أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نفوز بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).
وها نحن مع أربع آيات من سورة يوسف، فهيا بنا لنصغي مستمعين تلاوتها مجودة.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. قَالُوا يَا أَبَانَا مَا لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ * أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ * قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ * قَالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذًا لَخَاسِرُونَ [يوسف:11-14].
معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! أذكركم بما سبق أن علمتم: أن يهود بعثوا إلى رجال مكة وقالوا لهم: سلوه عن رجل فقد ولده فعمي بصره، من هو هذا الرجل؟ وأين كان؟ من باب الامتحان، فأنزل الله تبارك وتعالى سورة يوسف بكاملها وأحداثها أحداث أربعين سنة.
وبدأت الأحداث بقول يوسف عليه السلام كما حكى ذلك رب العزة والجلال: يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ [يوسف:4].
رأى رؤيا منامية وهو في الثانية عشرة من عمره فقصها على والده يعقوب النبي الرسول عليه السلام: يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ [يوسف:4] بعد أربعين سنة تتجلى هذه الحقيقة ويسجد إخوة يوسف بين يديه ويسجد أبوه وأمه كما كان في الرؤيا.
ويعقوب عليه السلام عرف أن لهذه الرؤيا شأناً عظيماً، فما كان منه إلا أن قال لابنه يوسف: لا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا [يوسف:5] ومن ثم أخذ يعقوب لا يكاد يفارقه ابنه يوسف من حبه الذي استولى على قلبه؛ لعلمه بأن له شأناً عظيماً وسيكون نبياً رسولاً وسيكون له شأن عظيم.
هنا نظر الإخوة -وكانوا أحد عشر أخاً ليوسف- فرأوا انصراف والدهم عنهم فتألموا لذلك وكربوا وحزنوا: قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ [يوسف:8] وهكذا اتهموا يعقوب بأنه مخطئ وأنه يسير في الضلال.
ومن هنا بدأت المؤامرة وبدأ الكيد، فتآمروا سراً الليالي العديدة والأيام: كيف نستطيع أن نجذب وجه والدنا إلينا ونصرفه عن يوسف؟ فكروا فتم بينهم أنهم إما أن يقتلوا يوسف، وإما أن يرموه في الصحراء؛ ليبعد عن والده، ورأوا أن هذا هو الحل، ورأوا ارتكاب أخف الضررين وهو أن يلقوه في بئر، وعزموا على الفعل وعلى التوبة بعد ذلك؛ إذ قالوا: وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ [يوسف:9]، تابوا قبل أن يباشروا الذنب، وهذه حسنة إذ عزموا على التوبة؛ إذ رأوا أن بقاء يعقوب بعيداً عنهم يحزنهم ويكربهم ويذهب ما في نفوسهم، فكيف نتخلص من هذه؟ نبعد عنه يوسف. واتفقوا على إبعاده، قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ [يوسف:10] هذا في المشاورة التي تمت، وبالفعل عزموا على هذا.
هنا قَالُوا يَا أَبَانَا مَا لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ [يوسف:11]، وفي الآية قراءات، منها: (لا تأمنُنا)، ومنها: (لا تأمنا)، وفي هذه القراءة -وهي القراءة المتواترة- وجه بالروم ووجه بالإشمام عند الجمهور، وقرئت (لا تيمنا) بكسر على لغة بني تميم في المضارع، والأصل هو: لا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ [يوسف:11]، لا تثق فينا أننا نحفظه ونرعاه كما يرعى بعضنا بعضاً.
مَا لَكَ [يوسف:11]، أيُّ شيء جعلك لا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ [يوسف:11]، بمعنى: نحافظ عليه ونحفظه ونؤديه إلى ما ينفعه ونعطيه ما ينفعه، ونبعده عما يضره، شأن الناصح، فلسنا بغاشين له ولا بكارهين له، وهذه العبارة فيها معنى القسم: وإنا -والله- له لناصحون.
وقولهم: يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ [يوسف:12] هل اللعب جائز؟ كيف يقولون: وَيَلْعَبْ [يوسف:12]؟
والجواب: أما اللعب المأذون فيه فنعم، يريدون أن يخرج معهم للسباق وللنضال والرمي، هذا معنى قولهم: (يلعب)، ولكن لا يلعب اللعب الباطل، والرسول صلى الله عليه وسلم أذن لنا في اللعب في السباق والرماية والمصارعة أيضاً، والرسول صارع، وقال لـجابر بن عبد الله : ( هلا تزوجت بكراً تلاعبها وتلاعبك؟! ).
والشاهد عندنا: لو قال قائل: كيف يقولون: يلعب؟
فالجواب: لأنهم أطفال.. يلعبون في الصحراء، يجرون ويصيحون ويذبحون الطيور ويأكلون، هذا الذي أرادوه، أن يخرجوا للتنزه والراحة فيما بينهم، هكذا قالوا لوالدهم: يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ [يوسف:12].
وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [يوسف:12]، هذا عهد قطعوه على أنفسهم وهم كاذبون؛ لأنها مؤامرة، ولو قالوا غير ذلك فلن يعطيهم يعقوب ولده، ولكن ما دام أنهم اتفقوا على أن يلقوه في غيابة جب على مسافة ثلاثة أيام من البلاد؛ فلابد أن يقولوا مثل هذا: ناصحون.. حافظون وما إلى ذلك، وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [يوسف:12].
ثانياً: وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ [يوسف:13]، مجرد الذهاب به وفصله عني وإبعاده عني يحزنني، لكن كيف أيضاً إذا أكله الذئب أو مات أو هلك؟
إِنِّي لَيَحْزُنُنِي [يوسف:13]، أي: يدخلني في حزن وهم وغم.
والحزن جائز، والرسول صلى الله عليه وسلم لما توفي ولده إبراهيم قال: ( إن العين لتدمع، والقلب ليحزن، وإنا بفراقك يا
إذاً قال: وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ [يوسف:13]، ما الذئب هذا؟
وبالمناسبة أذكر لأهل الحلقة قصة سعيد أكيلة الذئب، هذا سعيد أكيلة الذئب من صحراء المغرب، وقعت قصته قبل الدولة السعودية وقبل أيام الأشراف، تسلط عليه ذئب فكاد يقتله ومزق جسمه، فأدركته والدته حياً فقالت: يا رب! إن حيي سعيد ولم يمت فهو لك، أبعث به إلى حرمك يخدمك، وبالفعل سلم وما مات، وكان وجهه كما رأيناه، وجيء به إلى مكة فبيع عبداً أيام كانوا يسرقون العبيد.
والشاهد عندنا: أننا كنا نحبه، فعرفنا أن الحب لله وليس هو الحب لجماله ولا للمال، والله! إنه لأبشع ما يكون في عينيه ووجهه، ونحن نكاد ندخله في قلوبنا من محبته، وكان يأتي من العنبرية وعصاه في يديه يركض طول العام، فسميناه سعيداً أكيلة الذئب، أكله الذئب لكنه ما مات رحمة الله عليه.
والذئب قرئ: الذيب بالتخفيف، وفي قراءة: ذئب بالهمز، والكل صحيح، والذئب مأخوذ من: تذاءبت الريح: إذا ارتطمت يميناً وشمالاً، وقدام وراء، والذئب ماكر خبيث شرس.. هذا شأنه، يأكل الإنسان إلى الآن، لو ظفر بولد لأكله.. أو برجل ميت نائم لأكله، وهو من أشرس أنواع الحيوانات وأشدها أذى، ولهذا قال يعقوب عليه السلام: وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ [يوسف:13]، لا أنه بين أيديكم وأنتم تشاهدونه، لا أتهمكم بهذا، ولكن تكونون تلهون وتلعبون.. تطبخون، فتغفلون عنه فيأكله الذئب، فلهذا أنا حزين، ولا أرغب أن أعطيكم يوسف تذهبون به.
أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [يوسف:12]، لا يمسه سوء ولا يناله مكروه أبداً؛ لأننا أقوياء وجماعة قوية أحد عشر رجلاً. فبماذا أجابهم؟
قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي [يوسف:13]، أي: يوقعني في الحزن أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ [يوسف:13]، لا يريد أن يفارقه، لماذا؟ لحبه له. لماذا أحبه دون إخوته؟ للرؤيا التي رآها: إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا [يوسف:4] كواكب السماء وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ [يوسف:4]، هذه هي الرؤيا، وستتم هذه.
فمن هنا قال: إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ [يوسف:13]، فأجابوه قائلين: قَالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذًا لَخَاسِرُونَ [يوسف:14]، لسنا بشيء.. نخسر حياتنا كلها، كيف يتم هذا؟ وهم في ذلك كاذبون غير صادقين، لكنهم عازمون على إبعاده.
وفي الدرس الآتي يبين لنا تعالى كيف أخذوه.
قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين: [ معنى الآيات:
ما زال السياق في قصة يوسف، إنهم بعد ائتمارهم] أي: تآمرهم [ واتفاقهم السري على إلقاء يوسف في غيابة الجب طلبوا من أبيهم أن يترك يوسف يخرج معهم إلى البر كعادتهم للنزهة والتنفه، وكأنهم لاحظوا عدم ثقة أبيهم فيهم فقالوا له: مَا لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ [يوسف:11]، أي: محبون له كل خير، مشفقون عليه أن يمسه أدنى سوء.
أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ [يوسف:12]، أي: يرتع في البادية، يأكل الفواكه ويشرب الألبان ويأكل اللحوم ويلعب بما نلعب به من السباق] على الأرجل [ والمناضلة] بالعصي أو بالحجارة [والمصارعة ] فيما بينهم.
وللقرطبي هنا رواية، يقول: لما خرجوا خرجوا على أرجلهم وأخذوا يوسف على عواتقهم إظهاراً لحبه والمحافظة عليه.
[ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [يوسف:12] من كل ما قد يضره أو يسيء إليه. فأجابهم عليه السلام قائلاً: إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ [يوسف:13]، أي: إنه ليوقعني في الحزن وآلامه ذهابكم به، أي: بيوسف، وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ [يوسف:13] في رتعكم ولعبكم. فأجابوه قائلين: لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذًا لَخَاسِرُونَ [يوسف:14]، أي: لا خير في وجودنا ما دمنا نغلب على أخينا فيأكله الذئب بيننا. ومع الأسف فقد أقنعوا بهذا الحديث والدهم وغداً سيذهبون بيوسف لتنفيذ مؤامرتهم الدنية ] والعياذ بالله تعالى.
من هداية الآيات:
[ أولاً: تقرير قاعدة (لا حذر مع القدر)، أي: لا حذر ينفع في رد المقدور ].
لا حذر مع القدر، عمم هذه الكلمة بين الناس: لا حذر مع القدر، أي: لا حذر ينفع في رد المقدور الذي كتبه الله عز وجل، وقد تم هذا في يوسف.
[ ثانياً: صدق المؤمن يحمله على تصديق من يحلف له ويؤكد كلامه ] بالأيمان، وأنتم تشاهدون هذا بينكم، إذا حلف لك مؤمن تصدقه لاعتيادك الصدق ولعيشك عليه، فصدقهم يعقوب لما حلفوا له مع الشك فيهم، ومع هذا ما قال: أنتم كاذبون.
[ ثالثاً: جواز الحزن وأنه لا إثم فيه ]، الحزن جائز، فإذا فقد الإنسان عزيزاً فحزن فلا بأس وليس بحرام، [ وفي الحديث: ( وإنا بفراقك يا إبراهيم
هذا ولد نبينا صلى الله عليه وسلم من مارية القبطية ، مات وهو رضيع؛ إذ كل أبنائه من أولاد خديجة رضي الله تعالى عنها إلا إبراهيم فإنه من مارية القبطية ، وباقي نساء الرسول ما ولدن له لا حفصة ولا عائشة ولا فلانة ولا فلانة، فـخديجة في مكة ولدت أولادها الخمسة بنين وبنات، ومارية القبطية التي أهديت إليه أنجبت له إبراهيم ومات إبراهيم وهو رضيع.
[ رابعاً: أكل الذئب للإنسان إن أصاب منه غفلة واقع وكثير أيضاً ].
أكل الذئب للإنسان إن أصاب منه غفلة كثير جداً، وإن كان في هذه الأيام وجود هذه الأنواع من السلاح يطارده.
والله تعالى أسأل أن ينفعنا بما ندرس ونسمع، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر