إسلام ويب

الحياء خلق عظيم من أخلاق الإسلام، وهو خلق يبعث على فعل كل جميل ويمنع من فعل كل قبيح، وهو صفة من صفات الله عز وجل، وصفة من صفات أنبياء الله عليهم السلام، وهو أيضاً من صفات أوليائه، وأشد هذه الأمة حياءً هو نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فقد كان أشد حياءً من العذراء في خدرها.

صور من فقدان الحياء

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].

يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً [النساء:1].

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً [الأحزاب:70-71].

أما بعــد:

فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة، وكل ضلالةٍ في النار.

لماذا تحسر عدد من النساء الحجاب عن وجوههن وشعورهن؟

لماذا يلبسن الثياب الضيقة والشفافة؟

لماذا تنطلق الكلمات البذيئة من ألسنة الكثيرين وتنهال الألفاظ التي تخدش الحياء في المجالس والأماكن العامة، وتسمع هذه الكلمات البذيئة في قارعة الطريق والمحلات؟

لماذا يعامل بعض الذين يستلفون النقود من يستلفون منهم بصلافة ووقاحة، ويرفضون رد الدين، أو يجعلونهم يجرون وراءهم كالشحاذين مع أنهم أصحاب الحق؟

لماذا يقع الاختلاط بين الرجال والنساء ويمضي بشكل طبيعي حتى يحادث الرجل الأجنبي المرأة الأجنبية كأنه محرم لها؟

لماذا تنتشر المعاكسات الهاتفية وخروج المرأة مع الرجل الأجنبي في سيارة أو مكان في خلوة ونحوه؟

لماذا يحسر اللاعبون عن أفخاذهم ولا يتحفظ الناس من ستر عوراتهم؟

لماذا .. ولماذا من سائر هذه المشاهد والأفعال المتكررة؟

السبب -أيها الإخوان- هو فقدان خلق عظيم من أخلاق الإسلام، ألا وهو خلق الحياء، هذا الحياء الذي يبعث على فعل كل جميل، ويمنع من فعل كل قبيح.. هذا الحياء قد زال وانعدم من نفوس الكثيرين، وقلَّ وخف واضمحل من نفوس آخرين، ولذلك تجد انتشار المعاصي والجهر بها، وخصوصاً عند من ينبغي أن تكون محتشمة متسترة عند البشر كلهم.

فقدان الحياء أدى إلى المآسي حتى ظهرت شواطئ العراة وأنديتهم، وصارت الأفلام الإباحية تعرض وتصور بسبب فقدان الحياء، لم يعد هناك حياء، هذا الخلق الإسلامي الأصيل الذي نفتقده اليوم في نفوس كثير من المسلمين، فما عادوا يتورعون عن أمور كثيرة.

أنواع الحياء

حياء الإنسان منه ما هو فطري، ومنه ما هو مكتسب.. هذا الحياء غريزة خلقها الله في قلب الأبوين: آدم وحواء، ولذلك لما عصيا وأكلا من الشجرة وظهر أثر المعصية بانكشاف العورة، سارعا إلى ستر عوراتهما بأوراق الشجر، بمجرد أن بدت لهما سوءاتهما طفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة، فاستحيا آدم وزوجه لما ظهرت العورة، وأرادا بسرعة أن يسترا العورة بورق الجنة، مسارعين إلى ذلك من خلق الحياء الذي خلقه الله فيهما، وهذا هو الأصل في البشر سلامة الفطرة، كل مولود يولد على الفطرة، كل مولود يولد وحياؤه معه، ولكن يفسد حياؤه من هذه التربية، إنهم يلبسون البنات من صغرهن ملابس فاضحة، وتنشأ البنات على هذه الملابس الفاضحة، وتكبر البنت وهي لا تزال تلبس هذه الملابس أمام إخوانها في البيت، وأمام الجيران والزوار، وتفقد البنت شيئاً من حيائها تدريجياً، والسبب هو التربية الفاسدة.

لقد ذكر الله في كتابه قصة المرأة التي تربت تربية صالحة هي وأختها حين كانتا ترعيان الغنم؛ لأن أباهما لا يستطيع العمل، فالمرأة لا تخرج للعمل إلا للحاجة.. هذا هو الأصل، الأصل: وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ [الأحزاب:33] أما الخروج للعمل وللحاجة فيبينه قوله تعالى: لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ [القصص:23] لا يستطيع العمل فلذلك اضطررن وخرجن، لما سقى موسى ورجعت المرأتان أخبرتا الأب، فأراد أن يكافئه، فلما لم يستطع المجيء إليه أرسل ابنته، قال تعالى: فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ [القصص:25].. هكذا قال الله.

قال السلف : ليست بسلفع من النساء خراجة ولاجة، ولكن جاءت مستترة قد وضعت كُمَّ درعها على وجهها تغطيه استحياءً، بل إن تغطية الوجه من أيام الجاهلية، بعض نساء الجاهلية كما كانت امرأة النعمان الرجل الجاهلي تمشي ساترة وجهها، فوقع هذا الغطاء دون تقصد وكانت بحضرة رجال، فقال النابغة من فوره وتوه:

سقط النصيف ولم ترد إسقاطه>>>>>بادرته واتقتنا باليد

فغطت وجهها بيد، وسارعت لأخذ الخمار باليد الأخرى.

فطر الله سبحانه وتعالى النساء على الحياء، لكن الوضع الحالي للنساء أفسد الكثيرات، ولذلك فهي خراجة ولاجة، لا حياء ولا حشمة ولا حجاب، تقارع الرجال في الأسواق، وتنازل الباعة في الأسعار وتضحك ملء شدقيها أمام الأجانب، وهذه أسواقنا شاهدة على قلة الحياء في هذا الزمن، وقد بلغ من تقدير الإسلام لخلق الحياء أنه بني عليه أحكام، فمن ذلك:

ما جاء عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، قالت: (سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الجارية ينكحها أهلها أتستأمر أم لا؟ فقال لها: نعم. تستأمر، قلت له: إنها تستحي -إذا سألها القاضي أنت موافقة؟ البكر تستحي هذا هو الأصل- فقال النبي صلى الله عليه وسلم: فذلك إذنها إذاً إذا هي سكتت) إذنها صماتها.. هكذا يعرف إذن البكر إذا استؤذنت، فإذا صمتت فيعني ذلك أنها موافقة.

الأنبياء وشدة حيائهم

قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الحياء والإيمان قرنا جميعاً، فإذا رفع أحدهما رفع الآخر) هذا شأن الحياء وهو شعبة من الإيمان، والله سبحانه وتعالى حيي ستير، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله تعالى حيي ستير يحب الحياء والستر، فإذا اغتسل أحدكم فليستتر) رواه أحمد وأبو داود وهو حديث صحيح.

وقال النبي عليه الصلاة والسلام: (إن الله حيي كريم يستحي إذا رفع الرجل إليه يديه، أن يردهما صفراً خائبتين) والعبد عليه أن يتشبه بتلك الأفعال التي أمر الله العباد بأخذها، فعليه أن يستحي، هذا الحياء من الأشياء التي بقيت من النبوة الأولى، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى، إذا لم تستح فاصنع ما شئت) النبوات السابقة حصل لها تحريف وتغيير وتبديل، ولكن بقيت هناك عبارة صحيحة وصلت إلى هذه الأمة بدون تغيير ولا تبديل ولا تحريف، وهي: (إذا لم تستح فاصنع ما شئت) والمقصود تهديد ووعيد للذي لا يستحي، فليفعل ما يشاء، فالله سيجازيه، كما قال الله: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ [فصلت:40] ستجدون هذه الأعمال يوم القيامة: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ [الزلزلة:7-8] وكذلك هذا تهديد -أيضاً- من جهة أنه قال له: (إذا لم تستح فاصنع ما شئ) فإنه إذا سقط الحياء فالنتيجة أنه سيفعل ما يشاء، ويعاقبه الله بعد ذلك.

إذا لم تخش عاقبة الليالي>>>>>ولم تستح فاصنع ما تشاء

فلا والله ما في العيش خير>>>>>ولا الدنيا إذا ذهب الحياء

يعيش المرء ما استحيا بخير>>>>>ويبقى العود ما بقي اللحاءُ

أنبياء الله كانوا يستحيون غاية الحياء، فهذا موسى عليه السلام كان رجلاً حيياً ستيراً، لا يرى من جلده شيء استحياءً منه، والنبي صلى الله عليه وسلم كان أشد حياءً من العذراء في خدرها.. هل تعرفون العذراء إذا كانت في جوف الليل التي ليس لها سابق عهد بالرجال ولا تختلط بالأجانب ولم يسبق لها زواج كيف يكون حياؤها؟ لو دخل عليها رجل أجنبي في مخدعها كيف يكون حياؤها؟ كان النبي عليه الصلاة والسلام أشد حياءً من العذراء في خدرها لو دخل عليها أجنبي.

وتجلى هذا في مواقف منه صلى الله عليه وسلم، فإنه لما صعد إلى ربه في حادثة المعراج المعروفة والمشهورة، فرض الله عليه خمسين صلاة، والنبي صلى الله عليه وسلم يتردد بين موسى وبين ربه سائلاً التخفيف حتى وصلت إلى خمس صلوات، فقال موسى للنبي عليه الصلاة والسلام: (ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: سألت ربي حتى استحييت، ولكن أرضى وأُسلم).

كان النبي صلى الله عليه وسلم من حيائه أنه لا يصرح بالألفاظ التي فيها بشاعة أو شناعة، أو تخدش الحياء، أو تكرهها النفوس وتنفر منها، فكان يستخدم الكناية، وكان يعرض في كلامه، بل إنه صلى الله عليه وسلم في أحيان كثيرة كان لا يتكلم بكلمة، ولكن يعرف ذلك بوجهه من حيائه صلى الله عليه وسلم، ولذلك يقول الصحابي أبو سعيد رضي الله عنه: [فإذا رأى شيئاً يكرهه عرفناه في وجهه] يبدي ذلك صفحات وجهه، تنبئ عما يكرهه صلى الله عليه وسلم، ولذلك لما جاءت امرأة تريد منه أن يعلمها كيف تغتسل فعلمها النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قال: (تأخذ فرصة من مسك فتتطهر بها) قطعة من القطن.. ونحو ذلك، فيها طيب من المسك وغيره تنظف بها مكان خروج الحيض لأجل الزوج وإزالة الرائحة، فقالت المرأة: كيف أتطهر بها -لم تفهم المقصود- قال: (تطهري بها، سبحان الله! واستتر بيده على وجهه صلى الله عليه وسلم) هنا تدخلت عائشة أم المؤمنين، قالت: (واجتذبتها وعرفت مراد النبي صلى الله عليه وسلم، فقلت: تتبعي بها أثر الدم) أثر الدم الموجود والباقي تتبعيه فأزيليه بهذه الفرصة الممسكة.

هذا هو نبينا صلى الله عليه وسلم، هذا نبينا الذي لما تزوج وجاء الناس إلى بيته وطعموا طعام الوليمة، أراد عليه الصلاة والسلام بعد ذلك أن يخلو بأهله، لكن هؤلاء لم يخرجوا، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم ثم عاد إلى البيت رجاء أن يكونوا قد خرجوا -من حيائه، ما قال لهم: اخرجوا- فإذا ثلاثة رهط في البيت يتحدثون، وكان النبي صلى الله عليه وسلم شديد الحياء، فخرج منطلقاً نحو حجرة عائشة ، فما أدري أخبرته أو أُخبر أن القوم خرجوا، فرجع حتى إذا وضع رجله في أسكفة الباب -رجل داخلة وأخرى خارجة- أرخى الستر بيني وبينه وأنزلت آية الحجاب، فاستحى صلى الله عليه وسلم أن يطردهم أو يقول لهم: اخرجوا، هكذا كان عليه الصلاة والسلام، هذا هو النبي، وهذا هو الدين، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن لكل دين خلقاً، وخلق الإسلام الحياء).

وبنته صلى الله عليه وسلم كانت تربيتها هكذا، عن أنس رضي الله عنه، أن رسول صلى الله عليه وسلم أتى فاطمة بعبد قد وهب لها، وعلى فاطمة رضي الله عنها ثوب إذا قنعت به رأسها لم يبلغ رجليها، وإذا غطت به رجليها لم يبلغ رأسها، فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم ما تلقى قال: (إنه ليس عليك بأس، إنما هو أبوك وغلامك) وهكذا كانت الصحابيات رضوان الله تعالى عليهن.

لما عرض النبي صلى الله عليه وسلم بيعته -بيعة النساء- تلا الآية عليهن وفيهن هند بنت عتبة ، فأخذ عليهن العهد ألا يشركن بالله شيئاً كما في الآية، ولا يسرقن، ولا يزنين، ولما بلغ: ولا يزنين وضعت يدها على رأسها حياءً، وفي رواية قالت: أَوَتزني الحرة؟ -عجيب أو تزني الحرة! هذا الزنا معروف عند الإماء- فنهرتها عائشة وطلبت منها أن تبايع، وقالت: هكذا بايعنا، بايعي على ما بايعنا عليه.

حياء الصحابة رضوان الله عليهم

وعثمان رضي الله عنه أشد الأمة حياءً بعد النبي صلى الله عليه وسلم، ولذلك قال: (الحياء ملءٌ من الإيمان، وأحيا أمتي عثمان) أشدها حياءً عثمان رضي الله عنه، أمير البررة وقتيل الفجرة، ذو النورين عثمان رضي الله عنه، قال عليه الصلاة والسلام: (ألا أستحي من رجل تستحيي منه الملائكة).

وكذلك كان رضي الله عنه إذا اغتسل، يكون في البيت والباب عليه مغلق، فما يضع عنه الثوب ليفيض عليه الماء وإنما يغتسل بثوبه، يمنعه الحياء أن يقيم صلبه، وكان أبو موسى إذا اغتسل في بيتٍ مظلم تجاذب وحنا ظهره، يمشي منحني الظهر حتى يأخذ ثوبه، مع أنه ليس حوله أحد، ولا ينتصب قائماً حياءً.

وعن أنس قال: [كان أبو موسى الأشعري رضي الله عنه إذا نام لبس ثياباً عند النوم، مخافة أن تنكشف عورته] هكذا كان الصحابة، جاء أحدهم إلى مجلسٍ ممتلئ، فوجد فرجة فجلس والثاني جلس خلفهم استحيا فاستحيا الله منه.

فعلمنا النبي عليه الصلاة والسلام معنى الحياء، فقال صلى الله عليه وسلم: (استحيوا من الله تعالى حق الحياء، من استحيا من الله حق الحياء فليحفظ الرأس وما وعى -ماذا يوجد في الرأس يا عباد الله؟ اللسان والفم والعينين والأذنين- وليحفظ البطن وما حوى -أي: احفظ بطنك من المال الحرام، الحياء أن تحفظ الرأس وما وعى من هذه الأعضاء المجاورة له والواقعة فيه، واحفظ البطن وما حوى- وليذكر الموت والبلاء، ومن أراد الآخرة ترك زينة الحياة الدنيا، فمن فعل ذلك فقد استحيا من الله حق الحياء) حديث حسن، هكذا علمنا صلى الله عليه وسلم.

وقرب لنا الفكرة كيف نستحي من الله، فقال عليه الصلاة والسلام لرجل قال له وصية: (أوصيك أن تستحي من الله كما تستحي من الرجل الصالح من قومك) هذا للتقريب، كيف تستحي من الرجل الصالح من قومك؟ ينبغي أن تستحي من الله أكثر من هذا.

فنسأل الله سبحانه وتعالى أن يرزقنا الحياء، وأن يباعد بيننا وبين الفحش والبذاء، وأن يرزقنا التقوى والتقى والعفاف والغنى، إنه سميع مجيب.

أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.

بعض جوانب الحياء المحمود والمذموم

إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، وأشهد أن لا إله إلا هو وحده لا شريك له، وأشكره سبحانه وتعالى وأحمده، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد النبي الأمي، البشير النذير، والسراج المنير، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.

أيها المسلمون: (الحياء لا يأتي إلا بخير)-هذه العبارة التي قالها النبي صلى الله عليه وسلم لتوضح ماذا ينطوي عليه هذا الخلق، وماذا يتأتى منه، لقد قالها رجل من الصحابة راوياً هذا الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، فقال أحد السامعين وهو بشير بن كعب : مكتوب في الحكمة: إن منه وقاراً ومنه سكينة، يقول الرجل: وجدنا في بعض الصحف عن الأديان السابقة، أن منه وقاراً ومنه سكينة، كأنه يقول: من الحياء ما هو وقار، ومنه ما هو ضعف ومهانة وذل، فقال عمران غاضباً: أحدثك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتحدثني عن صحفك! أي: تباً لك على هذا الخلق وعلى هذا القول، أقول لك: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( الحياء لا يأتي إلا بخير ) وأنت تقول الحياء قسمان، والحياء منه كذا ومنه كذا، لا أحدثك سائر اليوم، حتى تشفع له الناس فرضي بأن يحدثه.

وقد مر النبي صلى الله عليه وسلم على رجل وهو يعاتب أخاه في الحياء، يقول: (إنك لتستحي حتى يقول: إنه قد أضر بك) وأخ يعاتب أخاه يقول: أنت دائماً تستحي، هذا الحياء منعك من أخذ حقوقك وألحق الضرر بك، وكأنه يقرعه على استحيائه الدائم والشديد، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لما مر بهما: (دعه فإن الحياء من الإيمان) فلا تثريب عليه أنه يستحي، وليس عيباً أنه يستحي، الحياء لا يأتي إلا بخير، هذا هو الحياء.

وينبغي هنا أن نعلم الفرق بين الخجل والحياء.

الفرق بين الخجل والحياء

الحياء: خلق جميل يبعث على فعل المحمود وترك المذموم، وهو خير كله، لكن إذا كان شيء يؤدي إلى ترك تعلم الدين والأحكام الفقهية التي يحتاج إليها الإنسان أو ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إذا مر به الإنسان فهذا لا يسمى حياءً وإنما هو خجل مذموم، ولذلك قال العلماء على هذا: يحمل عبارة من قال: لا يتعلم العلم مستحٍ ولا مستكبر، فليس هذا موضع الحياء، أن تحتاج إلى جواب في مسألة شرعية فتستحي، هذا ليس حياءً شرعياً.

عن سعيد بن المسيب أن أبا موسى قال لـعائشة : (إني أريد أن أسألك عن شيء وأنا أستحي منك، فقالت: سل ولا تستح فإنما أنا أمك -لأنها أم المؤمنين- فسألها عن رجل يغشى ولا ينـزل؟ -الرجل يجامع أهله ويطأ لكن من غير إنزال، أي: هل عليه غسل أم لا؟- فقالت: قال النبي صلى الله عليه وسلم: إذا أصاب الختان الختان فقد وجب الغسل).

إذاً: إذا أولج ووطئ ومس الختان الختان فقد وجب الغسل، أنزل أو لم ينـزل، فبينت له الحكم.

وقالت عائشة رضي الله عنها: [نعم النساء نساء الأنصار، لم يمنعهن الحياء أن يتفقهن في الدين] لكن الإنسان أحياناً لا يستطيع المواجهة لظرف وسبب، فلا يسكت على جهل وإنما يوكل غيره في السؤال، كما فعل علي رضي الله عنه قال: كنت رجلاً مذاءً -أي: كثير المذي- فأمرت المقداد أن يسأل النبي صلى الله عليه وسلم -لأنه كان يغتسل رضي الله عنه من المذي حتى تشقق ظهره من شدة البرد- فقال عليه الصلاة والسلام لما سأله المقداد ، فقال: فيه الوضوء، يغسل ذكره وأنثييه، ويزيل ما أصاب الثياب منه ويتوضأ، هذا هو حكم المذي.

لماذا استحيا علي من السؤال المباشر؟

قال علي في الرواية: [كنت رجلاً مذاءً، فأمرت رجلاً أن يسأل النبي صلى الله عليه وسلم لمكان ابنته مني]؛ لأن بنت العالم تحته -عنده فاطمة - يستحي أن يقول: إنني امرؤ مذاء من عنده بنت النبي صلى الله عليه وسلم، لذلك استحيا أن يسأل، لكن هل سكت على جهل؟ كلا. وإنما طلب من غيره أن يسأل له.. وهكذا وقع وأخذ الجواب.

وكذلك أيها الإخوة: النهي عن المنكر إذا رأيت منكراً أمامك، كثير من الناس لا ينكر المنكر، ويقول: استحييت وما استطعت أن أتكلم، هذا ليس بحياء، هذا خجل مذموم، وهذا ذل ومهانة وضعف وعجز، هذا يُلام عليه ويؤاخذ به، الله سبحانه وتعالى أحق أن يستحيا منه، ينبغي إذاً أن تجهر بالإنكار وتعلن الإنكار؛ وهكذا كان الأئمة وأهل العلم.

قال ابن مهدي رحمه الله عن سفيان الثوري: ما كنت أستطيع أن أنظر إلى سفيان استحياءً وهيبة منه، ومع ذلك فكان في مواقع الحمية والغضب لدين الله لا يعرف الاستحياء من الحق، حتى قال يحيى: "ما رأيت رجلاً قط أصفق وجهاً من الله عز وجل من سفيان الثوري"، أي: إذا صار الجد والإنكار أصفق وجه -أسمك وجه- أمام أهل المنكر.

ولذلك أنكر على المهدي أموراً جساماً، حتى قال وزير المهدي : تتكلم على أمير المؤمنين وأنت بحضرته بمثل هذا الكلام، فقال سفيان : اسكت! ما أهلك فرعون إلا هامان، قال: يا أمير المؤمنين! ائذن لي أن أضرب عنقه، قال له الخليفة: اسكت ما بقي على وجه الأرض من يستحيا منه غير هذا.

ارتكاب الحرام باسم الحياء

وبعض الناس يرتكبون الحرام باسم الحياء، كيف ذلك؟ يقول رجل: مدت المرأة الأجنبية يدها للمصافحة، قال: استحييت وصافحت، فما شاء الله على هذا الاستحياء! هل هذا حياء أم قلة حياء؟ ألم يقل النبي صلى الله عليه وسلم: (لأن يطعن في رأس أحدكم بمخيط من حديد خير من أن يمس امرأة لا تحل له) كيف تقول: مدت يدها فاستحييت وصافحت.. أين الحياء؟ الحياء ألا تصافح ولا تمد يدك بل تنكر هذا المنكر.

دعوى الاستحياء من الحق

وكذلك أيها المسلمون: ينبغي ألا نستحي من الحق، فلو أن إنساناً استدان منك مالاً فأردت أن تثبته أثبته، قال الله: إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً فَاكْتُبُوهُ [البقرة:282] فلا تقل: استحييت، قل له: إن هذه حياة وموت، وإن هذا أدعى لضبط الحقوق، وقد أمر الله به، أود وأريد وأرغب منك أن نكتبه، لا حرج مطلقاً.

الحياء إذاً: فعل المحمود وترك المذموم، الحياء عكس البذاء، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الحياء من الإيمان، والإيمان في الجنة، والبذاء من الجفاء، والجفاء من النار) هذا هو البذاء: الكلمات النابية الجافية.. ونحو ذلك.

وكذلك من جوانبه: أن يستتر الإنسان كما قال النبي عليه الصلاة والسلام للصحابي معاوية بن حيدة لما سأله: (قلت: يا رسول الله! عوراتنا ما نأتي منها وما نذر؟ قال: احفظ عورتك إلا من زوجتك أو ما ملكت يمينك، قلت: يا رسول الله! إذا كان القوم بعضهم في بعض؟ قال: إن استطعت ألا يرينها أحد لا ترينها أحد -العورة- قلت: يا رسول الله! إذا كان أحدنا خالياً هل له أن يتجرد؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: الله أحق أن يستحيا منه من الناس) فهذا ندب إلى ستر العورة، حتى لو كان الإنسان خالياً، نعم إنه يحتاج إلى كشفها عند إتيان أهله أو غسله.. ونحو ذلك، لكن إذا زالت الحاجة ستر العورة.

حياء الصحابة وحياء الناس اليوم

وقد تقدم فعل بعض الصحابة رضوان الله عليهم عند غسلهم وعند نومهم، قارنوا بين هذا الخلق الآن وبين ما يحدث في المجتمع من السفور والانحطاط الأخلاقي والجرأة على الرجال، وانطلاق النساء في الكلام، واستخدام الألفاظ البذيئة في المجالس العامة، وهذه المسرحيات والتمثيليات التي يعرض فيها الاختلاط، تخرج المرأة سافرة أمام آلاف المتفرجين في القاعة، شيء عجيب لو فكر فيه الإنسان فعلاً يصاب بصدمة من زوال الحياء من المرأة التي ينبغي أن تستحي من الرجل.

فنسأل الله سبحانه أن يرزقنا الحياء، ونسأله أن يباعد بيننا وبين الحرام.

اللهم أغننا بحلالك عن حرامك، وبفضلك عمن سواك يا رب العالمين.

اللهم انصر من نصر الدين، واخذل من خذل المسلمين، اللهم إن اليهود قد طغوا في البلاد فأكثروا فيها الفساد، فعاجلهم بنقمة من عندك، وأنزل عليهم سخطك وعذابك الذي لا يرد عن القوم الكافرين.

سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , الحياء للشيخ : محمد المنجد

https://audio.islamweb.net