بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى، لاسيما عبده المصطفى، وآله المستكملين الشرفاء، أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدى هدى محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
ثم أما بعد:
فهناك حدث فرض نفسه ينطبق عليه قول القائل مع بعض التعديل: الجنازة حارة والميت صنم.
فكثير من الضوضاء حصل في قضية تحطيم الصنمين لبوذا في أفغانستان كما هو معلوم، ولقد انتزعت حركة طالبان الأضواء في الأيام الأخيرة فصوبت عيون العالم كله على أفغانستان حالياً وخراسان سابقاً في التاريخ الإسلامي، واستُنفر علماء الآثار والمؤرخون ومدراء المتاحف العالمية، وجميع الصحف وهذه اليابان -وهي أكبر مانح للمعونات في تلك المنطقة- طالبت تدخل دول الخليج، وضغطت على قطر، وقطر أرسلت وفداً، ومدير عام اليونسكو وهو شيرو متورا ، -وهو ياباني بوذي- طلب وساطة سياسية من بعض الدول، ومكث مبعوثه -وفي نفس الوقت- أيضاً -مكث مبعوث رئيس فرنسا شيراك بيير لافرانك - أكثر من عشرة أيام يحاول أن يثني عزم طالبان عن قرار هدم تمثالين، وهما تمثالان يعتبران أكبر تمثالين لبوذا في العالم في وسط أفغانستان، وقد استغرق بناؤهما مائتي سنة، قرنان كاملان بني فيهما هذان التمثالان.
وتقدمت دول عديدة مثل الهند واليونان بعروض سخية لإنقاذ التمثالين، ومتحف الميترو كوليتن في نيويورك تقدم -أيضاً- بعروض سخية يتبرع بها لأجل أخذ هذه التماثيل، وجمعت اليونسكو خمسةً وأربعين وزير ثقافة ليتحدثوا عن هذين الصنمين، ومحاولة المطالبة والضغط لاستنقاذهما.
والمؤلم -حقيقة- في القضية أن أناساً من بني جلدتنا وصل بهم الحال إلى أنهم طالبوا الدول الغربية بتدخل عسكري سريع وحاسم لإنقاذ هذه الحجارة، وهو تدخل عسكري سيترتب عليه إراقة دماء مسلمة، فالتراث البوذي عندهم لا يمكن التهاون به، لكن دماء المسلمين شيء أرخص ما يكون!
وهذه القضية لا ينبغي أن تمر مروراً عابراً، بل هي كمثيلاتها من القضايا تحتاج إلى وقفة وتأمل وتدبر ومدارسة، وعلى الأقل يكون كلامنا وجهة نظر من وجهات النظر، ويسمع الناس صوتاً آخر غير تلك الأبواق التي تأتينا عبر الفضائيات -كما يسمونها- وتشوش على الناس وعلى أحكام الإسلام.
فبعض الناس أقاموا أنفسهم وكلاء عن الغرب في الدفاع عن هذا الأمر، وزين بعضهم العبارات، وأوحى بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً، وفي الحقيقة لم يكونوا منصفين على الإطلاق، وعامة من سلطت عليه الأضواء في تناول هذه القضية من المنحازين تماماً للثقافة الغربية، وإن كانوا في لغة عربية وفي ثوب إسلامي للأسف الشديد، فهم يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً، وأقوى دليل على أنهم لم يكونوا منصفين ولم يكونوا ممثلين صادقين لحكم الإسلام في هذه القضية: أنهم تجاهلوا تماماً أدلة الآخرين، وما أوردوا حديث علي بن أبي طالب إلا في معرض الرد عليه أو تأويله، أو إذا كانت الأصنام تعبد فقط، أما أن يكون كأي بحث علمي في العالم لابد له من أن تأتي بأدلة كل طرف، ثم تتكلم عن وجه الدلالة بعد توثيق الأدلة، ثم تحصل المناظرة أو المناقشة ثم يكون الترجيح بين هذه الأدلة والموازنة بينها فذلك أمر ليس هنا مكانة.
فهؤلاء الناس المدسوسون على الفقه فرضوا نوعاً من الوصاية على الفتوى الشرعية، وأوهموا الناس أن كلامهم الحق الذي لا يقبل الجدال، وأن أي واحد يخالف فهو رجعي متخلف، وأحياناً يستخدمون كلمة (سلفي) للتعبير عن المخالفين في سياق الذم، والتحقير للمسلمين.
والحادث حدث جلل في الحقيقة يحتاج إلى أن نتأمل فيه الحالة التي وصلت إليها البشرية، فهذه الحادثة في حد ذاتها من الوقائع التاريخية التي تكشف لنا -بل التي هي خير شاهد- المدى الذي تردت إليه البشرية في انحطاطها، وليس في تحضرها كما يزعمون، فهذا أقوى شاهد على مدى الانحطاط الذي وصلت إليه البشرية، وكيف أنها وقعت في هاوية سحيقة من الجهل والكفران.
كان ينبغي للجميع أن يعلموا أن لدينا منظومة قيامية، لنا منظومة قيامية خاصة بنا نستمدها من إسلامنا ومن عقيدتنا، ومن ديننا الحنيف الذي نؤمن أنه الدين الوحيد الحق، وكل الأديان باطلة، وإن كان أرباب القانون الدولي والمنظمات العالمية والعولمة لا يقروننا على هذا الكلام، فكيف نقول: الإسلام دين الحق؟ هذا تحجر.
ونحن نقول: من شك في هذا ممن ينسب للإسلام لحظة واحدة خرج من الإسلام كما تنسل الشعرة من العجين، من شك لحظة واحدة في أن الإسلام هو الدين الحق، وأن كل ما عداه باطل، وأن الإسلام مهيمن على ما عداه من الأديان فلا يبقى من المسلمين، ولا يبقى عنده ذرة من الإيمان.
والوضع الذي رأيناه والذي حصل أو أصدق ما يعبر عنه أن نقول في جملة واحدة: كيف وقع المسلمون في جحر الضب؟! إلى هذا الحد دخل المسلمون جحر الضب، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (لتتبعين سنن من كان قبلكم شبراً بشبر) يعني منتهى الحرص على تقليد العبد لسيده (لتتبعين سنن من كان قبلكم شبراً بشبر وذراعاً بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضب لتبعتموهم. قيل: اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟!) أو كما قال النبي صلى الله عليه وسلم.
فهذا يبين لنا الداء التي وصل إليه المسلمون، والوضع الذي غصوا به بعد أن دخلوا بالفعل جحر الضب، والرسول عليه الصلاة والسلام شبه بجحر الضب لأنه ملتوٍ، ولأنه لا يستوعب الضب ولا يستره، ولا يفي بحاجته، ومع ذلك يصر المسلمون على أن يتبعوهم وأن يحصروا أنفسهم في جحر الضب!
وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام: (يأتي على الناس زمان يصدق فيه الكاذب، ويكذب فيه الصادق، ويخون فيه الأمين، ويؤتمن فيه الخائن، وينطق فيه الرويبضة. قيل: ومن الرويبضة؟ قال: الرجل التافه يتكلم في أمر العامة) أو كما قال صلى الله عليه وآله وسلم.
فهذه الحادثة كشفت أحد أعراض مرض التبعية والانهزامية التي تغلغلت في قلوب كثير من المسلمين، وهي تذكرنا بقول ابن خلدون رحمه الله تعالى حينما تكلم عن أن المغلوب مولع دائماً بتقليد الغالب، وتكلم عن أمارات تشبه المسلمين في الأندلس في ذلك الوقت بالأسبان أو بالكفار، إلى أن قال: وذلك من أمارات -أو علامات- الاستيلاء.
فهو تنبأ بسقوط الأندلس، وكان عمدته في ذلك أنه رأى المسلمين بدءوا يقلدون الكفار، فعد ذلك من أمارات الاستيلاء، وأن هذا سينتهي بهم في النهاية إلى أن يذوبوا في هذه الأمة التي يقلدونها.
وموضوع التماثيل في الحقيقة لا نريد أن نقول عنه: رب ضارة نافعة. لأنها -إن شاء الله- ليست ضارة، لكن لابد من أن مثل هذه الأحداث قد تكون نعمة من الله سبحانه وتعالى تلفت نظر الناس إلى أمور مهمة جداً؛ لأن التماثيل في حد ذاتها حكم الشرع فيها مما ينبغي أن يشاع العلم به بين المسلمين؛ لأننا نرى من المسلمين من يزين بيته بالتماثيل، سواء في مدخل البيت أو الفيلا أو في داخل الحجرات توضع تماثيل بقصد الزينة، وهذه شائعة في مجتمعاتنا، فهذا الأمر -أيضاً- يؤكد ضرورة الوقوف على هذا الأمر.
إن الكلام عن موضوع علاقة المسلمين بالغرب أو بالكفار عموماً مهم، فإنه لما استنفر كل العالم الغربي علينا وحصل ما حصل جاء الدور ليستنفر العالم الشرقي الوثني عابد الأوثان على المسلمين أيضاً، وعليه فإننا ما زلنا نؤكد الحقيقة التي ينبغي أن يفقهها كل مسلم، وهي أن التفسير الوحيد الصحيح للتاريخ هو أنه صراع بين الإسلام والكفر، كل التاريخ من لدن آدم إلى أن تقوم الساعة كله يدور حول هذا المحور، وصحيح أنه يؤخذ صوراً أخرى، لكن هذا هو الحقيقة وهذا هو جوهر هذا الصراع، فهو صراع بين الإسلام والكفر، بين الإسلام الذي أتى به جميع الأنبياء من لدن آدم عليه السلام إلى خاتمهم محمد صلى الله عليه وسلم، وبين الكفر بكل ألوانه وأطيافه واتجاهاته.
إننا الآن نعيش في عصر ما يسمى بالعولمة، أو النظام العالمي الجديد الذي رسمت ملامحه وبكل صلف وبكل استبداد أمريكا، والذي يهدف إلى توطيد دعائم الود والتفاهم والسلام والأخوة الإنسانية أو الأخوة الحمارية.
أريد أن أقول: إن المقصود من هذه الأمور أن توطد دعائم الود والتفاهم بين الحمار وراكبه، فهذه نظرة أمريكا للعالم عموماً وللعالم الإسلامي -للأسف- على وجه الخصوص!
فالناس كلهم صاروا يتنفسون هذا الهواء المسمم، ولذلك نحن لا نحس بهذا التسمم إلا إذا فتحت نافذة للهواء النقي الذي يهب علينا من عصور الإسلام الأولى ومن الكتاب ومن السنة حتى نشعر بالسموم التي نتنفسها.
فهم تواضعوا الآن على جملة من المفاهيم قدسوها تقديساً، وشنوا الحملات الشرسة على كل من يخالف هذه المفاهيم، وهذا بمنتهى البساطة لا يلزم المسلمين؛ لأنه لا يمثل لنا أي مرجعية.
وهنا يأتي موضوع المقايضة، ومعناه: أن تتنازل لي عن شيء من عقيدتك وأتنازل لك عن شيء من عقيدتي. وهذا المنطق موجود، لكن وجوده لا بأس به بين الأديان الباطلة بعضها مع بعض، كل واحد يتنازل حتى يلتقي الجميع في منتصف الطريق، أما المسلمون فلا يمكن أبداً أن يقبلوا هذا المبدأ، مبدأ التنازل عن موقف الإسلام من الأصنام، فهذا غير قابل على الإطلاق للتحوير أو المغالطة، وهذا هو ما كشفته بجلاء سورة الكافرون، وقد جاء الرد فيها حاسماً لأطماع هؤلاء الكافرين.
فموضوع (تنازل لي وأتنازل لك) بحجة الأعراف الدولية والقانون الدولي والتراث الإنساني... إلى آخر هذا الكلام هذا يسري بينهم، وهم عندهم قابلية للتنازل إلى أبعد مدى، حتى لو خلعوا دينهم بالكلية كما حصل من الغرب مع النصرانية، وإن لم يخلعوا ثوب التعصب والحقد الأعمى على المسلمين، لكن يستثنى الدين الحق، فالدين الحق غير قابل على الإطلاق لأن يدخل في هذه المقايضة.
وكما قلت فهذه الحادثة كشفت عن المدى الذي وصلت إليه البشرية من الانحطاط والتدهور، وتثبت أن المسلمين بالفعل هم أرقى الأمم على الإطلاق، المسلمون الموحدون هم أرقى الأمم، وأقصد المسلمون الذين هم موحدون؛ لأن كل المسلمين -والحمد لله- موحدون، فنحن -المسلمين- أرقى الأمم على الإطلاق، وأعقل الأمم، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية : لا توجد أمة على الإطلاق في عقل المسلمين.
وصحيح أن هناك تخلفاً في النواحي المادية وغير ذلك، وهذه قضية أخرى، لكن في جوهر الحياة والغاية من الحياة -وهي عبودية الله سبحانه وتعالى- لا يوجد على الإطلاق أمة ترتقي إلى مستوى هذه الأمة الإسلامية.
أما موضوع القانون الدولي ونحو هذه العبارات التي يطلقونها فنحن لا ننخدع بالقانون الدولي والأعراف الدولية والتقاليد والذم، وقول: هذه وحشية وبربرية، والتماثل هذه إبداع وفن وتراث إنساني.. إلى آخر هذا الكلام.
ونقول لهؤلاء الناس: ألم يدافعوا عن سلمان رشدي من قبل بحجة الإبداع، وأن سلمان رشدي له حرية الكاتب في أن يعبر عما شاء، في حين أنّه لما رفع المسلمون قضية في القضاء البريطاني تطالب بمحاكمته طبقاً للقانون الإنجليزي قالت بريطانيا -والغرب معها- لا؛ فالقانون الإنجليزي يحمي الملكة فقط، يحمي النظام الملكي، فلا أحد يسب الملكة وإلا يعاقب ويُجرّم، أما ما عدا ذلك فالقانون لا يحميه.
فالشاهد أن هذا من تسمية الأشياء بغير مسمياتها، واللعب بالاصطلاحات، وإظهار الباطل في صورة الحق والحق في صورة الباطل، عن طريق إضفاء أسماء منفرة أو أسماء جذابة، كتسمية هذه الأشياء إبداعاً، أو فناً جميلاً، أو رقياً، أو تحضراً.. إلى آخر هذه الأسماء.
وفي عقيدتنا -باختصار شديد- أن تعظيم التماثيل وعبادتها من دون الله هو قمة انحطاط البشرية، وهل هناك نقاش عند أي عاقل في أن إنساناً يصنع التماثيل بيده ثم يعبدها وهو أكمل منها وأعقل منها؟!
يقول الله تبارك وتعالى: وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ [الحج:31].
فموضوع منظومة القيم والمبادئ التي عندنا نحن -المسلمين- تختلف تماماً عما هي عند الغرب وعند الشرق بكل وضوح، فلا نستطيع إطلاق القول بأن الإسلام يعمل نوعاً من الفلترة أو الترشيح للتراث، ليس كل تراث الإسلام يقبله، فالإسلام لما دخل وأشرق نوره في ربوع الأرض كلها في العالم القديم حصل نوع من الترشيح والفرز لهذا التراث في كل بلاد دخلها، وصبغها بصبغة دين الحق، وألغى ما يتعارض مع عقيدته وشريعته، فما يلهج به بعض الناس كل حين فيتكلمون ويجعلون الجملة هذه باستمرارٍ قاسماً مشتركاً بين كل المقالات التي نشرت -تقريباً- بأن هذه التماثيل موجودة قبل أن يدخل الإسلام هذه البلاد، ولأن لها أقدمية فينبغي أن تحترم كل هذا غير صحيح؛ فدين الإسلام ناسخ لكل ما عداه من الأديان السماوية، فما بالك بالأديان الوثنية الأرضية؟! أتدري ما الإسلام؟ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ [الصف:9] وتأمل قوله تعالى: (ولو كره المشركون)، فالموقف الطبيعي أنهم يكرهون ذلك.
فموضوع التراث البشري واحترام عقائد الآخرين ليس بصحيح على إطلاقه، فلو عثر على صليب عمره ألف وثلاثمائة سنة -مثلاً- هل نقول: هذا تراث بشري ينبغي أن نحافظ عليه، أم أن هذا رمز من رموز الكفر والتكذيب بالله ولرسل الله؟
فإن قيل: هذا تراث بشري يحافظ عليه قلنا: لو كنتم تحترمون عقائد الآخرين إذاً لا تذبحوا البقر؛ لأن الهندوس سيغضبون وسيغارون على آلهتهم ويمنعون ذبح البقر؛ لأن هذه آلهتهم، وهي أفضل من أمهم، كما كان غاندي يدافع عن البقر، وينشد في ذلك كثيراً من الكلام، فراعوا شعور الهندوس لأنهم يعبدون البقر، فالمفروض أن لا يذبح البقر من أجل التراث البشري، بل إن هذا أهم عندهم من التراث، وهو الإله نفسه! ولا حول ولا قوة إلا بالله!
وسنقول كذلك: لا تقتلوا الفئران؛ فهناك في شرق آسيا من يعبدون الفئران، وروى أحد الإخوة أنهم وهم جالسون في مكان عام يأكلون الأرز كان الفأر يصعد على الطبق ويصعد على رأس أحدهم ولا يمس بسوء؛ لأن هذا إله عنده! ويقيمون معابد من الرخام الأبيض حتى تعبد فيها الفئران، فدلا داعي لقتل الفئران، وهذه الأشياء من باب احترام تراث الآخرين.
وهناك موضوع مهم جداً في هذه المسألة، وهو كلمة (الإسلام يحترم الأديان الأخرى)، فالإسلام لا يمكن أن يحترم الأديان الأخرى أبداً، الإسلام يحفظ لأهل الأديان حقوقهم التي شرعها الله سبحانه وتعالى، أما أن يحترم فلو احترم الإسلام الأديان الأخرى فمعناه أن الإسلام يهدم نفسه حين يحترم الأديان الأخرى التي تخالفه، والتي تصفه بأنه باطل وأنه كذا وكذا، والتي تدعو إلى الشرك، وهذا من التجاوز في التعبير، فالإسلام يحترم حقوق أهل الأديان الأخرى التي شرعها لهم الله سبحانه وتعالى.
يقول بعض الكاتبين -وهي مقالة في مجلة العصر-: أخبرني أحد العلماء قال: قرأت في سيرة صلاح الدين الأيوبي لـابن شداد أن ملك الإنجليز كتب رسالة لـصلاح الدين فيها طلب الصليب، فهم يزعمون أن المسيح -والعياذ بالله- صلب عليه، فأخذه وغنمه صلاح الدين الأيوبي رحمه الله، فبعث ملك الإنجليز يخاطب صلاح الدين يقول له: وأما الصليب فهو خشبة عندكم.
أي: هو عندكم -معشر المسلمين- قطعة خشب ليس له قيمة.
يقول الملك: وأما الصليب فهو خشبة عندكم لا مقدار له، وهو عندنا عظيم، فليمن به السلطان علينا.
فأجابه صلاح الدين رحمه الله: وأما الصليب فهلاكه عندنا قربة عظيمة، لا يجوز لنا أن نفرط فيها إلا لمصلحة راجعة إلى الإسلام هي أوفى منها.
فما كان ذا قيمة تاريخية أو روحية أو عقدية عند أهل الشرك ليس بالضرورة أن يكون ذا قيمة لدى أهل التوحيد والإسلام، والعكس بالعكس، فالمسلم الفلسطيني الغارق في دمائه على يد علج يهودي هو في نظر قاتله لا يساوي الرصاصة التي رمي بها، رغم أن هدم بيت الله حجراً حجراً أهون على الله من سفك دم امرئ مسلم كما جاء في الحديث عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما.
فصنم بوذا لدى المشركين البوذيين أو غيرهم هو أثر تاريخي وقيمة تراثية، لكن عند المسلمين لا يعدو أن يكون صنماً حجرياً عبده من دون الله من لا خلاق لهم في الآخرة، وحقه أن يفعل به ما فعل بإخوانه من قبل، فيضحى به على اسم الله، ويقال ما قاله أكرم البشر رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة وهو يهدم الأصنام بيده: (جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا [الإسراء:81])، فإن اعترض معترض قلنا له ما قاله الخليل عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام: فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنطِقُونَ [الأنبياء:63] فلماذا لم يدفع عن نفسه لما كان إلهاً يعبد والناس تعطيه هذه السمة؟! لماذا لم يدفع عن نفسه البارود والمدافع ونحو هذه الأشياء؟!
ويخرج من يسمون أنفسهم بالمستنيرين -وهم في ظلامهم يعمهون- والعلمانيين -وهم في جهلهم سادرون- يقول أحدهم -للأسف الشديد-: أتى ذات مرة رجل من قوات طالبان فزارني إلى منزلي وصلى فيه، فشك في الصلاة وأعاد الصلاة بعد ذلك لأن منزلي به أصنام!
فيحكي أن هذا إنسان متخلف شك في الصلاة، يقول: لما صلى في البيت عندي وعرف أن هناك تماثيل في الحجرة شك وأعاد الصلاة بعد ذلك خارج البيت!
فهذا يتكلم كأن هذا إنسان ومخلوق جاء من كوكب آخر! فما هذا الإنسان الغريب؟!
فهو يحكي الكلام لأناس بنبرة استنكار، فلماذا يغضب الطالباني هكذا على الصنم؟!
وإذا تأملنا في حال الشجرة التي بويع تحتها رسول الله صلى الله عليه وسلم بيعة الرضوان فهي شجرة -بلا شك- ذات بعد تاريخي حقيقي، لكن خاف عمر رضي الله تعالى عنه من أن تكون ذريعة إلى الشرك، فاقتلعها من جذورها، فكيف ببوذا المعبود من دون الله؟!
فبعد أن كنا نرى الأصنام من ذهب فنهدمها ونهدم فوقها الكفارا
صرنا نرى الأصنام من حجر فنرفعها لنرضي بعدها الكفارا
فليعلم بالضرورة أن الإسلام هو دين التوحيد، وأنه عدو الأصنام، فهذا معلوم في الدين بالضرورة، يقول الله تعالى: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [النحل:36].
وحينما نقول: (الإسلام) فلا نقصد رسالة النبي محمد عليه الصلاة والسلام فحسب، وإنما الإسلام الدين الوحيد الذي نزل من السماء على جميع الأنبياء والمرسلين عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام، قال تعالى: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [النحل:36]، وقال تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ [الأنبياء:25].
جاء خاتم الرسل والنبيين صلى الله عليه وسلم فنشر الله به التوحيد، وأعلى مناره، ودك به حصون الشرك ومحى أثره.
ثم إن الإسلام ازداد غربة يوماً بعد يوم إلى أن صارت قطعيات الدين وقطعيات التوحيد محل نقاش وسؤال عند كثير من الجهلة، مصداق قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بدأ الإسلام غريباً، وسيعود غريباً كما بدأ).
ونقول ما قاله بعض العلماء الأفاضل: لا يشك صبيان أهل التوحيد وأطفالهم في أن مثل هذا العمل من أعظم القربات وأجل الطاعات، وهو ما بعثت له الأنبياء وأرسلت الرسل، وما كنا نظن أن يأتي زمان نحتاج فيه إلى أن نثبت بالأدلة أن هدم الأوثان والأصنام وأوكار الشرك من أعظم واجبات الدين، ولكننا في زمن أتى بالعجائب.
يقول الله تعالى: فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى [البقرة:256]، لقد احتاط الإسلام أشد الاحتياط في قضية التوحيد، وتواترت النصوص الصحيحة الصريحة على تحريم عمل التماثيل ذوات الأرواح مطلقاً، وقد حكى الإجماع على تحريم ذلك غير واحد من العلماء.
فمن تلك الأدلة: ما ثبت في الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (الذين يصنعون الصور يعذبون يوم القيامة، يقال لهم: أحيوا ما خلقتم) وكلمة (الصور) تشمل في ما تشمل التماثيل، بل أولى شيء أن يدخل في الصور هو التمثال.
وفي الصحيحين -أيضاً- عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أشد الناس عذاباً يوم القيامة المصورون).
وفيهما -أيضاً- عن سعيد بن أبي الحسن قال: جاء رجل إلى ابن عباس رضي الله عنهما فقال: إني رجل أصور هذه الصور، فأفتني فيها. فقال له: ادنُ مني. فدنا منه، ثم قال: ادن مني. فدنا منه، حتى وضع يده على رأسه، قال: أنبئك بما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (كل مصور في النار يجعل له بكل صورة صورها نفساً فتعذبه في جهنم) وقال: إن كنت -و لا بد- فاعلاً فاصنع الشجر وما لا نفس له -يعني: ما لا روح فيه.
وفي الصحيحين أيضاً عن أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن من أشد الناس عذاباً يوم القيامة الذين يشبهون بخلق الله).
وفي صحيح البخاري عن أبي جحيفة رضي الله عنه (أن النبي صلى الله عليه وسلم لعن المصور).
وفيهما -أيضاً- عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من صور صورة في الدنيا كلف يوم القيامة أن ينفخ فيها الروح، وليس بنافخ).
وفيهما عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (قال الله عز وجل: ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي، فليخلقوا حبة، فليخلقوا ذرة، فليخلقوا شعيرة).
وعن جابر رضي الله عنه قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصورة في البيت، ونهى أن يصنع ذلك)رواه الترمذي وصححه.
وروى -أيضاً- الترمذي -وصححه- عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تخرج عنق من النار يوم القيامة لها عينان تبصران، وأذنان تسمعان، ولسان ينطق يقول: إني وكلت بثلاثة: بكل جبار عنيد، وبكل من دعا مع الله إلهاً آخر، وبالمصورين).
وروى الإمام أحمد من حديث عاصم عن أبي وائل عن عبد الله رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أشد الناس عذاباً يوم القيامة رجل قتله نبي أو قتل نبياً، وإمام ضلالة، وممثل من الممثلين) و(ممثل) هنا معناه ليس المعنى الطارئ الآن، لكن معناه: صانع التماثيل.
وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تدخل الملائكة بيتاً فيه تماثيل أو تصاوير).
وفي حديث أبي طلحة : (لا تدخل الملائكة بيتاً فيه كلب ولا صورة).
وعن معاوية رضي الله تعالى عنه أنه خطب الناس فذكر في خطبته أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حرم سبعة أشياء، وذكر منها التصاوير.
وهذه الأحاديث دلالتها ظاهرة جداً على تحريم الصور ذوات الأرواح بكافة أشكالها، وعلى أن ذلك من الكبائر، فلعن المصور، وبيان أنه أشد الناس عذاباً يوم القيامة، وأنه من أظلم الناس، والنهي عن ذلك، وبيان أن الملائكة لا تدخل بيتاً فيه تمثال أو صورة يندر أن نجد مثله يتحقق في محرم من المحرمات.
يقول الإمام النووي رحمه الله: قال أصحابنا وغيرهم من العلماء: تصوير صورة الحيوان حرام شديد التحريم - أي ما فيه روح- وهو من الكبائر؛ لأنه متوعد عليه بهذا الوعيد الشديد المذكور في الأحاديث.
ونلاحظ -أيضاً- من هذه النصوص أن التحريم أتى عاماً لم يستثن فيه شيء، ولم يفرق فيه بين تمثال وآخر، فلم يفرق بين كونه تمثالاً يعبد أو لا يعبد، أو تمثالاً مأخوذاً للزينة، أو تمثالاً لحفظ التراث والسجل البشري الذي يقايس عليه تاريخ الأمم... إلخ، أو كان التمثال صغيراً أم كبيراً، حديثاً أم قديماً، فيلاحظ في الأحاديث أن صيغها صيغ عموم بكل أشكاله، ففي قول الرسول عليه الصلاة والسلام: ( من صور صورة) (من) هذه من صيغ العموم، وقوله: (كل مصور في النار) (كل) صيغة عموم، وقوله: (لا تدع صورة إلا طمستها) لفظ (صورة) نكرة في سياق النفي، فتفيد أيضاً العموم، وقول النبي عليه الصلاة والسلام: (أشد الناس عذاباً يوم القيامة المصورون) (أل) هنا في قوله (المصورون) للاستغراق، فتفيد العموم.
فإذاً الشريعة تحرم التماثيل أياً كان نوعهاً، سواء اتخذت للعبادة أو كانت لا تعبد. والأحاديث تتناول كافة أشكال التماثيل والتصاوير بمعناها ومعقولها فتشملها علة التحريم.
أما علة التحريم فلأنّ اتخاذ الأصنام والتماثيل ذريعة لعبادتها من دون الله تبارك وتعالى، وطريق للغلو فيها وتعظيمها، وهذا الذي وقع بالفعل، كانت أول ذريعة لوقوع الشرك في بني آدم ما ذكر في صحيح البخاري من حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في قول الله تبارك وتعالى: وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا [نوح:23].
قال ابن عباس : هذه أسماء رجال صالحين من قوم نوح، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا في مجالسهم التي كان يجلسون فيها أنصاباً وسموها بأسمائهم. ففعلوا فلم تعبد، حتى إذا هلك أولئك ونسخ العلم عبدت هذه التماثيل.
وروى الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (يجمع الله الناس يوم القيامة في صعيد واحد، ثم يطلع عليهم رب العالمين فيقول: ألا فليتبع كل أناس ما كانوا يعبدونه، فيمثل لصاحب الصليب صليبه، ولصاحب التصاوير تصاويره، ولصاحب النار ناره، فيتبعون ما كانوا يعبدون). قال تعالى: إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ [الأنبياء:98].
يقول الإمام ابن القيم : وقال غير واحد من السلف: كان هؤلاء قوماً صالحين في قوم نوح عليه السلام، فلما ماتوا عكفوا على قبورهم، ثم صوروا تماثيلهم، ثم طال عليهم الأمد فعبدوهم.
فهؤلاء القوم -كما يقول بعض العلماء- اجتمع فيهم الفتنتان: فتنة التماثيل وفتنة القبور.
والفتنتان جمعهما النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق على صحته عن أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها أن أم سلمة رضي الله عنها ذكرت لرسول الله صلى الله عليه وسلم كنيسة رأتها بأرض الحبشة يقال لها مارية، فذكرت له ما رأت فيها من الصور، فقال عليه الصلاة والسلام: (أولئك قوم إذا مات فيهم العبد الصالح -أو الرجل الصالح- بنوا على قبره منزلاً وصوروا فيه تلك الصور، أولئك شرار الخلق عند الله تعالى).
وعن مجاهد في قوله تعالى: أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى [النجم:19] قال: كان اللات رجلاً صالحاً يلت لهم السويق، فمات فعكفوا على قبره. وكذلك قال أبو الجوزاء عن ابن عباس : كان يلت السويق للحاج.
فتعظيم القبور واتخاذ التماثيل كان -بلا شك- هو الذريعة إلى عبادتها من دون الله.
يقول الإمام ابن العربي المالكي رحمه الله تعالى: والذي أوجب النهي عنه في شرعنا -والله أعلم- ما كانت العرب عليه من عبادة الأوثان والأصنام، فكانوا يصورون ويعبدون، فقطع الله الذريعة وحمى الباب، فإن قيل: فقد قال حين ذم الصور وعملها من الصحيح قول النبي عليه الصلاة والسلام: (من صور صورة عذبه الله حتى ينفخ فيها الروح، وليس بنافخ)، وفي رواية: (الذين يشبهون بخلق الله) فعلل بغير ما زعمتم -يعني: أن العلة علة أخرى، وهي مضاهاة خلق الله-!
قلنا: نهى عن الصورة، وذكر علة التشبيه بخلق الله، وفيها زيادة علة عبادتها من دون الله، فنبه على أن نفس عملها معصية، فما ظنك بعبادتها؟!
وقد ورد في كتب التفسير شأن يغوث ويعوق ونسر، وأنهم كانوا أناساً، ثم صوروا بعد موتهم وعبدوا، يقول الإمام ابن العربي رحمه الله تعالى: وقد شاهدت بثغر الإسكندرية إذا مات منهم ميت صوروه من خشب في أحسن صورة، وأجلسوه في موضعه من بيته، وكسوه بزته إن كان رجلاً. وحليتها إن كانت امرأة، وأغلقوا عليه الباب، فإذا أصاب أحداً منهم كرب. أو تجدد لهم مكروه فتح الباب عليه، وجلس عنده يبكي ويناديه بكان وكان. حتى يكسر ثورة حزنه بإهراق دموعه، ثم يغلق الباب عليه وينصرف عنه.
وإن تمادى بهم الزمان عبدوها من جملة الأصنام والأوثان.
إذاً العلة الأولى هي سد الذريعة إلى عبادتها من دون الله.
العلة الثانية: أن فيها مضاهاة لخلق الله تعالى، فالذين يتكلمون في الفضائيات والمجلات والجرائد إما أنهم جهلة وإما أنهم مدلسون؛ لأنهم يخفون الحقيقة، فهم يدلسون في الكلام، وإنه ليشك في نزاهة هؤلاء الناس أو كثير منهم، فهم يحرصون على دعوى أن الناس قد ترقوا، والعقيدة راسخة لا يضرها وجود التماثيل... إلى آخر هذا الكلام.
فنقول: هل العلة -فقط- هي سد الذريعة دون عبادتها؟
والجواب: لا، فهناك علة أخرى ما زالت قائمة، وهي علة مضاهاة خلق الله؛ لأنه كما يحرم على المخلوق أن يشبه الله بالمخلوق فكذلك يحرم على المخلوق أن يتشبه بفعل من أفعال الخالق سبحانه وتعالى، فلا نشبه الله بخلقه ولا يتشبه المخلوق بفعل هو من خصائص الخالق وهو التصوير والخلق، فهناك مضاهاة لخلق الله تبارك وتعالى كما جاء في الحديث: (الذين يضاهون بخلق الله)وقال: (الذين يشبهون بخلق الله)، ويقول الله سبحانه وتعالى في الحديث القدسي: (ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي)، وأيضاً في الحديث: (كلف أن ينفخ فيها الروح)، أي: كلف على سبيل التعجيز له أن ينفخ فيها الروح.
إذاً هذه العلة ظاهرة ثابتة ولا تنسخ، ولا تتغير بتغير الزمان والمكان، ولا بتغير حجم التماثيل والتصاوير واختلافها، يقول الإمام ابن دقيق العيد رحمه الله تعالى: وقد تظافرت دلائل الشريعة على المنع من التصوير والصور، ولقد أبعد غاية البعد من قال: إن ذلك محمول على الكراهة، وإن هذا التشديد كان في ذلك الزمان لقرب العهد من الأوثان، وهذا الزمان حيث انتشر الإسلام وتمهدت قواعده لا يساويه في هذا المعنى، فلا يساويه في هذا التشديد. يقول ابن دقيق العيد -رحمه الله-: وهذا عندنا باطل قطعاً؛ لأنه قد ورد في الأحاديث الإخبار عن أمر الآخرة بعذاب المصورين، فإنهم يقال لهم: (أحيوا ما خلقتم) وهذه علة مخالفة لما قاله هذا القائل، وقد صرح بذلك في قوله: (المشبهون بخلق الله)، وهذه علة عامة مستقلة مناسبة لا تخص زماناً دون زمان، وليس لنا أن نتصرف في النصوص المتظاهرة المتظافرة بمعنى خيالي يمكن أن لا يكون هو المراد مع ضعف التعليل بغيره وهو التشبيه بخلق الله تبارك وتعالى. اهـ
وهناك علة أخرى، وهي: أن في اتخاذ التماثيل تشبهاً بالمشركين وعباد الأوثان، وقد ثبت في السنن عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من تشبه بقوم فهو منهم).
وهناك علة أخرى، وهي أنها مانعة من دخول الملائكة، فالرسول عليه الصلاة والسلام يقول: (إن الملائكة لا تدخل بيتاً فيه تصاوير)، وهذا عام، فهذه العلة تدل على أن كافة التماثيل تدخل في هذا الحكم، وإن كانت متخذة للعبادة فإن ذلك يكون من باب أولى مع وجود العلل الأخرى. إذاً هي محرمة على كل حال.
وأيضاً: إذا تأملنا سنة النبي صلى الله عليه وسلم علمنا أن هذا التحريم عام وشامل لجميع أشكال التماثيل، أما ما اتخذ من أجل العبادة من دون الله فلا شك أنه قد تواترت الأحاديث في هدمه ومحوه وإزالته، وأمره صلى الله عليه وسلم بذلك.
أما ما لا يتخذ للعبادة فقد روى الترمذي -وصححه أبو داود - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أتاني جبريل فقال: إني كنت أتيت البارحة فلم يمنعني أن أكون دخلت عليك البيت الذي كنت فيه إلا أنه كان في باب البيت تمثال الرجال، وكان في البيت قرام ستر فيه تماثيل، وكان في البيت كلب، فمر برأس التمثال الذي بالباب فليقطع فليصير كهيئة الشجرة، ومر بالستر فليقطع ويجعل منه وسادتان منتبذتان يوطآن، ومر بالكلب فيخرج. ففعل رسول الله صلى الله عليه وسلم) أو كما جاء في الحديث.
فهل التمثال الذي كان في البيت كان يتخذ للعبادة؟! معاذ الله! هذا مستحيل، ومع ذلك أمره جبريل بأن يزيله.
وكذلك أنكر النبي عليه الصلاة والسلام على عائشة القرام الذي فيه التصاوير، فهل كان يتخذ للعبادة؟ لا.
ومن المعروف أن الإسلام عدو الأوثان وعدو الأصنام، يقول الله تبارك وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [المائدة:90] فأدخل الأنصاب، وقال: (رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه).
ومن تأمل يجد كل الأدلة من القرآن أو من السنة بأنواعها القولية أو الفعلية أو التقريرية تنهى عن ذلك، ثم يأتي أيضاً الدليل الآخر وهو واقع المسلمين والتاريخ الذي يحاول أن يزوره هؤلاء المخادعون المدلسون. ومن الغريب أنهم عندما يتكلمون لا يتطرقون إلى أي شيء من هذه الأدلة، فلا يوجد أحد منهم أبداً أتى بأحاديث أو آيات إلا لماماً من أجل التأويل فقط، يأتي بها في سياق التأويل من أجل إخضاعها لأهوائهم وأغراضهم.
ولنتأمل قول الله تبارك وتعالى عن إبراهيم عليه السلام: وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ [الأنبياء:57]، فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلا تَأْكُلُونَ [الصافات:91] * مَا لَكُمْ لا تَنطِقُونَ [الصافات:92] * فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ [الصافات:93] فإبراهيم عليه السلام ما كان له أتباع كثيرون، وكان غريباً في قومه، ومع ذلك قام بتحديهم بتكسير هذه الآلهة وهذه الأصنام التي يعبدونها من دون الله، والله سبحانه وتعالى قال لنا: قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ [الممتحنة:4].
يعني: لكم أسوة حسنة في إبراهيم في هذه الأشياء التي ذكرت من مباينة الكفار ومعاداتهم وترك موالاتهم، إلا في قوله لأبيه: (لأستغفرن لك) فإنه لا أسوة لكم في هذا.
فاستثناء هذا الأمر وحده دليل على أنه أسوة فيما عدا ذلك، فيؤخذ منه مشروعية تكسير هذه الأصنام.
وقال تعالى: وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [الأنعام:74]، ويقول الله تبارك وتعالى -أيضاً-: وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا [الإسراء:81]، وفي صحيح البخاري وغيره عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (دخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة وحول الكعبة ثلاثمائة وستون صنماً -وفي رواية: نصباً- فجعل يطعنها بعود في يده، وجعل يقول: جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا [الإسراء:81]).
يقول القرطبي : في هذه الآية دليل على كسر نصب الأوثان إذا غَلب عليهم.
فهنا أمر مهم جداً، ونحن نقر به، وهو أن تكسير هذه الأوثان مرتبط بفقه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو مشروط، وستلاحظ كلام العلماء فانتبه واستصحب هذا، فالعلماء لما يتكلمون يشترطون ويقولون: موضوع التمكين والغلبة. بدليل أن الرسول عليه الصلاة والسلام نفسه في المرحلة المكية كانت الأصنام حول الكعبة وما أزالها، لكن حينما دخلها فاتحاً كسر هذه الأصنام، فعنصر التمكين هنا لابد من أن يؤخذ في الاعتبار.
إن هدم الأصنام أمر جرى عليه فعل الأنبياء، فقد قال الله تبارك وتعالى في قصة موسى عليه السلام في شأن العجل الذي اتخذه قومه إلهاً من دون الله: وَانظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا [طه:97] فهكذا فعل موسى -أيضاً- مع عجل السامري، مع أن الله سبحانه وتعالى قال عن أنبياء ومنهم موسى عليهم السلام: أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ [الأنعام:90] فمن هنا نستدل بفعل موسى عليه السلام؛ لأنّ قدوتنا أمر بالاقتداء بهم، فأمر القدوة هو أمر لأتباعه.
وقد تواتر هدم النبي عليه الصلاة والسلام لأصنام الجاهلية بيده الشريفة عليه الصلاة والسلام، فالرسول عليه الصلاة والسلام كان يشير إلى الأصنام ويطعنها ويكسرها حينما دخل مكة فاتحاً، جاء في صحيح البخاري ومسلم : (لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة كان حول الكعبة ثلاثمائة وستون صنماً، فجعل يطعنها بالقوس ويقول: جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا [الإسراء:81]، جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ [سبأ:49])، فجعلت تخر وتتساقط على وجوهها.
وفي الصحيحين أن الرسول عليه الصلاة والسلام بعث جرير بن عبد الله البجلي مع سرية لكسر صنم ذي الخلصة في اليمن، وروى ابن سعد وغيره: أن النبي عليه الصلاة والسلام بعث خالد بن الوليد إلى نخلة لهدم العزى. ومعروفة القصة في ذلك، وبعث النبي عليه الصلاة والسلام المغيرة بن شعبة وأبا سفيان بن حرب إلى الطائف لهدم اللات، وروى ابن سعد : أن النبي عليه الصلاة والسلام بعث علي بن أبي طالب إلى الفلس -وهو صنم طيّئ- لهدمه، وروى ابن سعد : أنه أيضاً بعث عمرو بن العاص رضي الله عنه إلى سواع لكسره، وهو عمرو بن العاص الذي يفتري عليه المفترون، ولا يستحون من الله حيث يدعون أن عمرو بن العاص رأى الأصنام وأقرها، وربما يكون رآها وما استطاع هدمها، لكن أن يرى ما يقدر على كسره من الأصنام والأوثان ولا يفعل كيف يظن هذا بـعمرو بن العاص رضي الله عنه الذي قال فيه النبي عليه الصلاة والسلام: (ابنا العاص مؤمنان:
فالله المستعان! وهل كان في أيامه عولمة؟!
كذلك روى ابن سعد أن النبي عليه الصلاة والسلام بعث الطفيل بن عمرو إلى ذي الكفين -وهو صنم دوس لتحريقه، وروى ابن سعد أنه عليه الصلاة والسلام بعث سعد بن زيد الأشهلي إلى المشلل لهدم مناة، فهل كان الرسول وأصحابه يدمرون الآثار، ويهدمون الحضارة والتراث الإنساني، أم كانوا ينظفون العقول ويغسلون القلوب من أوضار الشرك ورجس الوثنية؟!
في صحيح مسلم عن عمرو بن عبسة رضي الله عنه قال: (قلت: يا رسول الله! بأي شيء أرسلك الله؟ قال: بصلة الأرحام، وكسر الأوثان، وأن يوحد الله ولا يشرك به شيئاً) سأله: بم أرسلك؟ فذكر من جملة ما ذكر كسر الأوثان.
وكان النبي عليه الصلاة والسلام يوصي أصحابه بذلك، فعن أبي الهياج الأسدي قال: قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: (ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ أن لا تدع صورة إلا طمستها، ولا قبراً مشرفاً إلا سويته).
يقول الشيخ ابن عثيمين رحمه الله تعالى: إن كانت ملونة - أي: إن كانت لوحة ملونة- فَطَمْسُها بوضع لون آخر يزيل معالمها، وإن كانت تمثالاً فإنه يقطع رأسه. ثم قال: وظاهر الحديث عام، سواء أكانت تعبد أم لا.
وهناك رواية أخرى لحديث أبي الهياج قال: قال لي علي رضي الله عنه: (ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ أن لا تدع صورة إلا طمستها، ولا قبراً مشرفاً إلا سويته) وعند أحمد بلفظ: (وأن أطمس كل صنم)وفي رواية أخرى -أيضاً- عند أحمد : (وأن تلطخ كل صنم).
وجاء الوعيد الشديد لمن نصب الأصنام والأوثان، كما حدث للطاغية عمرو بن لحي الخزاعي إمام الشرك والوثنية في قريش، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري في المناقب في باب قصة خزاعة عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (رأيت
فالأدلة كثيرة -كما قلنا- من السنة القولية والسنة العملية، وسرايا النبي صلى الله عليه وسلم التي أرسلها لكسر هذه الأصنام تؤكد ذلك، ومعروف أن العزى واللات ومناة الثالثة هي أعظم أصنام العرب، كما قال تعالى: أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى [النجم:19] * وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى [النجم:20]، ومع أنها كانت معظمة جداً عند العرب إلا أنه صلى الله عليه وسلم لم يكترث ولم يخس من أن تجتمع عليه العرب بأجمعها، فجعلها كلها جذاذاً ولم يدع منها شيئاً.
وروى البخاري في مغازيه قال: قال جرير بن عبد الله رضي الله عنه: (قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا تريحني من ذي الخلصة -أي: أن الرسول عليه الصلاة والسلام كان حزيناً من وجود هذا الصنم الذي يعبد من دون الله-؟ قال: فنفرت في مائة وخمسين راكباً فكسرناه..) إلى آخر الحديث.
وثقيف سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدع لهم الطاغية صنمهم اللات لا يهدمها ثلاث سنين، وألحوا على الرسول عليه الصلاة والسلام في أن يؤجل هدم الصنم ثلاث سنين، فأبى، فما برحوا يسألونه ويأبى عليهم، فألحوا على أن يؤجل تحطيمها سنة ويأبى عليهم، حتى سألوه شهراً واحداً فأبى أن يدعها، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا سفيان بن حرب والمغيرة بن شعبة رضي الله عنهما يهدمانها، فهدماها في مشهد عظيم.
يقول ابن القيم -رحمه الله تعالى- في فقه هذه القصة في زاد المعاد: ومنها -من حكم أو فوائد هذه القصة- هدم مواضع الشرك التي تتخذ بيوتاً للطواغيت، وهدمها أحب إلى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وأنفع للإسلام والمسلمين من هدم الحانات والمواخير.
وهذا حال المشاهد المبنية على القبور التي تعبد من دون الله، ويشرك بأربابها مع الله، فإنه لا يحل إبقاؤها في الإسلام، ويجب هدمها.
فإذاً رسولنا صلى الله عليه وسلم -أيضاً- هو محطم الأوثان والتماثيل.
وفي الصحيحين عن أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: (دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا متسترة بقرام فيه صورة فتلون وجهه فهتكته، ثم قال: إن من أشد الناس عذاباً يوم القيامة الذين يشبهون بخلق الله).
وروى ابن أبي شيبة عن أسامة رضي الله عنه قال: (دخلت مع النبي صلى الله عليه وسلم الكعبة، فرأيت في البيت صورة، فأمرني فأتيته بدلو من الماء، فجعل يضرب تلك الصورة ويقول: قاتل الله قوماً يصورون ما لا يخلقون)، ولم يصل النبي عليه الصلاة والسلام داخل الكعبة إلا بعد أن أزيلت منها هذه الصور.
فأين موقف ذلك الشخص المستنير المثقف الذي يشتكي أن أحد قوات طالبان صلى في بيته، ثم أعاد الصلاة وشك في صحتها؛ لأنه كان هناك تماثيل في الحجرة بعد أن اكتشف الأمر في صيغة التهكم والتحقير أين هو من فعل النبي صلى الله عليه وسلم.
ودائماً يتكلمون معنا باستعلاء، وإذا قالوا كلمة: (سلفية) فبالاحتقار والازدراء، مع أن الرسول عليه الصلاة والسلام يقول: (المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه ولا يخذله ولا يحقره، بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم) فكيف إذا كان هذا هو المحق وأنت المبطل المدافع عن الأوثان؟!
فهذا يتكلم بنوع من الأنفة والغرور والاستعلاء بأن هؤلاء أناس متخلفون وجهلة!
وعن أبي محمد الهذلي عن علي رضي الله تعالى عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنازة، فقال: أيكم ينطلق إلى المدينة فلا يدع بها وثناً إلا كسره، ولا قبراً إلا سواه، ولا صورة إلا لطخها؟ فقال رجل: أنا يا رسول الله. فانطلق فهاب أهل المدينة فرجع، فقال
وروى البخاري عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: (لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يترك في بيته شيئاً فيه تصاليب إلا نقضه) وبوب عليه البخاري رحمه الله تعالى: (باب نقض الصور).
وروى الترمذي عن عدي بن حاتم رضي الله عنه قال: (أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وفي عنقي صليب من ذهب، فقال: ما هذا يا
وروى البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (والذي نفسي بيده ليوشكن ابن مريم أن ينزل حكماً مقسطاً فيكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية، ويفيض المال حتى لا يقبله أحد).
تكسير الأصنام والأوثان حث عليه الشرع أولاً بدلالة السنة، حيث كسر الرسول عليه الصلاة والسلام بنفسه الأصنام كما في فتح مكة، وكذلك بعثه للسرايا لكسر الأصنام الأخرى، والأمر المطلق للصحابة بكسر الأصنام، وبيان أنه بعث لكسر الأصنام، وهتكه للصور التي رآها.
أما ما يذكره هؤلاء الناس فنحن نقول لهم باختصار شديد: خير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم.
وهناك أمر يعبر عنه الأجانب باصطلاحين مهمين جداً في هذه المسألة، وهو الشيء التكتيكي والاستراتيجي، فالتكتيكي هو مثل الفتوى عندنا، الفتوى من حيث مطابقتها وملاءمتها مع الواقع، والاستراتيجي يعني أنه عقيدة وفكر لا يتغير أبداً، ولا يتنازل الإنسان عنه.
ففي هذه القضية -كما أشرنا- جانب فقهي نظري -الذي هو الاستراتيجي من ناحية العقيدة والأدلة- فهو الحكم الشرعي، وهناك جانب واقعي تطبيقي -وهو التكتيكي- وهو ربط ذلك الأمر بالواقع، وهذا ما سنوضحه إن شاء الله تعالى فيما بعد.
فنحن نقول لهؤلاء: خير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، فلا يليق أن يأتي بعد ذلك من يفرض علينا انهزاميته أمام الغرب بحجة مجاراة العصر والحضارات الكافرة، وينسون أنهم قد وافقوا الكفار ووقفوا معهم في خندق واحد للأسف الشديد.
وهذه الشبه التي يلقونها على المسلمين هي لتخذيل أمة الإسلام عن أن تتم رسالة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، والله سبحانه وتعالى يقول: فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِلْكَافِرِينَ [القصص:86]، ويقول تعالى على لسان موسى عليه السلام: رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ [القصص:17]، وقال تعالى: وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا [النساء:105]، وقال تعالى: وَلا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ [النساء:107]، وقال تعالى: وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ [المائدة:2].
وهنا نذكر بعض أقوال السلف الصالح رحمهم الله في هذه المسألة:
فقد روى ابن أبي شيبة عن عثمان بن عفان رضي الله عنه أنه كان يصلي إلى تابوت فيه تماثيل، فأمر به فحك. حكت هذه التماثيل.
وروى البيهقي في سننه عن أبي مسعود رضي الله عنه أن رجلاً صنع له طعاماً فدعاه، فقال: أفي البيت صورة؟ قال: نعم. فأبى أن يدخل حتى كسر الصورة ثم دخل.
وروى الإمام أحمد عن المسور بن مخرمة أنه دخل على عبد الله بن عباس يعوده، فرأى عليه ثوب إستبرق، فقال: يا ابن عباس ! ما هذا الثوب؟ قال ابن عباس رضي الله عنهما: وما هو؟ قال: الإستبرق. قال: إنما كره ذلك لمن يتكبر فيه. قال: ما هذه التصاوير في الكانون؟ فقال: لا جرم، ألم تر كيف أحرقتها بالنار؟ فلما خرج قال: انزعوا هذا الثوب عني، واقطعوا رءوس هذه التصاوير التي في الكانون.
وروى ابن أبي شيبة عن محمد بن سيرين أنه كان لا يُترك لأهل فارس صنماً إلا كسر، ولا ناراً إلا أطفئت.
وروى أبو الشيخ عن عمر بن عبد العزيز أنه كتب إلى عدي بن أرطأة أن يمحو التماثيل المصورة.
ولا بأس -أيضاً- أن نذكر أقوال بعض الفقهاء، وهي كثيرة جداً في المذاهب الأربعة المتبعة:
جاء في (مجمع الأنهر شرح ملتقى الأبحر): قوله في الشريعة: (قتل الكفار ونحوه... إلى قوله: وكسره أصنامهم). والمراد الاجتهاد في تقوية الدين.
أما السرخسي فقد قال في شرح السير الكبير: ولو وجدوا في الغنائم صليباً من ذهب أو فضة أو تماثيل أو دراهم أو دنانير فيها التماثيل فإنه ينبغي للإمام أن يكسر ذلك كله.
وقال الملا علي القاري في (مرقاة المفاتيح) قال العلماء: التصوير حرام، والمحو واجب حيث لا يجوز الجلوس في مشاهدته.
وفي الفتاوى الهندية: إن وجدوا في الغنيمة قلائد ذهب أو فضة فيها الصليب والتماثيل فإنها يستحب كسرها قبل القسمة.
ونقل الملا علي القاري الحنفي في المرقاة قول العلماء بوجوب محو الصور.
وقال القرطبي في تفسير قوله تعالى: وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا [الإسراء:81] في هذه الآيات الدليل على كسر نصب الأوثان إذا غلب عليهم. أي: إذا تمكن المسلمون.
وقال أيضاً: ما ذكرنا من تفسير الآية ينظر قوله عليه الصلاة والسلام: (والله لينزلن عيسى بن مريم حكماً عادلاً، فليكسرن الصليب، وليقتلن الخنزير، وليضعن الجزية، ولتتركن القلاص فلا يسعى عليها) والحديث في الصحيحين.
يقول القرطبي : ومن هذا الباب هتك النبي صلى الله عليه وسلم الستر الذي فيه الصور، وذلك أيضاً دليل على إفساد الصور وآلات الملاهي كما ذكرنا، وهذا كله يحظر المنع من اتخاذها، ويجب التغيير على صاحبها... الخ.
وقال الخرشي في (شرح مختصر خليل) في تكسير الأوثان: ومثله الصليب إذا أظهروه في أعيادهم واستسقائهم.
و العز بن عبد السلام يقول: محو الكفر وإزالته من قلوب الكافرين ومن ألسنتهم. إلى أن قال: وكسر صلبانهم وأوثانهم.
وقال أبو يحيى الأنصاري الشافعي في (أسمى المطالب) في كتاب الغصب، باب الضمان: ويلزم المكلف القادر كسر الأصنام. ثم نقل عن صاحب الإحياء أنه قال: ليس لأحد أن يمنع أحداً من كسرها، وأن الصبي غير المكلف مأجور على كسرها.
وقال الهيثمي : والأصنام والصلبان وآلات الملاهي والأواني المحرمة لا يجب في إبطالها شيء لوجوبه على القادر عليه.
وقال الأنصاري : يلزم المكلف القادر كسر الأصنام.
أما الحنابلة فيقول ابن القيم في الطرق الحكمية: المنكرات من الأغاني والصور يجوز إتلاف محلها تبعاً لها، مثل الأصنام المعبودة من دون الله لما كانت صورها منكرة جاز إتلاف مادتها، فإذا كانت حجراً أو خشباً أو نحو ذلك جاز تكسيرها وتحريقها. وذكر حديث أبي الهياج الأسدي ، ثم قال: وهذا يدل على طمس الصور في أي شيء كانت، وهدم القبور المشرفة وإن كانت من حجارة أو آجر أو لبن، قال المروذي : قلت لـأحمد : الرجل يكتري البيت فيرى فيه تصاوير، ترى أن يحكها؟ قال: نعم. وحجته هذا الحديث الصحيح.
وذكر حديث الرسول عليه الصلاة والسلام أنه لما رأى الصور في البيت لم يدخل حتى أمر بها فمحيت، وحديث: (لا تدخل الملائكة بيتاً فيه كلب ولا صورة)، كذلك حديث نقض التصاليب، وحديث نزول المسيح عليه السلام.
ثم يقول: فهؤلاء رسل الله صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين -إبراهيم، وموسى، وعيسى، وخاتم المرسلين محمد صلى الله عليه وسلم- كلهم على محك المحرم وإتلافه بالكلية، وكذلك الصحابة رضي الله عنهم، فلا التفات إلى من خالف ذلك.
وقال في روضة المحبين: وإنما بعث الله رسله بكسر الأصنام وعبادته وحده لا شريك له.
وقال الإمام ابن القيم -أيضاً- في زاد المعاد: لا يجوز إبقاء مواضع الشرك والطواغيت بعد القدرة على هدمها وإبطالها يوماً واحداً؛ فإنها شعار الكفر والشرك، وهي أعظم المنكرات فلا يجوز الإقرار عليها ألبتة، وهذا حكم المشاهد التي بنيت على القبور التي اتخذت أوثاناً وطواغيت تعبد من دون الله، والأحجار التي تقصد للتعظيم والتبرك والنذر والتقبيل لا يجوز إبقاء شيء منها على وجه الأرض مع القدرة على إزالته، وكثير منها بمنزلة اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى بل أعظم شركاً عندهم وبها، والله المستعان.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر