في هذا الدرس تجد بياناً مفصلاً لما سبق.
وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
إنني أشكر الله الذي جمعني بكم في هذا المجلس الطيب العطر الطاهر، الذي هو من آثار الإخاء الذي أقامه محمد عليه الصلاة والسلام، ثم أشكر من كان سبباً في هذا الموسم الثقافي، ومن كان سبباً في هذا اللقاء الطيب بكم.
إن عنوان المحاضرة هو: (إخاء غير مفتعل).
اخترت هذا العنوان لسببين:
السبب الأول: لكثرة إهمال الناس في للإخاء، ولكثرة الخطيئة بين الأصفياء.
السبب الثاني: حاجتنا -بالأخص- في هذه الفترة الحرجة من فترات التاريخ، التي تتطلب منا أن نكون صفاً واحداً كالبنيان الواحد؛ يشد بعضه بعضاً، صفوفاً متراصة كصفوفنا في الصلاة.
أما عناصرها فإليكم إياها:
1- روابط الناس الأرضية.
2- أسس رابطة السماء التي جاء بها رسول الهدى عليه الصلاة والسلام.
3- مدرسة تأليف القلوب، من هم طلاَّبها وأشياخها؟
4- مواد هذه المدرسة وما يُدَّرس فيها؟
5- المنهج الربَّاني قاسم مشترك بين القلوب.
6- مادة البذل بين الإخوة في الله.
7- وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ [الحشر:9].
8- مادة حقوق الإخاء، وهي متشعبة سوف أذكرها إن شاء الله.
9- أمراض الإخاء، وما هو سبب تصدع هذا البناء؟
10- الفوارق بين الصحابة وغيرهم في مبدأ الإخاء.
11- واجبنا نحن الخلف بعد السلف في الأخوة، وما هي الإيرادات على هذا الموضوع؟ والله المستعان!
الإنجاز الأول: بناء المسجد للصلاة.
والإنجاز الثاني: توحيد القلوب وتقويتها بالصلة مع الله.
فلما بنى مسجده عليه الصلاة والسلام أسسه على التقوى، ولما ألَّف بين القلوب ألَّف بينها على التقوى، قال سبحانه: أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [التوبة:109].
اجتمع الناس قبله عليه الصلاة والسلام على روابط، فمنهم من جعل رابطة الدم هي الرابطة الوحيدة التي تجمع الناس، ومنهم من رضي باللون، فمايز بين الناس؛ بين الأبيض والأحمر والأسود.
ومنهم من رضي بالوطن؛ فعشق الوطن وعبده، وتغزل به وقبَّل ترابه.
ومنهم من جعل الجنس رابطته.
وأما محمد عليه الصلاة والسلام فأتى برابطة لا تفصم، ولا تقطع، ولا تموت، ولا تمرض؛ لأنها نزلت من العرش، من عند الرحمن الذي على العرش استوى، والله هو الذي أملك وهو الذي أنزل، فأول الرابطة والحبل عند الله، وآخر الحبل في قلوب المؤمنين، فامتن الله عليهم بقوله: وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [الأنفال:63] فله الحمد والشكر أن آخى بين هذه الأمة وألف بين قلوبها.
الثاني: انتصار هذا الرابطة بين الدنيا والآخرة.
فهي ليست رابطة أرضية ولا اشتراكية، ولا شيوعية، ولا قومية، ولا بعثية، ولا ناصرية، حدودها القبر، فهي تصل إلى القبر ثم تنتهي، أما رابطتنا فقبل القبر وفي القبر وبعد القبر، وحتى نصل إلى الله.
في كفك الشهم من حبل الهدىطرفٌ على الصراط وفي أرواحنا طرف |
سعد وسلمان والقعقاع قد عبروا إياك نعبد من سلسالها رشفوا |
فهي رابطتنا التي تصلنا بالله، ولذلك ذكر الله هذه الرابطة، ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يقول الله عز وجل يوم القيامة: أين المتحابون بجلالي؟ اليوم أظلهم في ظلي يوم لا ظل إلا ظلي).
أين المتحابون بجلالي؟ أين أهل القلوب المتعانقة والأرواح المتآخية؟
اليوم جزاؤهم وثوابهم أن يظلوا في ظل الله يوم لا ظل للكيانات والأنظمة الوضعية، فهذه ميزة الرابطة.
الثالث: أنها رابطة ذات مقتضيات ومتطلبات، القيام بها واجب، وتركها حرام منكر.
ومن أتى بهذه الواجبات؟ هو محمد عليه الصلاة والسلام.
ما هو ثمرات هذا الإخاء؟ أموائد المجتمع عليها؟ أم تحقيق طموحات أرضية؟ أم حكم بلد؟ أم حزب له أطماع اقتصادية؟
لا. ثمرته عقيدة، لأن الأخوة من أوثق عرى الإيمان؛ قال سبحانه: الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ [الزخرف:67].
وعن ابن عمر موقوفاً عليه قال: [[والذي نفسي بيده! لو أنفقت أموالي غلقاً غلقاً في سبيل الله، وصمت النهار لا أفطره، وقمت الليل لا أنامه، ثم لقيت الله لا أحب أهل الطاعة، ولا أبغض أهل المعصية؛ لخشيت أن يكبني الله على وجهي في النار]].
فأوثق عرى الإيمان أن تحب في الله وتبغض في الله، فهذه ثمرتها، وبيَّن صلى الله عليه وسلم ذلك؛ فقال كما في الصحيحين عن أنس: (ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان ومنها: أن يحب المرء لا يحبه إلا لله) لا لجنسه، ولا لأسرته، ولا لنسبه، ولا لماله؛ ولكن لأنه عبدٌ لله؛ ولأنه قريب من الله.
وقد ذكر شيخ الإسلام رحمه الله في كلامه عن الولاء والبراء والحب والبغض: أن هذا الحب نسبي يتجزأ، وأنك تحب هذا بمقدار قربه من الله، وتبغضه بقدر ما فيه من معصية، فقد يجتمع في الشخص الواحد حب وبغض، تحبه من جانب طاعته، وتبغضه من جانب معصيته:قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً [الطلاق:3].
ولا يجوز الإسراف في البغض ولا في الحب، وهذا مذهب متطرف لايرضاه الله، وكثير من الناس يعتنقونه، حتى في صفوف طلبة العلم والدعاة، فإن رضي عن شخص غض عن سيئاته، وإن غضب على شخص ترك حسناته ونسيها، وهذا خطأ، وهناك حديث في الأدب المفرد وهو من كلام علي رضي الله عنه -ولو أن بعض أهل العلم يراه من كلام الرسول عليه الصلاة والسلام- يقول: [[أحبب حبيبك هوناً ما؛ فعسى أن يكون بغيضك يوماً ما، وأبغض بغيضك هوناً ما؛ فعسى أن يكون حبيبك يوماً ما]]. فالاعتداء في الحب يعمي عن معرفة النقص، والخطأ والاعتداء في البغض يعمي عن معرفة المحاسن، وكلا هذين الطرفين خطأ، والوسط هو المطلوب: فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [البقرة:213].
ولقد جعل الله عز وجل ميزاناً للإخاء، وميزاناً للحكم، وميزاناً للعدل بين الناس، فيما يسمى مبدأ الجرح والتعديل، فقال في العدو: وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى [المائدة:8] وقال في القريب: شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ [النساء:135].
فالقريب كل القرب لا تحملك قرابته لك أن تنسى سيئاته، والبعيد كل البعد لا تحملك عداوتك له أن تنسى حسناته؛ بل العدل هو المطلوب وهو الميزان الذي أنزله الله لأفكار ومعتقدات الناس وحكمهم، وأنزل معه السيف.
وليس هذا من أجل الكلمة فحسب، بل لقائلها، فالذي قالها محمد عليه الصلاة والسلام؛ قالها لأحد طلابه وتلاميذه، وتواضع في جلالة قدره وقال: يا أخي! فهي أخوة الإيمان.
ولما أراد عليه الصلاة والسلام أن يتزوج عائشة قال أبو بكر: (يا رسول الله! كيف تتزوجها وأنت أخي؟ -لأن
قام عليه الصلاة والسلام بهذه المدرسة؛ فصار الأخ يحمل روح أخيه، وصاروا أعظم مما قال الشاعر السني الإيراني السعد الشيرازي:
قال لي المحبوب لما زرته من ببابي قلت بالباب أنا |
قال لي أخطأت تعريف الهوى حينما فرقت فيه بيننا |
ومضى عامٌ فلما جئته أطرق الباب عليه موهنا |
قال لي من أنت قلت انظر فما ثمَّ إلا أنت بالباب هنا |
قال لي أحسنت تعريف الهوى وعرفت الحب فادخل يا أنا |
وهذه وحدة الصوفية، إنما وحدة الإيمان أن تكون أنت أخاك في مظهرك ومخبرك، وتذب عنه وتحبه وتدافع عنه، وتعيش آلامه وطموحاته.
فلا تلفيق ولا ترقيع، إنما هو صفاء، يُعلِّمهم عليه الصلاة والسلام بمنهجه، ثم يجمعهم ولا يهمه الكثرة، لكن بعض الناس يجمع، ويقول: لا تأت بأمور تفرق الجمع وربما كان ما يريك أن تتركه من المرتكزات الأساسية.. وإنما اجمع اجمع، وهؤلاء غثاء كغثاء السيل، فالرسول صلى الله عليه وسلم بدأ يبني مجتمعاً لبنةً لبنةً: زيد مولى، وأبو بكر حر، وعلي صبي، وخديجة امرأة، ثم بنى منهم لبنات الرجال والموالي والصبيان والنساء؛ حتى اكتمل البناء: يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ [الفتح:29].
وهذا بناؤه عليه الصلاة والسلام الشامخ العظيم الذي تركه في الناس.
أما التجميع على غير منهج رباني، فرأيناه في المجتمعات التي جمعت الناس على مذاهب وضعية، أو على نحل أرضية، ورأينا كيف تبددوا، بل لما دخل الناس زرافاتٍ ووحداناً، ودخلوا في دين الله أفواجاً؛ فهؤلا مسلمة الفتح لم يتلقوا تربية كتربية أبي بكر وعمر، ولا تلقوا تعاليم كتعاليم أبي بكر وعمر، فأول من فر في حنين هم مسلمة الفتح، ويقول أبو سفيان: والله لا يردنا اليوم إلا البحر.
ويقول أخٌ لـصفوان بن أمية: الآن بطل السحر، أما أبو بكر وعمر، فصمدوا في المواقف إلى آخر لحظاتهم وأنفاسهم رضوان الله عليهم؛ لأن البناء كان وثيقاً ضخماً، وكان مبنياً على تقوى من الله.
فأي إخاءٍ بعد هذا الإخاءٍ؟ هل هي بسمة يجود بها أو جلسة أو شيء من طعام؟ المال والأهل يقاسمه وهو صادق.
أبو بكر في سقيفة بني ساعدة يريد أن يُعبِّر عن هذه المشاعر، بعد أن كاد الخلاف يودي بحياة الصحابة وحياة المجتمع، وأراد الأنصار أن يكون منهم خليفة ومن المهاجرين خليفة، وهذا خطأ، فلا يستوي سيفان في غمد، فحضر أبو بكر -وكان ملهماً موفقاً مؤيداً خطيباً فصيحاً فقام يشكر الأنصار على الأيادي البيضاء وحقوق الإخاء، فقال: يأيها الأنصار! جزاكم الله عنا خيراً، واسيتم وكفيتم وآويتم ونصرتم! والله يا معشر الأنصار! ما مثلنا ومثلكم إلا كما قال طفيل الغنوي في بني جعفر:
جزى الله عنا جعفراً حيث أشرفت بنا نعلنا في الشارفين فزلت |
هم خلطونا بالنفوس وألجئوا إلى غرفات أدفأت وأظلت |
أبوا أن يملونا ولو أن أمنا تلاقي الذي يلقون منا لملت |
أي إخاء هذا! الأم تمل أما الإخوة الصادقون فلا يملون، فهم على مذهب المهاجرين والأنصار.
قال سبحانه: وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ [الحشر:9].
وهو الذي جعله عليه الصلاة والسلام سارياً في الناس حتى يجود الأخ بالنوم لأخيه، وابن القيم له كلام لطيف في مدارج السالكين قال: ومنهم من يجود بالنوم، أي: يساهر ضيفه ويسامر ضيفه فيجود بنوم مقلتيه حتى يمدحه الأول، فيقول:
مُتَّيم بالندى لو قال سائله هب لي جميع كرى عينيك لم ينم |
لو قال له: أعطني نوم عينيك، فسيقول له: خذه. وهذه مستويات بلغها بعض الناس.
لكن الخلف -حتى من الملتزمين- قد يغفلون مادة الإيثار، ويدرسون مادة الاستئثار، فنحن نعيش الآن عودة إلى الله مباركة، ورجعة في جانب الشباب، لكن مادة الإيثار ضعيفة.
وهناك مادة الاستئثار، فإذا أتى الزملاء يتكلمون؛ تقدم بعضهم على بعض حتى في الفتيا، وهي من المغارم وليست من المغانم، إذا عرضت الفُتيا في المجلس تسابق الشباب وطلبة العلم أيهم يقحم نفسه ليكون مستأثراً، لكن بمغرم لا بمغنم.
يقول أحد التابعين وهو يرى شباب التابعين يتسابقون بالفتيا: " والله الذي لا إله إلا هو إنكم لتتسابقون على مسائل من الفتيا لو عرضت على عمر لجمع لها أهل بدر "، وقد كان الصحابة يتدافعون الفتيا، وقد ورد في الأثر: [[أجرؤكم على الفتيا أجرؤكم على النار]].
ومع ذلك: يستأثر أحدهم أن يُفتي، ويستأثر بصدر المجلس، ويرى أنه صدر، وأن غيره ظهر، ويستأثر في الطريق، وصدر الدابة، والمرتبة الأولى في السيارة والاحتفاء والعناق، وأن يُقدم ويُكلم بين الناس والدخول والخروج؛ ليكون رئيساً في الناس، وهذا حب الصدارة وحب الإمرة وشهوة الظهور، وهذا مرض نشكو إلى الله منه، عسى الله أن يشافينا منه.
هؤلاء هم الخلف، وهذه هي مدرستهم الاستئثار، ومدرسة السلف الإيثار.
وهي واجب الأخوة بين المؤمنين، وفي حديث صحيح: { أن الله -سبحانه وتعالى- يقول: وجبت محبتي للمتباذلين فيَّ، والمتزاورين فيَّ}. المتباذلون: الذين يعطي أحدهم أخاه في الله، وعند أبي داود بسند صحيح: {من أحب لله، وأبغض لله، وأعطى لله، ومنع لله؛ فقد استكمل الإيمان}.
مادة البذل مقررة عند العرب قبل الإسلام؛ لكنها كانت غير مهذبة ولا محتسبة الأجر من الله، لماذا ينفق حاتم رياءً وسمعةً؟
لماذا يضيف عبد الله بن جدعان؟
رياءً وسمعةً، كانت مائدة عبد الله بن جدعان لا يفارقها الناس، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول لـابن مسعود لما قتل أبو جهلتعرف جثة أبي جهل بجرحٍ في رُكبته، فإني تصارعت معه على مائدة ابن جدعان فصرعته، وهذا p=1000554> ابن جدعان
يثير العجب!! قالت عائشة كما في صحيح مسلم: {يا رسول الله! أينفعوقال عدي بن حاتم كما هو عند صحيح ابن حبان: {يا رسول الله! إن أبي كان يقري الضيف، ويحمل الكلَّ، ويعين على نوائب الدهر، فهل ينفعه ذلك عند الله؟ قال: لا، إن أباك طلب شيئاً وأصابه} أي أنه طلب الذكر؛ ولذلك يُذكر حتى في القُرى والبوادي، حتى العجائز يعرفن حاتماً الطائي، فهذا جزاؤه، طلب الذكر فأعطاه الله الذكر، واسم مدرسته: مدرسة البذل عند العرب قبل الإسلام، يقول حاتم لامرأته:
إذا ما صنعت الزاد فالتمسي له أكيلاً فإني لست آكله وحدي |
من شروط حاتم: إذا أتى على مائدته ألا يقرب المائدة حتى يأتي رجل آخر يأكل معه، فإذا لم يأتِ رجل آخر ترك الغداء أو العشاء حتى يكون هو ورجل آخر.
رأيت في كتب الأدب قصة عن حاتم -الله أعلم بصحتها- لا تضركم؛ لا في العقيدة ولا في الأسماء ولا في الصفات:
يقولون: كانت أمه تضعه على ثديها ومعه أخ آخر من الرضاعة ماتت أمه، فكانت أم حاتم: ترضع هذا وهذا في وقت واحد، فإذا رفع أخوه من الرضاعة فمه عن ثدي أمه رفع حاتم فمه؛ لئلا يرضع حتى يرضع ذاك. يعني: مولود الكرم معه، وبعض الناس مولود معه البخل ويموت معه البخل، ومسجل عليه، ومنتسب معه، ويلحد معه، ويعيش، ويموت، وهو بخيل.
قال عبد الملك بن مروان لوزرائه وهم في سمر: من تريدون أن أباكم من العرب؟
أي: من يتمنى منكم أباً غير أبيه؟
قالوا كلهم: لا نريد إلا آباءنا، قال: أما أنا فليت أبي عروة بن الورد الذي يقول:
أتهزأ مني أن سمنت وأن ترى بوجهي شحوب الحق والحق جاهد |
يقول: تضحك مني لأنك سمين وأنا نحيف، ما سبب نحفي وسمنك؟
اسمع السبب:
أتهزأ مني أن سمنت وأن ترى بوجهي شحوب الحق والحق جاهد |
أوزع جسمي في جسوم كثيرة وأحسو قراح الماء والماء بارد |
يقول: أنت تأكل ما يكفي ستة، وأنا آكل قليلاً، أنا آكل نصف قرص، وأنت تأكل ثمانية أقراص، تضحك مني؛ لأني أُضِّيف الناس وأنت ما تضيف إلا بطنك.
فإني امرؤٌ عافي إنائي شركة وأنت امرؤٌ عافي إنائك واحد |
يقول: أنا -دائماً- على مائدتي مائة رجل، وأنت على مائدتك نفسك فقط، فهذه مدرسة البذل، فأتى الرسول صلى الله عليه وسلم لمدرسة البذل فأدخلها في مدرسته؛ لكن بتهذيب واحتساب، جعل البذل لله والإنفاق له، فأتى الصحابة بالعجائب، فتجاوزوا أكرم حاتم وهرم بن سنان وعروة بن الورد.
يأتي أبو بكر بماله، فيجعله في يد الرسول صلى الله عليه وسلم كله، ويشتري عثمان بئر رومة ويجعلها للمسلمين وللأكباد الحرة، ويأتي سعد بن عبادة، فينحر في غداة واحدة مائة ناقة؛ حتى تشبع الصقور والوحوش الكواسر من أجل أن يشبع الرسول عليه الصلاة والسلام، ويأتي الفقير فإذا هو أجود من الغني.
وقد أتى الرسول عليه الصلاة والسلام بالخير، فهو أجود من الريح المرسلة، لا يعرف كلمة: لا، قال مرة كما قال جابر: {أتى أعرابي إلى الرسول عليه الصلاة والسلام فسأله سؤالاً؟ فقال: لا، وأستغفر الله} أي أنه يستغفر الله من كلمة "لا".
ما قال (لا) قط إلا في تشهده لولا التشهد كانت لاؤه نعم |
أتاه هذا الضيف، فقال: من يضيف ضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقام رجل فقير من الأنصار فقال: أنا يا رسول الله! فأخذ معه الضيف وليس في بيته إلا شيء من شعير، وله أطفال وزوجة، وهذا الشيء من الشعير لا يكفي إلا واحداً، فقال لامرأته: نوِّمي أطفالنا هذه الليلة قبل العشاء وهذا هو الكرم في منتهاه، فقد أثر الضيف على أطفاله وعلى بطون أطفاله وعلى صغاره، فلن يبلغ كرَمه كرمٌ، فنومت الأطفال، وكانت امرأة تعين صاحبها على الكرم، وبعض الناس إذا أراد أن يكرم الضيوف يستشير زوجته أولاً، ويتصل بها، ويعقد معها جلسة طارئة منغلقة، ثم يحسب لها الضيوف، ومتى يأتون وكم عددهم!! فإذا صدر الإذن منها دعاهم، وهذا هو البخيل كل البخل، إذ لا داعي لاستشارة المرأة في إكرام الضيف، ويجوز للرجل أن يدعو ضيوفه بإجماع أهل العلم دون أن يستشير زوجته، إلا إذا خاف أن تكسر رأسه!
المقصود: أن زوجة هذا الصحابي ذهبت فنومت أطفالها، وقال لها: إذا جلست أنا والضيف أثناء العشاء فتظاهري بإصلاح السراج ثم أطفئيه -هذه ليلة الكرم- فتظاهرت بإصلاح السراج فأطفأته، فبات الضيف يأكل، ويتظاهر صاحب البيت أنه يأكل وهو لا يأكل، فأتى الأنصاري بضيفه يُسلِّمه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم بعد أن أكرمه؛ فتبسم صلى الله عليه وسلم، وقال: {لقد عجب الله من صنيعكما بضيفكما البارحة}.
فجزى الله رسول الله صلى الله عليه وسلم عنا خير الجزاء في تعليمه البذل والعطاء، وجزى الله تلكم الثلة الرائدة والنخبة المصطفاه خير ما جزى أصحاب النبي عن نبيهم عليه الصلاة والسلام.
ومعنى السلام: إشعاره بالسلامة، يقول سبحانه: وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً [الفرقان:63]. قالوا: سلامة لكم، قالوا: ومنه اشتق السلام، فكأن المسلم يقول: سلام عليك؛ فلن ترى مني ما يؤذيك ولا ما يخوفك ولا ما يفزعك.
وعند أحمد في المسند عن أبي هريرة أن الرسول عليه الصلاة والسلام قال: {إن أولى المؤمنين بالله من بدأهم بالسلام}. أي: أقربهم من الله من بدأهم بالسلام. وكان كثير من الصالحين يسبقون بالسلام من لقيهم فيقولون: السلام عليك قبل أن يوصل إليهم.
وفي الصحيحين عن عمران بن حصين رضي الله عنه قال: {كنت جالساً مع الرسول عليه الصلاة والسلام، فدخل رجلٌ المسجد، فقال: السلام عليكم! قال: عشر، وعليكم السلام، ودخل آخر، وقال: السلام عليكم ورحمة الله، قال: عشرون، وعليكم السلام ورحمة الله، ودخل ثالث فقال: السلام وعليكم ورحمة الله وبركاته، قال: ثلاثون، وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته}.
لكن بعض الناس من الخيلاء هجر مدرسة السلام، فمنهم من تركها كبراً، وأكثر ما يترك الناس السلام كبراً، ولذلك من بذل السلام، ومن تبسَّم -في حقوق كثيرة ذكرها الغزالي - وحلب شاته، ورقع ثوبه، وكنس بيته؛ فقد برئ من الكبر.
تجد كثيراً من الناس إذا سلَّمت عليه؛ كأنك تسحب منه الرد سحباً؛ لأنه من فصيلة أخرى، ويعد بعض الناس من الحيوانات الأليفة، بل بعضهم لا يقوم لك أبداً؛ ليس اتباعاً للسنة لعدم القيام؛ بل كبراً وعتواً؛ وإذا صافحته صافحك برءوس أصابعه شُلت أصابعه!
وهذا من جهله بسنة محمد صلى الله عليه وسلم، ومنهم من تركها جهلاً واستبدل مكانها كلمات ليست واردة كأن يقول: صباح الخير، وأهلاً وسهلاً.
قال البخاري في الأدب المفرد: (باب: قول الرجل مرحباً بك) ثم ذكر أن عدي بن حاتم وصل إلى عمر فقال لـعمر: مرحباً بك! (باب: قول الرجل مرحباً بفلان) وذكر حديث أم هانئ: {مرحباً بـ
وهذه تأتي كلها بعد السلام الشرعي الذي سنه عليه الصلاة والسلام.
وأفضل الإيمان أن تقرئ السلام على من تعرف ومن لم تعرف، تسلم على الناس -جميعاً- الذي تعرف والذي لا تعرف من المسلمين.
ومن علامات خواء الأمة: العبث والتلوث الفكري وعدم اعتزازها بأصالتها؛ فإنك تجد -الآن- بعض الناس المتأثرين بالمستعمر يحيونه أكثر مما يحيون المسلمين، وألحظ الناس -الآن- إذا رأوا الخواجة يكون الاستعداد والتحية وإعطاء اليد والبسمة، وإذا رأوا المسلم فكأنه أمر عادي عندهم، وهذا من قلب المفاهيم، وسوف يكون لنا تعريج على هذا.
أيها الإخوة! إجابة الدعوة عند بعض المتأخرين تعتمد على الوجاهات والواسطات، فبعضهم لا يجيب إلا وجهاء وأغنياء الناس ومن له مكانة أرضية ودنيوية فقط، وأما الفقراء والمساكين؛ فيعتذر بالأشغال وبالالتزامات، وهذه ليست من مادة الإخاء عند محمد صلى الله عليه وسلم، لكنك تجدها عند أهل الأرض.
ما أحسن الزيارة! زار النبي عليه الصلاة والسلام كبير السن، وزار الصبي، وزار الأعرابي، وزار الفقير والغني، زار أعرابياً فرأى عليه الحمى تهزه هزاً، فقال عليه الصلاة والسلام: {لا بأس طهور -أي أن هذا المرض يطهرك من المصائب- فغضب الأعرابي فقال: تقول طهور، بل حُمّى تفور على شيخ كبير، تزيره القبور، قال: فنعم إذن} إلى حيث ألقت رحلها أم قشعم؛ أراد الرسول صلى الله عليه وسلم أن يتفاءل وأبى الأعرابي.
عيادة المريض لها أدب وأهمل فيها المتأخرون، يقول الأول:
مرض الحبيب فزرته فمرضت من جزعي عليه |
وأتى الحبيب يزورني فشفيت من نظري إليه |
وهذه من أبلغ وأحسن ما قيل في هذا، وأحياناً الأرواح ترتاح لرؤية المحبين والأحباب إذا زاروها، وبعض الأرواح السليمة تمرض من زيارة بعض الناس، يقول ابن القيم في بدائع الفوائد: رأيت ابن تيمية رحمه الله وقد تثاقل من رؤية أحد الثقلاء وجلوسي معه، ثم التفت إليَّ بعد أن عجز صبره، وقال: الجلوس مع هؤلاء حمى الربع، وحمى الربع أي: التي تقتل وليس لها علاج، وهؤلاء أهل البدع والخرافيون وثقلاء الناس وأهل البطون، الذين يغضبون لبطونهم أكثر من غضبهم لمبادئهم، ويغضبون لسياراتهم ووظائفهم وأحذيتهم أكثر من غضبهم لإياك نعبد وإياك نستعين.
كان الأعمش إذا رأى ثقيلاً مقبلاً، قال: رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ [الدخان:12].
وقال الأعمش: ما جلس إليَّ ثقيل بجانبي إلا ظننت أن الأرض تميل بجانبه -الكرة الأرضية كأنها تميل- وهؤلاء الثقلاء الذين لا يعرفون وقت عيادة المريض، فيأتونه في الساعة الثانية عشرة ليلاً، ولا يعرفون التحدث معه في حديث يشفي المريض، فيقولون: ما مرضك؟
قال: الزكام، قالوا: مات فلان بالزكام، وماتت فلانة بالزكام، وما أصيب أحد بالزكام إلا مات، أحسن الله عزاءك بروحك وألحقنا الله بك عن قريب، وجمعنا الله بك في دار كرامته!! غسلنا أيدينا منك، فهذا ليس من الآداب.
ومنها كذلك: التطويل، فإن بعض الناس يبقى حتى ينتهي الكلام، فيعل العليل بزيارته، فلا يخرج حتى يقول المريض، ويرفع يديه: اللهم حوالينا ولا علينا، اللهم على الظراب وبطون الأودية ومنابت الشجر. ولذلك لا تريد أن تلقاه.
قرأت أن الأعمش كتب مرضه في ورقة فكان الناس كلما سأله مريض ما مرضه؟ أخرج الورقة، وقال: اقرأ، لأن بعض الناس يسألك: متى بدأ المرض معك؟ وما هي أعراضه؟ وماذا تجد؟ ومن ماذا منعك الطبيب؟ محاضرة كاملة وسجل التحقيق مفتوح.
فمعاذ الله أن نكون ثقلاء! ولينتبه الإنسان إذا زار أن يخفف، فالزيارة ليست كل يوم ولكن كل ثلاثة أيام زيارة لا بأس بها.
وبعض الأمراض قال ابن عبد البر في أنس المجالس: لا يزار من فيه بعض الأمراض مثل الزكام، أو مرض الركبة، أو الرمد، هذا لا يزار منها، إنما يزار من أمراض محددة معروفة.
ومن علامات الناصح: أنه لا يجر نفعاً لذاته وحده ولا لشخصه، لكنه لأمته ولبلده، يريد الخير فينصح، ولا بد للأمة من ناصح، ويوم تموت النصيحة تموت الأمة.
بايع جرير بن عبد الله رسول الله صلى الله عليه وسلم فاشترط عليه: {والنصح لكل مسلم}. وأما طمس المعايب وإخفاؤها ودفنها دون أن تبين، فهو النفاق بعينه الذي لا يرضاه الله، ويوم يسكت الناطق بالنصيحة في الأمة تموت هذه الأمة وتنتهي.
يقف عمر بن الخطاب على المنبر يريد من ينصحه، فيقول: أيها الناس! ماذا ترون لو أني ملت عن الطريق هكذا؟ أي: عن طريق إياك نعبد وإياك نستعين، عن العدل، عن اهدنا الصراط المستقيم، فقام أعرابي من آخر المسجد، بسيف فسله أمام عمر، وقال: والله يا أمير المؤمنين! لو رأيناك ملت عن الطريق هكذا، لقلنا بالسيوف هكذا، فقال: اجلس بارك الله فيك! الحمد لله الذي جعل في رعيتي من لو ملت عن الطريق هكذا قالوا بالسيوف هكذا، وهذا هو الحوار، وهذه هي النصيحة، وهذه هي الكلمة القوية، وهذه شجاعة أهل الإيمان، وهذه هي المادة التي أسسها محمد صلى الله عليه وسلم وهي أن تنصح له.
فإما أن تكون أخي بحق فأعرف منك غثي من سميني |
وإلا فاطرحني واتخذني عدواً أتقيك وتتقيني |
فإني لو تخالفني شمالي ببغض ما وصلت بها يميني |
إذاً لقطعتها ولقلت بيني كذلك أجتوي من يجتويني |
انتهاك الحرمات.. تناول الأعراض.. اتهام النيات، واجبنا جميعاً أن ندافع، ومن رضي وسكت في مجلس، يجب أن يذب فيه عن عرض أخيه المسلم خذله الله في مجلس يريد أن ينتصر فيه، وهؤلاء المخذولون صنف من الناس، يرون السيئات ويرون العثرات، وينسون محاسن أهل الفضل والخير ويطمسونها، ويتهمون هؤلاء في مسارهم وفي نياتهم.
قيل: للحسن البصري: أيسلم أحد من الحسد؟ قال: أين أنت من إخوة يوسف؟ حسدوا أخاهم وهم أنبياء، قال: فماذا أفعل؟ قال: إذا حسدت فعمِّه. أي: عمه في باطنك ولا تتكلم بآثار الحسد، تطعن في عرض أخيك، ولا تُؤذه بفعل غير مسئول منك، والإنسان يُدخله الحسد ولكن لا يبغي ولا يؤذي، وليتق الله في أخيه المسلم.
أذكر قصة ذكرها ابن كثير وغيره من أهل العلم يقول: كان لـمعاوية -وهو خليفة ملك في الشام - مزرعة في المدينة بجانب مزرعة عبد الله بن الزبير، وكان بينهما شحناء، فدخل عمال معاوية مزرعة ابن الزبير، فكتب ابن الزبير من المدينة: بسم الله الرحمن الرحيم، من عبد الله بن الزبير إلى ابن آكلة الأكباد - أي: معاوية، وهند هي التي أكلت كبد حمزة - أما بعد: فقد دخل عمالك مزرعتي، فإن لم تنههم عن ذلك؛ فلي ولك شأن.
رجل من الرعية يُهدد الملك، فوصل الكتاب إلى معاوية وكان حكيماً حليماً في أعلى درجات الحلم، فعرض الكتاب على ابنه الطائش يزيد بن معاوية، الذي سئل عنه الإمام أحمد: هل نروي عنه؟ قال: وهل مؤمن يؤمن بالله واليوم الآخر يروي عن يزيد؟! وقال: لا نسبه ولا نحبه.
فعرض عليه الرسالة، وانظروا رأي البطانة الهائجة، البطانة غير المسئولة التي تلقي بالكلمات على عواهلها لا تقدر للأمور قدرها ولا تعي المسئولية.
قال: أرى أن ترسل جيشاً يأتيك برأس ابن الزبير أوله في المدينة وآخره عندك، قال معاوية: بل أحسن من ذلك صلةً وأقرب رحماً.
فأرسل إليه معاوية وقال: بسم الله الرحمن الرحيم من معاوية بن أبي سفيان إلى عبد الله بن الزبير ابن حواري رسول الله، وابن ذات النطاقين، أما بعد:
فإذا جاءك كتابي هذا فخذ مزرعتي إلى مزرعتك، وعمالي إلى عمالك، فلو أن الدنيا بيني وبينك لكانت هينة سهلة.. أو كما قال.
فأتى ابن الزبير إلى الشام، ودخل دمشق ودخل على الخليفة وقبَّل رأسه، وقال: لا أعدمك الله عقلاً أحلك هذا المحل.
هذا الإخاء والوداد والحلم والصفح، ويفعله أتباع محمد صلى الله عليه وسلم في كل زمان ومكان.
الظن أم المعايب وأم التهم، وما وجد في قلب إلا خرب علاقته مع الناس، يقول أبو الطيب المتنبي وهي من أحسن أبياته، يقول:
إذا ساء فعل المرء ساءت ظنونه وصدّق ما يعتاده من توهم |
وعادى محبيه بقول عداته فأصبح في ليل من الشك مظلمٍ |
وتجد الإنسان إذا ساء فعله؛ ساءت ظنونه بالناس، السارق يتهم الناس بالسرقة، والكاذب يتهم الناس بالكذب، أما الصادق فلا يسيء ظنه، والثابت على مبدأ لا يسيء الظن، وأكثر ما ينشر القالة بين الناس وبين الإخوة سوء الظن والعياذ بالله، فهم يُشككون في نيات الناس، وفي تحركاتهم، وفي كلامهم، وفي أفعالهم، ولا يطلِّع على النيات إلا الله عز وجل.
سبحان الله! تبرئ موقفك أنت وتتهم نيات الناس! وليسوا هم أناساً عاديين؛ لكن من خيرة الناس صفوتهم الناس فيما يراه الناس، والله أعلم.. والنيات عند الواحد الأحد، لكن إذا رأيت الإنسان يتهم نيات الناس التي لا يطلَّع عليها إلا الله فهو متهم أيضاً (كاد المريب أن يقول خذوني!!).
يا أيها الضعيف المسكين! الجرح والتعديل ليس لي ولك، لـيحيى بن معين، وعلي بن المديني، والبخاري والنسائي الذين حفظوا السنة، أما أنا وإياك فلم تحفظ من السنة إلا حديث: {إنما الأعمال بالنيات}!! أولئك حفظوا السنة بواسطة الرجال فجرحوهم وعدلوهم.
نعم! لنا أن نجِّرح ونُعدِّل لكن من ظهر لنا فجوره وخبثه؛ وكشف الله ستره، وعرفنا أنه عدو للإسلام، أما مسلم -في الجملة- متستر بستر الله، ظاهره الخير، فننبش عنه، متى كنا أوصياء لله على خلقه؟ متى جعل الله -سبحانه وتعالى- عندنا علم الغيب، نطلع على نيات الناس؟ هذا -والله العظيم- هو الردى.
بعض الناس يسكت عن المحاسن وينبش المساوئ، ذكر الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي في كتاب طريق الوصول إلى العلم المأمول نقلاً عن ابن تيمية كلمة رائدة، يقول: بعض الناس مثل الذباب لا يقع إلا على الجرح.
تجد أناساً في المجتمع يجدك سليماً معافىً، عليك ثوب أبيض، متطيب متعطر، هذا الذباب يترك الثوب الطيب المتعطر، ويبحث في جسمك عن جرح فيقع عليه.
كثير من الناس ينظر إلى الحسنات، فتنطمس عينه وتعمى حتى يجد سيئة فيضخمها ويكبرها:
وعين الرضا عن كل عيب كليلة كما أن عين السخط تبدي المساويا |
فالله المستعان!
الثاني: أن الصحابة حمل بعضهم السيف على أبيه الكافر وقطع رأسه؛ لأنه قطع صلته بالله، وهذا الصحابي -نفسه- يصل الحبل مع الباحث عن الحقيقة من أرض الحبشة بلال، وسفير فارس إلى أرض التوحيد سلمان، ووافد الروم إلى مهد القداسة صهيب، فخلف من بعدهم خلف من الحثالات، أصبح الواحد منهم عسيفاً للخواجة، عبداً للمستعمر، جزمة للأجنبي، مولى للبعيد وعكازاً له، ثم هو نفسه ليث على إخوانه، مقدام على طلائع التوحيد، نار تلظى على شباب محمد صلى الله عليه وسلم، ثم يطالب بعد سقوط حقوق الإخاء ويعتدي علينا أننا أضعنا معه الصفاء، أتدرون ما هو مجلسه؟ هجوم!! لكن غير أدبي، ولذع فادح على من؟
تعلم أن بعض الناس إذا جلس فإن مادة السمر عنده أن يستهزئ بالصالحين وباللحى، السبب أن محمداً صلى الله عليه وسلم أتى باللحى، وهو الذي رفع رأسه من الطين، محمد صلى الله عليه وسلم الذي حرره من عبودية الأصنام، وهو الذي أعطاه الدنيا:
بلاد أعزتها جنود محمد فما عذرها ألا تعز محمدا |
ويستهزئ بالثوب القصير، التطرف عنده هم الشباب المهتدي -والصلف: الشباب المهتدي- الطيش: الشباب المهتدي- الهوس الشباب المهتدي أتباع محمد صلى الله عليه وسلم، ضميمة أبي بكر، مدرسة عمر، مسيرة صلاح الدين، جامعة ابن تيمية، مظلة أحمد بن حنبل ومعهم الشيخ محمد بن عبد الوهاب كل هؤلاء يدخلون، في مدرسة التطرف والصلف، فمن أين ورث هؤلاء مواقفهم؟
لكن انظر في الجانب الآخر!
انظر مع أعداء الله، الاستخذاء، العمالة، الخيانة، الملاينة، المصافاة، العبودية، فسبحان الله رب العالمين!
قطعت ودادي ظالماً وجبهتني وأغريت بي الأعداء من كل جانب |
وطالبتني حق الأخوة عاتباً دهتك الليالي أنت نار التعاتب |
فنسأل الله أن يُصلح منا الظاهر والباطن، وأن يرينا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه، وأن يرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [آل عمران:103].
أسأل الله لي ولكم التوفيق والهداية، وأساله أن يجمع شملنا، وأن يوحد كلمتنا، وأن يتولانا بعين رعايته، وأن يحفظنا وإياكم من كل مكروه.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
الجواب: الحمد لله، قبل أن أجيب على هذا السؤال، وصلتني ورقة من بعض الإخوة أنني لاحظت على عبد الله بن الزبير وعلى يزيد بن معاوية، وقال: استغفر لهما.
أقول: أما عبد الله بن الزبير فأنا أستغفر له، أما يزيد بن معاوية فصاحب الورقة يستغفر له، وما أظن أني لاحظت على عبد الله بن الزبير ملاحظة تستحق، وأنا أتقرب إلى الله بحبه، وقد علق الذهبي على مطالبته، فقال: أعوذ بالله من طلب الملك، أو كلمة نحوها! فليُعاد إليها في سير أعلام النبلاء، وليس هؤلاء بمعصومين، ولو أننا نتقرب إلى الله بحبهم، وندافع عنهم، ونذب عنهم، وما أظنني جرحت ابن الزبير جرحاً، وأما يزيد بن معاوية فإن شئت أن تذب عنه، وتستغفر له فأنت وذاك.
أما السؤال الذي سأله الأخ فهذا يتكرر كثيراً!
أولاً: أُرحب بهذا الشاب الذي حضر هذه الليلة، وأسأل الله أن يجمعنا به في دار الكرامة وهنيئاً له.
سبحان الذي أعتقه من ذل المعصية ومن رق العبودية لغيره! وأدخله في هذا المكان الطيب الطاهر، فإن هناك جموعاً أكثر من هذه الجموع، لكن تجتمع على معاصي وضياع وأمور مظلمة، والآن هذا وقتك أن تجتمع مع أحبابك في الله عز وجل، هذه ليلتك الأولى ليلة الميلاد:
هي ليلة فيها ولدت وشاهدي فيما ادعيت الشمس والمريخ |
فليلتك هذه من أحسن الليالي وهي ليلة الميلاد. يقول أحد الفضلاء: لا بد للإنسان من ميلادين اثنين: الميلاد الأول يوم ولدته أمه باكياً فقيراً عارياً، فوقع على الأرض، فبكى من أنه خرج من السعة إلى الضيق، وخرج من العدالة إلى الظلم:
ولدتك أمك يابن آدم باكياً والناس حولك يضحكون سرورا |
فاعمل لنفسك أن تكون إذا بكوا في يوم موتك ضاحكاً مسرورا |
ثم أن تولد مع الشريعة، وأن تولد ميلاداً مع الوحي، وأن تولد من جديد في الهداية، فهذا الميلاد الثاني هو المذكور، قالوا: وللإنسان أبوان اثنان: الأب الجثماني والأب الروحاني، فالأب الجثماني أبوك الذي أعطاك الحليب والخبز والفاكهة، والأب الروحاني هو محمد عليه الصلاة والسلام الذي أتى بالوحي، وفي قراءة أبي، يقول سبحانه وتعالى: وزوجاته أمهاتهم وهو أب لهم هكذا قرأ أبي وذكره شيخ الإسلام ابن تيمية وقال: وهو أب لهم. وفي حديث صحيح أن الرسول عليه الصلاة والسلام يقول: {إنما أنا أب لكم أعلمكم} ثم علمهم بعض أمور التطهر والتطيب عليه الصلاة والسلام.
فأنت -الآن- أيها المولود الجديد بدأت عالم الهداية، فاحذر أن تعود من النور إلى الظلمات، وعليك بأمور:
أولاً: أكثر من الدعاء والاجتهاد أن يثبتك الله.
الأمر الثاني: جاهد في النية أن تثبت وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا [العنكبوت:69].
ثالثاً: آخِ الصالحين وجالسهم.
رابعاً: اقطع علاقتك بزملائك الأوائل أهل المعاصي وأهل الإسراف والإعراض عن منهج الله؛ فإنهم الذين يصدونك عن الطاعة، ويقفون في طريق الأنبياء والرسل بالمرصاد.
الجواب: ورد في المحاضرة كلام عن: [[أحبب حبيبك هوناً ما]]. والإسراف في مسألة الحب هو أن يتعدى إلى غير ما وضع له، وهو ثمرة التعاون على طاعة الله عز وجل والدعاء للأخ، والذب عن عرضه، والسلام إذا لقيته، وإجابة دعوته والنصيحة، إذا تعدى إلى غير هذه المواصفات والضوابط، فهو حب مدخولٌ فيه، فأعيذك ونفسي بالله من الشيطان الرجيم أن يكون الحب لغير منهج الله، فبعض الناس ركَّب هذا الحب سُلماً إلى بعض الأغراض الشيطانية، وإلى بعض الشبه والشهوات التي ألقاها الشيطان في قلبه، وليس مقصوده الحب في الله عز وجل حتى دخل الشيطان من هذا الباب.
وقد ورد هذا عند الناس حتى تجد بعضهم يقول: أحب تلك المرأة في الله، وما سمعنا أن أحداً من السلف يقول: أحب أجنبية في الله، وهي كذلك تبادله الشعور، وتقول: أحبك في الله. ولا بد للإنسان أن يضبط كلامه وعباراته، وأن يضبط نيته، وأن تكون خالصة لوجه الله عز وجل، فإن الله عز وجل ذكر قوماً أتوا بأمور لكنها لم توافق الشريعة، فكانت سبباً لشقاوتهم، قال سبحانه: وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا [الحديد:27]. فمقاصدك ونياتك وأعمالك ارعها حق رعايتها؛ حتى تكون خالصةً لوجه الله سبحانه وتعالى.
الجواب: نعم. أنا ذكرت متضادات في المحاضرة، فإذا ذكرت الإيجابية ذكرت معها السلبية، فالإخاء المفتعل هو إخاء المتأخرين من الخلف، وأخص منهم الحثالات الذين يتآخون على المجاملات، تجدهم يتهيجهم اللعن، فأول ما يلقاه يلعنه، وتجد أُخوتهم إما على المطاعم أو المشارب أو على مصالح مشتركة، أو يتوجهون لأفكار خاصة، أو مناهج معينة تخالف منهج الله سبحانه وتعالى، والله تعالى يقول فيهم: تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى [الحشر:14]. اجتماعهم وذهابهم وإيابهم وجلوسهم في الظاهر، لكنه من داخل منخور، فيه سوس، وفيه نار تتلظى، وهي نار البغضاء! ولذلك تجد بعضهم يغتاب ذاك بعد أن يُولِّي، وإذا لقيه يقسم له الأيمان المغلظة أنه يحبه أحب من نفسه، فإذا ذهب لعنه في قفاه، وهؤلاء إخاؤهم مفتعل، إنما هو وقتي، وسوف ينهار؛ لأنه لم يؤسس على تقوى من الله ورضوان، وكل شيء لغير الله آخره الدمار: فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ [الرعد:17].
الجواب: أولاً: لم يتركنا صلى الله عليه وسلم هملاً بغير إرشاد لمنهج، بل جعل صلى الله عليه وسلم منهجاً معروفة كلياته وجزئياته؛ لئلا يتعدى.
بعض الناس يقول: تركنا الرسول صلى الله عليه وسلم في سعة من الأمر وفي سعة من المناهج، وتجمعنا (لا إله إلا الله محمد رسول الله) وهذا ليس بصحيح، فإن (لا إله إلا الله محمد رسول الله) قد تجمع الخارجي والقدري والجبري، وقد تجمع بعض الرافضة؛ لكن لا بد أن يعرف المنهج الرباني الذي أتى به النبي صلى الله عليه وسلم، وفهمه الصحابة بكلياته وجزئياته.
الآن -أيها الإخوة- تعلمون أن الخوارج يقولون: نحن نعمل بالكتاب والسنة، أليس بصحيح؟ القدرية يقولون: نحن نعمل بالكتاب والسنة، وكذلك المرجئة والجبرية وأهل السنة، لكن الصحيح أن أهل السنة يقولون كما قال الأوزاعي: نعمل بالكتاب والسنة على فهم أبي بكر وعمر، هذا هو الضابط، لا بد أن نفهم الكتاب والسنة على فهم أبي بكر وعمر، أما فهم السنة على الفهم الخاص فهذا عوج وابتداع.
إذا علم ذلك؛ فإن في الناس ومن الدعاة من يجتهد في الخير -بل كلهم يريد الخير- لكن بعضهم يريد الخير ولا يوفق إلى حكمة بالغة وقدرة نافذة، فالأولى أن يناصح هؤلاء بالتي هي أحسن، ولا يثار عليهم بالنصيحة ولا يشهر بهم؛ لأن مقصودهم الخير ظاهره مستتر ومقصودهم حسن، ولكن ظهرت منهم أخطاء فينبهون على أخطائهم ستراً وسراً، ويعرض المنهج الصائب.
وهناك اقتراح بدل التشهير بالآخرين، اعرض منهجك الصائب أنت في المحاضرات والندوات والدروس، دون أن تتعرض لأحد، اعرض ما عندك من بضاعة، اعرض الخير؛ لأن الناس إذا رأوا الخير عرفوا المضاد له، وإذا رأوا الصحيح عرفوا الخطأ، عرف منهجك، واشرحه بجزئياته -دائماً- وكرره للناس، وعند ذلك سوف يدرك صاحب الخطأ خطأه.
الجواب: هذا السائل على خلاف المعهود من أسئلة الشباب، أسئلة الشباب في الغالب أنهم إذا جلس بعضهم مع بعض نشطوا، وإذا انفرد الواحد عن إخوانه تكاسل، وأما هذا فبعكس هذه. يقال في هذا الباب: إن الإنسان أعلم بنفسه وهو طبيب قلبه، وبعض الناس -الآن- يجعل من العزلة قضية، كـالغزالي أبي حامد فهو يدعو الناس جميعاً إلى العزلة؛ لأنه اطمأن للعزلة، فيظن أن الناس لا يصلحون إلا بها وتراه يمدحها، وعقد مناظرة في الإحياء بين العزلة والخلطة ثم اختار العزلة ودعا الناس إليها.
وتجد بعض الناس مرتاحاً للخلطة وهو لا يتكلم إلا بها، هناك قضايا تشغل الناس في الحياة حتى تكون قضيته الكبرى فيرى أن هذه القضية هي لب القضايا وأم القضايا، ومن زاول شيئاً أُعطي حكمته.
وأهل الهيئات يرون من قضاياهم الكبرى: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فلا يريدون أن يتحدث الناس إلا فيها.
أهل الجهاد يريدون أن تكون خطب الجمعة، والمحاضرات، والندوات، والدروس، ودروس الكلية والمعاهد والثانوية في الجهاد.
وخذ على ذلك! حتى صاحب عقود الأنكحة محاضرته دائماً في عقود الأنكحة، وكلامه وبكاؤه وخشيته وضحكه في عقود الأنكحة، فبعض الناس له توجه خاص، ولا أحسن ممن توازن في حياته وأعطى كل شيء حقه.
فأنت -يا أخي- إذا وجدت نشاطاً في نفسك فافعل ذلك، ولا يلزمك أنك ترى المخالطة أحياناً ضياعاً، وليس هناك فتوى عامة في الخلطة والعزلة لكن تختلف باختلاف الأشخاص والأحوال، بعض الصحابة أفتاه النبي صلى الله عليه وسلم بالعزلة مثل أبي ذر، يقول: {إنك ضعيف، وإذا بلغ البناء لسلع فاخرج من المدينة} فخرج، فهؤلاء لا يصلح أن يقودوا الأمة، لا يصلح أن يكونوا في مجتمع، وترك صلى الله عليه وسلم عثمان، ومن قبله أبا بكر وعمر يخالطون الأمة، بل يقودون الأمة.
فأنت أعرف بنفسك، وما ارتحت إليه نفسك من طاعة الله عز وجل في نفسك فافعله ولا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة:286].. قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ [البقرة:60].
الجواب: لا بد أن تفهم مسألة مهمة جداً، وهي: ألا تتصور في أخيك الكمال ولا تتطلب مبرأً من العيب، فإنك إن طلبت عجزت عن أن تناله وعجز أن يصاحبك.
تريد مبرأً لا عيب فيه وهل عود يفوح بلا دخان |
ويقول النابغة وهو يخاطب النعمان بن المنذر:
ولست بمستبقٍ أخاً لا تلمُّه على شعث أي الرجال المهذب |
وقبل ذلك وهو خير من ذلك قوله سبحانه: وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً [النور:21].
إذا أنت لم تشرب مراراً على القذى ظمئت وأي الناس تصفو مشاربه |
إذا كنت في كل الأمور معاتباً صديقك لم تلق الذي لا تعاتبه |
الأب.. الأم.. الأخ.. الابن.. الصاحب؛ لابد أن تصدر منهم أشياء، فاجعلها لحسناتك، واجعل هذه النقاط السوداء كالثوب الأبيض كأنها لا شيء، وإذا بلغ الماء القلتين لم يحمل الخبث، فارضَ بهذا، وحاول أن تسامح ولا تستقصي كل شيء:
إذا صاحبت قوماً أهل ودٍّ فكن لهم كذي الرحم الشفيق |
ولا تأخذ بزلة كل قوم فتبقى في الزمان بلا رفيق |
ترى بعض الناس عنده حاسة ناقدة، لذَّاع في النقد، كلما صاحب أخاً ورأى منه شيئاً هجره وعزله، فيصاحب في كل يوم ألفاً، ويهجر في كل يوم ألفاً، يقول امرؤ القيس بعد أن قال:
أرى أم عمرو دمعها قد تحدرا بكاءً على عمرو وما كان أجدرا |
إذا قلت هذا صاحب قد رضيته وقرت به العينان بدلت آخرا |
وهذا مذهب بعض الناس، دائماً يبدل ويعدد، فإذا رأيت أناساً الخير فيهم غالب فاصحبهم، وحفظت كلمة لـابن المبارك في الجرح والتعديل من أحسن ما يقال، وقيل: إنها لـسعيد بن المسيب والله أعلم، قال: ما من شريف ولا فاضل ولا عالم ولا خيِّرٍ إلا وفيه شيء، فمن كان خيره أكثر من شره فهو العدل عندنا، أو كما قالوا: أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ [الأحقاف:16]. وقال أحد الدعاة في كتاب له: باب: ميزان الناس عندنا بآية الأحقاف، وأتى بهذه الآية.
الجواب: نسيت حديثاً وهو في صلب المحاضرة وهو الذي رواه البخاري ومسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه} يقول القرطبي كما في فتح الباري: وبمفهوم المخالفة وأن تكره له ما تكرهه لنفسك. هذا هو الصحيح.
أما أن تكون إذا رأيت منه معصية كارهاً له في الله فهذا صحيح؛ لكنك تكرهه كراهة نسبية لهذه المعصية، وقد سبق أن ذكرت كلام شيخ الإسلام أنه قد يجتمع في الشخص الواحد الحب والبغض، والمحبة والكراهة. نعم! تكرهه لهذه المعصية التي بدرت منه، ولكن بقي له حب فيك؛ لأنه لا زال مسلماً وله حسنات، فلا بأس أن تقول هذه الكلمة إن شاء الله.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر