معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! هذه الآية المباركة الميمونة اشتملت على عشر صفات فمن وجد هذه الصفات في نفسه، فليحمد الله على ما أولاه وأعطاه، إذ أعده للجنة دار النعيم، ومن وجد نفسه غير متصف بها أو ببعضها دون البعض فعليه أن يتوب إلى الله ويرجع إليه، ويسلم قلبه له ليهديه؛ ليكمل ويسعد كما يكمل ويسعد عباد الله الصالحين.
وسبب آخر أيضاً في نزول هذه الآية، وهو: أن بعض المؤمنات أتين إلى عائشة رضي الله عنها وقلن لها: قولي للرسول لم يذكر الرجال فقط في القرآن ولم يذكر النساء؟ فدائماً يقول: (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ))! وهكذا، والنساء ما يذكرن، فهل هذا نقص لهن؟ فأنزل الله هذه الآية، وقرأها الرسول صلى الله عليه وسلم، فذكر المؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات بالصفات العشر، فاطمأنت نساء المؤمنات وسكنت. وهيا بنا نتدارس هذه الصفات العشر.
والصدق صفة من صفات أولياء الله الفائزين برضا الله. والصدق ضده الكذب والخيانة والغش، والصادق هو: الذي لا يكذب أبداً، لا مع الله ولا مع عباده ولا مع نفسه، والذي لا يعرف إلا الحق، ولا ينطق إلا بالصدق أبداً. والصادقة كالصادق.
ومجالات الصبر ثلاثة: المجال الأول: صبر على طاعة الله بفعل أوامره على مدى الحياة، فلا نترك واجباً أوجبه.
المجال الثاني: صبر على طاعة الله بترك معاصيه، فما حرمه من اعتقاد أو قول أو عمل لا نأتيه ولا نقوله ولا نفعله، بل نحبس أنفسنا عنه. فهو صبر على الطاعة حتى لا تفارقها، وصبر عن المعصية حتى لا تغشاها ولا تأتيها.
المجال الثالث: صبر على البلاء بالتسليم لله والرضا، فإذا ابتلاك بفقر .. ابتلاك بمرض .. ابتلاك بخوف .. ابتلاك بعجز فاصبر واستسلم لله، وفوض أمرك إليه، ولا تسخط ولا تقنط ولا تجزع، وأكثر من الدعاء والاستعانة بالله عز وجل. هذا الصبر على البلاء.
وليس كل أحد يصبر، فإذا ابتلاك الله بفقر فاصبر، فلا تسرق ولا تخدع، ولا تغش ولا تكذب، ولا تترك طاعة الله ولا عبادته. ومن الناس من إذا ابتلاه الله بمرض لا يعرف إلا الله، ولا يستغيث إلا به، ولا يلجأ إلا إليه، ويفوض أمره إليه، وكذلك إذا ابتلاه بخوف في مدة من الزمن يصبر ويحتسب، حتى ينقذه الله وينجيه.
والصبر هو: حبس النفس وهي كارهة على طاعة الله حتى ما تعصي الله، وحبس النفس بعيدة عن معاصي الله، فلا تعص الله بفعل محرم، أو غشيان ذنب من الذنوب.
وصبر النفس هو: حبسها على البلاء، فلا تجزع ولا تغضب ولا تسخط على الله عز وجل، بل ترضى بقضاء الله وتسلم له، وحسبها أن تقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد.
وهذا الخشوع يكون في العبادات كلها، فليكن الصائم خاشعاً، والمصلي خاشعاً، والمتصدق خاشعاً، ولا يفارقه الخشوع أبداً. والخاشعات كالخاشعين. فالخاشعين هم: الذين يخشعون بقلوبهم لله عز وجل عند أداء عباداته وطاعته.
فقوله: وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ [الأحزاب:35] هم المزكون والمزكيات، والمنفقون في سبيل الله النفقات الواجبة والمستحبة من النوافل.
وكان داود عليه السلام مع الحكم والولاية والدولة يصوم يوماً ويفطر يوماً، ورغب النبي صلى الله عليه وسلم في صيام الخميس والاثنين لمن قدر على ذلك، وكذلك صيام ثلاثة أيام من كل شهر، فضلاً عن رمضان العظيم. والصائمات كالصائمين. والصائم الذي يمسك عن الطعام والشراب لا ينفعه ذلك إن لم يمسك عن الغش والخداع، والكذب والنفاق والقول الباطل. ولذلك عندما يصوم يمسك عن الطعام والشراب والنكاح، ويمسك عن كل قول باطل ونظرة محرمة، وفكرة سيئة وعمل فاسد، حتى يكون صائماً بالفعل.
وقوله: الْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ [الأحزاب:35]، يحفظونها من الوقوع في الزنا أو اللواط، والمرأة تحفظ فرجها من أن تقع أيضاً في زنا. وكذلك وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ [الأحزاب:35] عن كشفها وتعريتها وإبدائها وإظهارها للناس، فكشف العورة حرام، ولا يحل أبداً لمؤمنة أن تكشف عورتها، ولا لرجل أن يكشف عورته، بل لابد من الحفاظ على العورات، وسترها وعدم إظهارها. فقوله: وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ [الأحزاب:35]، أي: يحفظونها من الزنا واللواط، والحافظات النساء من النساء يحفظن فروجهن من الزنا، فلا يحل لها كشفها إلا زوجها، ومن كانت أمة فلمن يملكها.
وكذلك المرأة تذكر الله وإن كانت حائضة وإن كانت نفساء، فذكر الله بابه مفتوح للمتوضئ ولغير المتوضئ، وللجالس وللماشي، بل وللمضطجع والنائم، فالكل يذكرون الله، كما قال تعالى: فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ [النساء:103]. وأهل الذكر محفوظون بحفظ الله، ومعصومون بعصمة الله، والتاركون لذكر الله المعرضون عن ذكر الله والناسون له والغافلون عنه هم الذين يتورطون في كل الذنوب والآثام، ولا يخرجون منها.
وجزاء أصحاب هذه الصفات من المؤمنين والمؤمنات يقول تعالى فيها: أعد الله لهم ، أي: هيأ وأحضر وأعد لهم مغفرة لذنوبهم إن كانت لهم ذنوب، وأجراً عظيماً لا يقدر قدره ولا يعرف مداه، ألا وهو جوار الله في مراتب النبيين والصديقين والشهداء والصالحين في الجنة دار النعيم المقيم. فقولوا: اللهم اجعلنا منهم، واعملوا على أن تكونوا منهم. فهذه عشر صفات فقط، وليست إحدى عشر صفة ولا عشرين، بل هي عشر صفات، فاسمعوها، قال تعالى: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا [الأحزاب:35]. فلهم أولاً: محواً لذنوبهم حتى يطهروا ويطيبوا، ثم ينزلهم منازل الأبرار في الجنة دار النعيم المقيم. اللهم اجعلنا منهم.
[ هداية هذه الآية:
أولاً: بشرى المسلمين والمسلمات بمغفرة ذنوبهم ودخول الجنة إن اتصفوا بتلك الصفات المذكورة في هذه الآية، وهي عشر صفات، أولها الإسلام، وآخرها ذكر الله تعالى ] فمن هداية هذه الآية القيمة المباركة البشرى التي تحملها للمؤمنين والمؤمنات إنهم أسلموا قلوبهم ووجوههم لله وصدقوا الله فيما أخبر به، ثم أتوا بهذه الصفات وأكملوها بذكر الله عز وجل الكثير.
[ ثانياً: فضل الصفات المذكورة ] من الصيام والصلاة، والقيام وإيتاء الزكاة، وحفظ الفروج [ إذ كانت سبباً في دخول الجنة بعد مغفرة الذنوب ] فيكفيها أنها هيأ الله بها لأهلها الجنة دار النعيم المقيم بعد أن يغفر ذنوبهم، ويمحو سيئاتهم.
[ ثالثاً ] وأخيراً: [ تقرير مبدأ التساوي بين الرجال والنساء في العمل والجزاء، في العمل الذي كلف الله تعالى به النساء والرجال معاً، وأما ما خص به الرجال أو النساء فهو على خصوصيته، لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ [النساء:32]. والله يقول الحق ويهدي السبيل ].
والمساواة بين الرجال والنساء في الإسلام في هذه العبادات والطاعات كلها، وهناك ما اختص الله به الرجال كالجهاد دون النساء، واختص النساء بعمارة البيت وتربية الأولاد، مقابل عمل الرجال في المزرعة وفي الجهاد. فما كان من الصفات العامة كهذه فالمساواة عامة فيها بين النساء والرجال، ومن ذلك الجنة دار النعيم المقيم، وما اختص الله به النساء من بعض الأعمال أو الرجال ببعض الأعمال فللرجل ما كسب وللمرأة ما كسبت.
وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر