إسلام ويب

سلسلة السيرة النبوية بيعة العقبة الأولىللشيخ : راغب السرجاني

  •  التفريغ النصي الكامل
  • في دين الله عز وجل ينظر إلى الكيف لا الكم، إلى العمل لا التوقعات وترقب الأجواء المناسبة والظروف المواتية، وهكذا سارت دعوة النبي صلى الله عليه وسلم، عمل شاق في كل وقت وحين، ودعوة في كل الظروف ولكل الأشخاص، وتطوير للدعوة وأساليبها، وحرص على إبلاغ جميع الناس كبيرهم وصغيرهم قويهم وضعيفهم، ومع ذلك ما نصرت الدعوة بقريش وسيادتها، بل خذلته وحاربته، ثم أذن الله لفئة من أهل يثرب أن تبنى على أكتافهم قواعد بناء الدولة في المدينة المنورة، وقبلوا بشروط أنف منها أناس، واستعظمها آخرون، ولم يأبه بها البعض، لأعذار واهية، وأطماع دنيوية.

    1.   

    السياسة الدعوية للرسول صلى الله عليه وسلم بين وفود الحجيج للعام الحادي عشر من البعثة

    إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، إنه من يهده الله فهو المهتدي، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً.

    وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

    أما بعد:

    فمع الدرس الثاني عشر من دروس السيرة النبوية المطهرة، فترة مكة.

    تكلمنا في الدرس السابق عن العام العاشر من البعثة، وهو العام الذي عرف في السيرة بعام الحزن، وحدثت فيه الكثير من الشدائد والمصائب والآلام والأحزان، مات فيه أبو طالب مشركاً، وماتت فيه السيدة العظيمة الفاضلة خديجة رضي الله عنها، واشتد إيذاء المشركين لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وأغلقت أمامه أبواب الدعوة تماماً في مكة، ورفضت دعوته في الطائف، ورجم بالحجارة حتى سالت الدماء من قدميه صلى الله عليه وسلم، وشج رأس زيد بن حارثة ، ولم يستطع الرسول صلى الله عليه وسلم دخول مكة إلا في جوار المطعم بن عدي المشرك، وفوق ذلك لم تؤمن أي قبيلة في موسم الحج من السنة العاشرة.

    كيف تصرف الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا الوضع؟

    في السنة الحادية عشرة من البعثة ظل النبي صلى الله عليه وسلم يدعو الناس في مكة طوال العام، لكن أبواب الدعوة في هذا الوقت كانت مقفلة تقريباً، فكان لا بد له أن ينتظر موسم الحج القادم ليعرض الأمر على وفود القبائل التي ستأتي للحج، ومع ذلك فالرسول صلى الله عليه وسلم في أثناء هذه السنة، وقبل موسم الحج لم يكن يسمع أن هناك أحداً غريباً أتى إلى مكة إلا ودعاه إلى الإسلام، ومن كل الذين أتوا إلى مكة في السنة الحادية عشرة من البعثة، آمن أربعة بدعوة الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذا مقارنة بالعام السابق يعتبر إنجازاً جيداً؛ ففي السنة الماضية لم يؤمن غير عداس في الطائف، ومجموعة الجن.

    أما الأربعة الذين أسلموا في السنة الحادية عشرة فمنهم من لم نسمع عن أسمائهم كثيراً، لأنهم ماتوا بعد إسلامهم، رجل اسمه سويد بن الصامت وكان شاعراً من شعراء يثرب، والثاني اسمه إياد بن معاذ وكان طفلاً صغيراً عمره (12) أو (13) سنة، وكلاهما مات بعد شهور من إسلامه.

    أما الاثنان الباقيان فقد كان إسلامهما مؤثراً؛ لأن كل واحد منهما أتى بعد ذلك بقبيلة كاملة للإسلام.

    الأول: أبو ذر الغفاري رضي الله عنه وأرضاه من قبيلة غفار على مقربة من يثرب، وهي قبيلة مشهورة بقطع الطريق والسطو على الناس، ومع ذلك أسلم أبو ذر رضي الله عنه وأرضاه ورجع إلى قبيلته يدعوهم إلى الله، وكانت دعوته ناجحة، فقد أتى بقبيلة غفار كاملة للإسلام، ولما هاجر الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ذهبوا إليه في المدينة يبايعونه على الإسلام، وحينها قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (غفار غفر الله لها)، أي: كل ما فات مسح.

    الثاني: الطفيل بن عمرو الدوسي رضي الله عنه، وقصة إسلامه جميلة، وليس هناك وقت للدخول في تفصيلاتها، لكن المهم أنه بعد إسلامه رجع يدعو قومه، وقبيلته هي دوس من قبائل اليمن، وبعد مشوار طويل وقصة لطيفة آمنت دوس، وجاء الطفيل رضي الله عنه بسبعين أو ثمانين عائلة من دوس إلى المدينة المنورة بعد هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، والعائلة في ذلك الوقت عدد أفرادها كبير.

    فإسلام أبي ذر والطفيل رضي الله عنهما أتى للمسلمين بقبيلتين كبيرتين، مع أن تلك القبيلتين لم تأت إلا بعد الهجرة، لكن هذا تدبير رباني من الله سبحانه وتعالى، يدبر بلطف وخفاء سبحانه وتعالى، ومن المؤكد أن إسلام هاتين القبيلتين كان نصراً كبيراً للدعوة في ذلك الزمن الذي يعرف بزمن الاستضعاف في فترة مكة.

    مرت الشهور وجاء موسم الحج من السنة الحادية عشرة من البعثة، وبدأ الرسول صلى الله عليه وسلم كعادته في كل موسم يدعو الناس إلى الإسلام، لكن في هذا الموسم بدأ الرسول صلى الله عليه وسلم يغير من طريقته لدعوة القبائل.

    ذكرنا قبل ذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان في إجارة المطعم بن عدي من بني نوفل، وهو مشرك، والرسول صلى الله عليه وسلم يعلم أن المطعم له طاقة محدودة، وأصحابه وأقرانه هم زعماء الكفر في مكة، ولن يتركوه كثيراً يدافع عن الرسول صلى الله عليه وسلم، فكان لا بد للنبي صلى الله عليه وسلم أن يبحث عن بديل للمطعم بن عدي.

    التغييرات على أسلوب الدعوة في العام الحادي عشر من البعثة

    كان الرسول صلى الله عليه وسلم يدعو الناس في خلال الأعوام العشرة السابقة إلى الإسلام فقط، (قولوا: لا إله إلا الله تفلحوا)، لكن الإسلام لوحده لم يكن كافياً، فدعا الرسول صلى الله عليه وسلم مع الإسلام إلى طلب النصرة، والدفاع عنه وعن المؤمنين ومواجهة قريش.

    وكانت هذه المطالب خطيرة في مكة، لأن قريشاً لو علمت بذلك ستقيم الدنيا ولن تقعدها، فـأبو لهب لم يترك الرسول صلى الله عليه وسلم، وكان يطارده في كل مكان.

    وكانت هناك مشكلة أخرى وهي أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن يعرف تاريخ كل قبيلة في الجزيرة، ومدى قوتها، وأسماء القادة فيها، لاحتمال أن يتفق مع أحدهم ثم لا تتحمل قبيلته المسئولية، وهذه اتفاقيات في منتهى الخطورة، ولتفادي هذا؛ فإن الرسول صلى الله عليه وسلم غير شيئين مهمين، الأول: جعل دعوته للقبائل سرية، فالرسول صلى الله عليه وسلم من السنة الرابعة من البعثة وهو يكلم الناس علناً، كان يتكلم أمام أبي لهب وأبي جهل وكل المشركين، لكن الأمر اختلف، وكان هناك مرونة في الدعوة، إذا كانت العلنية لن تؤدي المهمة فلتكن سرية، ليس هناك عنترية ولا انتحار، بل هناك تخطيط وإعداد وفكر سياسي راق، فبدأ الرسول صلى الله عليه وسلم الدعوة بالليل فقط، يخرج بالليل من غير أن يراه أحد، وفي كل يوم يختار للدعوة قبائل معينة، ويذهب إلى مخيماتهم خارج مكة في السر، لكي لا يراه أحد، وبذلك سيضرب عصفورين بحجر؛ لأنه سيوصل لهم الدعوة من غير تشويش من أبي لهب أو قريش، ولأن قريشاً لن تعرف ما هي القبيلة التي وافقت على حماية الرسول صلى الله عليه وسلم.

    إذاً: كان أول تغيير في سياسة الرسول صلى الله عليه وسلم في تلك السنة أن جعل دعوته للوفود الحاجة سرية.

    الثاني: أنه اصطحب معه أبا بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه، لأنه كان خبيراً بالأنساب، يستطيع أن يعرف القبيلة القوية العزيزة من القبيلة الضعيفة، ويستطيع أن يعرف زعماء القبائل وتاريخهم، لو كانت القبيلة قوية فالرسول صلى الله عليه وسلم يعرض عليهم الإسلام، ويطلب منهم النصرة، ولو كانت القبيلة ضعيفة أو زعيمها ليس بيده القرار عرض عليهم الإسلام، لكن لم يطلب منهم النصرة.

    تخطيط مهول، فبناء الأمم ليس شيئاً سهلاً، تخطيط سياسي على أعلى مستوى.

    دعوة النبي صلى الله عليه وسلم لقبيلة بني شيبان ونتائج ذلك

    ذهب صلى الله عليه وسلم إلى قبيلة غسان، وبني فزارة، وبني مرة، وبني سليم، وبني عبس، وبني نصر، وبني ثعلبة، وبني الحارث بن كعب، وبن عذرة، وبني قيس، وبني محارب، ذهب إلى كل هؤلاء وإلى غيرهم، فلم يقبل أي من هؤلاء الدعوة. وليس هناك مشكلة؛ لأن مهمتنا ليست الهداية، ولكن البلاغ، لا يهم كم آمن على يديك، لكن المهم كم عدد الذين أبلغتهم أمر الإسلام، هذا هو الذي يحاسبك عليه ربنا، عملك وليس نتائجك.

    المهم أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يصبه اليأس بعد أن انتهى من كل هذه القبائل، بل ذهب إلى قبيلة أخرى وهي قبيلة بني شيبان؛ وسنقف وقفة مع مباحثات الرسول صلى الله عليه وسلم مع بني شيبان.

    قبيلة بني شبيان قبيلة كبيرة عزيزة تسكن في الشمال الشرقي لجزيرة العرب -يعني: قريبة من العراق-، ذهب إليها الرسول صلى الله عليه وسلم ومعه أبو بكر الصديق، فبدأ أبو بكر أولاً يسأل: من القوم؟ قالوا: شيبان بن ثعلبة، بعد أن سمع أبو بكر هذا الاسم أسرع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال له: بأبي أنت وأمي يا رسول الله! هؤلاء غرر الناس، من أعظم القبائل، وعندما سأل عن أسماء الحضور وجد فيهم أشراف بني شيبان: مفروق بن عامر ، وهانئ بن قبيصة ، والنعمان بن شريك ، والمثنى بن حارثة.

    وأبو بكر يعرفهم ويعرف تاريخهم، كما أنه حاد الذكاء فبدأ يستثير الحماسة والعزة عندهم، قال الصديق : كيف العدد فيكم؟ فقال مفروق وهو المتحدث الرسمي في الوفد: إنا لنزيد على الألف، ولن تغلب ألف من قلة، وهذا رقم كبير، ولا ننسى أن المسلمين كانوا في بدر (313) أو (314)، وكان الكفار ألفاً.

    فأثاره أبو بكر أكثر وقال له: وكيف المنعة فيكم؟

    أحس مفروق بالإهانة فعلاً، فرفع صوته وقال: إنا لأشد ما نكون غضباً حين نلقى -يعني: في الحرب-، وأشد ما نكون لقاء حين نغضب، وإنا لنؤثر الجياد على الأولاد، والسلاح على اللقاح، والنصر من عند الله، يديلنا مرة ويديل علينا أخرى.

    كلام في منتهى الحكمة والقوة، وهذا ما كان يريده الصديق رضي الله عنه وأرضاه، أن يظهر العزة والكرامة التي عنده، حتى إذا ما طلب منه الوقوف أمام قريش لا يتراجع أو يتردد.

    وكما أن مفروقاً كان منتبهاً لأسئلة الصديق ، قال له: لعلك أخو قريش؟ أي: هل أنت الرجل الذي ظهر في قريش يدعو إلى دين جديد، يقصد الرسول صلى الله عليه وسلم.

    فأحب الصديق أن يكسب نقطة في الحوار، فقال له بمنتهى الذكاء: أو قد بلغكم أنه رسول الله؟! يعني: كأنهم متفقون على أنه رسول، وأمر واقع مسلّم به.

    لكن مفروقاً كان ذكياً وانتبه لسؤاله فرد عليه وقال: قد بلغنا أنه يذكر ذلك.

    لكن الحقيقة أنه كان رجلاً مؤدباً، وكل وفد بني شيبان كذلك، التفت مفروق للرسول صلى الله عليه وسلم وقال له: وإلام تدعو يا أخا قريش؟

    فتقدم الرسول عليه الصلاة والسلام وبدأ يتكلم قال: (أدعو إلى شهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأني رسول الله، وإلى أن تؤووني وتنصروني، فإن قريشاً قد تظاهرت على أمر الله، وكذبت رسوله، واستغنت بالباطل عن الحق، والله هو الغني الحميد).

    ويبدو أن مفروقاً أعجبه كلام الرسول صلى الله عليه وسلم، ولم يكن يخاف من قريش، لكنه أحب أن يتعرف أكثر على الدين الجديد، قال: وإلام تدعو يا أخا قريش؟

    فكر الرسول صلى الله عليه وسلم أن يقرأ له قرآناً، وعندما وجد الوفد أخلاقهم عالية، اختار لهم آيات قرآنية تحض على الأخلاق الحميدة، لكي يقف معهم على أرضية مشتركة، فقرأ لهم صلى الله عليه وسلم من سورة الأنعام قول الله تعالى: قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [الأنعام:151-153]

    انبهر مفروق من حلاوة المعاني ومن حلاوة اللغة، وشعر بالإعجاز، وأحب أن يعرف أكثر، فقال: وإلام تدعو يا أخا قريش؟!

    قال صلى الله عليه وسلم وهو يضرب على نفس الوتر: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [النحل:90].

    تأثر مفروق بالقرآن، وقال في منتهى الصراحة: دعوت يا أخا قريش والله إلى مكارم الأخلاق، ومحاسن الأعمال. ثم بدأ يشتم قريشاً، وأعجبه الإسلام كثيراً، حتى قال كما في رواية: إن هذا والله! ليس من كلام الأرض.

    لكن مفروق زعيم من مجموعة من الزعماء، والقرار ليس بيده وحده، فأحب أن يسمع رأي أصحابه، فقال: وهذا هانئ بن قبيصة شيخنا وصاحب ديننا، ولما كان هانئ بن قبيصة صاحب خلفية دينية أوسع أحب أن يأخذ رأيه، فبدا أن هانئ بن قبيصة كان معجباً بالإسلام أيضاً، ولم يكن لديه أي اعتراض عليه، لكنه يخاف أن يأخذ قراراً مثل هذا يترتب عليه دخول بني شيبان في حرب ليس فقط مع قريش، ولكن مع كل العرب.

    قال هانئ بن قبيصة: لقد سمعت مقالتك يا أخا قريش، وإني أرى أن تركنا ديننا واتباعنا إياك على دينك لمجلس جلسته إلينا ليس له أول ولا آخر لوهن في الرأي، وقلة نظر في العاقبة. يعني: ليس من المعقول أننا من جلسة واحدة ندخل في الإسلام ونحارب الدنيا بأكملها، وإنما تكون الزلة مع العجلة، ومن ورائنا قوم نكره أن نعقد عليهم عقداً، ولكن ترجع ونرجع، وتنظر وننظر. يعني: أعطنا فرصة للتفكير، وأنا أعتقد أن هذا انسحاب مؤدب من هانئ.

    إذاً: مفروق كان موافقاً، وهانئ متردد، وهو يميل إلى عدم الموافقة الآن، وإذا كانت العملية سيكون فيها حروب، فرأي وزير حربية بني شيبان سيكون مهماً أيضاً، وكان وزير الحربية عندهم هو المثنى بن حارثة رضي الله عنه؛ وقد أسلم بعد ذلك.

    قال هانئ : وهذا المثنى بن حارثة شيخنا وصاحب حربنا.

    المثنى فارس مغوار، وصاحب عقلية عسكرية فذة، وهو مشهور في العرب بذلك.

    قال المثنى بن حارثة : قد سمعت مقالتك يا أخا قريش، والجواب هو جواب هانئ بن قبيصة .

    يعني: هو مع عدم التسرع في دخول الإسلام، لكنه أضاف نقطة مهمة جديدة في المباحثات، بدأ يتحدث عن الوضع العسكري لبني شيبان، وكلامه هذا عن الوضع العسكري هو الذي سيجعله في النهاية يأخذ قراراً خطيراً.

    قال المثنى : إنما نحن نزلنا بين صرتين اليمامة والسماوة.

    الصرى هو تجمع المياه، يعني: أننا بين تجمعين للمياه، وبالتالي تجمعين للبشر، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما هذان الصريان؟ -أي: ما هما التجمعان؟- قال المثنى بن حارثة : أنهار كسرى، ومياه العرب).

    أي: تجمع دولة فارس، وتجمع القبائل العربية؛ لأن قبيلة بني شيبان كانت على حدود العراق، والعراق كانت مملكة فارسية، والجزيرة العربية فيها عشرات القبائل، وهو أراد أن يبين له حدود إمكانياته، وسيعرض عرضاً خطيراً.

    قال المثنى : فأما ما كان من أنهار كسرى -يعني: دولة فارس- فذنب صاحبه غير مغفور، وعذره غير مقبول، وأما ما كان من مياه العرب فذنبه مغفور، وعذره مقبول. يعني: نحن لا نستطيع أن نغضب كسرى فارس؛ لأن الخطأ في حقه غير مقبول، أما العرب فنحن نقدر عليهم.

    كان مفروق يقول: نحن أكثر من ألف، لكن عندما تقارن ذلك بجيش فارس فهو أكثر من مليونين، عندما تأتي قبيلة تفتخر أنها أكثر من ألف، وبجانبها دولة فيها مليونا جندي، ليس الشعب وإنما الجنود فقط تعرف أن الفجوة هائلة، وبالحسابات المادية فقط مستحيل أن يصمد أحد أمام فارس، وفوق ذلك فتوقعات المثنى أن كسرى فارس لن تعجبه دعوة الإسلام، فيقول للرسول صلى الله عليه وسلم لا بد أن تعرف أنه لو غضب كسرى فارس فنحن ليس لنا شأن بك.

    قال: وإنما نزلنا على عهد أخذه علينا كسرى ، ألا نحدث حدثاً ولا نؤوي محدثاً، يعني: لا نخترع شيئاً جديداً، ولا ندافع عن أحد أتى بشيء جديد،

    ثم قال: وإني أرى أن هذا الأمر -أي: الإسلام- مما تكرهه الملوك.

    وفي النهاية لخص المثنى قراره في منتهى الجرأة، فقال: فإن أحببت أن نؤويك وننصرك مما يلي مياه العرب فعلنا.

    كان هذا يمثل انتصاراً مهولاً؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم يطارد في مدينته الصغيرة مكة، ومن أهله وأقاربه، وليس معه إلا حفنة قليلة من المضطهدين، وبقية أصحابه في الحبشة، وهو في إجارة رجل كافر، ثم يعرض عليه أن يدافع عنه ضد كل القبائل العربية، والعرض مقدم من قبيلة قوية مثل بني شيبان، ثم الاشتراط الوحيد عدم حرب فارس، كل هذا يجعل العرض منطقياً بل مغرياً، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم رفض عرض المثنى بن حارثة وقال في أدب: (ما أسأتم الرد إذ أفصحتم بالصدق) يعني: جميل جداً أنكم قلتم إمكانياتكم بوضوح، بدلاً من أن تتفقوا معي وبعد ذلك تتخلوا عني، ثم قال كلمة في منتهى الروعة، وهي عبارة عن قانون رئيسي في بناء أمة الإسلام، قال: (فإن دين الله عز وجل لن ينصره إلا من أحاطه من جميع جوانبه)، ليس من الممكن أن ينصر الإسلام الذي يختار منه شيئاً ويترك آخر، هذا لا يعرف ما معنى إسلام، ولا يعرف معنى العبودية لله عز وجل، العبد لا ينتقي من كلام سيده ما يعجبه ويوافق هواه.

    فرفض الرسول صلى الله عليه وسلم عرضهم؛ لأن هؤلاء ليس هم من سيحملون الدعوة، فهو يريد رجلاً يقول له: إن الله قال لك اعمل كذا، يعمل ويطيع حتى وإن كان عقله لا يستوعب المراد والحكمة المقصودة من ذلك.

    ثم قال لهم الرسول صلى الله عليه وسلم في يقين رائع: (أرأيتم إن لم تلبثوا إلا قليلاً حتى يورثكم الله أرضهم وديارهم، ويفرشكم نساءهم، أتسبحون الله وتقدسونه؟) يعني: أمة فارس التي تخافون منها ستنهار تحت أقدام المسلمين، ماذا ستعملون حينها، هل ستدخلون في الإسلام؟!

    قال النعمان بن شريك: اللهم لك ذاك.

    ولم يمر على كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر من خمس عشرة سنة حتى كانت جيوش المؤمنين تدك حصون فارس، وتزلزل عرش كسرى، والغريب أن المثنى بن حارثة الذي كان خائفاً من كسرى فارس، كان بعد إسلامه أحد القواد الذين أزاحوا كسرى من ملكه، لكن المثنى بعد إسلامه كان شخصاً مختلفاً عما كان عليه قبل الإسلام، وهذه هي عظمة الإسلام.

    فشلت المفاوضات، وأخذ الرسول صلى الله عليه وسلم الموضوع ببساطة؛ لأن القواعد في ذهنه واضحة، ويرى كل شيء بوضوح، لا يفرط ولا يتنازل، وليس هناك من يضحك عليه أو يخدعه أو يخوفه صلى الله عليه وسلم، فهو يعلمنا كيف نبني أمتنا.

    وتيقنوا أننا من غير هذه القواعد يستحيل علينا أن نبني الأمة، ومن أجل ذلك نحن ندرس السيرة.

    دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم للخزرج في العام الحادي عشر من البعثة

    قام الرسول صلى الله عليه وسلم من مجلس بني شيبان، وانتقل مباشرة إلى مجلس فيه ستة من الرجال، وكان من هدي الرسول صلى الله عليه وسلم أنه لا يترك صغيراً ولا كبيراً إلا ودعاه للإسلام.

    نسي الرسول صلى الله عليه وسلم كل شيء عن بني شيبان، وبدأ يتكلم مع هؤلاء في منتهى الحماس، قال: من أنتم؟ قالوا: نفر من الخزرج.

    الخزرج قبيلة كبيرة مشهورة في يثرب، كما أن لديهم قبيلة مشهورة أخرى هي الأوس، وهؤلاء هم الأنصار، ويثرب مدينة في شمال مكة على بعد حوالي (500) كيلو تقريباً.

    بدأ الرسول صلى الله عليه وسلم المفاوضات بسؤال مهم، قال: (أمن موالي اليهود؟! -يعني: حلفاء اليهود؟-

    قالوا: نعم).

    كان الرسول صلى الله عليه وسلم مطلعاً على أحوال زمانه، وكان يعرف موازين القوى في العالم، فمثلما كان يعرف وضع بني شيبان ومملكة فارس، وخطورة أن يتعامل مع بني شيبان، وعين لهم معه وعينهم الأخرى مع كسرى، أيضاً كان يعرف أن اليهود يعيشون في يثرب، وأنهم قوة سيكون لها أثر إما سلبي وإما إيجابي، ومن المؤكد أنه سيكون لها أثر أيضاً على من يعيشون بجانبهم.

    فوضع الرسول صلى الله عليه وسلم هذه الخلفية في ذهنه، ثم قال لهم: (أفلا تجلسون أكلمكم؟ قالوا: بلى) وجلسوا، فجلس معهم الرسول صلى الله عليه وسلم ودعاهم إلى الله عز وجل وعرض عليهم الإسلام وقرأ عليهم القرآن، كأي قبيلة من القبائل، فآمن هؤلاء الستة من ساعتهم.

    لقد مرت علينا في السيرة مواقف كثيرة يؤمن فيها الإنسان بمجرد سماع القرآن، لكن هذا يكون على المستوى الفردي، لكن هذا الإيمان الجماعي غريب، ولا بد أن نقف معه وقفة لكي نحلل ونستفيد.

    الحقيقة أن الله سبحانه وتعالى كان يعد هذه المجموعة بطريقة عجيبة؛ لكي تقبل الإسلام بهذه السهولة، ثم بعد ذلك تتحرك بالإسلام بنفس السهولة، وكان هذا الإعداد بأمور:

    أولاً: خلفية العلاقة مع اليهود. اليهود خلق عجيب، كان إذا حدث بينهم وبين الأوس والخزرج خلاف قالوا لهم: إنه سيظهر في هذا الزمان نبي وسوف نتبعه ونقتلكم قتل عاد وإرم، ونتيجة هذه الأخلاق الفاسدة وقر في قلوب الأوس والخزرج بغض شديد لليهود، وفي نفس الوقت خوف كبير منهم، لكن الأهم من ذلك أن الأوس والخزرج كانوا يقتنعون بقرب ظهور النبي صلى الله عليه وسلم، أو على الأقل كانوا يصدقون فكرة ظهور الرسل على خلاف أهل مكة، وفي نفس الوقت يملؤهم الخوف من الرسول الذي سيظهر واتحاد اليهود معه، فلما سمعوا هذا الكلام قال بعضهم لبعض بمنتهى الصراحة وأمام الرسول صلى الله عليه وسلم، قالوا: يا قوم! تعلمون والله إنه للنبي الذي توعدكم به يهود، فلا تسبقنكم إليه.

    لولا غلظة اليهود ما أخذ الخزرج قرارهم بهذه السرعة.

    ثانياً: الخلفية الاجتماعية لمدينة يثرب في ذلك الوقت، كانت هناك حرب أهلية طاحنة بين الأوس والخزرج، ففي يوم بعاث المشهور دارت حرب هائلة بين الأوس والخزرج، وهذا اليوم كان في نفس السنة، كان في السنة الحادية عشرة من البعثة، منذ شهور قليلة، ولو استمر الحال على هذا الأمر لفنيت القبيلتان.

    ففكر الخزرج أن هذا الرجل -صلى الله عليه وسلم- بما له من حلاوة منطق وقرآن معجز يستطيع أن يجمع القبيلتين ويحفظهم من الهلكة، وهم بأنفسهم قالوا هذا الكلام، قالوا: إنا قد تركنا قومنا، ولا قوم بينهم من العداوة والشر ما بينهم، فعسى أن يجمعهم الله بك.

    تقول السيدة عائشة: كان يوم بعاث يوماً قدمه الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم -يعني: بسبب هذا اليوم أتى الناس وآمنوا بسرعة- وقد افترق ملؤهم وقتلت سرواتهم -يعني: شرفاؤهم- وجرحوا، فقدمه الله عز وجل لرسوله صلى الله عليه وسلم في دخولهم في الإسلام.

    إذاً: خلفية العلاقة مع اليهود، وخلفية الصراع المهلك الذي كان في يثرب جعل هؤلاء الستة يسلمون بسرعة، وليس هكذا فقط، بل جعلهم يرجعون بسرعة إلى يثرب ليحاولوا نشر الإسلام بأسرع طريقة؛ لكي يوحدوا الأوس والخزرج، ولكي يستطيعوا أن يقفوا أمام اليهود.

    هذا ترتيب رباني عجيب! ينصر رسله والذين آمنوا في الوقت الذي يشاء، وبالطريقة التي يشاء، ومعلوم أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يخطط لمقابلة هؤلاء الستة هذه السنة، لكنه كان يعمل في دعوته بمنتهى الحماس، قابل بني عامر وبني شيبان وبني عبس وبني حنيفة.. وغيرهم وغيرهم، ولكن ربنا شاء أن يؤمن هؤلاء، وفي هذا التوقيت بالذات.

    ونعود ونقول: ليس المهم كم شخصاً آمنوا على يديك، ولكن المهم كم شخصاً أوصلت إليه رسالة الإسلام.

    وهؤلاء الستة هم: أسعد بن زرارة وجابر بن عبد الله وعوف بن الحارث ورافع بن مالك وقطبة بن عامر وعقبة بن عامر.

    وقطبة وعقبة ليسا بإخوة ولكنه مجرد تشابه في الأسماء رضي الله عنهم أجمعين.

    قال هؤلاء الستة: فسنقدم على قومنا يا رسول الله، فندعوهم إلى أمرك، ونعرض عليهم الذي أجبناك إليه من هذا الدين، فإن يجمعهم الله عليك فلا رجل أعز منك.

    وعاد الستة إلى يثرب وبدءوا يتكلمون عن الإسلام، وليس هكذا فقط، بل بدءوا يتحدثون مع الأوس بهذا الشأن، وتناسوا يوم بعاث، وآمن بالفعل على أيديهم اثنين من الأوس، أبو الهيثم بن التيهان وعويم بن ساعدة رضي الله عنهما.

    ومرت سنة كاملة وهم يعملون في الدعوة في يثرب، ومع أن علمهم قليل، وسمعوا آيات قليلة من الرسول صلى الله عليه وسلم، لكنهم تحركوا بهذه الآيات، (بلغوا عني ولو آية).

    1.   

    لقاء الرسول بأصحابه في بيعة العقبة الأولى

    مرت الأيام وجاء موسم الحج من السنة الثانية عشرة من البعثة، وأصبح الستة اثنى عشر، وجاءوا يقابلون الرسول صلى الله عليه وسلم.

    الذي ينظر إلى عام الحزن والعام الذي بعده -العام العاشر والحادي عشر من البعثة- يرى أنه من المستحيل لأمة الإسلام أن تقوم إلا بعد قرون، لكن مجموعة صغيرة من الخزرج آمنت، وبعد سنتين فقط أصبح للمسلمين دولة!

    من الواضح أن النصر قد يكون قريباً مهما كانت الفجوة بينك وبين عدوك واسعة وكبيرة، لكن المهم أنك تمشي في الطريق الصحيح، والطريق الصحيح هو طريق الرسول صلى الله عليه وسلم؛ ولذلك ندرس السيرة.

    جلس الرسول صلى الله عليه وسلم مع الاثني عشر مسلماً الذين جاءوا من يثرب، عشرة من الخزرج واثنين من الأوس، وبدأ معهم المفاوضات، وهذه المفاوضات عرفت في التاريخ بعد ذلك باسم بيعة العقبة الأولى؛ لأن المكان الذي تمت فيه كان عند العقبة، والأولى لأن هناك بيعة أخرى ستأتي بعد ذلك بسنة.

    واتفق الرسول صلى الله عليه وسلم مع هؤلاء المسلمين، ولكن لم يطلب منهم النصرة والمساعدة كما طلبها من بني شيبان أو من بني عامر.. أو من غيرهم؛ لأنه يعرف أن القرار ليس بأيديهم في يثرب، ولا يريد أن يحملهم فوق طاقتهم، وفي نفس الوقت يربيهم لكي يحملوا هذه المهمة مستقبلاً، وفوق ذلك كان يريد أن يزيد من عدد المسلمين في يثرب، حتى يصل إلى المستوى الذي يمكنهم فيه من تحمل مسئولية الدفاع عن الإسلام.

    بنود بيعة العقبة الأولى

    يحكي لنا عبادة بن الصامت قصة البيعة، وكان من الذين شاركوا في هذه البيعة الهامة في تاريخ الإسلام، يقول عبادة : كنت فيمن حضر العقبة الأولى، وكنا اثني عشر رجلاً، فبايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على بيعة النساء، عرفت بذلك لأنها لم يشترط فيها جهاداً ولا حرباً.

    وكانت بنود البيعة كالتالي:

    البند الأول: على أن لا نشرك بالله.

    البند الثاني: ولا نسرق.

    البند الثالث: ولا نزني.

    البند الرابع: ولا نقتل أولادنا.

    البند الخامس: ولا نأتي ببهتان نفتريه بين أيدينا وأرجلنا.

    البند السادس: ولا نعصيه في معروف.

    هذه هي الشروط التي على الصحابة.

    والجزاء: (فإن وفيتم فلكم الجنة، وإن غشيتم من ذلك شيئاً فأمركم إلى الله عز وجل، إن شاء عذبكم وإن شاء غفر لكم).

    البيعة بسيطة في ألفاظها وفي عدد كلماتها، لكنها عميقة في معانيها، فهي تضع قواعد لبناء المجموعة التي من الممكن أن تحمل مستقبل الأمة الإسلامية على كتفيها.

    أول بند ذكره هو القضية الأساسية في الإسلام: أن لا نشرك بالله. العقيدة الصحيحة، لا يقدم أمر على أمر الله عز وجل، لا بد أن يعرفوا ذلك من أول يوم.

    أما البند الثاني والثالث والرابع والخامس في البيعة فهي بنود ذكرت لأجل هدف واحد، هو الارتفاع بأخلاق هذه الأمة إلى أعلى مستوى.

    لا تقوم الأمة على أكتاف المترخصين في قضية الأخلاق، إن ضاعت الأخلاق ضاع كل شيء، ضاعت السياسة، والاقتصاد، والحكم، والقضاء، والمعاملات، وكل شيء.

    إذاً: بعد بند العقيدة الأولى أتى بأربعة بنود من أجل قضية الأخلاق.

    أما البند السادس فهو مهم ويحتاج إلى وقفة.

    يقول جابر : ولا تعصوني في معروف.

    وهذا البند يوضح شيئين لا تقوم أمة الإسلام من غيرهما:

    الشيء الأول: طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم وعدم عصيانه.

    الشيء الثاني: أن هذه الطاعة لا تكون إلا في المعروف.

    وهذا بند قد يستغربه بعض الناس؛ لأن من البدهيات أن الرسول صلى الله عليه وسلم لن يأمر إلا بالمعروف، لكن الرسول عليه الصلاة والسلام يضع قواعد لمستقبل الأمة الإسلامية حتى يوم القيامة، فالذي يقوم مقام الرسول صلى الله عليه وسلم في غيابه أو بعد موته لا بد أن يطاع، ولكن لا يطاع إلا في معروف، (لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق)، وهذه قاعدة أصيلة في بناء الأمة الإسلامية.

    جزاء أهل بيعة العقبة

    أما عن الثمن في مقابل تنفيذ هذه البنود، فإنه لم يعدهم بمال ولا برئاسة ولا بوضع اجتماعي معين، ولا أمن وأمان، وإنما قال كلمة واحدة، ولا يوجد أحد يستطيع أن يحمل مهمة بناء الأمة الإسلامية إلا إذا كان غرضه في النهاية هذه الكلمة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فإن وفيتم فلكم الجنة)، أما كل الأثمان الأخرى من مال ورئاسة وأمن وراحة فقد تأتي وقد لا تأتي، ليست هي القضية، وليست هي منتهى أحلام المؤمنين، إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ [التوبة:111]، فقط الجنة.

    وهنا يتضح الفارق الهائل بين مجموعة الأنصار التي بايعت هنا، وبين قبائل بني شيبان وبني عامر.. وغيرهم ممن اشترطت شروطاً معينة للإيمان، لكن مع كل التكاليف التي فرضت على الأنصار لم يكن هناك أي وعد بأي شيء إلا الجنة، ولذلك بارك ربنا سبحانه وتعالى في هذه البيعة، وكان آخرها دولة وسيادة وتمكيناً. هذا هو ديننا.

    عاد الاثنا عشر إلى يثرب، التي أصبح اسمها: المدينة المنورة عندما هاجر إليها الرسول صلى الله عليه وسلم، ومن حينها وهم معروفون باسم الأنصار، وبقي معهم هذا الاسم؛ لأنهم فعلاً الذين نصروا الدعوة، ونصروا الإسلام، ونصروا الرسول صلى الله عليه وسلم، ونصروا المهاجرين، وتغير حال المسلمين تماماً بعد إسلامهم.

    1.   

    سفارة مصعب إلى المدينة ومهامه فيها

    بعث الرسول صلى الله عليه وسلم واحداً من المسلمين المكيين إلى يثرب، يمثل دور السفير، لكنه في الحقيقة أعلى بكثير من دور السفير العادي الذي ينقل الرسائل من وإلى الرسول صلى الله عليه وسلم، كانت له أدوار إيجابية مهمة:

    الدور الأول: تعليم المسلمين هناك الإسلام.

    الدور الثاني: أن يكون صورة متحركة للإسلام، وقدوة للناس.

    الدور الثالث: إدخال القدر الذي يستطيعه من أهل البلد في الإسلام، لكي تكون حماية البلد بعد ذلك معتمدة على أبنائه من داخله.

    الدور الرابع: تمهيد البلاد نفسياً لاستقبال المسلمين بعد ذلك من مكة والحبشة، أو من أي مكان في الأرض.

    الدور الخامس: دراسة الوضع العسكري والأمني والاقتصادي ليثرب؛ لأنها ستكون دار الهجرة.

    كانت المهمة ضخمة؛ لأنها مهمة التخطيط لبناء دولة، ولا بد أن الذي سيختاره يكون أهلاً لهذه المهمة.

    سبب اختيار الرسول صلى الله عليه وسلم مصعب بن عمير لدور السفير إلى المدينة

    اختار الرسول صلى الله عليه وسلم مصعب بن عمير رضي الله عنه، ولا بد أن نقف وقفة مع مصعب بن عمير ، ومع سبب اختياره من دون كل الصحابة رضي الله عنهم أجمعين.

    لقد اتصف مصعب بصفات كثيرة، جعلته يستطيع القيام بهذه المهمة الكبيرة، وهذا يثبت أن الاختيار كان حكيماً، ولم يكن عشوائياً أبداً.

    أولاً : كان مصعب بن عمير من أعلم الصحابة رضي الله عنه وأرضاه، كان يحفظ كل ما نزل من القرآن، وهو من أوائل من أسلم، وخاض التجربة الإسلامية من أولها، ويعرف متى نزلت آيات القرآن ومعناها، ورأي الرسول صلى الله عليه وسلم في تفسير الآيات التي نزلت.

    إذاً: نقطة العلم نقطة في غاية الأهمية، وبالذات أن المسافة بين مكة ويثرب (500) كيلو، وليس هناك فرصة لسؤال الرسول صلى الله عليه وسلم، وليس هناك مصادر أخرى للعلم غير مصعب ، فلا بد أن يكون عالماً بحق، وحفظ القرآن كان مهماً جداً؛ لأنه ليس مجرد وسيلة معجزة لإثبات صدق الرسول صلى الله عليه وسلم، لكنه أيضاً دستور ومنهاج حياة كاملة للمسلمين، فالذي يحفظ القرآن ويفهمه ويعمل به هو أصلح واحد من يقوم بهذه المهمة.

    ثانياً: أن مصعب بن عمير رضي الله عنه كان يتصف باللباقة والذكاء والهدوء والصبر، وسعة الصدر والحلم، وهذه صفات أساسية في أي داعية، كان مصعب إنساناً رقيقاً هادئاً متواضعاً، فيه ذكاء شديد، أي: أنه داعية مثالي.

    ثالثاً: أن مصعب بن عمير رضي الله عنه من أشراف أهل مكة، كان من بني عبد الدار الذين يحملون مفتاح الكعبة، ويتوارثونه كابراً عن كابر، وليس معنى هذا أن الإسلام أتى ليفرق بين أصحاب الأصل الشريف وبين غيره من الناس، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يراعي حالة أهل يثرب، ولا يريد أن يفتنهم، يا ترى ماذا سيكون حالهم لو ذهب إليهم رجل بسيط ضعيف عبد أو حليف؟ ربما لن يسمعوا منه أصلاً، لكن مصعب بن عمير من أشرف الصحابة نسباً.

    رابعاً: مصعب بن عمير رضي الله سيكون خير قدوة للأغنياء الذين يريدون الدخول في هذا الدين، ويترددون بسبب ملكهم أو أموالهم؛ لأن مصعباً يقدم لهم المثال العملي لرجل استطاع أن يترك المال من أجل الدعوة، وكذلك الفقراء سيتأكدون أن الدين لا يفرق بين الغني والفقير فعلاً.

    خامساً: سيكون إرسال مصعب بن عمير رضي الله عنه إلى يثرب إعلاناً واضحاً لأهل يثرب ولمكة ولغيرهما أن هذا الدين ليس ثورة من الفقراء على الأغنياء، هذا هو السفير الإسلامي كان رجلاً غنياً وواسع الغنى، ثم ترك ماله ليصبح مسلماً وإن كان فقيراً، وهذا يعني أن دعوة الإسلام لم تظهر من أجل عوامل اقتصادية كما يقول كثير من الناس.

    سادساً: هذا السفير المنعزل في يثرب الذي يعيش على بعد (500) كيلو من الرسول صلى الله عليه وسلم قد يفتن بالدنيا هناك، وبراحة العيش، ورغد الحياة، مثل ما نرى نحن من يكون شعلة من النشاط، لكن عندما تعرض عليهم الدنيا يفتنون بها ويبتعدون عن الطريق، أما مصعب فلم يكن هكذا، فقد نجح في الاختبار الصعب الذي قامت به أمه معه، ولئن كان قادراً على رفض الدنيا من يد أمه، فهو على رفضها من أيدي الآخرين أقدر.

    سابعاً: الداعية المنعزل الذي يعيش لوحده بعيداً عن المسلمين، ويعلم الناس والناس تمشي وراءه، قد يفتن بفتنة الرئاسة والزعامة، وينسلخ عن الصف بمن تبعه، وهذه كارثة حقيقية، لكن مصعباً في الحقيقة أثبت قدرته على الوقوف أمام فتنة الرئاسة؛ فـمصعب من بني عبد الدار، ومكانته في قريش معروفة، وزعامته فيها كانت وشيكة لولا ارتباطه بهذا الدين، لو كان فعلاً يريد الزعامة لظل على شركه ولم يدخل في الإسلام، لكنه اختار الإسلام ورفض الزعامة.

    ثامناً: أن مصعب بن عمير رضي الله عنه وأرضاه كان من المهاجرين إلى الحبشة في الهجرتين الأولى والثانية، ونحن لا نعرف متى عاد من الهجرة الثانية، ولعل الرسول صلى الله عليه وسلم استدعاه لأجل هذه المهمة، ولا شك أن هجرة الحبشة قد أكسبته خبرة كبيرة في التعامل مع الأغراب، ومع عادات وتقاليد مختلفة، فإذا كان يستطيع أن يتعامل مع أهل الحبشة وهم ليسوا عرباً أصلاً، ودينهم غريب على الجزيرة العربية، فيستطيع أن يتعامل مع أهل يثرب الذين هم من العرب، وفي نفس الوقت دينهم هو الدين الذي عليه أهل مكة.

    تاسعاً: هجرة الحبشة أعطت مصعباً القدرة على ترك الديار ومفارقة الأهل والأحباب.

    نحن لا نعرف مهمة يثرب كم ستأخذ من الوقت، سنة أو سنتين أو ثلاث سنين، فالذي استطاع أن يصبر على الهجرة فترة طويلة، يستطيع أن يصبر على هذه الهجرة أيضاً.

    عاشراً: أن مصعب بن عمير رضي الله عنه كان عمره (35) عاماً وقت هذه السفارة، وهذا سن مناسب جداً لهذا العمل، فهو ليس شاباً صغيراً حتى يتهور أو يندفع، وليس شيخاً مسناً حتى تصعب عليه الحركة والدعوة والمشقة.

    فتلك عشرة كاملة من أجلها اختار الرسول صلى الله عليه وسلم مصعب بن عمير ليكون أول سفير في الإسلام، وربما هناك أسباب أخرى كثيرة رآها الرسول صلى الله عليه وسلم في مصعب بن عمير رضي الله عنه.

    طريقة مصعب في الدعوة إلى الله في المدينة

    عاد الأنصار ومعهم الصحابي الجليل القدوة مصعب بن عمير رضي الله عنه إلى يثرب، وبدءوا يقومون بعمل منظم في يثرب، وفي تلك السنة كانت يثرب مختلفة تماماً عن السنوات التي قبلها، بعد أن كانت غارقة بالدم نتيجة الصراع بين الأوس والخزرج.

    نزل مصعب بن عمير رضي الله عنه في ضيافة أسعد بن زرارة الخزرجي رضي الله عنه، وأسعد لم يكن عمره آنذاك قد وصل ثلاثين عاماً، لكنه كان من أحكم الصحابة رضي الله عنهم، كان أسعد يعرف كل أهل المدينة، وكانت له علاقات جيدة بمعظمهم، لكن ليس عنده علم مصعب ، ومصعب عنده علم غزير، لكن لا يعرف أحداً في المدينة.

    كان أسعد رضي الله عنه يأخذ مصعباً رضي الله عنه إلى كل بقعة في يثرب، ويدخل به كل بيت وملتقى وشارع، ويعرفه بكل من لقيه، وبعد أن يعرفه عليه يبتدئ مصعب بن عمير رضي الله عنه بالتعريف بالإسلام وقراءة القرآن، وهكذا كانا، فـمصعب بغير أسعد لن يستطيع أن يصل إلى أهل يثرب، وأسعد بغير مصعب لا يستطيع أن يقنع الناس بحلاوة الإسلام، وأسعد بهذه الطريقة كان من خير الدعاة، نعم هو لا يخطب ولا يتكلم، لكن من غيره مصعب لن يتكلم، وهذه حلاوة الدعوة، والعمل الجماعي، كلٌ يجد له دوراً يكمل به دور الآخر، وكل هذا يفيد الدعوة بلا شك.

    والجميل في أسعد بن زرارة رضي الله عنه أنه لم يكن يأخذ مصعباً إلى الخزرج فقط، ولكنه كان يأخذه إلى الأوس أيضاً، نسي الصراعات القديمة والدم والثأر والقبلية، وعاش حياته كلها للإسلام فقط.

    إسلام أسيد بن حضير وسعد بن معاذ على يد مصعب بن عمير

    من أجمل وأروع وأعظم ما حدث مع أسعد ومصعب دعوة أسيد بن حضير وسعد بن معاذ رضي الله عنهما، وهما سيدا بني عبد الأشهل من قبيلة الأوس، وهي قبيلة أخرى غير قبيلة أسعد .

    ذهب أسعد بـمصعب إلى حديقة للأوس، وجمع له الذي استطاع أن يجمع منهم، وبدأ مصعب يقرأ عليهم القرآن، كل هذا وسادات الأوس في الحديقة، أسيد بن حضير وسعد بن معاذ ، وكانا ما زالا مشركين، فسمع سعد بن معاذ بأمر مصعب وأسعد ، فغضب غضباً شديداً، وفكر أن يذهب إليهما، لكن أسعد بن زرارة ابن خالة سعد بن معاذ فرأى غير ذلك، فقال سعد بن معاذ لـأسيد بن حضير: اذهب إلى هذين اللذين قد أتيا ليسفها ضعفاءنا فازجرهما وانههما عن أن يأتيا دارينا، فإن أسعد بن زرارة ابن خالتي، ولولا ذلك لكفيتك هذا، فأخذ أسيد حربته وذهب إليهما، فلما رآه أسعد آتياً من بعيد لم يخف، ولكنه قال لـمصعب كلمة في منتهى الأهمية، قال له: هذا سيد قومه قد جاءك فاصدق الله فيه.

    انظروا إلى فقه أسعد ، علم أن الصدق مع الله يفتح القلوب، ويُذكر من؟! يذكر مصعباً القارئ المقرئ، يذكر الرجل الذي عنده علم، لكن: وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ [الذاريات:55].

    قال مصعب لـأسعد : إن يجلس أكلمه، فجاء أسيد ووقف عليهما مستعداً للقتال، وقال: ما جاء بكما إلينا تسفهان ضعفاءنا، اعتزلانا إن كانت لكما بأنفسكما حاجة.

    يعني: اذهبا من هنا لو كنتما تخافان على أنفسكما.

    كلام غليظ مستفز، لكن قلب مصعب واسع، فقال في منتهى الهدوء وسعة الصدر: أو تجلس فتسمع؟! فإن رضيت أمراً قبلته، وإن كرهته كففنا عنك ما تكره.

    فقال أسيد بن حضير : أنصفت، وجلس وهو مستند على حربته.

    بدأ مصعب رضي الله عنه يتكلم عن الإسلام، وبدأ يقرأ القرآن، ووقعت كلمات الرحمن في قلب أسيد بن حضير فتغير وجهه تماماً، وذهب الغضب من وجهه، وبانت عليه سكينة وهدوء، وتأثر لدرجة أن أسعد بن زرارة يقول: فو الله لعرفنا في وجهه الإسلام قبل أن يتكلم، في إشراقه وتهلله.

    قال أسيد بن حضير : ما أحسن هذا الكلام وما أجمله، وبعد ذلك قال كلمة عجيبة جداً وهو جالس في نفس اللحظة: كيف تصنعون إذا أردتم أن تدخلوا في هذا الدين؟

    كان الرجل يقف مستعداً للقتال، وفي لحظة ترك دينه الذي عاش عليه سنوات وسنوات بمجرد أن سمع بعض الآيات، وبعد أن جاء ليطردهما وأسعد من الخزرج ومصعب ليس من المدينة أصلاً، لكن كلمات القرآن كانت تنزل على قلب أسيد برداً وسلاماً، غيرته كلية من دينه ومن حياته، يريد أن يدخل في الإسلام مباشرة.

    قال له أربعة أشياء: تغتسل، وتطهر ثوبك، ثم تشهد شهادة الحق: لا إله إلا الله محمد رسول الله، ثم الرابعة: تصلي ركعتين. فقام واغتسل وطهر ثوبه وتشهد وصلى ركعتين، وأصبح أسيد مسلماً.

    بهذه السهولة انتقل من معسكر الكفر إلى معسكر الإيمان، وما هي إلا دقائق حتى شعر أسيد رضي الله عنه بحلاوة الإسلام، وأحب أن ينقل هذه الحلاوة لمن يحبهم، ولم يصبح مسلماً فقط، بل أصبح داعية، ففكر في سعد بن معاذ ، قال أسيد : إن وراءي رجلاً إن تبعكما لن يتخلف عنه أحد من قومه، وسأرشده إليكما، ذهب أسيد ليخبر سعد بن معاذ ، فلما رآه سعد من بعيد، وكان رجلاً ذكياً لماحاً، قال بنظرة واحدة: أحلف بالله لقد جاءكم أسيد بغير الوجه الذي ذهب به من عندكم، وصدق سعد ، لقد ذهب أسيد من عنده بوجه كافر، وعاد إليه بوجه مؤمن، وشتان بينهما، فقال له سعد: ماذا عملت؟ ففكر أسيد أن يكذب لكي يدفع سعداً للذهاب إلى مصعب، لم يكن يعرف أن الكذب حرام في الإسلام، فبدأ يؤلف قصة، وقال: والله ما رأيت بهما بأساً، وقد نهيتهما فقالا: نفعل ما أحببت، وقد حُدثت أن بني حارثة خرجوا إلى أسعد بن زرارة ليقتلوه، وذلك أنهم قد عرفوا أنه ابن خالتك ليخفروك. يعني: لإهانتك.

    فأخذ سعد بن معاذ حربته وتوجه إليهما، فلما وصل لم يجد بني حارثة ولم يجد أحداً معهما، بل وجدهما جالسين من غير أي مشاكل، ففهم أن أسيداً كان يدفعه لكي يأتي ويقابلهما، ولم يجد بداً من أن يجلس معهما لكي يطردهما بنفسه.

    لما رآه أسعد بن زرارة آتياً من بعيد قال لـمصعب : جاءك والله سيد من ورائه قومه إن يتبعك لم يتخلف عنك منهم أحد، فانتظر مصعب حتى جاء سعد، فأتى سعد بسرعة ووجه كلامه مباشرة إلى أسعد، وتجاهل وجود مصعب ، قال: والله! يا أبا أمامة! لولا ما بيني وبينك من القرابة ما رمت هذا مني، تغشانا في دارنا بما نكره؟! وقبل أن يرد أسعد دخل مصعب في الحوار وقال لـسعد : أو تقعد فتسمع، فإن رضيت أمراً قبلته، وإن كرهته عزلنا عنك ما تكره.

    قال سعد بن معاذ : أنصفت، فجلس سعد وهو مستند على حربته، وبدأ مصعب يتكلم في الإسلام، ويقرأ القرآن، وكما أثر القرآن في أسيد أثر في سعد بن معاذ رضي الله عنه وأرضاه أيضاً، وظهر على وجهه، يقول أسعد بن زرارة : فعرفنا والله في وجهه الإسلام قبل أن يتكلم في إشراقه وتهلله، ثم قال سعد بن معاذ وكأنه يأخذ قراراً سهلاً في حياته، قال: كيف تصنعون إذا أسلمتم؟

    هذا القرآن! ها هو يحول سعد بن معاذ رضي الله عنه من كافر لا يساوي عند الله شيئاً إلى مؤمن يهتز عرش الرحمن لموته بعد ذلك.

    قالا: تغتسل وتطهر ثوبك ثم تشهد شهادة الحق ثم تصلي ركعتين.

    ففعل ذلك سعد ، وأصبح مسلماً، وكما أصبح أسيد داعية بعد إسلامه مباشرة، كذلك كان سعد بن معاذ داعية بعد الإسلام، ولكنه كان داعية عجيباً، وصنع شيئاً لا يستطيع أحد أن يصنعه في الإسلام في عشرات السنين، وضع مفاصلة عجيبة مع قبيلته، كان من الممكن أن يدفع فيها ملكه وسيادته ووضعه الاجتماعي، كانت هذه المفاصلة وعمره في الإسلام مجرد لحظات، لقد ولد إيمان سعد عملاقاً بمعنى الكلمة.

    ذهب سعد إلى قبيلته وقال لهم: يا بني عبد الأشهل! كيف تعلمون أمري فيكم؟ قالوا: سيدنا وأفضلنا رأياً وأيمننا نقيبة، فقال سعد في وضوح وصرامة: فإن كلام رجالكم ونسائكم علي حرام حتى تؤمنوا بالله ورسوله.

    مفاصلة كاملة عجيبة، ماذا كان سيحصل لو أن القبيلة رفضت الإسلام؟! سيختارون رئيساً غيره، لكن سعداً تغير، ولم تعد الدنيا تساوي في عينيه أي شيء، وشعر أن عمراً طويلاً ضاع منه، وكان كل همه ألا يضيع الباقي، لكن الحمد لله دخلت قبيلة سعد -بني عبد الأشهل- بكاملها في دين الإسلام في يوم واحد، إلا واحداً تأخر إسلامه أربع سنوات وبعد ذلك أسلم.

    هل رأيتم النصر، كيف من الممكن أن يكون قريباً؟!

    قبل دقائق كانوا مجموعة قليلة ضعيفة بسيطة، والآن أصبحوا مئات ومئات، دخلت في الإسلام قبيلة بأكملها برجالها ونسائها وأطفالها وخيولها وسلاحها، وكل ذلك لكي يبين لنا ربنا رسالة مهمة وهي: أن لحظة التمكين بيده سبحانه وتعالى، وممكن أن تكون قريبة وبطريقة لا يحسب لها المسلمون أي حساب، فإن الله يختار الطريقة والتوقيت، لكن المطلوب منا أن نفعل مثل مصعب وأسعد ، نبذل المجهود حسب الطاقة، ونخلص النية لربنا سبحانه وتعالى، ونصدق الله عز وجل، وسيجعل الله عز وجل بعد كل ضيق فرجاً ونصراً.

    تغير الوضع في المدينة، وتحولت إلى خلية نحل، فهذا أسعد ومصعب وسعد وأسيد.. وغيرهم، كلهم يعملون في الدعوة، وصل الإسلام إلى كل مكان في المدينة، ولم تبق دار من دور الأنصار إلا وفيها رجال ونساء مسلمون، حتى الذي لم يدخل في الإسلام أصبح يسمع عنه، وأصبح واضحاً أن المدينة مقبلة على مرحلة جديدة، وسيكون لها دور كبير في تغيير واقع الأرض كلها، وفي تغيير خريطة العالم، كل هذا في أقل من سنة.

    تذكروا معي التاريخ، قبل ثلاث سنوات كان عام الحزن، بكل الهموم والأحزان الذي فيه، ومن سنتين كانوا ستة من الخزرج، ومن سنة كانوا اثني عشر، عشرة من الخزرج واثنين من الأوس، والآن الإسلام دخل كل بيوت المدينة، إن النصر لقريب، لكن المهم أن تعمل.

    عاد مصعب بن عمير رضي الله عنه وأرضاه إلى مكة قبل موسم الحج من السنة الثالثة عشرة من البعثة، عاد ونقل أحداث الموقف لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ونقل له الأخبار السعيدة بإيمان الأنصار، ووضح له منعة المدينة في يثرب، ومنعة رجالها، وقوة بأسها وسلاحها، وعرفه مواطن القوة فيها، ومفاتيح التغيير في الرجال هناك، وأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخيل المدينة وهو في مكة وكأنه يراها رأي العين، يراها شارعاً شارعاً ويعرف رجالها رجلاً رجلاً.

    ترى ماذا حدث بعد هذا الانتشار العظيم للإسلام في يثرب؟!

    ما هو رد فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم لهذا الأمر؟!

    ما هي تفاصيل البيعة الخطيرة التي ستحدث في العام الثالث عشر من البعثة؟!

    فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ [غافر:44].

    وجزاكم الله خيراً كثيراً، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718659

    عدد مرات الحفظ

    755921515