوتيه من أشاء)، فهم كانوا أكثر عملاً، من الصباح إلى منتصف النهار مدة طويلة، ومع ذلك عجزوا، أي: ما أتموا ما فرض الله عز وجل عليهم فأعطوا قيراطاً قيراطاً، أي: وزعوا الأجر على العاملين، ولذلك كرر لفظة القيراط كما لو أردت أن تقول: إنك أعطيت فلاناً حقه كاملاً فتقول: أعطيته حقه درهماً درهماً، أي: ليس له عندك حق، فتكرير القيراط إشارة إلى أن كل عامل أخذ أجره على قدر ما عمل.

وأخذ علماؤنا من هذا الحديث من قوله صلى الله عليه وسلم: (ثم عجزوا فأعطوا قيراطاً قيراطاً) أن المرء إذا كلف بأمر فعجز لظروفه الخاصة فإنه يأخذ أجره، ففي بني إسرائيل يأخذ قيراطاً قيراطاً، وعندنا يأخذ أجره كاملاً، وهذا من جملة معاملة الله إيانا بالفضل، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم -وهذا الحديث في الصحيحين-: (إذا سافر العبد أو مرض كتب له ما كان يعمله صحيحاً مقيماً)، فإذا كان له ورد من الليل يصليه، أو كان له قيام، أو كان له صدقة، فإذا سافر العبد فلم يستطع أن يعمل مثلما يعمله في بلد الإقامة كتب له أجره كاملاً كما لو كان مقيماً، وإذا مرض العبد فعجز عن القيام بما كان يفعله في حال الصحة كتب الله عز وجل له ذلك كاملاً: ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ النساء:70].

العودة إلى الله وترك التمرد على أمره ونهيه

فإذا كان الله عز وجل يعاملنا هذه المعاملة ومن صفاته الودود، فيا أيها العاصي المدبر عن ربك تبارك وتعالى! إنك لا تساوي شيئاً إذا انحرفت عن دربه، ومن العجب أن الله عز وجل لما خلقه وسواه بشراً سوياً إذا به خصيم لله مبين، يحاد الله عز وجل، رفعت نسبك فوق نسبه فأنا أعلمك بنسبك جملة بغير تفصيل، قال الله عز وجل: كَلَّا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ [المعارج:39] فهم يعلمون مما خلقوا، جدك الأعلى تراب .. ووالدك الأقرب ماء مهين، وقد خرجت من مجرى البول مرتين فكيف تستطيل على ربك؟ ولله در الحسن حين قال: (هانوا عليه فعصوه ولو عزوا عليه لعصمهم).

أيها المسلم: إن ترك الذنب أهون عليك من طلب التوبة، فإنك قد لا توفق لتوبة، وقد تتوب فلا يقبل منك، فلماذا تلقي بنفسك في المجهول، وقد قدمنا في أول الكلام أنه ما من نهي نهى الله العبد عنه إلا وبإمكانه أن يتبعه، ترك الذنب إذاً خير لك، وأقرب سبيلاً وأشد من طلب التوبة.

أيها الإخوة الكرام! إنه ينبغي علينا أن نحقق العبودية لله تبارك وتعالى في أنفنسا وأولادنا، نعم شهر رمضان شهر طاعات، ولكن الله تبارك وتعالى يحب العبد إذا عبده في وقت غفلة الناس، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (صلاة الأوابين حين ترمض الفصال)، وهو حديث زيد بن أرقم في صحيح مسلم، والفصيل هو ولد الناقة الصغير الذي لم يستوِ خفه فهو لا يتحمل حرارة الأرض فيمشي على الأرض قفزاً، هذا الوقت يقدر بأنه قبل الظهر بنحو ساعة ونصف أو ساعة وربع، فإذا صليت لله عز وجل في هذا الوقت فقد عبدت الله في وقت قلما يسجد له فيه ساجد، من الذي يصلي قبل الظهر بساعة ونصف؟ الناس في معايشهم يسعون في الأرض، فإذا عبدت الله عز وجل في هذا الوقت فقلما يسجد لله فيه ساجد، فلك من قبل الظهر بنحو ساعة ونصف إلى قبل الظهر بساعة إلا ربع، فإذا كان قبل الظهر بنحو ساعة إلا ربع تمتنع من الصلاة؛ لأن هذا وقت الزوال إلى أن يؤذن للظهر، فسمى النبي صلى الله عليه وسلم هذه الصلاة صلاة الأوابين، والأوابون: جمع أواب وهو الرجاع إلى الله عز وجل، وهذه منزلة من المنازل العظيمة التي إذا حققها العبد كان ناجياً لا محالة، لو ثبت أنه في رتبة الأوابين، فسماها النبي صلى الله عليه وسلم صلاة الأوابين لذلك.

إذاً: نفهم من هذا الحديث أنك إذا كنت في فقر فتصدقت فقد حققت أعظم العبادة؛ لأنها كانت عن فقر، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (أفضل الصدقة جهد المقل، وابدأ بمن تعول)، فإذا كنت فقيراً ولأهلك عليك نفقة واجبة فلا تتصدق مع هذه القلة إلا على أهلك، هم أولى من غيرهم، إذا كان عليك نفقة واجبة فقد وجب عليك، فإذا لم تكن عليك نفقة واجبة فأولو الأرحام أولى، لكن الشاهد من هذا الحديث قول النبي صلى الله عليه وسلم: (أفضل الصدقة جهد المقل).

إذاً: كلما عبدت الله عز وجل وأجبرت نفسك على ذلك كان ذلك أسد لك؛ لأن هذا عنوان الحب.

أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم.

امتثال شرع الله محبة له تعالى

الحمد لله رب العالمين، له الحمد الحسن والثناء الجميل، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له يقول الحق وهو يهدي السبيل، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.

أيها الإخوة الكرام! إذا كان الله عز وجل ودوداً يتودد إلى عباده، ويتحبب إليهم بنعمه، فنحن نعلم يقيناً أن المرء لو رزق النبل وسلامة الأصل لا يقابل فعل الكريم بلؤم.

إذا أنت أكرمت الكريم ملكتهوإن أنت أكرمت اللئيم تمردا

فأي رجل عنده نبل لا يعق ربه أبداً، من قرت عينه بالله قرت به كل عين، وأنس به كل مستوحش، وأمن به كل خائف، وفرح به كل حزين، وعز به كل ذليل، وجرب من عق ربه عز وجل أرسل طرفك معه وهو يعامل عباد الله، لا يخلو من لؤم أبداً، أما الإنسان الأصيل فلا يعق ربه.

فإذا كان الله عز وجل يتحبب إلينا بذلك ونحن نُدبر عنه فيا ترى! ما هو العلاج؟ وما هو الحل؟ الحل أن تحب ربك، إنك إذا أحببته وهو أهل للحب لا يحب لذاته إلا الله، لا نبي ولا ملك، يحب لذاته، وإنما أحببناهم لأن الله قربهم، ولأن الله عز وجل اجتباهم واصطفاهم على العالمين؛ لذلك أحببناهم، ولو نزع الله عز وجل منهم الاصطفاء لأبغضناهم، إذاً: فلا يحب لذاته إلا الله عز وجل.

إذا حققت معنى العبودية لم تر مشقة لأمر ولا لنهي، إن راكب مركب الحب لا يضل، الحب مطية لا يضل راكبها، والعبادة بالحب وإن قلت أفضل من العبادة بالخوف وإن عظمت وزادت، ولذلك ترى في عبادة المحبين من الروح مالا تراه في عبادة غيرهم؛ لأنهم يعبدون الله عز وجل حق عبادته، ولله در أبي الطيب المتنبي لما قال وهو يقرب هذا المعنى:

يا من يعز علينا أن نفارقهموجداننا كل شيء بعدكم عدم

إن كان سرّكُمُ ما قال حاسدنافما لجرح إذا أرضاكمو ألم

هذا عنوان صدق المحبة!

طالما أنه راضٍ فلا أشعر بألم الجرح، وفي بعض الأدعية التي تعزى إلى النبي صلى الله عليه وسلم لكنها بسند ضعيف أنه كان يناجي ربه، فيقول: (لك العتبى حتى ترضى، إن لم يكن بك غضب عليَّ فلا أبالي) وهذا هو معنى الحب، فإذا أحب الله عز وجل ورضي فلن تشعر بأي تكليف، ولا بأية مشقة، ولله در الشاعر المجيد أبي الشيص الذي قال أيضاً في توضيح هذا المعنى:

وقف الهوى بي حيث أنتفليس لي متأخراً عنه ولا متقدم

وأهنتني فأهنت نفسي جاهداًما من يهون عليك ممن يكرم

أشبهت أعدائي فصرت أحبهمإذ كان حظي منك حظي منهم

أجد الملامة في هواك لذيذةحباً لذكرك فليلمني اللوم

إن علاج هذا الإدبار أن تحب ربك.

ونحن نقول للداعين إلى الله عز وجل: لا تبغضوا الله إلى الناس، والنبي صلى الله عليه وسلم قال لبعض الناس: (إن منكم منفرين)، فالمفتي إذا كان هناك وجهان في الدليل: شديد ويسير، فلا جناح عليه أن يأخذ في خاصة نفسه بالأشد، بحسب ورعه، لكن لا يجوز له أن يحمل الناس على الأشد إن كان اليسر له وجه في الدليل، فإذا حمل الناس على الأحوط فالأحوط فهو من المنفرين؛ لأن الأحوط فالأحوط معناه: الأشد فالأشد فالأشد، (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا خير بين أمرين اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً) إذاً: حببوا الله إلى الناس، وكان علي بن أبي طالب يقول كما رواه البخاري في صحيحه: (حدثوا الناس بما يعرفون، أتريدون أن يكذب الله ورسوله؟)، فاترك المجهول بالنسبة للناس الذي لا يضرهم الجهل به، وعليك بالمعروف.

لما جاء عثمان بن أبي العاص إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: (يا رسول الله! اجعلني إمام قومي، قال: أنت إمامهم واقتدِ بأضعفهم) رعاية للضعيف، فإن القوي لا يضره إذا قصرت الصلاة لكن الضعيف يضره إذا طالت الصلاة، فقال: (اقتدِ بأضعفهم)، ولما (صلى معاذ بن جبل بقومه فافتتح صلاة العشاء بالبقرة ترك شاب الصلاة وصلى في ناحية المسجد وحده وانصرف، فقيل لـمعاذ : إن فلاناً ترك الصلاة خلفك، فقال: (إنه لمنافق) فبلغ ذلك الشاب، فشكى معاذاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أفتان أنت يا معاذ؟) فالشاب شكى للرسول عليه الصلاة والسلام، قال له: نحن أصحاب نواضح، نسقي طوال النهار، ونحن متعبون من العمل، وهذا يصلي معك العشاء ثم جاء فافتتح البقرة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم له ذلك: (أفتان أنت يا معاذ ؟ هلّا صليت بالشمس وضحاها، والليل إذا يغشى) فلما سمع الشاب قول معاذ: إنه لمنافق قال الشاب: (سيعلم غداً)، فلما كانت أول غزوة قتل هذا الشاب فيها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لـمعاذ : (ما ظنك؟)، أي: أين ذهب ظنك، وهل صدق لما قلت عنه: إنه منافق؟

إن الله تبارك وتعالى يقبل الصلاة من الخاشع الخاضع ولو كانت بالحد الأدنى منها، فقول النبي صلى الله عليه وسلم: (واقتدِ بأضعفهم) ليس المقصود بها الصلاة فقط، بل هذا قانون، فإنك إذا حملت الناس قسراً على عبادة الله عز وجل ولم يكن عندهم من المحبة ما يقاوم ذلك أدبروا؛ لذلك كانت من سيرة النبي صلى الله عليه وسلم أنه إذا خيّر بين أمرين اختار أيسرهما، وهكذا عليك أن تكون بشرط: أن يكون للأيسر حظ من الدليل، ليس أن تذهب فتأتي بالرخص، وترخص للناس كل شيء بلا دليل، لا، بل الشرط أن يكون له وجه في الدليل.

فمحبة الرحمن تبارك وتعالى هي التي تسهل عليك العبادة، فلا ترى فيها تكلفاً ولا مشقة، نسأل الله تبارك وتعالى أن يرزقنا حبه وحب من أحبه، وكل عمل يقربنا إلى حبه، اللهم اجعل حبك أحب إلينا من الماء البارد، اللهم اغفر لنا ذنوبنا، وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين، اللهم اجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر، اللهم قنا الفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك ولا يرحمنا، رب آت نفوسنا تقواها وزكها أنت خير من زكاها أنت وليها ومولاها.

اللهم اغفر لنا هزلنا وجدنا، وخطأنا وعمدنا، وكل ذلك عندنا.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , ماذا بعد رمضان؟! للشيخ : أبو إسحاق الحويني

https://audio.islamweb.net